تطرح دراسة الباحثة الجزائرية في استعراضها للدراسات التي تناولت الجاحظ وما توصل إليه من نظريات، عددا من الأسئلة البحثية عن دوره في تأسيس نظرية للبلاغة أو للأجناس الأدبيةـ وهي أسئلة تحتاج إلى المزيد من البحث لتأسيس لبنات للتنظير المنهجي للبلاغة العربية من ناحية ولنظرية الأنواع الأدبية من ناحية أخرى.

الوعي الجاحظي بنظرية الأجـناس الأدبية

آسية متلف

 

توطئــة:
لقد كان النقاد القدامى على وعي كبير بضرورة تحديد وتصنيف الأجناس الأدبية لأنواع الكلام العربي، إلا أن اجتهاداتهم في هذا المجال بقيت حبيسة الخواطر والأفكار، فلم ترق لأن تكون نظرية مستقلة بذاتها كما هو الحال في العصر الحديث، إذ اقتصرت جهود هؤلاء على بعض النماذج التصنيفية التي مُثل لها بمجموعة من الشواهد، ويُعد الجاحظ من أبرز الأدباء العرب الذين وَعُو مسألة الأجناس الأدبية وعيا تاما وواضحا؛ جسدته مجموعة من التوليفات المبثوثة في كتبه والتي تؤكد على ضرورة تصنيف وترتيب أنواع الكلام يقول: "إن لكل شيء من العلم ونوع من الحكمة وصنف من الأدب سببا يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتتا، ومعنى يحد وعلى جمع ما كان منه متفرقا، ومتى أعقل حملة الأدب وأهل المعرفة تمييز الأخبار واستنباط الآثار، وضم كل جوهر نفيس إلى شكله وتأليف كل نادر من الحكمة إلى مثله – بطلت الحكمة، وضاع القلم أُميت الأدب ودرس مستور كل نادر."[1]

إذ يُعد تصنيف وتنظيم الكلام شرطا أساسيا للمعرفة، غير أن اللافت في موقف الجاحظ حثه على التمييز بين أجناس القول، وهذا تقليد علمي متوارث، وسنة أدبية راسخة، "إذ لم يخل زمن من الأزمان في ما مضى من القرون الذاهبة إلا وفيه علماء محققون قد قرؤوا كتب من تقدمهم، ودارسوا أهلها ومارسوا الموافقين لهم وعانوا المخالفين عليهم فمخضوا الحكمة وعجموا عيدانهم، ووقفوا على حدود العلوم فحفظوا الأمهات والأصول، وعرفوا الشرائع والفروع، ففرقوا بين الأشباه والنظائر، وصاقبوا بين الأشكال والأجناس، ووصلوا بين المتجاور والمتوازي فوضعوا الكتب في ضروب العلم وفنون الأدب"[2] فمنذ القدم انحصرت مهمة البلاغة في تصنيف صور الخطابات وتنظيم الأساليب والإشارة إلى ضرورة الكلام، واختلاف أنواعه.

1- أسلوب الإستطراد في الكتابة الجاحظية :
تميز أسلوب الجاحظ في الكتابة بالنسق الإستطرادي في جمع المعارف المحصلة لذا فقد اختلف النقاد الحداثيين في تحليلاتهم لأسوب الجاحظ ومنهجه الإستطرادي في كتبه؛ إذ هناك من يرى بأن طرح المعارف ضمن هذه المقاربة فيه من الغموض والتشويش ما يرهق القارئ ويؤرقه. يقول جميل جبر: "للجاحظ أسلوبه الخاص يسير فيه على نمط واحد، ولا يحيد عنه، ألا وهو الأسلوب الذي يؤدي غالبا بالقارئ الى الفوضى والتشويش، فقد يعد الجاحظ مثلا بذكر بعض الأشياء ثم يهمل ذكرها، ولا يفي بوعده فيها "[3] أما أمجد الطرابلسي في كتابه نقد الشعر عند العرب، فيشير الى الاستطرادات العديدة لموضوعات مختلفة تخللت كتبه، وقد امتزج كل ذلك باستشهادات متنوعة وأخبار ممتعة نقف بها على الطابع المتميز لطريقة الجاحظ في الكتابة. يقول أمجد الطرابلسي:"إن الإستشهادات الشعرية في هذا الكتاب كثيرة، ولكنها ليست دائما مختارة بهدف الاختيار، بل هي متفرقات ملائمة لرأي تؤكده أو ملاحظة تغنيها ولذلك فإنها تستمد قيمتها من تنوعها ومن تجانسها مع المقام الذي تذكر فيه"[4]،

