يكشف الباحث الهندي هنا عن كيف أن مسيرة التعليم العصري في الهند تحمل في ثناياها أطراس المسيرة الاستعمارية ذاتها، وكيف أن الهند تنبهت منذ وقت مبكر إلى أهمية التعليم في تحقيق استقلالها، وبناء مستقبلها، فحرصت على الاحتفاظ بما فيه من عناصر حديثة وعصرية مع توجيهه لخدمة طموحاتها الوطنية.

التعليم العصري وانتشاره في الهند

محمود عالم الصديقي

 

مقدمة المقال:
دخل التعليم الإنجليزي أو العصري في الهند منذ دخول الإنجليز عام 1600. ثم مر بست مراحل: المرحلة الأولى تمتد منذ دخول الإنجليز عام 1600م إلى عام 1757، والمرحلة الثانية تمتد من عام 1758م إلى عام 1812م، والمرحلة الثالثة تمتد من عام 1813م إلى عام 1835م، والمرحلة الرابعة تمتد من عام 1836م إلى عام 1854م، والمرحلة الخامسة من عام 1855م إلى عام 1921م والمرحلة السادسة من عام 1921 إلى عام 1947م حتى ترسخت جذوره في الهند وتطور نظامه. واتخذت الهند المستقلة هذا النظام للتعليم الإنجليزي لتعليمها الرسمي بعد كسب استقلالها عام1947 م . فنظام التعليم العصري الموجود في الهند المستقلة الآن هو نفس نظام التعليم الإنجليزي الذي وضع الإنجليز بذرته. ثم راح يتطور حتى صار شجرة انتشرت فروعها في سماء الهند، وأثمرت ثمارا طيبة. وهذه الورقة الدراسية تحاول دراسة تاريخ التعليم الإنجليزي الذي ساعد على تطور نظام التعليم العصري الهندي في الهند المستقلة.

الثورة الهندية لعام 1857م وتأثيرها على الأمة المسلمة ونظام تعليمها
تعتبر الثورة الهندية لعام 1857 نقطة تحول في تاريخ الهند وتاريخ التعليم في الهند. في هذه الثورة رفع الهنود علم الثورة ضد الإنجليز الذين جاءوا في البلاد كتجار واسسوا الشركة الشرقية الهندية لهذا الهدف في عهد الملك المغولي جهانغير عام 1600م، غير أنها انتهزت الفرصة من ضعف الإمبراطورية المغولية بعد وفاة الملك المغولي اورنغزيب عام 1707م، واستولت على معظم ولايات الهند، واستغلت ثرواتها ومارست الظلم والعدوان على أبناءها. واستمرت الشركة على منوالها حتى رفع الهنود علم الثورة ضد الحكومة الإنجليزية وبذلوا كل ما في وسعهم من المجهودات في سبيل القضاء على هذه الحكومة وقدموا تضحيات هائلة في سبيل تحرير الوطن من براثن الاستعمار. ولكن باءت جهودهم بالفشل وبالنكبة عليهم. فقام الإنجليز بإخماد نيران هذه الثورة، ثم قاموا بالقضاء على الثوار ولاسيما المسلمين لأنهم – في زعمهم – كانوا وراء هذه الثورة . فأسروا الملك المغولي الأخير بهادر شاه ظفر وحاكموه وحكموا عليه بالنفي المؤبد إلى "رنجون" حيث قضى بقية حياته ومات عام 1862م. وبها انتهت الدولة المسلمة في الهند، وابتدأت الحكومة الإنجليزية التي أنشأت نظاما جديدا للتعليم الإنجليزي أو التعليم العصري بعد التقليل من أهمية نظام تعليم المسلمين القائم منذ دخولهم حتى الثورة لعام 1857م.

واستمر هذا النظام للتعليم الإنجليزي منذ دخول الإنجليز في الهند عام 1600م حتى استقلت الهند عام 1947م. ثم اتخذت الحكومة المستقلة هذا النظام للتعليم الإنجليزي لتعليمها الرسمي. فنظام التعليم العصري الموجود في الهند المستقلة الآن هو نفس نظام التعليم الإنجليزي الذي وضع الإنجليز بذرته. ثم راح يتطور حتى صار شجرة انتشرت فروعها في سماء الهند، وأثمرت ثمارا طيبة. فيجب علينا أن نلقي ضوء كاشفا على تاريخ التعليم الإنجليزي الذي ساعد على تطور نظام التعليم العصري الهندي.

