بادرت وزارة الثقافة الجزائرية إلى إعادة قراءة سيرة المصلح «عبد الحميد ابن باديس» فأنتجت فيلماً سينمائياً يحمل اسمه، بغية الحوار بلغة فنيّة مع المشاهد العربي حول موقع ابن باديس في التراث العربي، محققة بذلك أهدافاً فكرية وإبداعية وسياسية مرجوة.

سيرة المناضل الجزائري «ابن باديس» سينمائياً

فصل التراث الديني عن التطرف والإرهاب وإعادة إنتاج الفكر الثقافي

نهـلة كامـل

 

لماذا ابن باديس؟
يلتقي طموحان مهمان في إنجاز الفيلم الجزائري الكبير«ابن باديس» الأول هو طموح وزارة الثقافة الجزائرية والمركز الجزائري لتطوير السينما لإنتاج فيلم لائق على الساحة الجزائرية والعربية، والثاني طموح المبدع المخرج باسل الخطيب الذي شق طريقاً خاصاً به قدم من خلاله أعلاماً قومية تركت آثارها الثقافية والنضالية في الماضي والحاضر، وهكذا لم يكن فيلمه الجديد خارج سياق ميدانه السينمائي والفكري الخاص.

ولعل السؤال الأبرز الذي يجيب عليه الفيلم لماذا تتجه وزارة الثقافة الجزائرية الآن إلى إنتاج كبير القيمة الإبداعية والمالية لإعادة تقديم سيرة المناضل السياسي والعلامة الديني عبد الحميد ابن باديس الذي عاش بين عامي 1889-1940 وترك آثارها النضالية والإصلاحية والدينية في مجتمعه الجزائري انطلاقاً من مدينته قسنطينة ثاني أهم الدن الجزائرية؟

ويخفي السؤال وراءه حساسية بالغة تتعلق بمغزى إعادة إنتاج الخطاب الديني الأمر الذي أصبح «فوبيا» ثقافي سواء في سورية الجزائر حيث عانى البلدان من استغلال الفكر الديني وتراث رجالاته من تيارات متطرفة كانت في مقدمة التضليل الديني الذي استندت إليه الجماعات الإرهابية في البلدان العربية.

ولا أفشي سراً إذا أوضحت هنا أنني من أجل مصداقية الجواب، سألت كاتب السيناريو الأستاذ رابح ظريف عقب مشاهدة الفيلم عن علاقة إنتاج الفيلم بما يجري من تطرف وإرهاب على الساحة العربية فكانت إجابته: إلى جانب ما يمثل ابن باديس من فكر جزائري وعربي وإسلامي يستحق إعادة التقديم فإن بعض التيارات الدينية المتطرفة وعلى رأسها الحركة الوهابية حاولت السطو على تراث ابن باديس معتبرة أنه كان يمثل الحركة الوهابية في الجزائر.

ولعل ما تقدم من أفكار نضالية وإصلاحية ودينية لابن باديس كانت واضحة الخلفيات بالنسبة للمشاهد الجزائري، إلا أن المشاهد خارج الجزائر قد تتسع تساؤلاته حول موقع ابن باديس في التراث العربي، وتكون الإجابة عليه بحق هي هذا العمل السينمائي الكبير الآن.

سيرة بناة التاريخ
يستند فيلم ابن باديس إلى وضوح في الرؤية الفكرية والإخراجية، وهو أولاً الجزائرية تجاه شخصية المناضل الجزائري الكبير والذي عبر عنه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة حين قال: «إن ابن باديس نظر إلى الحياة بعقل المفكر السياسي المشبع بالإيمان، الممحص للحوادث المستقرئ لمكنونات التجارب احتساباً منه لأهلية الرجل المنوطة به مهام بناء التاريخ».

وهكذا كانت مهام بناء التاريخ… هي الرؤية الأقرب إلى شخصية المبدع باسل الخطيب في تجارب سابقة، ليلتقي، كما قلنا، طموحان وهو ما أعطى فيلم ابن باديس كأسلوب سينمائي منظوره ومشهده وميدانه وأجوبته الفكرية المرجوة.

وأهمية فيلم «ابن باديس» هنا أنه استطاع أن يقتحم هذه الساحة التراثية الفكرية الجزائرية والعربية، من هذه الرؤية الشاملة بهدوء توثيقي، وتحليل عقلاني وأبعاد نضالية إنسانية وكجزء من التراث الشعبي الجزائري وذلك من دون إقحام سياسي ولا مبالغة عاطفية ولا عملية دعائية ليكون عملاً فنياً بارزاً يضاف إلى الثقافة الجزائرية والعربية في المكان والزمان المناسبين.