فهذه الاختيارات والاستشهادات التي اجتهد فيها الجاحظ هي محاولة لتأسيس علم مستقر، فقد حاول أن يجعل كتاب (البيان والتبيين) مثلا كتابا للبلاغة، وهو في الحقيقة كذلك إلا أنها "بلاغة جد فتية وغير منضبطة، فباستثناء بعض التأملات النقدية غير القادرة على تأسيس نظام متلاحم، يتلخص الكتاب في كونه اختيارا لنصوص نثرية وشعرية مقترحة باعتبارها نماذج تصلح للإحتذاء."[5] هذا فضلا عن الفوضى التاريخية السائدة في كتابه والإنتقال بين الجد والهزل من الشعر الى النثر والمزج بينهما، ومن الحكمة الى الخرافة.[6] أما الناقد علي بوملحم فيرجع سبب اللاتناسق واضطراب الأسلوب في الكتابة عند الجاحظ ووضع الشيء في غير موضعه إلى "المرض الذي أصيب به، لقد انتابته علتان هما الفالج والنقرس، أما الفالج فشل نصفه الأيسر فكان لا يشعر معه بشيء حتى ولو قرض بالمقاريض بسبب خرده وبرده، أما النقرس فقد انتاب نصفه الأيمن فكان يطليه بالصندل والكافور لشدة حرارته "[7] ما جعله يبالغ في تكرار المعاني والألفاظ، والإستطراد وذكر المسألة الواحدة مرات عديدة في مواضع مختلفة من كتبه.

واعترف الجاحظ بذلك في قوله: "ولقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه، أول ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب، والرابعة أني لو تكلفت كتابا في طوله وعدد ألفاظه ومعانيه، ثم كان من كتب العرض والجوهر والطفرة والتولد والمداخلة والغرائز والتماس، لكان أسهل وأقصر أياما وأسرع فراغا... فإن وجدت فيه خلالا من اضطراب لفظ ومن سوء تأليف أو من تقطيع نظام ومن وقوع الشيء في غير موقعه فلا تنكره بعد أن صورت عندك حالي التي ابتدأت عليها كتابي"[8].

في حين يشير "جميل جبر" الى أن السبب في اضطراب أسلوب الكتابة عند الجاحظ الى علمه بنفسية من يكتب لهم بحيث كان أسلوب كتاب القرنين الثاني والثالث الهجريين قد اشتهر ببسط المعاني وتكرار الجمل المتقاربة في مغزاها ومدلولها[9]، فلم يع قيمة ما كتب، وجهل أن كتاباته نصبته "أبا للبلاغة" فقد نال شهرة كبيرة في عصره وبعد عصره إذ نجد النقاد يصفون كتبه بالرياض الزاهرة والرسائل المثمرة.[10] ويقول شوقي ضيف"ظلت كتابات الجاحظ وملاحظاته في البيان والبلاغة معينا لا ينفد لمد الأجيال التالية بكثير من قواعدهما كل يستمد منها حسب قدرته ومهاراته الذهنية "[11]. بيد أن "أحمد الشايب " في دراساته لأسلوب الجاحظ أكد غياب أسس التفكير والتأليف عنده، فوصف منهجه بالتفكك والتشتّت وغياب وحدة فكرية أو نسق معرفي موضوعي للمعارف والموضوعات. فيحدد سمات هذه المؤلفات على النحو التالي:[12]