دخول التعليم الإنجليزي في الهند
قد دخل التعليم الإنجليزي أو العصري في الهند منذ دخول الإنجليز عام 1600. ثم مر بست مراحل حتى ترسخت جذوره في الهند وتطور نظامه. المرحلة الأولى تمتد منذ دخول الإنجليز عام 1600م إلى عام 1757، والمرحلة الثانية تمتد من عام 1758م إلى عام 1812م، والمرحلة الثالثة تمتد من عام 1813م إلى عام 1835م، والمرحلة الرابعة تمتد من عام 1836م إلى عام 1854م، والمرحلة الخامسة من عام 1855م إلى عام 1921م والمرحلة السادسة من عام 1921 إلى عام 1947م.

وفي المرحلة الأولى حذت شركة الهند الشرقية حذو التجار الأوروبيين الآخرين من البرتغاليين والفرنسيين و"الهولندي" و"الدينماركية" في تعليم الهنود. فإن هؤلاء التجار الأوربيين المذكورين لم يكونوا تجارا فحسب، بل أنهم كانوا ينتمون إلى حركات تبشيرية، ويحاولون تنصير الهنود، وسمحوا للحركات التبشيرية أن تدخل في الهند وتنشط فيها، وتفتح مدارس تبشيرية لأبناء الهنود الفقراء. فأنشأت هذه الحركات التبشيرية مدارس تبشيرية حيث يعلم الطلاب العلوم العصرية مع تلقينهم العقائد المسيحية.

هذا ويقال إن البرتغاليين عندما نزلوا على أرض الهند، سئل أحد منهم عن هدف وصولهم إلى الهند، فأجاب قائلا: "قد جئنا في الهند متلمسين النصارى والتوابل."[i] فأسسوا في مالابار شركة عام 1500م وقاموا بإرساء دعائمها حتى بسطوا نفوذها في المناطق الساحلية الهندية من مالابار وبنغلور وكوشين وسيلون وديف وجزيرة بومباي في قرن واحد. غير أن نفوذهم السياسي قد انتهى بعد سقوط دولة Vijaynagar عام 1565م. ولكنهم يعتبرون من رواد التعليم العصري في الهند. فسرعان ما استوطنوا في البلاد، قد بدأت الحركات التبشيرية الكاثولوكية تصل إلى البلاد وتفتح المدارس العصرية لجذب أبناء الفقراء وتنصيرهم. ومن أوائل المبشيرين الذين جاءوا إلى الهند كان St. Francis و Robert de Nobiti وقد لعبا دورا مهما في تنشيط الحركات التبشيرية في الهند وفي فتح المدارس العصرية. وأول مدرسة عصرية انشئت عام 1575م في Chaul في ولاية جوا. ثم انشئت "كلية St. Anne في Salsette في Bandora. وقد تحولت هذه الكلية إلى جامعة عصرية في عام 1620م. ولكن البرتغاليين قاموا بتدميرها عام 1739م مخافة أن يسيطر عليها المرهتا ويتخذوها قلعة لهم.[ii] وإن البرتغاليين هم الذين قد أنشأوا في هذه البلاد أول مطبعة. فأنشأوا أول مطبعة عام 1556م في "جوا" ثم تتابعوا في إقامة أربع مطابع الأخرى في المدن الهندية الأخرى. [iii]

وحذا حذو البرتغاليين "الهولنديون" والفرنسيون" و"الدانمركيون" في تدعيم الحركات التبشيرية وفتح المدارس العصرية التبشيرية. غير أن الإنجليز الذين أنشأوا شركة الهند الشرقية دخلوا في بادئ الأمر في المنافسة في التجارة مع التجار الأوروبيين، ثم دخلوا في المنافسة معهم في تدعيم الحركات التبشيرية وفتح المدارس العصرية سالكين مسلك منافسيهم من البرتغاليين و "الدانمركيين" والفرنسيين" و"الهولنديين". فإن مدراء مجلس الشركة كانوا يرسلون قسيسين إلى مختلف أنحاء الهند لتزويد موظفين لشركة الهند الشرقية بالقوات الروحانية ونشر الديانة المسيحية بين الهنود.[iv]

وفي عام 1614 تم تجنيد جماعة من الشبان الهنود، ولإرسالهم إلى لندن ليتدربوا بها على القسوسة. وفي عام 1636م أنشأ Archbishop Laud منصب "أستاذية" للغة العربية في جامعة أكسفورد، ليتدرب الطلاب بها على القيام بأعمال تبشيرية. وفي عام 1659م أبان مدراء مجلس الشركة طموحهم في نشر الديانة المسيحية بين الهنود، ورخصوا للحركات التبشيرية أن تركب على سفينة الشركة الذاهبة إلى الهند.[v] ولكن الشركة لم تكن متشددة في أعمالها التبشيرية مثلما كانت شركات أخرى. فما زالت الشركة تعمل على هذه السياسة لنشر المسيحية، وبالتبع لإنشاء مدارس على خط أوروبي. فأنشأت أول مدرسة في مدينة مدراس عام 1673م، ومدرسة ثانية عام 1715م ، وكانت تعرف بإسم St. Mary School يعني "مدرسة القديسة ماري". وكانت تهدف إلى تعليم أبناء الموظفين الكاثوليكيين. ثم تم إنشاء مدرسة لأطفال الهنود عام 1717م .[vi]

