يسعى الكاتب هنا من خلال مقاربة فلسفية ـ فيزيائية، لا تزال في طور التكوين والتخلص من التعقيدات، إلى تطبيق قانون ثلاثية أقطاب الماهية على هوية الأشخاص، مِن حيث انتمائهم الوجودي، بعيدا عن الفكر الأرسطي التقليدي، للكشف عن أن كُلّ الخلق يتشكل عبر انصهار الفكر في الوجود.

انصهار الفكر في الوجود

منجد النّور الكرعاني

 

إنّ مسار مصير كلّ فرد بصفته %1 في نقطة زمكانية تَشرُطه بقيّة كلّ الأفراد %99 الموجودين على سطح المعمورة في نفْس الحقبة الّتي تلتقي مع تلك النّقطة الزّمكانية. فالشّبكة الوجودية تُشَكِّل وَحَدة متكاملة، خيوطها مُتَّصلة كذَرّات تناضُحها مستمرّ ودائم، يتعايش في قطعة فوتون داخل حُجرة مظلمة.

سَبَبِيّة السَّبَبِيّة. الفكر الكوانتي لا ينحصر في عالَم السببية؛ فالعقل البراغماتي يمكنه أن يقف على التّحليل الشّمولي لِلسَّبب ولِلنّتيجة، إلّا أنّه في علاقة تكاملية ينتقل الفكر الكوانتي إلى عوالم التّساؤل حول لماذا هذا السّبب بالضّبط ولِما ليس سببا آخَر، ولماذا هذه النّتيجة بالضّبط وليس نتيجة أخرى؛ بعبارات أخرى، يَدرس ويتأمَّل سبب السّبب وسبب النّتيجة؛ وبالتّالي يقف في مركز الدّائرة الوجودية، نقطة سببية السّببية، منفتحا على جميع زواياها بين %0 و%360، وزوايا الدّوائر الوجودية الأخرى المرتبطة بالدّائرة الوجودية الأصل، الحاملة في طيّها أعراض سياق السّببية. فما تراه العين، على مستوى الفرد أو الجماعة، في باقي الأفراد أو الخلق عامّة، ما هو إلّا حبّة رمل في شُطآن وسَواحِل أسرار الغيب. فكيف السّبيل، إذن، للسّبر بِأغوار الباطن بغية كشف خبايا أجزاء بقيّة حبّات مختلف السّواحل والشُّطآن؟

مِن أجل خوض غمار التّنقيب على الخبايا والشُّروع في السَّفَر الوجودي ينبغي، بادئ ذي بدء، التّخلُّص الحتمي والصّادق، الجُزئي أو النِّهائي، مِن المّادَّة والمادِّيات لتخفيف العبء والثِّقل على الرُّوح، وكذا تخليصها مِن كُلّ الأغلال الدّنيوية والسّلاسل الّتي تُقَيِّدها بِبُعد الظّاهر وتَحُول بينها وبين فَتْحِها لِأبواب ما وراء الطّبيعة. إذ كُلّ ما تراه العين في البُعد العادي لِلعالَم المادِّي له تفسير وسبب في البُعد الاستثنائي لِلعالَم الرُّوحي ـ الفكري، غير التّفسير المتداوَل المحدود والسّطحي البسيط الّذي يُعطيه قِصر النَّظر والبصيرة في العالَم البدائي. وبالتّالي، تتخلَّص الذَّات مِن الشَّوائب الّتي تبقيها خاضعة وطرَفاً بِبُؤر التَّوتُّر التَّافه لِترتقي في السَّلالِم الوجودية وتنتقل إلى دائرة وجودية أخرى تتساكن بها مع بُؤر التَّفكُّر وهي تتأمَّل وتُحلِّل مِن أعلى، كَمَن يطلّ مِن مَجَرَّة تبعد بملايين السّنوات الضّوئية على عَبَث الذَّرَّة الزَّرقاء وما تغلي بها مِن إلكترونات نَوْكَاء.

