على سبيل البداية
في هذه الورقة حديثٌ عن علاقة المرأة بالاستعارة من منظور عرفاني (Cognitive)، يفتش في الأنساق والمرجعيات الثقافية التي تقف وراء صُنع الاستعارات المتعلّقة بالمرأة، وتوجّه الورقة النظر تحديدا إلى سفر هذه المرجعيات وتغايرها من زمن إلى زمن، حيث أنّنا سنلاحظ تبدّل الاستعارات الخاصة بالمرأة وفق تبدّل الأزمنة والفضاء المرجعي، ونفترض أنّ التشابيه والكنايات والاستعارات الـمُستعملة في شأن المرأة قديماً ليست هي نفسها ما نصوغه اليوم من تعابير. وهو افتراضٌ يعكس اختلاف المرجع التصوري المتحكّم في بناء الخطاب.
- في البدء حديث لابدّ منه: الاستعارة التصورية رؤية للكون.
لاشكّ في أنّ طرح الموضوع بهذا الشكل يقتضي وجود خلفية نظرية نستند إليها، فملازمة الاستعارة للمرأة في هذا العنوان ملازمة قد تُوحي للقارئ أنّنا في إطار حديث عن علاقة تكاد تكون مألوفة عند البعض، ويكاد يكون الحديث فيها ضرباً من التكرار المملّ الذي يدخل في باب اللغو من القول. ولكن نعتقد أنّنا نطرح المسألة من مداخل حديثة - نخصّ بالذكر هنا المقاربة اللسانية العرفانية - لا تتقصى علاقة الاستعارة بالمرأة باعتبارها وجهاً بيانيا استنجد به الشعراء في تأثيث قصائدهم، وإنّما هي حفريات في المرجع التصوري الذي يقف وراء هندسة هذه الاستعارات الـمُوظّفة في رسم صورة المرأة في الأدب القديم وتحديدا في الشعر ، فالاستعارة المتحدّث عنها في هذه الورقة العلمية هي الاستعارة التي بها نرى الكون من حولنا ونعيشه بالفعل، وهي آلية من آليات فهمنا للواقع وممارسة سلوكياتنا اليومية، حيث يرتكز عليها العقل البشري في تفاعله مع الأشياء، فنحن بالاستعارة ننتصر ونفرح ونُهزَم ونحزن...إلخ.
وبناءً على ذلك، تقتضي الحاجة في هذا الضرب من التقديم السّريع أن نضع القارئ في إطاره الصحيح، حيث نعلن -منذ البداية- أنّ ورقتنا في إطار مقاربة لسانية عرفانية حديثة. والعرفانية مقاربةً تبحث في علاقة اللّغة بالذهن، وتحفر في الأنساق البانية للكلام، وتقتضي فيما تقتضيه أنّ هناك أنساقا ومرجعيات تُسيّر أو تصنع كلامنا وتفسّره بشكل يبدو واضحاً ومنطقيا. وإنْ شئنا ربْط ذلك بالاستعارة أو في ما يُعرف قديما بالمجاز في عمومه، فإنّنا نجد أنّ الاستعارة العرفانية تمكّننا من فهْم كثير من هذا الفعل اللغوي القائم على علاقات تناسب بين التراكيب اللغوية و أبينتها الذهنية، وهو تناسب محكوم بنسق تصوري في الذهن والإدراك، حيث أنّ تجاربنا وسلوكنا مُبَنْينٌ استعاريا على حدّ لايكوف وجونسون في كتابيهما "الاستعارات التي نحيا بها".