ولم تكتف الحكومة الإنجليزية بإنشاء المدارس الحكومية، بل أنها شجعت حركات تبشيرية على فتح المدارس في المناطق الهندية الخاضعة لنفوذ الشركة. ففي عام 1711م التقت جمعية S.P.C.K. مدراء مجلس الشركة، وقدمت طلبا للحصول على الإذن لفتح المدارس في مدينة مدراس. وقدم مدراء مجلس الشركة هذا الطلب إلى حاكم مدراس الذي لم يمنحها الإذن لفتح المدارس فقط، بل أنه وفر لها معونة مالية أيضا.[vii] فراحت الحكومة الإنجليزية تفتح المدارس على المنهج الأوروبي لتعليم الهنود ولنشر الديانة المسيحية بينهم. كما راحت تشجع الحركات التبشيرية سالكة على مسلك منافسيها حتى سيطرت على ولاية بنغال إثر احراز انتصارها على الجيوش الهندية في معركة بلاسي عام 1757م. ثم سيطرت على ديوانها المالي عام 1765م. ثم انفصلت عن سياسة تدعيم الحركات التبشيرية وابتعدت عن تعليم الهنود. وصارت حيادية ظنا أن تدخل الحكومة في أمور تعليم الهنود يضر منافعها. ويمكن أن يقضي على حكومتها حديثة العهد. فغيرت سياستها في تعليم الهنود وفرضت قيودا على الحركات التبشيرية إلى حد ما، وتركت الأمة الهندية تتعلم بنفسها. غير أنها استحسنت جهود الأفراد والجماعات غير التبشيرية في سبيل التعليم، وقدمت لهم معونة مالية أيضا. فظهر في هذه المرحلة التعليمية عدد كبير من المستشرقين الذين بذلوا جهودا مشكورة في سبيل تعليم الهنود.

" المدرسة العالية في كولكتا"
وكان في طليعتهم: الحاكم العمومي Warren Hastings الحائز على البراعة في اللغة الفارسية والبنجالية والمهتم بترويج العلوم والفنون بين الهنود. فأنشأ لتحقيق هذا مدرسة في مدينة كولكتاعام 1781م، اشتهرت بـ" المدرسة العالية" واشترى لهذه المدرسة من أمواله الخاصة مبنى تقدر قيمته بنحو 57745 روبية هندية. وكان يهدف من وراء تأسيس هذه المدرسة إلى تزويد الحكومة الإنجليزية بالموظفين الملمين بالثقافتين: الثقافة الإسلامية والثقافة الأوروبية. وكان البرنامج الدراسي مشتملا على سبع سنوات. ويحتوي المنهج الدراسي على العلوم الطبيعية والعلوم القرآنية والتشريع الإسلامي والحساب واللغة العربية وقواعدها النحو والصرف وآدابها وغيرها من العلوم. ولكنه كان خاليا من اللغة الإنجليزية. وكانت تشرف عليها لجنة شكلتها الحكومة فيما بعد لهذا الغرض النبيل. وكان الطلاب المتخرجون يتم تعيينهم في الوظائف في قطاع القضاء. فذاع صيتها في الهند. فأقبل عليها طلاب من كل حدب وصوب.[viii] وقد حولتها الحكومة البنجالية في الهند المستقلة إلى جامعة حكومية عام 2007م بعد إقرار قرار جمعية الولاية التشريعية البنجالية. ولهذه المدرسة تاريخ طويل في نشر العلوم بين المسلمين الهنود. وقد سجل الدكتور مجيب الرحمن، أحد أبناءها، تاريخها في كتاب طويل يحتوي على 356 صفحة.[ix]

الجمعية الآسيوية الملكية
ويليه وليم جونس (William Jones) الذي أسس الجمعية الآسيوية الملكية ( The Royal Asiatic Society) في ولاية بنغال ليتمكن من البحث في التاريخ الهندي والتنقيب عن الآثار التاريخية للعصور القديمة الوسطى وفنونها. قد خدمت الجمعية خدمة كبيرة في مجال التاريخ. وقد ازداد نطاقها بصورة ملحوظة حتى فتح فرع لها في مدينة بومباي.[x]