يمكن تصوُّر الفكر كما تُفسِّر فيزياء الكوانتا حياة الذَّرّة وعلاقة الضّوء بالأشياء. فهناك فِكْرٌ كالذَّرَّة، في نواته أفكار إيجابية وأخرى محايدة، ومِن حوله تدور الأفكار السّلبية؛ وفِكْرٌ تنعكس منه الأفكار، وفِكْرٌ يتشَرَّب الأفكار، وآخَر تمُرُّ مِن خلاله الأفكار. بِما أنّ للعقل طاقة فإنّ للفكر نفْس كمّية الطّاقة، إلّا أنّ هنالك مَن يستثمِر طاقة العقل لِيمدَّ فِكره بها ويشغِّله في التّفاعل مع الوجود، وهنالك مَن يضيعها دون أن ينعم على فِكره بها، لِيجعل منه اسماً دون حياة.

يمكن تحديد وتصنيف أدوار الفكر في ثلاث أدوار؛ أوّلها، تَخدم الشّخص نفسه، ونقصد بذلك كُلّ تأمُّل وتفكُّر وتحليل يصبو مِن خلاله الفرد إلى التَّعمُّق في ظواهر الظّاهر والباطن؛ ثانيها، يتجلَّى في نَقْل الطّاقة الإيجابية إلى فكر آخَر بهدف طرد طاقته السّلبية؛ وثالثها، إذا كان سلبيا، فإنّه يزاحم الطّاقة الإيجابية ويُشَوِّش عليها ورُبّما يقصيها، إذا أَرسَل بسرعة الضّوء كمّيات كبيرة مِن الأفكار السّلبية.

في جميع الحالات، فإنّ ما يسري على الذَّرَّات في علاقتها مع الطّاقة يسري على الفكر في علاقته مع ما يَستقبل مِن طاقة عبر الكلام أو المشاهدة. إذا كانت الطّاقة الّتي يستقبلها الفكر أقوى مِن الأفكار الأصلية السّاكنة به فإنّها تطردها إلى مدار آخَر، ولا ترجع إلى مدارها الأصلي إلّا حينما تتخَلَّص منها، سواء كانت إيجابية أو سلبية. إذ هناك مَن يُحَبِّذ التّجانس مع الفكر السّلبي، وإذا استقبَل طاقة سلبية فإنّه يتفاعل معها إيجاباً ولا يتخلَّص منها ولا يحاول البَتَّة؛ وهناك مَن يُنقِّب عن الطّاقة الإيجابية وما إن يستقبلها حتّى يفسح لها المجال لِطرد الطّاقة السّلبية الّتي يتفاعل معها سلباً.

تُرى، ما هي الضّوابط والميكانيزمات الّتي تُؤطِّر صيرورة التّفاعل مع الإيجابي والسّلبي؟ أوّلها، نسبة القابلية. ما يؤسِّس للقابلية هو الإرث الوجودي، ونقصد بذلك كُلّ ما استقبله العقل على المستوى التّعاقبي منذ فترة تكوينه وهو جنين في الأحشاء يُحرِّكه اللّاشعور، النُّقطة α، إلى لحظة تفاعله السّلبي أو الإيجابي، الّذي يحرِّكه الشُّعور واللّاشُعور، النُّقطة β.

يمكن تصوير الفكر كجسم اهليلجي غير مرئي ولا ملموس، يحتوي على ذرَّات / أفكار إيجابية وسلبية، بِنِسَب متفاوتة، بما أنّه ناقص وخالقه كامل. كُلّ المؤثِّرات الحواسية مِن النّقطة الزّمكانية α إلى النّقطة الزّمكانية βهي مؤشِّرات، في إطار منطق السّببية، على نسبة القابلية في النّقطة . β

