ذلك الرجل الحميد
ذو القلب الطاهر
الذي يماثل زهرة الليْلك بياضا،
ذو الروح الملائكية
ذو اللسان السماوي
فرانسيسكو الأسيسي العذب
نحيل الجسم،
ذهب يقابل مخلوقا متعطشا للدماء
جهما، وحشيا،
مهولا، سارقا، هادما،
ليس لديه ذرةً من الرحمة والضمير .
ذئب بلدة "جوبيا"،
الذئب الرهيب المسعور،
أشاع الخراب في كل الأنحاء،
ذابحا وحده قطعانا كاملة بوحشية
آكلا خرافا
بل وأكل رعاةً أيضا،
مخلفا وراءه مذابح عديدة
وكثيرا من الخراب .
*
أما الصيادون الأقوياء
المسلحون بالمذراة والمناجل
فكان يدمرهم تدميرا.
كان يمزق الكلاب تمزيقا،
بأنيابه القوية
وكذلك الماعز والشياه.
*
وخرج القديس فرانسيسكو
باحثا عن الذئب .
ذهب ليقابل الذئب في وكره.
وهناك، بالقرب من المغارة
وجد الوحش الهائل
يهجم عليه بقوة ماحقة
بيد أن فرانسيسكو الطيب
بصوته العذب، رافعا يده
قال للوحش الهائج:
"سلاما أخي الذئب" .
ونظر الحيوان الى الرجل
في المسوح الخشن الذي دوما يرتديه
وخفف من غلوائه
وأغلق فمه الفاغر
وقال :
"حسنا أيها الأخ فرانسيسكو! "
وصاح القديس : "ما هذا ؟
هل يقضي الناموس الآن
أن تعيش على النهب والقتل ؟
بتلك الدماء التي يسيلها
فمك الجهنمئ،
بذلك الرعب المخيف
الذى تسببه وتنشره في الأنحاء
ببكاء الفلاحين
والنحيب الحزين الحاد
لمخلوقات الله الضعيفة .
ألا تستطيع السيطرة على رغباتك الشريرة الجهنمية؟
أأنت من أهل الجحيم ؟
هل تلهمك الشياطين
أمثال بليال او بعلزبول
الغارقيْن في جهنم الحمراء
كل ذلك الحقد الأبدي ؟ "
ورد الذئب المهول
وقد غشيه الخضوع :
"حسنا ...
الشتاء ههنا صعب للغاية
والجوع كافر
والغابة يغطيها الجليد
ولا يوجد أي شئ آكله
ولذلك أذهب بحثا عن الأغنام
وأحيانا آكل الراعي والأغنام معا .
وتتحدث عن الدماء ؟
لقد رأيت أكثر من صياد
فوق حصانه
قابضا على البازي بين يديه،
جاريا وراء الخنزير البري،
أو الدب، أو الوعل .
ورأيت الكثيرين منهم
مخضبين
بدماء الحيوانات التي خلقها الله
ويثخنونها بالجراح
ويعذبونها
بينما صوت بوقهم النحاسي
يُغرق أنّاتها وبكائها
إذ هي تموت.
ولم يكن خروجهم للصيد
بدافع عضات الجوع" .
ورد فرانسيسكو:
"الانسان به بذرة الشر
وهو يولد بالخطيئة،
وهذا مدعاة للحزن .
ولكن روح الحيوان
بسيطة طاهرة .
ولذلك،
فسوف تحصل منذ الآن
على شئ طيب تطعمه
على أن تترك الرعاة والأغنام
في سلام الى الأبد
فوق هذه التلال ...
وعسى ربنا العظيم الرحيم
يخلع عليك رقة وحنانا
أنت يا من خُلقت
متوحشا في الجبال " .
"وهو كذلك أيها الأخ فرانسيسكو الأسيسي".
"الآن، وأمام الله
الذي يحل ويربط
امدد لي يدك لنتعاهد" .
وعندذاك
قدّم الذئب مخلبه للأخ الأسيسي
الذي مد يده للذئب بدوره .
ثم توجها الى البلدة
ورآهما كل الناس
وهم لا يصدقون ما يروه
فوراء الرجل المقدس
مشى الذئب المفترس
مطأطئ الرأس،
تابعا إياه في هدوء
ككلب الصيد المستكين
أو الحمل الوديع.
*
ونادى فرانسيسكو على الناس
للتجمع في الميدان للاستماع الى عظته
وهذا ما قاله :
"بوسعنا الآن
أن ننعم بصحبة جميلة
مع أخينا الذئب
الذي جاء معي بهدوء
وقد أقسم بالله
أنه لن يكون لنا عدوّا
ولن يعيد هجماته الدموية،
وفي المقابل
عليكم أن تقدموا الطعام
للحيوان ممن خلق الله " .