"كلية اللغة السنسكرتية في مدينة بنارس"
ثم يليه السيد جوناثان دنكن (Mr. Jonathan Duncan) الذي أسس "كلية اللغة السنسكرتية في مدينة بنارس (Banaras Sanskrit College) عام 1800م . وكان يهدف بها إلى الاحتفاظ بالثقافة الهندوسية وترويجها بين الناس. وتم تخطيط هذه الكلية على نفس الخطة التي تم تخطيط المدرسة العالية عليها. فالمدرسة العالية كانت هدفت إلى توفير التعليم للشبان المسلمين الهنود وإلى إعدادهم للمناصب في القطاع القضائي، كما تهدف إلى توفير التعليم للشبان الهندوس وإعدادهم للوظائف في القطاع القضائي، لكي يتمكن المتخرجون من هذه الكلية من توفير المساعدة للإنجليز في مجال القضاء. فالبرنامج التعليمي كان يشتمل على سبع سنوات، والمنهج الدراسي يحتوي على التشريع الهندوسي والطب الريفي ودراسة الديانة الهندوسية واللغة السنسكرتية.[xi]

"كلية فورت وليم"
ويليه اللورد ويليزلي (Lord Wellesley) الذي أسس مؤسسة تعليمية منفردة عن المؤسسات التعليمية الأخرى. وهذه المؤسسة التعليمية تعرف في التاريخ التعليمي بـ "كلية فورت وليم". وقد أنشأها عام 1800 هادفا إلى تزويد الموظفين للشركة وأبناء الإنجليز بتاريخ الهند وثقافتها والتشريع الإسلامي والتشريع الهندوسي و إلى تلقينهم اللغات الهندية من اللغة الأردية واللغة الهندية لكي تسهل لهم المعاملة مع الهنود، وتتحسن علاقاتهم معهم. وقد لعبت هذه الكلية دورا بارزا في تطوير اللغة الأردية وإثرائها بمعظم الفنون الأدبية الأوروبية من الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والمقالة والنقد وغيرها. فقام رجالها بترجمة أجود ما كان في اللغة الفارسية والسنسكرتية والإنجليزية من النظم والملحمات والرواية والقصة القصيرة والمسرحية والمقالة والنقد إلى اللغة الأردية. وتولى إدارتها الدكتور غلكريست (Dr. Gilchrist) ما بين عامي 1804م - 1820م. وخلال هذه المدة الطويلة بذل كل ما في وسعه من المجهودات في ترويج اللغة الأردية وتطويرها بين أهاليها. فوضع كتابا للقواعد الأردية في اللغة الأردية وقاموسا إنجليزيا أرديا. فما زال يحاول حتى تربع على عرش الريادة في نهضة اللغة الأردية في العصر الحديث.[xii]

مذكرة "تشارلس كرانتس" حول أحوال الهنود التعليمية السيئة
فبفضل الجهود التي بذلها هؤلاء المستشرقون بدأ يتسرب التعليم الإنجليزي في المجتمع الهندي ولاسيما بين الطبقات العليا الهندوسية حتى دخل التعليم الإنجليزي أو العصري في مرحلتها الثالثة. وهذه المرحلة التعليمية تمتد من عام 1813 إلى عام 1835م. وكما ذكرت آنفا أن الشركة لم تول الاهتمام بتعليم المسلمين في المرحلة الثانية للتعليم الإنجليزي وأن بعض الأفراد والجماعات هم الذين كدوا بأنفسهم في نشر التعليم بين الهنود من أموالهم الخاصة. ولكن في هذه المرحلة التعليمية الثالثة نحن نشاهد أن الشركة تحمل على عاتقها بعض الأثقال لتعليم الهنود،. ففي عام 1813م خصصت الحكومة الإنجليزية مائة ألف روبية لتعليم الهنود. ويرجع الفضل في تخصيص هذا المبلغ المذكور إلى "تشارلس كرانتس" Charles Grants الموظف السابق للشركة في الهند الذي صار عضوا برلمانيا عام 1802م. وخلال مدة إقامته في الهند أنه شاهد بنفسه أحوال الهند التعليمية وأوضاعها الاجتماعية السيئة، و سجل كل ذلك في مذكراته الشهيرة بإسم Observations on the state of society among the Asiatic subjects of Great Britain يعني: ملاحظات حول أحوال المجتمع بين الرعايا الآسويين الخاضعين للحكومة البريطانية العظمى". في هذه المذكرة كتب بصراحة أن العلاج الصحيح لمشاكل الهنود يتمثل في توفير النور لهم، يعني التعليم. فإن الهندوس يرتكبون خطايا لأنهم جاهلون، فالتمس الحاجة إلى تعليمهم. وعندما صار عضوا في البرلمان قدم هذه المذكرة المتشابهة بـ "التقرير التعليمي". ثم إنه طلب من البرلمان البريطاني أن يأخذ على عاتقه مسؤولية تعليم الهنود. غير أنه واجه في بداية الأمر معارضة من بعض أعضاء البرلمان: وأبرزهم السيد ريندل جكسون (Randle Jackson) الذي خالفه قائلا: "فقدنا مستعمراتنا في أمريكا لأننا قمنا هناك بتوفير تعليمنا الإنجليزي لأهاليها. إذن يلزم علينا أن لا نرتكب نفس الخطأ في الهند الذي ارتكبناه في أمريكا."[xiii] ولكنه مازال يحاول بحماسة ورغبة حتى نجح في تجديد قرار شركة الهند الشرقية عام 1813م. فهذا القرار لشركة الهند الشرقية اعترف لأول مرة في تاريخ الحكومة الإنجليزية بحق تعليم المواطنين الهنود، وخصص لهم مائة ألف روبية هندية لهذا الهدف. وقد ساعده على إقرار هذا القرار من البرلمان البريطاني تقرير الحاكم العمومي اللورد "منتو" الذي وضعه "اللورد منتو" عام 1811م، وسجل فيه أحوال الهنود التعليمية السيئة، وصرح فيه أن أعداد المتعلمين تنخفض بصورة ملحوظة في الهند الخاضعة لبريطانيا العظمى.[xiv]