ومن باب التبسيط في القول نقول إنّ هندسة الاستعارات والتشابيه في وصف المرأة أو غيرها من المواضيع الأخرى يتمّ وفْق منطق عرفاني معيّن، يقوم فيه المتكلم بضرب من العلاقات بين مجال وآخر، أي وبلغة القدامى بين صورة وأخرى، وكثيرا ما تكون الصورة الأصل ذات مرجعية ثقافية أو تنتمي إلى حقل معرفي يحمل معه نسقاً كاملا وثقافة برمتها. وليس هذا التقريب بين المجالات من باب التفنن في اختيار الألفاظ وزينتها، وإنّما هو نسق تصوري في ذهن، فالاستعارة مستوطنة في بنية التفكير. فأنْ تصف المرأة بالغزال أو الريم مثلاً فهذا يعني أنّك عدت إلى مرجع تصوري ثقافي كامل نهلْت منه هذه الصورة، وهي صورة لها في ذهن تلك المجموعة أبعاد وتصورات وإلاّ ما كان توصيفك في محلّه. والذي يجعل مثل هذا التوصيف صحيحاً ومناسباً ليس قدرة صاحبه على اختيار الألفاظ، وإنّما طبيعة التفكير في طبعها تسير وفْق تلك المناسبة الذهنية، يقول توفيق قريرة في حديثه عن علاقة عبارة فلانة جميلة بفلانة بدر: «وهذه الدّراسة توصلنا إلى ما بين الصفة والاسم من مناسبة لا تدرك من المعجم بل من الثقافة وما ضمنته من معان حافة لعبارة (بدر). والمناسبة الذهنية التي فيها اتكال على معطيات ثقافية أساساـ تكون بإيجاد علاقة بين اللفظ وما يقتضيه»1
واستنادا إلى ذلك، فالحديثُ في هذا الإطار يوجّه النّظر إلى ما قبل اللّغة أي إلى المرجع التصوّري المشكّل لمثل هذه الاستعارات. والمرجع لاشكّ سيكون متعدّدا، يقول قريرة: «ونحن إذا ما نظرنا إلى الصور الفنية في الشعر العربي القديم وجدناها دائرة في مرجعيات أربع أساسية هي: البشري والطبيعي والحيواني والمطلق، وهي مرجعيات يمكن وسمها بأنّها مجاوزة للغة Extrat-linguistique»2. ومن هذا المنطلق فإنّ التصور العرفاني للغة يفتح لنا الباب إلى ولوج عالم التصورات والمرجعيات، وهو فتحٌ نعتبره هاماً من أجل القبض على سفر الاستعارات في علاقتها بالمرأة بوصفها موضوعا لقي اهتماما كبيرا في كثير من الحقول المعرفية، ولعلّ أهمها الشعر، وهو سفرٌ يعكس دور الثقافة في صُنع الاستعارات، ويتقصى طبيعة اللّغة المتمخضة عن البيئة الحاضنة.
- المرأة والمرجع التصوري الاستعاري القديم3:
للمرأة في التاريخ العربي مكانة مرموقة فلا تكاد تبحث في أشعار العرب إلاّ وتجد في قصائدهم حديثا عن المرأة، ويكفيك أن تفتح مدونات الغزل حتى ترى حضورها المكثّف، فهي مصدر إلهام الشاعر، وهي الموضوع الذي شغل النقاد. وإذْ نحن غامرنا أكثر في متون الشعر سنجد أنّ الشاعر يطوّع اللّغة باستعارتها وتشابهيها وكناياتها من أجل المرأة، وإخراجها في صور راقية، فهي الأول والأخير في فلسفة الشاعر العربي قديما، حيث أنّ غرض الغزل يكاد يستأثر بأغراض الشعر. والمرأة بدءاً من الشعر الجاهلي وصولاً إلى الشعر الحديث كانت أساس بناء الشعر، فالعرب كانت تميل إلى التفنّن في نسج نموذج المرأة الحبيبة ، وقد وصل بالبعض إلى اعتبارها آلهة مقدّسة والملهمة الأولى للشاعر. وتحتفظ لنا الذاكرة الجماعية بكثير من قصص العشق، فخذ على سبيل المثال قصة "مجنون ليلى" الذي جُنّ من أجل حبيبته، وتبعاً لذلك كانت المرأة موضوعا يشدّ ذائقة الشاعر والمتلقي على حدّ السواء.