فلنتصوَّر أنّ حياة إنسان ما هي إلّا كمّية مِن الصُّوَر الّتي تساوي بالضّبط كمّية مِن الشُّعور؛ هذا يعني أنّه في كُلّ مرحلة، نوعيّة الصُّوَر البصرية والسَّمعية قد أَنجَبَت نوعيّة مضبوطة وخاصّة مِن الشُّعور، والّتي بمعيّة ما تَداوَل وتَعاقَب مِن الصُّوَر وما يُوازيها مِن الشُّعُور، أنتَجَت لنا شخصيّة / فكراً، لا نظير لها / له، عبارة عن شبكة شعورية تحيا، غير ملموسة، تحت أو وراء الجسم، تصير ملموسة عند تفاعلها مع الموقف في النّقطة β عبر ردّ الفعل التّزامني. إنّ السّبيل إلى تشغيل العقل وبلورته بطريقة سليمة، وتَفَتُّح الفكر في بُعد التَّفَكُّر في التَّفكير والأفكار، يبدأ بالتّخلُّص مِن كُلّ شائبة تَحُول دون تمكُّنه مِن الارتقاء في السّلالم الوجودية، وذلك بالإحجام عن تمنِّي الأذى لِكُلّ مَن آذاك يوما. كلّما سعى الإنسان، حَبْواً، نحو أسرار الارتقاء في السُّلّم الوجودي كُلّما أتته القُوَّة الغيبية، رَكْضاً، بمفاتيح تلك الأسرار. فالأصل هو الخير، كُلّما طمع فيه كُلّما أُزِيلَت الغشاوة عن بصره وبصيرته؛ بينما الشّرّ دخيل على الفطرة، فكُلَّما فسح له المجال لِاستقباله أو ممارسته كُلّما عَشَّش وكُلَّما كُبْكِب وعَلَق في عُقر وحله.

تتجسَّد القُوَّة الغيبية / الخالق في الدِّقة اللّامتناهية لتركيبة المخلوق، والتّوازن المضبوط الّذي يضمنه تسيير القوانين الفيزيائية، وتدبير تفاعُل كُلّ المخلوقات معها، سواء كانت كونية، كالمجرّات والكواكب والنّجوم؛ أو مَكروسكوبية، كالإنسان والبحر والنّبات؛ أو مِكروسكوبية، كالذَّرَّات.

أَبْدَع الخَالق الكون وهو يأمل أن يتفكَّر فيه الإنسان ويعترف ويُقِرّ بالقُوَّة الغيبية اللّامتناهية الكمال والدِّقّة الّتي تُدبِّره وتُسيِّره، ولكي يُقدِّر قيمته كإنسان وقيمة الآخَر الّذي خُلِق لِأَجْله أيضا، كي يتأمَّل في صُورته وما وراءها مِن كُلّ صغيرة وكبيرة وُضِعَت بِدقّة مِثلها مِثل مواقع النّجوم والكواكب. حينما تتدبَّر في الكون الّذي خُلِق مِن أَجْلك تُدرك عظمته وإجادة وإحكام وسخاء مبدعه الّذي أهدانا نور الكون دون أن نؤدِّي فاتورته؛ وحين تتدبَّر في الآخَر، الّذي هو أنت لكن بشكل آخَر، تدرك أنّك معجزة حيَّرَت وستُحيِّر بجزئياتها الفيزيائية والكيميائية تركيبتها البيولوجية والفيزيولوجية كُلّ مَن يدَّعي الإحاطة الشّاملة بِأسرارها. والحالة هذه، فإنّ التّدبُّر في آيات الآفاق والأنفُس لَمِعراج يقود إلى الانصهار الكُلِّي والنّاجح والدّائم مع جمالية الخالق، وبالتّالي البقاء على اتِّصال سرمديّ معه، كأنّك تربط كُلّ ذرَّة مِن ملايير الذّرات المُشَكِّلة لجسدك، عبر ملايير الخيوط الرُّوحية، مع كُلّ صغيرة وكبيرة في هذا الكون.

في إطار العلاقة الرُّوحية التّفاعلية بين المخلوق والخالق نُسجِّل أنّ المعادلات الوجودية الّتي تضعها الأقدار في طريقنا تنسجم والسُّلّم الوجودي الّذي ارتقى إليه الشّخص. هذا يعني أنّه تؤخذ بعين الاعتبار المكانة الفكرية للرُّوح المُمتَحَنة حتّى يتسنَّى لها إيجاد الحلّ. هكذا يتمّ الحفاظ على توازن الكفّتين؛ كفَّة المعادلة وكفَّة الحُظوة الوجودية، وكذا التّوازن بين البَشَر فيما بينهم، والتّوازن بين الأقدار عامّة وقُدرة تحمُّل المخلوقات، في علاقة ثلاثية محبوكة بخيوط روحانية تتفاعل في خضمّها المادّة ونقيضها، والزَّمن العندي والإنسي، وكُلِّية الحضور الإلهي والمكان الإنسي، بين ما يراه بعينه وما يُبصره بفكره؛ والطّاقة الثُّلاثية الأبعاد، بين الطّاقة الأزلية للخالق، والطّاقة الهالكة للمخلوق، وبينهما الطّاقة المتجدِّدة والمتواصلة التّجانس للمجرّات وما بينهم.