فيعتبر هذا البند في قرار شركة الهند الشرقية الرقم 1813م حجرا أساسيا للتعليم الإنجليزي العصري الذي خصص له مائة ألف روبية هندية لتعليم الهنود والذي رفع الحظر المفروض على الحركات التبشيرية منذ عام 1757م إثر إحراز الجيوش الإنجليزية النصر على الجيوش الهندية في معركة بلاسي. فرفع هذا البند الحظر من الحركات التبشيرية، وفتح لها أبواب الهند على مصراعيها. فدخلت في هذه المرحلة التعليمية حركات تبشيرية بصورة ملحوظة وفتحت مدارس تبشيرية بعدد كبير لا يمكن ضبطه في هذه الدراسة. لذلك يعتبر تشارلس كرانتس رائدا من رواد التعليم الإنجليزي أو العصري الهندي. فبفضل جهوده دخل التعليم العصري في مرحلته الثالثة.

وفي هذه المرحلة التعليمية الإنجليزية شاركت ثلاث آليات في نشر التعليم الإنجليزي أو التعليم العصري. وهي:(1) الحكومة الإنجليزية (2) الحركات التبشيرية (3)الشخصيات الهندية المستنيرة.

المجهودات الحكومية في نشر التعليم الإنجليزي
اهتمت الحكومة الإنجليزية اهتماما بالغا بنشر التعليم الإنجليزي منذ إقرار هذا البند في قانون شركة الهند الشرقية. وشكلت لجنة تعليمية للبحث عن سبل توفير التعليم الإنجليزي و لدراسة إمكانيات توزيع المنحة المالية بين المؤسسات التعليمية القائمة لنشر التعليم الإنجليزي. وهذه اللجنة التعليمية بدأت العمل لتشجيع التعليم المحلي أو الشرقي، واعترفت بـ "المدرسة العالية" و"كلية بنارس السنسكريتية". ثم أنشأت كلية شرقية في مدينة آغرة وكلية شرقية في كلكتا وكلية شرقية في دلهي. كماأنشأت الحكومة عددا كبيرا من المدارس الابتدائية والمدارس الثانوية الحكومية. ومن أشهر هذه المدارس "المدرسة الهندوسية" التي أنشأها المصلح الديني الهندوسي"راجارام موهن" بمدينة كلكتا من تبرعات. ولكنها واجهت أزمة مالية فقدمت لها الحكومة معونة مالية، (سنتكلم عن ذلك في صفحات تالية لهذه الدراسة) ثم حولتها إلى كلية عام 1819م. فكانت أول كلية حكومية تأسست في الهند البريطانية. وفي عام 1833م زادت الحكومة في المبلغ المخصص للتعليم من مائة ألف إلى ألف ألف روبية هندية.