هذا الاحتفاء بالمرأة موضوعا جنّدت له الأقلام الأدبية -ولاسيما في الشعر- ضروب المجاز باستعاراته وتشابهيه، فحازت تقريبا على أروع الصور وأجزل التعابير، وأفخم الألفاظ. غير أنّ هذا الاحتفاء قد أخفى - في اعتقادنا- مسائل أخرى، نعتقد أنّ أهمها مسألة المرجعيات والأنساق المتحكّمة في هذا الفعل اللغوي، الذي يظهر لنا في أغلبه براعة لا يتقنها إلاّ الفذّ من الشعراء، في حين قد تكون هي مجرّد استجابة حقيقة لواقع ثقافي لا أكثر. وتسعفنا في فهم ذلك المقاربة العرفانية اليوم التي تضعنا أمام نسق تصوري استعاري يتحكّم في بنية تفكيرنا جميعا سواء أكنّا شعراء أو أدباء أو أناسا عاديين.
إنّ المتمعّن في الفلسفة الأدبية لهؤلاء الشعراء والنقاد والقرّاء على حدّ السواء يجدهم يوظفون الاستعارات المتعلّقة بالمرأة توظيفا ينهلُ من مرجعيات في أغلبها طبيعية أو حيوانية، فنعثر على استعارة البدر، والقمر، والظبي والغزال والشمس، والورد، والكواكب...إلخ، وهي توصيفات في مفهومها العام تنبع من مرجعية معيّنة مرتبطة بالطبيعة أساسا، ولها ما يُبرّرها في تلك الفترة وضمن سياقها العام والخاص، وفي حدود ذلك الفضاء العام. ويمكن لنا أن نستعرض بعض الأشعار التي تكشف عن تأصّل الاستعارات و التشابيه المستعلمة في بيئة ذلك العصر، وهو ما يعكس المرجع التصوري المسيّر لعقل الشاعر العربي القديم، فانظر مثلا إلى قول عنترة: "
وَقالَ لَها البَدرُ المُنيرُ أَلا اِسفِري *** فَإِنَّكِ مِثلي في الكَمالِ وَفي السَعدِ "
وهو بيت يعكس تصورات الشعر الجاهلي واستقائه من مرجعيات الطبيعة (البدر) في رسم صورة المرأة، أما في مرحلة لاحقة فقد تواصلت تلك التوصيفات حتى غدتْ بمثابة المثال المرجع، فقد وظّف عمر بن أبي ربيعة الحقل المرجعي نفسه في كثير من الأشعار، فنراه ينظم شعرا قائلا:
"وشفّ سِجْفُ القزّ عنه *** أشمسٌ تلك أم قمرٌ منيرٌ"
وفي موضع آخر يقول:
وَإِذا تَراءَت في الظَلامِ جَلَت *** دُجنَ الظَلامِ كَأَنَّها بَدرُ "
والنّاظر في هذين البيتين يلحظ انغماس الصور في مرجعيات البدر والشمس، وهي مرجعيات تكشف عن الثقافة ودورها في توجيه ذهنية عمر بن أبي ربيعة في وصفه للحبيبة. وإذا قمنا بجولة في بقية المرجعيات المسيّرة لعقل الشاعر العربي القديم، سنرى كيف يستنجد بفضاء الطبيعة من حوله في تجسيد صورة المرأة، حيث يقول الوليد بن يزيد:
"طرقتني وصاحبي هجوع ظبية أدماء مثل الهلال"،
حيث وظّف صورة الظبية والهلال في وصفه للمرأة، ويقول آخر : "عجبت منها وهْيَ شمس الضحى من مثل ما تحمل ترتاعُ"، أما المتنبي فقد قال فيها في موضع رثاء :
"فليتَ طالعة الشمسين غائبةٌ *** وليت غائبةَ الشمسين لم تغبِ"
وصاغ البحتري في شأن البدر بيتا:
"أضَرّتْ بضَوْءِ البَدرِ، والبَدْرُ طالعٌ،، وَقَامَتْ مَقَامَ البَدْرِ لَمّا تَغَيّبَا.