يجب أن نُفَرِّق بين طاقة الفكر، كأنّه كتلة تُؤثِّر فيها جاذبية المكان، وطاقة الفكر متى تَفُوق سرعة الضّوء لترجمتها إلى كلمات أو فِعل أو تصرُّف. وهكذا، فمِن أجل قياس فكرة في السُّلَّم الوجودي يتوجَّب قياس وظيفة إشعاعها في التّطوُّر الزَّمني.

ألا يُولِّد، عند المُفكِّر، انتقاله إلى بُعد وجودي فكري وبالتّالي سلوكي، إحساساً أو شعوراً بالخوف، كونه يُدرك أنّه أصبح غير طبيعي كطبيعة نظرة وسلوكات أبناء جنسه وعصره، وأنّ زاوية تفاعله الفكري مع المحيط الطّبيعي والميتافيزيقي لا تَمُتُّ بأيّة صلة إلى زوايا تفاعل الآخرين مع السّياقات المحيطة بهم؟

الاستثناء، في تحليل المفاهيم والقيم الوجودية الّتي ننعت بها الأشخاص ونُصنِّفهم في نظرتنا الفكرية، يُربِك ويُبعثِر التّسلسُل المنطقي لمعطيات قاعدة الماهية؛ وهكذا تصير تَعرف عدّة نتائج لا تُشبه حصيلتها نَفْس النَّتيجة القارَّة المتداوَلة بين النّاس الّذين يتشاطرون نَفْس البُعد الوجودي ونَفْس السِّياق الذِّهني.

إنَّ التَّواصل مع بقيّة الأرواح السّامية لا تَشرُطه ضرورة انتماء الطّرفين أو الأطراف إلى نَفْس الحقبة الزّمنية ونَفْس الرُّقعة الجغرافية. لا حاجة إلى حضور الجسد، بل إلى الكتابة الّتي تُجسِّد طينة الرُّوح وفحواها. إذ باستطاعة المنتمي إلى حُظوة الأرواح السّامية، بِإبداعه وتَفكُّره، أن يتواصل مع مُفَكِّري القرون السّابقة أو اللّاحقة عبر نفيه أو تأكيده، اتّفاقه ومشاطرته أو اختلافه ونقده، لكتاباتهم أين تحيا رُوحهم بين الحروف والكلمات والسُّطور والفواصل والنُّقط.

كُلّ شيء يضيع ويتلاشى ويُفقَد أثره، إلّا ما أَنجَزتَ مِن خير، مِن قَول وفِعل، فإِنّه يظَلُّ جارياً وتتوارثه أجيال وأجيال تَذكُرك مِن خلاله وتَذكُر به قيمتك الإنسانية. عندما يصطدم شخصان ولا يتّفقان، يَعتقدان ويَعتقد المشاهِد؛ في بُعد الظّاهر، أنّ تجربة تَوَاصلهما قد فَشَلَت، إلّا أنّه؛ في بُعد الباطن، الطّاقة الإيجابية لِلطَّرَف أ، والطّاقة السّلبية لِلطَّرَف ب، لا تَضِيع ولا تَرسُب بل تَنتُج عنها طاقة ثالثة، هي عبارة عن حقيقة ثالثة تجمع بين السّلبي والإيجابي، المتواجَد عند كُلّ طَرَف، كأنّه لحظة اصطدام الاثنين، سَالباً ومُوجَباً، يُولَد عنصر ثالث بمثابة ظلّ مجرَّد عبارة عن كتلة مِن الطّاقة، وبالتّأكيد ملموس، جسداً ورُوحاً، في مكان آخَر.