جهود الحركات التبشيرية في نشر التعليم الإنجليزي
كما لعبت في هذه المرحلة التعليمية الحركات التبشيرية دورا مهما في نشر التعليم الإنجليزي. فمنذ رفع الحظر عن دخول الحركات التبشيرية في الهند، دخل عدد كبير من الحركات التبشيرية في الهند، وكثفت نشاطاتها التبشيرية في أراضيها. فكانت هذه الحركات التبشيرية نشيطة في نشر مبادئ العقائد المسيحية من خلال إنشاء المدارس التبشيرية حيث يعلم الطلاب اللغة الإنجليزية مع العلوم الأوروبية الأخرى. ومن أهم هذه الحركات التبشيرية: هي الحركة التبشيرية البابتسوية التي أنشأت أكثر من 15 مدرسة تبشيرية منذ عام 1808م إلى عام 1815م. وكانت لها مطبعة أيضا تطبع الكتب المدرسية التي توزعها مجانا على الطلاب. وهذه الحركة التبشيرية هي التي أنشأت كلية في "سيرامبور" هادفة إلى تزويد الطلاب بالعقائد المسيحية مع تزويدهم بالعلوم الإنجليزية.وكانت أول كلية تبشيرية تأسست في الهند. ومنها The London Missionary society أي جمعية لندن التبشيرية التي أنشأت نحو 36 مدرسة تبشيرية و Church Missionary society يعني الجمعية الكنائسية للتبشير التي أنشأت في مدينة بردهوان فقط نحو عشر مدارس . فهذه الحركات التبشيرية وأمثالها كانت قائمة في نشر مهمتها التبشيرية من خلال إنشاء المدارس التبشيرية في عدد كبير لا يمكن ذكرها في هذه الدراسة المستعجلة المطالعة. فهذه المدارس التبشيرية ساعدت على نشر التعليم الإنجليزي بين أهالي الهند.

جهود الشخصيات المستنيرة
وبجانب هذه المجهودات الحكومية والمجهودات التبشيرية في نشر التعليم الإنجليزي أو التعليم العصري كانت هناك شخصيات مستنيرة كانت تعترف بأهمية دراسة الثقافة الهندية من الثقافة الإسلامية و الثقافة الهندوسية واللغات الهندية و اللغة العربية واللغة السنسكرتية ولكنها كانت تؤمن بأن نهضة الأمة الهندية لن تتحقق إلا من شيوع العلوم الأوروبية واللغة الإنجليزية بين أهاليها. فاهتمت بنشر العلوم الأوروبية وبذلت كل ما في وسعها من المجهودات في سبيل نشرالتعليم الإنجليزي. وكان في مقدمتهم المصلح الديني الهندوسي "راجا رام موهن راي". وهو أول هندي قام بتقدير العلوم الأوروبية واللغة الإنجليزية، واعتبر دراسة العلوم العصرية أكبر وسيلة لنهضة الأمة الهندية ونهوضها من هذا التخلف التعليمي. فشكل لجنة عام 1816م بمشاركة صديقه المستشرق ديفيد هير David Hare” الذي كان يدير مدرسة ابتدائية في بيته بقرب مدينة كلكتا. وعقدت اللجنة اجتماعا وناقشت سبل ترويج التعليم الإنجليزي. شارك في هذا الاجتماع نخبة من الهندوس والمستشرقين الذين ناقشوا سبل ترويج التعليم الإنجليزي مع الاحتفاظ على العلوم الشرقية ولغاتها حتى توصلوا إلى فكرة تأسيس الكلية الإنجليزية الشرقية المسماة بـ Mahavidyalaya. ثم أنشأوا لهذا الغرض لجنة ثانية. وبالنهاية جاءت الكلية الهندوسية الإنجليزية الهندية" The Hindu Anglo-Indian college بحيز الوجود في 20 يناير من عام 1817م. وكانت الكلية تهدف إلى تزويد أبناء الهندوس بالثقافتين : الثقافة الآسيوية والثقافة الغربية مع تلقينهم لغاتهما من اللغة الهندية واللغة الإنجليزية. وإن اللغة الإنجليزية احتلت مكانة مرموقة في برنامجها التعليمي. وقد تحولت الكلية إلى مؤسسة تعليمية كبيرة حتى ابتدأ فيها التعليم العالي في مختلف المواد للعلوم الشرقية والعلوم الغربية. وذاع صيتها في توفير نوعية التعليم حتى بدأ الناس مقارنتها مع المؤسسات التعليمية الجيدة السمعة المتواجدة في دول أوروبا.