والظّاهر من خلال هذه التشابيه والاستعارات التي وظّفها الشعراء على اختلاف أزمنتهم أنّها ذات مرجعيات طبيعية وحيوانية لها متصور خارج اللّغة، ولكن اللّغة هي التي تربط تلك التناسبات بين الألفاظ وما يحكمها من منطق ذهني يجعل التناسب مقبولاً في ذهن المتلقي، فنحن نقبل مثل هذه الاستعارات لأنّ منطق تفكيرنا مُبَنْينٌ استعاريا ، يقول جورج لايكوف ومارك جونسون في كتابيهما "الاستعارات التي نحيا بها": «إنّ النسق التصوري العادي الذي يسيّر تفكيرنا وسلوكنا له طبيعة استعارية بالأساس»4. إنّ استعارات البدر والشمس والقمر، تنتمي إلى مجال تصوري معيّن (الطبيعة)، وهو ما يمكن أن نسميه بلغة العرفانيين بالمجال المصدر، وهو مجال يقع إسقاطه على مجال المرأة بوصفه المجال الهدف، وهذا الإسقاط محكوم بنسق تصوري.
والمهم في نظرنا أنّ توصيف هؤلاء للمرأة يعكس جانباً كبيراً من الأنساق الثقافية التي تسيّرهم، والتي تكشف عن إدراكهم وتصورهم ومعتقداتهم ومرجعيات كتابتهم. ولعل تواتر القمر والبدر والشمس خير دليل على كون هذه الاستعارات والتشابيه ليست من باب التزيين والحلي في اللفظ، وإنّما هي رؤية ونسق وسنة ثقافية كاملة، يقول جورج لايكوف:«فالاستعارة ليست مجرّد مسألة لغة وإنّما مسألة فكر وعقل reason أما اللّغة فهي ثانوية «secondary5، وقد أرجع محمّد الصالح البوعمراني هذا الضرب من الاستعارات المتعلّقة بالمرأة إلى استعارة جامعة، وهي استعارة "الإنسان نور"6. إنّ الشاعر العربي القديم يكتسب معارفه باستمرار من البيئة الإدراكية التي يتعامل معها، حيث تكوّن لديه معرفة تنسجم مع الواقع الثقافي الذي يتفاعل فيه، وهذا طبيعي باعتبار أنّ ما يقع إنتاجه من مادة أدبية لاشكّ محكوم بإدراك سابق مع المعطيات الحسية التي بدورها تُراكم المعارف لدى القائل نتيجة التجربة، وهذا ما يؤكده العرفانيون اليوم في دور التجربة الفيزيائية والثقافية في إنتاج الخطاب.
يدعم كلامنا هذا سفرُ هذه المرجعيات وتبدّلها واندثار معظم تلك الاستعارات، فمرجعيات اليوم في وصف المرأة تغيّرت فلم يعدّ ساريا أن نصف المرأة بالقمر، وإنْ كان هذا الكلام مبالغا فيه، ولكن نتحسّس بروز استعارات أخرى لها مرجعية جديدة مرتبطة بالتقدم التكنولوجي، وما تفرضه العولمة وعصر ما بعد الحداثة الذي يُنذر بسيطرة منطق المادة.
- المرأة في رحاب استعارات المرجع التكنولوجي الحديث.
يقال - من باب الموضوعية في العلم والمعرفة- أنّ الأفكار لا تأتي من فراغ، وهذه الورقة وتحديدا ضمن هذا العنصر لم تأت من فراغ بل انبثقت من فكرة الأستاذ توفيق قريرة ضمن مقال منشور في حوليات الجامعة التونسية، عنوانه "معاني النحو في الشّعر ومعاني الشّعر في النحو"، حيث أشار فيه قريرة إلى هذا الضرب من التصورات المرجعية الحديثة المرتبطة بالمرجع التكنولوجي الاصطناعي كما يسميه هو.
يهمنا في هذا السياق من هذه الورقة أن نعالج الاستعارات المستعلمة اليوم في التعبير عن المرأة، وهي استعارات في ظلّ التقدم التكنولوجي، وفي ظلّ حلول منطق المادة مكان المعنى. ولا نظنّ أنّنا سنعثر على كثير من العبارات، وذلك لأنّ هذه العبارات المستعملة حديثا قد تكون قريبة من العامية واللهجة مما يجعلنا نشتغل على أكثر من نموذج باعتبار اختلاف اللهجات من بلد إلى آخر.