- الخلط والفوضى في التّأليف والإطالة في الاستطراد؛ حيث الانتقال بين المعارف المختلفة وبتر الموضوعات وتوزيعها على صفحات متباعدة، إذ يفتقر الجاحظ في رأيّ الباحث، إلى "وحدة علميّة منسقة" لأنّه لم يكتب مؤلفاته بعقل المؤلف، ومنهاج الباحث، بل كتبها بفكر وشعور المناسبات الطّارئة، والخواطر الخاطرة، كان يكتب كما يقرأ، يصادفه أي كتاب في أيّ موضوع فيقرأه، وتعرض له أيّة فكرة لأدنى مناسبة فيكتبها فصارت كتبه المؤلفة صورة لدراسته المنوعة والمتناقضة أيضا. وقد رأينا الجاحظ نفسه يعتذر عن هذه الفوضى في التّأليف، وقد ورد عن الجاحظ في كتابه (الحيوان) إعتذار منه عن الفوضى في التأليف يقول الجاحظ: "وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه، أول ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب. فإن وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ ومن سوء تأليف ومن تقطيع نظام، ومن وقوع الشيء في غير موضعه فلا تنكر - بعد أن صورت عندك حالي التي ابتدأت عليها كتابي."[13]، لذا يرجع "أحمد الشايب"عجز الجاحظ في أن يكون موضوعيا في كتابه بل كان شكليا، وشكليته هذه تظهر في مظهرين[14]:

  • الأول: ثقافته العامة المنوعة وهي العربية والفارسية، هندية، يونانية، وهي علمية أدبية، فنية، دينية لم تسمح لصاحبها أن يستقر في ناحية منها، وأن تردد عليها جميعا تردد الضيف الكريم لا النازل المقيم .
  • الثاني: أن تميز الجاحظ يبدو في الجهة الأسلوبية من حيث الصرف في هذه المعاني الغزيرة التي اكتسبها من ثقافته العربية بأسلوب مبسوط وتصوير بارع محمود فكان في ذلك خلوده وكان منه الجاحظ الأديب .

في الحين ذاته يري الناقد "عبد الله الغذامي" رأيا مخالفا لما تقدم في كون الاستطراد عند الجاحظ ماهو إلا لعبة مخاتلة لطرد المتن بواسطة "الانحراف بالكلام من وجهته وتوجيهه نحو انعطافة ذهنية وثقافية مختلفة ومخالفة للمتن، ثم ينعطف الكلام مرة أخرى نحو وجهة ثانية تتولد عن الأولى، ومن هاتين الحركتين يرتحل الخطاب بعيدا عن المتن وهو ابتعاد ذهني وثقافي يفضي حقيقة الى إلغاء الأصلي والسخرية منه ويؤدي الى إحلال قيم ثقافية بديلة ومنافسة"[15]، ويرجع عبد الله الغذامي هذه الإستراتيجية في الكتابة الى أن "الجاحظ لا يكتب المتن ويقصده بقدر ما يكتب الاستطراد ويهدف إليه، إذ يستحضر الجاحظ المتن ليضعه في مواجهة هزلية مع الهامش[16]، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على دهاء الجاحظ وحيله السردية فيجعل القصص والحكايات هي التي تتكلم بأسلوب ساخر وممتع للقارئ، ما يولّد خطابا مضادا ومعارضا من جهة وخطابا ساخرا ونقديا من جهة ثانية.

ركحا على ما سبق نستشف بأن ثقافة الجاحظ الواسعة والمتنوعة شكلت نقمة عليه لمن لم يستطيعوا فهمه جيدا، "فيرونه كاتبا لا شخصية له يتلبس شخصيات من يروي لهم وينقل عنهم كل أثر لشخصيته، فتقرأ الجاحظ وكأنك تقرأ لسواه فتبدو أمام عينيك صور شتى لأناس لا ترى الجاحظ في وعيهم ولا تلمس آثاره بينهم"[17]، إلا أن آراء النقاد حوله لم تمنعه لأن يكون إماما للبلاغة بامتياز.