وصاح الجميع :
فليكن كذلك .
وسرعان ما ذهب الذئب الأغبر
مستريحا يهز ذيله
ودخل الدير مع فرانسيسكو الأسيسي .
*
وبقى الذئب في سلام مدة من الزمن
فى مكمنه المقدس
وأذناه الكبيرتان
تصغيان الى المزامير
وعيناه الصافيتان
تغشاهما الدموع .
وتعلم آلافا من النعم والألعاب
مع القسس الطيبين فى مطبخ الدير .
وحين يلقي فرانسيسكو موعظته
يلعق الذئب -
وقد تحرر من كل شهوة -
الغبار الأغبر
من على الخف الرث في قدمىْ القديس .
وكان الذئب يمشي في الطرقات
ويصعد التلال
ويعبر الوديان
ويدخل البيوت
ويعطيه الأصدقاء طعامه
كما يعطون كلب حراسة
في لطف ونعومة .
*
ولكن ...
في يوم من الأيام
غاب القديس فرانسيسكو
فإذ ابالذئب المستقيم اللطيف
المستكين، الطيب
يختفى ...
عاد الى التلال
ووبدأ ثانية عواءه وحنقه
ومرة أخرى
يملأ الخوف والرعب
الجيران والرعاة
وعاد الفزع يغمر الأنحاء
ولم تُجد نفعا
لا الشجاعة ولا السلاح،
لأن الوحش المرعب
لم يفتر من سورة جنونه وغضبه
فكأنما يحوز نيران
"مولوخ" أو الشيطان الرجيم.
*
وحين عاد القديس القدسي
الى البلدة
قابله الجميع بالشكوى والنحيب
وقدموا له البينة
على ألاف من الأحداث
مما فقدوه وما قاسوا منه
جراء أعمال ذلك الذئب
الشيطاني الفظيع.
*
وملأت القسوة
صدرفرانسيسكو الأسيسي
فصعد الى التلال الصخرية
بحثا عن الذئب الخادع المفترس .
وحين وصل الى مغارة الوحش الأسحم
خاطبه قائلا :
"باسم الأب خالق الأكوان المقدسة
أناشدك أيها الذئب المتوحش
أن تجيب
لماذا عدت الى شراستك ؟
أجب . إني أنتظر" .
وبدا كأن الذئب يجاهد
والزَبد يسيل من فمه
وعيناه تنذران .
وقال الحيوان :
"أيها الأخ فرانسيسكو
لا تقترب مني ...
لقد كنت هادئا
هناك فى ديرك
وأتجول بحرية هنا وهناك
في البلدة
وكنت آكل ما أجد من طعام
هنيئا مريئا
ولكن...
بدأت أرى في كل بيت
الحسد، والشره، والغضب
ورأيت كل الوجوه
تتوهج بالكراهية والانحلال
والعار، والكذب ...
الأخوة يحارب بعضهم البعض
والضعفاء يخسرون
بينما الأشرار يكسبون
والرجل والمرأة
كأنما هما كلب وكلبة .
وفي يوم من الأيام
ضربوني بالعصِي
فقد رأوني وديعا
ألعق أيديهم وأرجلهم .
لقد اتبعت سننك المقدسة
بأن كل المخلوقات أخوة لي
إخواني البشر
إخوتى الثيران
إخوتي النجوم
إخوتي الديدان
ولكنهم ...
قاموا بضربي بالهراوات
وطردوني من البلدة
وسالت سخرياتهم وصيحاتهم
كالماء المغلي فوق جسدي .
وحينئذ ...
عادت القسوة
الى الحياة فى أحشائي
فشعرت فجأة
بمشاعر الذئب الشرير
ولكني كنت أفضَل بكثير
من أولئك الأشرار
الذين تركت ورائي
وبدأت مرة أخرى
كفاحي من أجل الحياة هنا
والدفاع عن نفسي
وإيجاد الطعام
مثلما يفعل الدب
والخنزير البري
حين يتعين عليهما
أن يقتلا حتى يعيشا .
اتركني الآن للجبل
دعنى هنا على الجرف
فى البرية ...
دعني أحيا حياتي
في حرية
إذهبْ الى ديرك
أيها الأخ فرانسيسكو
سر في طريقك
سر فى طريق قدسيتك " .
ولم ينبس القديس الأسيسي
ببنت شفة
ولكنه
أطال النظر الى الذئب
ثم ابتعد دامع العينين
يملؤه اليأس،
وخاطب الله العلي القدير
بقلبه
ورفعت رياح الغابة
صلواته،
التى كانت :
" أبانا الذي في السماوات ...."