إنّ المرأة اليوم وفي سياق هذا التحوّل في المرجعيات، وتحديدا في رحاب المعرفة التقنية لاشك في أنّ حضورها في ذهْن الواصف سيكون مرتبطا بهذا الفضاء الثقافي المرجعي، فيستعير لها ما به يتفاعل معه يوميا ويفهمه، ففي تونس على سبيل المثال نجد الرجل يصف المرأة الجميلة بعبارات تحتفي بهذا المرجع الجديد، فيقول لها معبّرا عن جمالها إنّها "قنبلة"، أو "انظر إلى هذا الصاروخ" تعبيرا عن رشاقتها وطولها، وقد يعبّر ويقول إنّها "قطعة" أو "أنتيكة"، وهي التحفة الأثرية ذات القيمة الكبيرة. وهذا التوصيف قد يُستعمَل في أماكن أخرى في الوطن العربي. ونعثر على تعبيرات أخرى حيث يُقال في الدّارجة التونسية "هذه امرأة طيارة" أي رائعة في خلقها أو في جمالها، وفي هذا المضمار يقول قريرة: «فللتعبير عن شدّة جمال المرأة لا يميل المتكلم التونسي اليوم إلى تشبيهها بالقمر أو بغيره من الكواكب بل إنّه صار أميل إلى تشبيهها ب (القنبلة) وتشبيه اللمعة ب(الطائرة) وطويل القامة (الصاروخ) والبطل –وقد تغيّر مفهومه- بـ (المافيا) وغير ذلك من التشابيه والاستعارات، والمجازات التي صارت تستعمل مرجعيات يجد فيها المتكلم ضالته»7.
وقد يكون من المفيد التأسيس لكلامنا هذا ضمن ما يُنشر اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي، فهذا الفضاء قادرٌ على أن يبوح لنا بكثير من التوصيفات تعكس أبعاد هذه الاستعارات والمرجعيات الثقافية التي تقف وراء إنتاج الخطاب. ففي موقع التوصل الاجتماعي الأكثر استعمالاً face book»» نجد تعبيرات من قبيل "المرأة الصاروخ"، وليس هذا فقط بل تعتبر هذه المرأة في عُرف هذا الموقع وخلفياته النفسية "المرأة المثال" والنموذج الأنثوي المطلوب اليوم، دلالة على جمال قوامها ورشاقتها، وربما هذا يتقاطع مع معايير الجمال قديما باعتبار أنّ القوام وطوله من مميزات المرأة الجميلة. ومن هذا المنطلق فإنّ الإدراك أو العرفان عامل أساسي في توجيه القائل، فهذا القائل الذي يحدّثنا اليوم عن المرأة القنبلة والصاروخ لا يتحرّك من فراغ، وإنّما مُسيّر بتمثلات ذهنية Mental Representaion لها علاقة بما يتفاعل معه يوميا ضمن فضائه المرجعي، ولهذا نلاحظ سيطرة المرجع التكنولوجي في كثير من أدبيات عيشنا اليومية. ومن باب اقتناص الأمثلة نقترح حدث زيارة الرئيس الأمريكي دوانلد ترامب Donald Trump وابنته إيفانكا Ivanka إلى المملكة العربية السعودية باعتباره إطارا لغويا يمكن أن ننطلق منه في القبض على الاستعارات التصورية التي وظّفها البعض (إعلاميون/ أناس عاديون) في توصيف ابنة ترامب وجمالها الذي أخذ أعين المتواجدين هناك. ويهمنا في كلّ ذلك استعارة "الصاروخ" و"القنبلة"، وهي استعارات من الحقل التكنولوجي. ففي بعض التعبيرات التي تعثّرنا بها، يقول أحدهم: "الصاروخ إيفانكا تُحدث ضجة في المملكة" ويُعنون آخر مقاله القصير في موقع إلكتروني قائلاً "نظرات أمير الرياض للقنبلة الشقراء".