2- الوعي الجاحظي بتعدد أنواع الكلام:
إن الأدب بطبيعته يحتاج الى تنظيم أشكاله، وتحديد صفة كل جنس من أجناسه، فكل واحد منها له صفته الفنية وتوليفاته الأسلوبية الخاصة به والتي تميزه عن غيره ضمن منظومة مقننة خاصة تضمن لكل جنس خصوصيته الإبداعية وفرادة أساليبه، فلا شك في أن الفكر النقدي على امتداد زمنيه قد استوقفته فكرة تجنيس الأدب أو تنويعه، بعد أن قطع الأدب نفسه شوطا بعيدا في تأكيد وجوده، وهذا يعني "أن فكرة التجنيس كانت لاحقة لوجود الأدب وانتشاره؛ لأنها ببساطة فكرة نقدية قامت على تأمل شكل الأدب والبحث في هويته الأجناسية من خارج منظومة الأدب."[18] لذلك أصبحت قضية الأجناس الأدبية تتخذ موقعا مهما وأساسيا في متن نظرية الأدب.

وتجدر بنا الإشارة في هذا السياق الى عناية الدراسات الغربية منذ وقت مبكر بقضية الأجناس الأدبية فقد وجدت فكرة الأجناس الأدبية ضالتها في الخطاب الفلسفي اليوناني القديم الذي حدد الأدب ضمن الأشكال المعروفة الشعر والملحمة والدراما، فاختص كل جنس منها بمقاربات نصية ضمنت لها حدودا أجناسية.[19] كما لأرسطو (322ق.م) أثر مهم في تشكيل الخطاب النقدي الأجناسي في العالم كله في مقدمة كتابه: "فن الشعر الذي ظهرت فيه سمات التجنيس الأولى:" أما الفن الذي يحاكى بواسطة اللغة وحدها نثرا أو شعرا والشعر إما مركبا من أنواع أو نوعا واحدا فليس له اسم حتى يومنا هذا: فليس ثمة اسم مشترك يمكن أن ينطبق بالتواطؤ على تشبيهات سوفرون واكسيزخوس وعلى المحاورات السقراطية أو على المحاكيات المنظومة على أوزان ثلاثية أو إيليحية أو أشباهها."[20] فقد تحددت الأجناس الأدبية عند آرسطو في كل من شعر الملاحم والمأساة والملهاة.

في حين استحضر الناقد العربي القديم فكرة الأجناس الأدبية وهو يعاين لغة القرآن الكريم ويحاول تحديد لغته من خلال قراءة الأجناس الأدبية المعروفة يوم ذاك لكي يثبت أن جنسية القرآن لا علاقة لها بالأجناس الأدبية السائدة وقد مثل هذه الفكرة خير تمثيل الجاحظ (255ه) في كتابه "البيان والتبيين"، كما يتبين من اشارته في سياق التمهيد للجزء الثاني من كتابه (البيان والتبيين)، الذي سيذكر فيه "أقسام تأليف جميع الكلام، وكيف خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من اعظم البرهان وتأليفه من اكبر الحجج."[21]

 

جميع الكلام

موزون

كلام غير مقفى

 

مــــــــنثور

 

 

 

 

 

القرآن الكريم -الخطب -الرسائل وغيرها كالملح والنوادر - الشعر

فأول ما أشار إليه الجاحظ هو المفاضلة بين الشعر والنثر ويتضح هذا فيما نقله الجاحظ عن أبي عمرو بن العلاء، قوله: "كان الشاعر في الجاهلية يُقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم، ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويُخوف من كثرة عددهم، ويَهابهم شاعر غيره فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا الى السوقة، وتسرعوا الى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر.."[22]

وما نستشفه من خلال القول أن مسألة المفاضلة بين الشعر والنثر تحمل طابعا أخلاقيا يتلخص في عزوف الناس عن الشعر لما أنزاح عن وظيفته المنوطة به في كونه كلام العرب المعبر عن مآثرهم وأمجادهم الى وظيفة التكسب والهجاء والتهكم بأعراض الناس، فانصرفوا عنه الى الخطابة، فرفعوا قيمة الخطيب لالتزامه بالمبادئ التي يقيمها الناس. وفي نفس السياق أشار الجاحظ في معترك حديثه عن الشعر والنثر الى فائدة الشعر ووظائفه، فيقول إن "العرب في جاهليتها تختال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها، على أن الشعر يفيد فضيلة البيان، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلة المأثرة، على السيد المرغوب إليه، والممدوح به".[23]