ماذا يحدُث في الكيمياء الدّاخلية متى نَفْس الشَّخص الّذي كان، في سياق ما، يُعبِّر عن رفضه للعيش تحت ظروف ما، يُصبح، في سياق مغاير، راضخاً لها ويتحمَّلها ويتفاعل مع مَن يحيطون به فيها، إلى درجة أنّه يتأقلم معها ويَتطَبَّع بِطِباع كُلّ ذرَّة تُؤثِّث محيطها؛ وما كان يخشاه مِن ظَرف بالأمس القريب، إذا فَرَضَته الحتمية عليه، يصير يخشى أن يَفقده اليوم، وأن يُلزَم بِالتّعايُش مع ظَرف أدنى وأقسى ؟!

كيف يتفاهم عدم التّوازن 1 مع عدم التّوازن 2، مع تباين نسبة عدم التّوازن عند كُلّ طَرَف؟ وكيف يُمكِن أن يَظَلّ الإثنان في تواصل عن بُعد دون اللُّجوء إلى وسائل الاتِّصال أو إلى اللِّقاء المباشر؟ لا يُمكن قياس نسبة عدم توازن كُلّ طَرَف أو توازنه المُؤقَّت أثناء تفاعله الإيجابي، كإسداء خدمة أو إعطاء نصيحة...، مع عدم توازن الطَّرَف الآخَر.

أوَّلاً، يمكن أن يتفاهم عدم التّوازن 1 مع عدم التّوازن 2 رُبّما لِأنَّه يجمعهما بِبَعض نَفْس المرض النَّفسي أو الجسدي، أي أنّهما يتشاركان نَفْس البُعد التّفاعُلي ـ الوجودي؛ يعني أنّ نَفْس القناعات والنّظرة الوجودية وطريقة التّواصل تجمعهما بِبعض، دون أن يُدرِكا أنّهما يُثيران انتباه التّوازن '1 والتّوازن '2، أو عدم التّوازن 3 وعدم التّوازن 4. والغريب في الأمر هو التّفاهم والانسجام الّذي يربطهما بِبعض. هذا يعني، دون شكّ، أنّ هنالك منطق باطني ما في تواصلهما؛ رُبّما يكون اللّامنطق في نظر التّوازن '1 والتّوازن '2، لكن، بالنّسبة لهما، فهو المنطق عينه، أي منطق اللّامنطق، الّذي يحيلنا على بُعد اللّابُعد، الّذي سبق وأسّسنا له وحلّلناه في كِتابنا السّابق "البراغماتية الوجودية".

أَضِف إلى ذلك أنّ الطّرفان معا يظلّان في تواصل مع بعضهما عن بُعد دون اللّجوء إلى وسائل الاتّصال، وذلك باجترار أفكار منطق اللّامنطق بِاستحضار طريقة النُّطق بها مِن قِبَل صاحبها، أو تفسيرها إلى حدّ أنّه لا يُستَبعَد أن يُطَبِّقها أو يَعمَل بها الطَّرَف المُستقبِل لها. ويمكن أن يبتسم الطَّرَفان معاً في نَفْس اللّحظة رغم المسافات البعيدة الّتي تفصلهما عن بعض، لِاستحضارهما فِكرة مِن الأفكار، نَفْس الفِكرة، أو موقِفاً مِن المواقف، نَفْس الموقف، في بُعد البُعد، أي البُعد السّطحي لِلعوام.

نتساءل، في هذا المضمار، كيف يمنح عدم التّوازن 1 ثقته لِعدم التّوازن 2 لِيكشف له عن أسراره الخفيّة، ويؤمن به إيماناً قويّاً إلى دَرَجة تطبيق نصيحته بِحَدافرها إذا ما طَلَب النّصح والاستشارة، دون أن نغفَل أنّ هناك احتمالاً على اثنين أن تكون النّصيحة وليدة عدم التّوازن، واحتمالاً على اثنين أن تكون وليدة ما تَبَقَّى مِن نِسب مِئوية لِلتّوازن.