والجدير بالذكر أن الكلية بعد إنشاءها مست الحاجة إلى أدب الأطفال أو إلى كتب مدرسية ملائمة للأطفال، فلهذا الغرض تأسست جمعية مدرسية لكتب الأطفال في كلكتا عام 1817م. فقامت الجمعية بإعداد كتب المنهج الدراسي لمستوى التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي. فبفضل جهود هذه الشخصيات البارزة تخرجت جماعة من الطلاب الملمين بالثقافة الشرقية والثقافة الغربية مع كسب براعتهم في اللغة الإنجليزية كتابة ومحادثة. ثم حاول هؤلاء المتخرجون في ترويج التعليم العصري أو الإنجليزي في بنغال، فأنشأوا مدارس عصرية بعدد كبير حتى يقدر عددها بنحو 115 مدرسة حيث كان يتعلم نحو 3828 طالبا.[xv]

وبفضل المجهودات المبذولة من قبل الحكومة والحركات التبشيرية والشخصيات المستنيرة مثل: "راجا رام موهن راي" قطع التعليم الإنجليزي شوطا كبيرا حتى نبغ في هذه المرحلة التعليمية عدد كبير من علماء التربية والتعليم الذين دخلوا في المناقشة حول قضايا التعليم. فثارت بينهم قضية اللغة الوسيلة للتعليم هل هي تكون اللغات المحلية (Vernacular languages) من الفارسية و اللغة السنسكرتية أم تكون اللغة الإنجليزية. وكذلك ثارت بينهم قضية هدف التعليم هل هو المحافظة على العلوم الشرقية من اللغة الفارسية واللغة العربية واللغة السنسكرتية وعلومها أو هو ترويج العلوم الغربية مع تعليم الهنود اللغة الإنجليزية. فإن جماعة من العلماء المستشرقين كانوا يؤيدون التعليم في اللغة الأم مع دعم المحافظة على العلوم الشرقية. وكان في طليعتهم "هـ. هـ. ويلسون" (H.H.Wilson) و هـ. ت. برنسيب (H.T. Prinsep) وكانا من أعضاء اللجنة التعليمية التي شكلتها الحكومة للإشراف على الشؤون التعليمية والشؤون الإدارية من تأسيس المدارس. فأنشأت اللجنة التعليمية تحت قيادة هذين الرجلين: الكلية الهندوسية للغة السنسكرتية في كلكتا مما أثار غضب الفريق الثاني الذي يؤيد "تعليم الهنود العلوم الغربية مع تعليمهم اللغة الإنجليزية. وكان في طليعتهم: المصلح الديني "راجا رام موهن راي" الذي يحرص كل الحرص على تعليم الهنود العلوم الغربية مع المحافظة على العلوم الشرقية. وبهذا الغرض أنه قد أنشأ الكلية الهندوسية الشرقية والإنجليزية، وطالب الحكومة أن تنشئَ للهنود مدارس أو كليات شرقية - إنجليزية. ولكن عندما قامت اللجنة التعليمية العمومية بتأسيس "الكلية الهندوسية للغة السنسكرتية بكلكتا" ثارت ثورته وكتب رسالة موجهة إلى "اللورد أمهرت" (Lord Amhart) في الاحتجاج ضد تأسيس هذه الكلية السنسكرتية. وكتب في هذه الرسالة الاحتجاجية الموجهة إلى اللورد "أمهرت": أن تأسيس الكلية الهندوسية للغة السنسكريتية يدل على حسن نية الحكومة وحرصها على تحسين الأحوال التعليمية لرعاياها. ولكن تأسيس هذه الكلية تحت علماء الديانة الهندوسية يعني "باندت" يتوقع منهم فقط أن يشغلوا عقول الشباب بقواعد اللغة السنسكرتية الدقيقة التي ليست لها علاقة عملية بالمجتمع الإنساني، ولا يمكن تحصيل هذه اللغة في طول حياتهم. وأظن أن تأسيس الكلية المذكورة حيلة من حيل الحكومة لإبقاء البلاد على الجهالة. وفي الحقيقة أن الأمة الهندية تحتاج إلى العلوم الغربية التي رفعت مكانة أوروبا ومكنتها من السيطرة على العالم أكثر من العلوم الشرقية غير المثمرة للمجتمع. ولذلك نناشد الحكومة، إن ترد ترقية الأمة الهندية بمعنى الكلمة الحقيقية يجب عليها أن تؤسس مؤسسات تعليمية حيث تدرس العلوم الرياضية والفلسفة الطبيعية وعلوم الكيمياء والعلوم الغربية الأخري المثمرة بمعونة البارعين في هذه العلوم والمثقفين فيها في أوروبا"[xvi]