إنّ هذا الضرب من الاستعارات الحديثة المرتبطة بالمرأة بوصفها صاروخاً وقنبلةً ليس اعتباطيا، وإنّما هو مُسيّر بمنطق الإسقاط بين الصور، وهو إسقاط محكوم بتناسبات ذهنية، فالقنبلة بما هي مكون له عناصره وتفاعلاته وما يُحدثه من أثار جسيمة ماديا في الفضاء التي تلقى فيه يقع إسقاطها (صورة) على فضاء آخر هو فضاء الجمال وما يحدثه من أثر نفسي حين يحلّ بمكان ما يوجد فيه من يُفْتَن بالجمال، فنحن وكأننا أمام المجال المصدر Source Domain (مجال القنبلة التكنولوجي) والمجال الهدف Traget Domain (مجال الجمال) الذي تحدّث عنهما لايكوف وجونسون في قضية الاستعارة التصورية، وكذا الأمر بالنسبة "للصاروخ" مجالا يقع إسقاطه على مجال الجمال وما يرتبط بينهما من تناسبات ذهنية.
إنّ تناظرات الحاصلة بين المجالين لها ما يفسّرها عرفانيا، فما يُوجد في المجال المصدر (المرجع التكنولوجي المتعلق بالقنبلة والصاروخ) يناظر من حيث الفاعلية والتأثير ما يُوجد في المجال الهدف (وصف المرأة وجمالها) باعتبار أنّ الجمال أيضا يُحدث تأثيرا، فالتفجير الذي تحدثه القنبلة في مجالها التكنولوجي المادي الفيزيائي يناظر ما يحدثه الجمال من رجة في نفوس الناس معنوياً.
ومن هذا المنطلق تصبح استعارتا "القنبلة" و"الصاروخ" استعارتين تحكمان النسق التصوري العام للعقل العربي اليوم، ففي ظلّ هذه التكنولوجيا الحديثة تتحول أوصاف المرأة ضمن حقل جديد له خصوصية ومفارق لذلك الحقل القديم القائم أساسا على الطبيعة والحيوان. وهذا الإقرار من شأنه أن يكشف لنا عن البعد الثقافي والمرجعيات التصورية ودورها في تغذية الاستعارات، وشحذ خيال الإنسان. فما يخزنّه الإنسان في ذاكرته يوميا لاشكّ في أنّه سيؤثّر على طبيعة الإنتاج المعرفي أدبيا، وهذا ما فتئ علماء النفس ينبهون إليه في معالجة الحالات النفسية، ولاسيما عند الأطفال الصغار.
إنّ إنشاء الكلام وصُنع الاستعارات فعلٌ لا يخرج عن دائرة منطق التفكير، إنّه نسقٌ كامل له علاقة بتجربتنا اليومية، ومحكوم بتقاليد وأعراف المنتمية إلى تلك الثقافة8، وفي هذا السياق من المفيد الإشارة إلى أنّ هذا لم يكن غائبا على أطروحات القدامى، ويكفي أن نعرض قول القاضي الجرجاني لنفهم دور الثقافة في توجيه الخطاب اللغوي: «وقد يكون في هذا الباب ما تتسع له أمة، وتضيق عنه أخرى، ويسبق إليه قوم دون قوم، لعادة أو عهد، أو مشاهدة أو مراس، كتشبيه العرب الفتاة الحسناء بتريكة النعامة، ولعل في الأمم ما لم يرها، وحمرة الخدود بالورد والتفاح، وكثير من الأعراب لم يعرفها، وكأوصاف الفلاة، وفي الناس من لم يصحر، وسير الإبل، وكثير منهم لم يركب»9. وتبعا لذلك، فنحن نعتقد أنّنا اليوم أمام استعارات جديدة تتعلق بالمرأة، وهي استعارات نابعة من الثقافة بدرجة أولى، وقد يسمح لنا المقام أن نشير إلى جمع من الاستعارات الأخرى التي تعكس أبعاد الثقافة، فاليوم وفي ظلّ العولمة، وغياب المعنى، وترسيخ منطق المادة قد نعثر على استعارة "المرأة القطعة" و"المرأة النحلة" والمرأة القطوسة" التي تعكس منطق الاستعمال المادي للمرأة واعتبارها معطى ماديا نستغله في سدّ حاجات لا أكثر، وهذا لاشكّ محكوم بنظام تصوّري في التفكير.