كُلّ العلاقات تتَّسم في شموليتها بِالفشل، بِاستثناء ما يُنجَز في خضمِّها، على المستوى التّزامني، مِن إنجازات إيجابية. منطقيّاً، كُلّ ما يعيش ويتحرَّك بِالظّاهر والباطن لا يظلّ قارّاً على حاله، كالمشاعر والأحاسيس الباطنية، فهي تَرتفع وتنخفض، تُولَد، تَنمو، تَزدهر، وتتلاشى لِتَموت. الحُبّ، عند كُلّ الخَلق، يُولَد قويّاً ويَشيب مهترئاً، وبين النُّقطتين يَرتفع ويَنخفض، بِاستمرار، كتخطيط القلب.

إذا أَرَدنا أنْ نَنْعت العلاقة أو الشُّعور بِالنّاجحة أو النّاجح فيجب ألّا تَعرف أو يَعرف شحنات سلبية / سالبة، وبِما أنّ الخلق ناقص ويستحيل كماله ودوام حياته الجسدية والفكرية والشُّعورية على حالها الإيجابية فإِنّ كُلّ علاقاتها وتفاعلاتها يسودها ما هو سلبي في نقطة معيَّنة مِن مستقيم ممرِّه الوجودي، تُؤدِّي إلى الفشل المؤقَّت أو النِّهائي لِلعلاقة، والأسباب شَتَّى والنِّهاية واحدة. وكُلّ التّجارب في الحياة تَكُون ناجحة في إطار تحليليّ محدَّد في الزّمن السّانكروني، ومعنى نجاحها تُجَسِّده الخلاصات الّتي نخرج بها وتنضاف إلى خلاصات تجارب أخرى، رغم نسبة فرضيات فشلها، إذ أنّه ستُشكِّل عند البعض، وليس الكُلّ، لَبِنة تُضاف إلى بقيّة اللَّبِنات المؤسِّسة لِلنَّظرة الوجودية في رُتبة مِن السُّلَّم الوجودي.

إنّ ماهية الخلق ثلاثية المكوِّنات بين اللّامتناهي الصّغير واللّامتناهي الكبير. الأرض، مَثلا، عبارة عن نواة وقشرة وما بينهما. الإنسان، جسد وروح وعقل. الشّجرة، أصل وفرع وما بينهما. الذَّرَّة، إلكترون وبروتون ونوترون. الكون، مجرّات ونور وظلام. حتّى في محاولتنا في تصنيف الأشخاص نعتمد أساساً على ثلاثية: المعرفة، والمعرفة التّطبيقية، والمعرفة السُّلوكية.

وإذا قمنا بِإسقاط قانون ثلاثية أقطاب الماهية على هوية الأشخاص، مِن حيث انتمائهم الوجودي، فإنّنا سنفضي إلى أنّه ليس مِن الضّروري والحتميّ أن تنحصر ماهيتهم الوجودية في مبدأ الثّالث المرفوع، بل يمكن أن يُجسِّد الشّخص جوهراً ثالثاً مناقضاً لثنائية القيم المتداوَلة؛ الشّيء الّذي يدعونا إلى إعادة النَّظَر في قانون الثّالث المرفوع الّذي تبنّاه أرسطو، والّذي نراه صائباً في أسيقة وخاطئاً في أخرى.

في السّياق العلاقتي، يكون الشّخص وفيّاً أو خائناً؛ في السّياق الدّيني، مؤمناً أو كافراً؛ في السّياق المعرفي، عليماً أو جاهلاً، وِفقاً لِلاختصاصات المتداوَلة على سطح الكوكب. لكن، في سياق تفاعُل الشّخص مع الحياة، بين حاضر ومستقبَل، يمكن أن يكون لا متفائلاً ولا متشائماً، وإنّما شيئاً ثالثاً: محايداً؛ لا سعيداً ولا حزيناً، بل محايداً؛ لا شرّيراً ولا خيِّراً، بل محايداً؛ لا حيّاً، يحذو حذو الأحياء، ولا ميِّتاً في قبره، بل محتضراً، لا ينتمي إلى بُعد الأحياء ويرى ما يرون، ولا إلى بُعد الأموات، الّذي لا يَعرف عنه الأحياء شيئا، بل إلى بُعد محايد، يعكس مرحلة انتقالية، كأنّها جسر مجرَّد تمكث فيه الرُّوح بين الحياة والموت، وهي تنسلخ وتخرج مِن مسكنها رويدا رويدا، بينما صاحبها وحامل سرِّها بِفطريّة تَمسُّكه بالحياة، الّتي يَعرف عنها كُلّ شيء تقريباً، وفطريّة توجُّسه مِن بُعد الموت الّذي يجهل عنه كُلّ شيء، يَظَلّ لِلَحظات مُعَلَّقاً، وحده يرى ويعيش تلك الحقيقة أثناء السَّكَرات، عاجزاً عن وصفها لِمَن سيلحق به عمّا قريب.