فهذه الرسالة الاحتجاجية هي التي أحدثت مناقشة حول قضية " اللغة الوسيلة للتعليم "وقضية "تعليم الهنود العلوم الغربية مع الاحتفاظ بالعلوم الشرقية أو تعليم الهنود العلوم الشرقية بما فيها اللغة السنسكرتية فقط. فمنذ ذلك الحين قد ظلت المجادلة في شدتها بين الفريقين حتى جاء اللورد ماكولي (Lord Macaulay) كأول عضو تشريعي في المجلس التنفيذي في 10 يونيو من عام 1834م. وبعد وصوله إلى الهند تقلد منصب رئاسة اللجنة التعليمية العمومية التي انقسم أعضاءها إلى الفريقين بالتساوي حول القضايا المذكورة. ففي بداية الأمر تحفظ برأيه، ثم وضع مذكرة في تأييد التعليم في اللغة الإنجليزية وترويج العلوم الغربية بين الهنود. وقام بالدفاع عن التعليم الإنجليزي. ثم قدم هذه المذكرة إلى اللورد "ويليم بينتنك" William Bentinck الحاكم العمومي في ذلك الحين الذي أقر مذكرته في شكل القانون التعليمي عام 1835م.[xvii] فمنذ ذلك الحين دخل التعليم الإنجليزي في المرحلة الحاسمة التي وضع فيها حجر أساس للتعليم العصري المتبع الآن في الهند بعد استقلالها من الاستعمار البريطاني. لذلك يعتبر اللورد ميكالي أب التعليم العصري. وكذلك يعتبر مذكرته التعليمية فاتحة عصر جديد للتعليم العصري. وتستحق هذه المذكرة التي قامت بترسيخ التعليم الإنجليزي في الهند بأن نورد هنا أهم نقاطها:

  1. أن يكون التعليم باللغة الإنجليزية بدلا من اللغة المحلية
  2. أن تبذل الجهود في ترويج العلوم الغربية بين الهنود
  3. وألا تلغي الحكومة أية مدرسة تعلم فيها العلوم الشرقية ولا تلغي معونة مالية مقدمة لدارسي العلوم الشرقية ومدرسيها ولكنها تستبدلهم بدارسي العلوم الغربية ومدرسيها على مر الزمن.
  4. وألا تقدم الحكومة معونة مالية للمؤسسات التعليمية تختص بترويج العلوم الشرقية. بل عليها ان تتحمل نفقاتها بنفسها
  5. وأن يعين طلاب المدارس الحكومية للعلوم الشرقية في مناصب حكومية.[xviii]

فهذه النقاط القانونية وغيرها لهذه المذكرة القانونية قد لعبت دورا مهما في ترويج التعليم الإنجليزي بين الهنود حتى مهدت أرض الهند لظهور جامعات عصرية منذ عام 1857 حتى استقلال الهند. فأول جامعة جاءت إلى حيز الوجود هي جامعة كولكتا على طراز جامعة اوكسفورد في شهر يناير من عام 1857م، ثم تتابع تأسيس الجامعات الأخرى، فتأسست جامعة بومباي في شهر ابريل من عام 1857م وجامعة مدراس في شهر سبتمبر من عام 1857م وجامعة بنجاب عام 1870م وجامعة اله آباد عام 1887م وغيرها من الجامعات الأخري. ثم انتسب عدد كبير من الكليات الهندية إلى هذه الجامعات العصرية.[xix] فراح التعليم الإنجليزي يخطو خطى سريعة حتى انتشر نظام التعليم العصري في جميع الهند بمراحله الثالثة من التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي والتعليم الجامعي. هكذا شهدت الهند انتشار التعليم الإنجليزي في جميع ضواحيها.

 

أستاذ مساعد: قسم اللغة العربية و آدابها، جامعة كشمير، الهند

 

[i] S. N. Mukherji, History of education in India (Modern period), Naggargruh, Barodha, 1974, p-12

[ii]Ibid, p-15

[iii] Ibid, p-15

[iv] Ibid, p-15

[v] S. N. Mukherji, History of education in India (Modern period), Naggargruh, Barodha, 1974, p-17

[vi] Ibid, p-19

[vii] J.M. Sen, A history of Elementary education in India, culcutta, 1933, p-40

[viii] Syed Mahmood, History of English education in India, ……. , p-19

[ix] See: Dr, Mujeebur Rahman, History of Madrasa education with especial reference to Calcutta Madrasa,

[x] S. N. Mukherji, History of education in India (Modern period), Naggargruh, Barodha, 1974, p-23

[xi] Ibid, p-23

[xii] Syed Mahmood, History of English education in India

[xiii] S. N. Mukherji, History of education in India (Modern period), Naggargruh, Barodha, 1974, p-28

[xiv] Ibid, p-29

[xv] S. N. Mukherji, History of education in India (Modern period), Naggargruh, Barodha, 1974, p 23

[xvi] Syed Mahmood, History of English education in India: ملخص رسالة راجا رام موهن راي p-28,29

 

[xvii] Syed Mahmood, History of English education in India: p-51

[xviii] Syed Mahmood, History of English education in India: p-52

[xix] Ibid, brief from p; 87 to p-96.