وهكذا جاء ابن باديس الرؤية السينمائية في مكانه الجزائري ابن النضال الذي قدم مليون شهيد في حربه ضد المستعمر، وهو يتوازى الآن في الزمان مع ما تطلقه الحروب الإرهابية من مخاوف على الشعب العربي في كل مكان لاغتيال الفكر المستنير المعتدل، فيكون شاهداً ووثيقة على كذب ادعاءاته المتطرفة.

المهمة الأصعب
يضع سيناريو الكاتب رابح ظريف بيد المخرج باسل الخطيب سيرة ذاتية طويلة حافلة بالنضال منذ الولادة حتى الممات، تنظر إلى «ابن باديس» من زاوية بناة التاريخ النضالي الجزائري، سيناريو يتعمق بالتاريخ باذلاً جهداً لا يخلو من الصعوبة لشموليته وخصوصيته في آن، لكن المخرج باسل الخطيب يضطلع بالمهمة الأصعب وهي الترجمة الإبداعية لتلك الرؤية والتي لابد أن تسبقها دراسة تحليلية إبداعية للمجتمع الجزائري في أوائل القرن العشرين، والبيئة التي احتضنت مسيرة ابن باديس حيث كانت صدقية المشهد السينمائي، والتوازن بين المنطقي والجمالي تجربة كشف جديد في مسيرة الباسل الخطيب ذاته.

ويخوض باسل الخطيب تجربة ابن باديس السينمائية في بيئة إبداعية جديدة، ولأن الإبداع في اكتشاف البيئة من أهم ميزات تجربته، إلا أنه لم يسبق له رسم البيئة الجزائرية من قبل، وهذا ما كان له من الصعوبة والنجاح معاً، وبينما تكون البيئة المألوفة لمخرج محلي، أحياناً، نوعاً من التكرار، فإن إبداع البيئة لفيلم «كابن باديس» ولمخرج كباسل الخطيب كان مفتاح النجاح في جماليات الفيلم، وفي مصداقية التعبير عن التوجه الفكري للفيلم.

لقد كانت المهمة الأصعب في تقديم سيرة ابن باديس الذاتية كشخصية جزائرية تراثية هي تلك الشمولية فعلاً التي تضع ابن باديس في مجمل ظروفه الإنسانية والوطنية والفكرية، والإفساح لمكانته في بيئته وزمانه، وهذا ما تطلب إنتاج مشهد سينمائي بانورامي الأبعاد، يظهر ابن باديس في وطنه وتاريخه وعروبته وشعبه تلك الآفاق التي جسدتها مشهدية الفيلم بعد دراسة وإبداع حقيقيين.

لقد اعتمد فيلم ابن باديس الواقعية في السرد والدقة في التوثيق، كما يجب أن تقدمه السيرة الذاتية، وأوجزت قصة الفيلم سيرة مناضل وعلامة جزائي عاش في أوائل القرن العشرين وتعلق بثقافته العربية المتمثلة باللغة وعدالة الإسلام، وهي الهوية التي تميزه عن المستعمر، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن الحادية عشرة، وكانت حياته لتكون تقليدية وسهلة لو بقي ابن تاجر يحافظ على التقاليد الاجتماعية العامة فيتزوج صغيراً وينجب شاباً لولا أن اصطدم بظلم المستعمر فأصبح النضال ضد الفرنسي المستبد، والدفاع عن أبناء شعبه هو محور حياته، وكان وهو يناضل ويختار المقاومة يتجه شيئاً فشيئاً إلى صقل أدوات مواجهته التي لم تكن إلا تمسكه بالهوية واستخدامه الفكر والعقل والعدالة الإسلامية بل الإعلام لمناهضة المستعمر.

لكن هذه السيرة ما كانت لتبدو معروفة وقابلة للتسطيع من دون إبداع سينمائي غني الأدوات، تعبيري المشهد، توقفت عليه القراءة التحليلية لأبعاد الفيلم كاملة، والتي تصدت للمهمة الأصعب وهي الفصل الواضح بين التراث الديني القويم المناضل، وبين التيارات المتطرفة التي استغلت الدين من أجل تسويغ الإرهاب وتمزيق المجتمعات والأوطان العربية.

المشهد الشعب
يتوسع المبدع باسل الخطيب في شمولية مشهده السينمائي، بحيث يتوافر داخل الكادر ذلك التلاحم بين ما هو بيئي وجمالي وفكري، وهو يخلق ذلك الحوار بين عناصر المشهد التي تشكل بالنهاية تاريخ الجزائر وتراثيته وجماليات بيئته، فالمشهد في فيلم «ابن باديس» هو الشعب والكفاح من أجل الحياة، هو النضال ضد المستعمر وهو المرأة التي يحتفي بها فيلم ابن باديس ويظهر اتجاه المناضل لتحريرها وتعليمها وإنصافها.