وهكذا، ننتهي إلى أنّ قانون الثّالث المرفوع لا يَسْرِ على كُلّ الأسيقة الوجودية، وذلك لِوجود قانون آخَر، سنطلق عليه تسمية: قانون الحيادية، الّذي يصف وينعت، بِدِقَّة أكثر، ماهية الأشخاص في إطارٍ سِياقِيٍّ مُعيَّن لِلمفاهيم المُنظِّمة لِتفاعُل الشّخص مع الوجود.

في إطار مقاربتنا الفلسفية ـ الفيزيائية نرى أنّه مِن المُرَجَّح أن يكون الشَّخص حيّاً وميِّتاً في الآن نَفْسه. وليس هنالك تناقُض في الظّاهرة المطروحة. فالحياة لا تُساوِ اشتغال آلة القلب وآلة الصَّدر؛ والموت لا يعني وقوف الآلتين عن تأدية وظيفتهما الميكانيكية. وهذا لا يَضرِب عرض الحائط قانون عدم التّناقُض، بل يُؤكِّده ويُعزِّزه. فالتّناقُض الفادح والصّارخ هو أن نُصنِّف الشّخص مِن الأحياء فقط لِأنّه يَأكُل ويتوالد، غافلِين عن فراغه الرُّوحي والعاطفي؛ وبِما أنّ المخلوق يستحيل أن يصبو لِرِفعة الكمال، وكيفما كانت فصيلته وكفاياته وقدراته لا بُدّ له أن يَحمل في طيّاته نسبة مئوية مِن عدم التّوازن؛ إذن، فهو حيٌّ (كفايات روحية وعاطفية) وميِّتٌ (نسبة مئوية مِن عدم التّوازن) في الآن نَفْسه؛ بعبارات أخرى، هو حيٌّ نسبة إلى الكيمياء الحيّة في جسمه والفيزياء المتجانسة مع فكره، وميّتٌ نسبة إلى الكمِّيات الكيميائية والفيزيائية الميّتة في كينونته.

فلنتساءل لماذا يفقد الإنسان شيئاً مِن وزنه لحظة موته، أي لحظة هَجْر الرُّوح لِلجسد؟ ألن يكون عدد الغرامات الّذي يفقد هو كتلة الرُّوح؟ الشّيء الّذي يقودنا إلى فرضية اعتبار الرُّوح الطّاقة الجوهرية والحاسمة لِلإنسان بصفتها كتلة غير ملموسة لِطاقة مُجرَّدة تُعدُّ الرَّكيزة المُحرِّكة، لِمُدَّة سنين، لِكتلة الجسد الّتي تحتوي على أعضاء وأنسجة وعروق وهرمونات تقوم، بِاستمرار، بوظائفها بشكل ميكانيكي مضبوط، دون انقطاع أو استراحة، حتّى أثناء النّوم، طيلة العُمر، مُنذ فترة تكوين الجنين إلى ثانية وفاته.

تخيَّل جسداً بلا رُوح، ألن يكون شبيها بتمثال نَتِن؟؟؟ إذن بضع غرامات مِن الطّاقة الغير ملموسة تُوَزَّع يوميّاً على كُلّ ذرَّات الجسم، مِن الدّاخل والخارج، وتتجدَّد أثناء النّوم كي تُوَزَّع في اليوم المُوالي بنَفْس الوتيرة، وتتكرَّر العملية في مسار حياة كُلّ واحد مِنّا إلى أن تتبخَّر إلى الأبد.