صفوة القول إنّ العرفانيين اليوم يؤكّدون على قيمة المرجع الثقافي للاستعارة، فالاستعارة يجب أن تصدر عن نمط ثقافي تتناسب معه، وهو نمط لاشكّ في أنّه يحكم بنية تفكيرنا مادام فهم الإنسان يحتكم إلى التجربة أساسا، فتوصيف المرأة بالقنبلة مثلاً لم يمكن له السريان في ذهنية القائل والمتلقي على حدّ السواء إلاّ لأنّه يتناسب ويتوافق مع بيئتنا الحديثة، حيث أنّ البنية الذهنية التي يفهم بها متكلم اليوم القنبلة هي التي توجّه منطق تفكيره، حيث يستعمله في إنشاء التصورات وخلق الاستعارات بما يحقّق له أغراضه ومقاصده. وعلى هذا الأساس نفهم التحوّل في المرجع التصوري من استعارات البدر والقمر والشمس والريم إلى استعارات القنبلة والصاروخ، إنّه تحوّل عام في بنية التفكير والمرجعيات التصوّرية المتحكّمة في خلق الكلام.
- على سبيل الخاتمة نقول:
إنّ الخلفيات المرجعية والأنساق التصوريّة المسيّرة لاستعارات المرأة في المنتج الثقافي العربي القديم مختلفة عمّا نصوغه اليوم من استعارات، ويعود ذلك -كما أشرنا في متن الورقة- إلى اختلاف التصورات البانية من زمن إلى زمن، فالميدان المصدر في الزمن التطور التكنولوجي مختلف عمّا يوجد من مرجعيات في القديم.
- إنّ الاختلاف بين الاستعارات القديمة والاستعارات الحديثة في مستوى اللفظ لا يجب أن يحجب عنّا حقيقة اختلاف المرجعيات الثقافية المسيّرة لكلا الاستعارتين، وهذا الإقرار من شأنه أن يرسّخ دور البعد الثقافي والاجتماعي والنفسي في توجيه الخطاب اللغوي.
- تنبع استعارات المرأة في الشعر القديم من مرجعيات طبيعية في أساسها لها وجود حسي في أغلب الأحيان، ولها علاقة بإدراك منتج القول وبيئته الثقافية، في حين مثّلت مرجعيات الاستعارة اليوم ذات طابع تكنولوجي اصطناعي، وهذا مبرر باعتبار اللّغة نتاجا ثقافيا يتفاعل باستمرار معها.
- إنّ المقاربة العرفانية اليوم ولاسيما في مجال الاستعارة التصورية حقل معرفي قادر على أن يكشف الأبعاد الذهنية المسيّرة للعقل العربي، ومنها النفاذ إلى المرجعيات الفلسفية المفسّرة لنظرة للوجود ككل.
الهوامش:
1. توفيق قريرة، معاني النحو في الشعر ومعاني الشعر في النحو، ضمن حوليات الجامعة التونسية، العدد 45، 2001، كلية الآداب جامعة منوبة، تونس، ص 389.
2. المرجع نفسه، ص 390.
3. ننبه هنا أنّ مصطلح الاستعارة وإنْ كنا نستعمله على بساطته في ما هو متعارف عليه، فإنّنا نستعمله أحيانا للتعبير عنه في مفهومه العرفاني، أي باعتباره نسقا تصوريا يحكم بنية تفكيرنا.
4. جورج لايكوف، مارك جونسون، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر مكتبة الإسكندرية، مصر، 1996، ص 21.
5. جورج ليكوف، النظرية المعاصرة للاستعارة، ترجمة طارق النعمان، الإسكندرية مصر، 2014، ص 16.
6. انظر محمّد الصالح البوعمراني، دراسات نظرية وتطبيقية في علم الدّلالة العرفاني، مكتبة علاء الدّين صفاقس، الطبعة الأولى، ص 255.