هو الكثافة الشعبية، وممارسات المستعمر الظالم، هذه الشمولية هي التي عكست جوانب شخصية ابن باديس النضالية والروحانية الصلبة التي لا تساوم على حرية وطنها وشعبها، والتي استخدمت الإعلام في نضالها فكان أن أصدر ابن باديس ثلاث جرائد تناهض المستعمر وتنصف المجتمع الجزائري، وإن كنت أبحث عن فكر ابن باديس في زمنه فقد وقعت على دلالة تؤكد حرية فكره واحترامه للفن، وهي مقالة نقدية نشرت في جريدته «الشهاب» عام 1913 تمتدح أعمال الفنان نصر الدين دينية مع أن جمالياته كانت تميل إلى تصوير الحياة العاطفية وتصوير المرأة متحررة أو عارية، وقد وضع هذا كله في سياق النضال في الحياة الشعبية الجزائرية، وهذا بحد ذاته يترجم النظرة الإصلاحية التحررية المناضلة لابن باديس التي لا يمكن أن يشوهها التطرف والإرهاب.

ويسجل لباسل الخطيب في فيلمه الجديد تلك الأمانة في تشكيل أبعاد الحياة الجزائرية داخل مشهده بإبداع رسام، وليس بفوتوغرافية مصور، وإن كنت شخصياً حاولت استقصاء ملامح المشهد السينمائي لفيلم «ابن باديس» فيجب أن نؤكد هنا عمق ارتباطها بالفن الجزائري الأصيل الذي صور الحياة الشعبية الجزائرية في أوائل القرن العشرين، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، ماتركه الرسام المبدع نصر الدين دينية ومحمد راسم الجزائري التي صورت الجزائر كأرض الكفاح والإيمان، وأبدعت في إدانة عهود الاستعمار واحتقار وظلم الشعب، وأفسحت للحياة الشعبية وألوانها وشخصياتها المناضلة وعلى رأسها الأمير عبد القادر الجزائري.

وتأسرك استخدامات اللون الأبيض في فيلم «ابن باديس» التي ترمز إلى الشعب وملابسه وتتعدى ذلك إلى الدخول في نقاء الشخصية الجزائرية حيث يغلب البياض على تصوير عدالة حالتها النضالية، كما يستوحي الخطيب من ألوان البيئة المعاني الكثيرة لالتصاق الحياة الشعبية بالتراب والجبال الشامخة والمدى الأخضر، وهذا كله يضاف إلى الشمولية في عين فنان تصنع من التاريخ والبيئة هذا الغنى المشهدي الذي يجعل سيرة ابن باديس سيرة وطن وشعب وحين يظهر المستعمر في أوكاره ومؤامراته بقعة سوداء تسيل منها عذابات شعب لم تتوقف حتى التحرير.

إن البيئة في فيلم «ابن باديس» ليست الخلفية بل هي الرواية ذاتها القضية والكفاح، هي فسيفساء يختصر التاريخ البعيد والقريب وبحيث تتحرك شخصيات الفيلم داخل بيئتها، ونرى المناضل ابن باديس من منظور شموليته: قضية الوطن، وصراعه المنطقي، ومواقفه الذاهبة إلى مصير وطن المليون شهيد، شخصية ابن باديس ونضاله في أبعاد الحياة الفكرية والشعبية جعلتنا نردد قبل الفيلم وفي ختامه: وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر… فاشهدوا.

وقد اختار باسل الخطيب وأدار فريقاً كبيراً من الممثلين اللافتين الذين استطاعوا إغناء المشهد الواسع المرامي، وعلى رأسهم الممثل الصغير في العمر الكبير في الأداء يوسف السحري الذي جسد شخصية المناضل ابن باديس منذ شبابه وحتى مماته معبراً عن العقلانية والاستقامة والإيمان بالشعب والقضية، وأفسح الفيلم لشخصيتن نسائيتين كانتا زوجة ابن باديس وشابة من البيئة الشعبية أبدعتا في رسم صورة المرأة الجزائرية وموقف ابن باديس المؤيد لحق المرأة في الحياة والتعليم وتقرير المصير.

ونستطيع القول إن فيلم ابن باديس هو تحفة فنية سينمائية تضاف بجدارة إلى تحف الفن الجزائري التراثي الأصيل، وهو من حيث الأسلوب عمل سينمائي متقن الصنع يأخذ الأمة من واقع الحياة الجزائرية التاريخية، ويضع الأفكار النضالية والإصلاحية في مكانها الحقيقي فلا تقع أسيرة التطرف ولا يمكن أن تنحرف إلى مجاهل الإرهاب، ذلك أن الملامح الحقيقية لشخصية ابن باديس هي النضال الذي ورثته عن تجربة الأمير عبد القادر الجزائري، وألهمت من بعده حركات التمرد والتحرر ضد الاستعمار الفرنسي، كما ختم الفيلم.