السُّؤال الّذي يطرح نَفْسه هو: لِماذا هناك اختلاف جليّ في آجال تبخُّر الرُّوح؟ أي لِماذا يفقد النّاس بضع غرامات مِن وزنهم لحظة موتهم في أيّام وفصول وسنوات مختلفة؟ وهذا لا يرتكز على منطق الأكبر سِنّاً هو الّذي يسبق، إذ الأصغر سِنّاً، أحياناً، هو مَن يزور القَبر أوّلاً، فالمسألة لا تخضع لِمنطق السِّنّ.

وإذا كانت الرُّوح، كما سبق وافترضنا، عبارة عن كتلة غير ملموسة كطاقة مجرَّدة ومُحرِّكة لكتلة الجسد، فلماذا أثناء حادثة سير يموت الإنسان ولَم يُصَب إلّا في جزء مِن جسده لا في روحه؛ ونعني بذلك أنّه حتّى ولو تضرَّر الجسد فالأكثر منطقا أن يبقى صاحبه على قيد الحياة، بِما أنّ الرُّوح لا تُلمَس. ألن تكون هناك، نظرا للمعطيات المجرودة، علاقة تكاملية بين الرُّوح والجسد، كإعطاء الطّاقة والتّغذِّي على مَا يُمنَح الطّاقة؛ يعني أنّ الرُّوح تعطي الطّاقة لِلجسد كي يقوم بوظائفه وفي نَفْس الوقت تَمتَصّ الطّاقة منه أو تُجَدِّد طاقتها منه؛ ومتى يَتعَب أو يُنهَك أو يُضَرّ أو يَتَضَرَّر ولا تجد مِمّا تتغذّى منه تهجُره.

بِما أنّ هنالك عدد لامتناهي مِن الذَّرَّات يَطُوف حولنا ويخترق أجسادنا دون أن نشعر بذلك، وبِما أنّ الكيمياء بداخلنا تتغيَّر بِتغيُّر الأفكار والأسيقة الفيزيائية والذِّهنية، مفرزة شحنات كهرومغناطيسية إيجابية وسلبية، فإنّنا ننتهي إلى أنّ الذّرّات، لحظة اجتياحها لِلجسم، تحتفظ بكمّية مِن تلك الشّحنات وتنقلها إلى جسم آخَر، تاركة كمّية مِمّا تحمِل وحاملة، أثناء مسارها، لِكمّية أُخْرى، وهكذا دواليك...، في علاقة تفاعلية متواصلة، تتفاعل، في سَرَيانها، صيرورة الطّاقة الإيجابية والسّلبية على مستوى الكوكب بِرُمّته.

تجدر الإشارة أنّ فيزياء الكوانتا تُفسِّر كيف يستمرُّ تواصل إلكترونَين وُلِدا في نَفْس اللّحظة رغم ملايير الكيلومترات الّتي تفصلهما عن بعضهما، بِفضل جُسيم كالمغناطيس مُدمَج في تركيبة الإلكترون يُسمَّى العزم المغزلي: Spin. إذن، فإلكترون في أقصى الشّرق يُمكنه التّواصل مع إلكترون في أقصى الغرب، وكذلك هو الشّأن بِالنّسبة لِذرَّة تحمل شحنة سلبية استمدَّتها مِن جسم في أقصى الشّمال، حيث يمكن أن تحملها إلى جسم لحظة اجتياحه في أقصى الجنوب، دون أن يدرك أحد ذلك في بُعد الظّاهر.

و الحالة هذه، يمكن القول أنّ كُلّ الخلق يُشكِّل، في بُعد الباطن، جسماً واحداً، كشبكة واحدة غير ملموسة ولا مرئيّة، حُبِكَت بِناءً على قاعدة انصهار التّفاعلات الفيزيائية، وتنقسم إلى عدّة جسيمات (أجساد) مختلفة، في الظّاهر، بِاختلاف متغيّراتها الكيميائية عبر الزَّمَن.