7. توفيق قريرة، معاني النحو في الشعر ومعاني الشعر في النحو، ضمن حوليات الجامعة التونسية، العدد 45 2001، كلية الآداب جامعة منوبة، تونس، ص 391.
8. Zoltan kovecses، Metaphor in culture ; Universality and variation. Cambridge University Press.2007.p2.
9. القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح محمّد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمّد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية ، ص 181.
المراجع :
- البوعمراني (محمّد الصالح)، دراسات نظرية وتطبيقية في علم الدّلالة العرفاني، مكتبة علاء الدّين صفاقس، تونس، ط1، 2009.
- الجرجاني (القاضي)، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح محمّد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمّد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، ط1، 1945.
- قريرة (توفيق)، معاني النحو في الشعر ومعاني الشعر في النحو، ضمن حوليات الجامعة التونسية، العدد 45، كلية الآداب منوبة، تونس، 2001.
- ليكوف (جورج)، النظرية المعاصرة للاستعارة، ترجمة طارق النعمان، الإسكندرية مصر، 2014.
- لايكوف (جورج) ، جونسن (مارك)، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة عبد الحميد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية،2009.
- Zoltan kovecses، Metaphor in culture ; Universality and variation.. Cambridge University Press.2007
- المجال : البلاغة وتحليل الخطاب
- كلية العلوم الإنسانية والاجتماعيّة بتونس، جامعة تونس.
نبذة عن الباحث:
يوسف رحايمي باحث درجة دكتوراه في اختصاص البلاغة وتحليل الخطاب، لدينا جملة من النشاطات في هذا الاختصاص، وقد قمنا بنشر جملة من المقالات العلمية في مجالات محكّمة من بينها:
-
- - نشر له مقال علمي في مجلة العمدة للسانيات وتحليل الخطاب، تحت عنوان"الصمت معطى تداوليا ونسقا خفيا في الخطاب"، العدد 3، 2018.
- نشر له مقال في حوليات الآداب واللغات بجامعة محمد بوضياف الجزائر، تحت عنوان "الوسم اللفظي ووهم السيطرة على المعنى"العدد11 ماي 2018.
- نشر له مقال علمي في مجلة رؤى الثقافية تحت عنوان "شعارات الربيع العربي من الذات الآمرة إلى الذات الخاضعة، قراءة تداولية في تحول خطاب الثورات، العدد 33- 2018،
- نشر له مقال في مجلة ذوات "مؤمنون بلا حدود" تحت عنوان "ابن خلدون مخاطباً ساسة تونس تحت قبّة البرلمان"، العدد 44، 2018.
- نشر له مقال علمي في مجلة يتفكرون "مؤمنون بلا حدود" بعنوان الطائفية الذكوريّة في بنية اللغة العربية، العدد 12، 2018.
- نشر له مقال علمي في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية تحت عنوان: الإيجاز من الترف البلاغي إلى الانتحار الدّلالي" العدد 40 سنة 2018.
- نشر له مقال علمي في مجلة الطوسي بالعراق، تحت عنوان: دور المخاطَب في هندسة اعتقاد المتكلم، درجات الاعتقاد في الإثبات نموذجاً، العدد 4، 2017.
نشر له مقال علمي في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية، تحت عنوان، مبدأ التعاون عند غرايس وتجليات حضوره عند السكاكي خروج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر نموذجا، العدد 32 سنة 2017.
-
- المشاركة في الملتقى الدولى لطلبة الدكتوراه بعنوان التأويل بين الفلسفة والأدب في جامعة عبدالمالك السعدي بتطوان المغرب جوان 2018، بورقة علمية عنوانها "مغامرة المعنى وفخاخ التأويل في رواية حدّث أبو هريرة قال للمسعدي من آحادية مغلقة إلى عوالم ممكنة.
- المشاركة في ملتقى النسوية في العالم العربي، قراءة نقدية، تنظيم جمعية تونس الفتاة، تحت عنوان "اللغة العربية : هل كانت حقا ذكورية؟.