فقد كان للشعر دور مهم في التعبير عن الحياة الاجتماعية للعرب، فأشاد بشجاعتهم ومروءتهم وكرمهم ونزاعاتهم الى جانب الوظائف النفسية والفنية التي كان يقوم بها الشعر قديما، ومن وظائف الشعر "التثقيف وذلك بفضل ما ينطوي عليه من معان عميقة وصحيحة، ولكن الكتب المنثورة أفضل من الشعر للقيام بهذه المهمة، لأنها أقدر على استيعاب المعارف من الشعر على الرغم مما تتعرض له من تحريف وتصحيف أثناء النقل والترجمة و الإستنساخ[24] يبد أنه اتخذ موقفا وسطا في مسألة المفاضلة بين الشعر والنثر، إذ طرح فكرة إمكانية الجمع بين الشعر والنثر في سياق واحد يقول: "ومن الخطباء والشعراء من يؤلف الكلام الجيد، ويصنع المناقلات الحسان ويؤلف الشعر والقصائد الشريفة مع بيان عجيب ورواية كثيرة، وحسن وإشارة." ويقول "ومن الخطباء والشعراء من كان يجمع الخطابة والشعر الجيّد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن "[25]

إلا أن فكرة الجمع بين الشعر والنثر قد استعصت عند الأدباء وذلك للخصوصية الفنية التي يتمتع بها كل نوع أدبي، والفواصل الشكلية لكل منهما، وقد روى الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) أن عبد الحميد الأكبر وابن المقفع مع بلاغة أقوالهما وألسنتهما لا يستطيعان من الشعر إلا ما ذكر مثله، وقيل لابن المقفع في ذلك: فقال الذي أرضاه لا يجيئني والذي يجيئني لا أرضاه"[26]، وكان سهل بن هارون يقول: "اللسان البليغ والشعر الجيد لايكاد ان يجتمعان في واحد، وأعسر من ذلك أن تجتمع بلاغة الشعر وبلاغة القلم."[27]، ما يجعله ـ يُقر بصعوبة الجمع بين الفئتين يقول: "فمن الخطباء الشعراء، الأبنياء الحكماء: قس بن ساعدة الايادي والخطباء كثير، والشُعراء أكثر منهم، ومن يَجمع الشعر والخطابة قليل."[28]

أدرك الجاحظ ان أقسام الكلام عند العرب أكثر مما لدى الأقوام الأخرى، فكان وعيه شديدا بهذا التعدد، ولكنه لم يشر الى تصنيف جامع لأنواع النثر يقول: "والدليل على أن العرب أنطق أن لغتها اوسع، وأن لفظها ادل، وأن أقسام التأليف بكلامهما أكثر"، فهذا الوعي الذي يتجلى في شواهد الجاحظ يدَل على ايمانه وإدراكه بتعداد كلام العرب وتنوعه، فقد أشار الباحث مصطفى الغرافي: "الى أن الافتراض بأن تقديم تصنيف جامع لأنواع النثر العربي لم يكن ليتأبى عليه لو رامه أو كان من مقاصده، عمدتنا في ذلك انه ذكر عديدا من انواع النثر مع توافر قصد التعداد."[29]

ويظهر هذا التصنيف لضروب النثر في قول الجاحظ " قد ذكرنا أكملك الله في صدر هذا الكتاب من الجزء الأول، وفي بعض الجزء الثاني كلاما من كلام العقلاء والبلغاء، ومذاهب الحكماء والعلماء، وقد روينا نوادر من كلام الصبيان والمجرمين من الاعراب، ونوادر كثيرة من كلام المجانين وأهل المرة والموسوسين نؤمن كلام أهل الفقه من النوكي وأصحاب التكلف من الحمقى، فجعلنا بعضه في باب الهزل الفكاهة."

يحمل هذا النص بين أعطافه تصنيفا لوجوه متعددة من ضروب النثر منها:[30]

1-القصد من الإستعمال (الهزل والفكاهة).

2- اعتبارات تلفظية (حكاية نوادر الحمقى والمغفلين ).

ويشير مصطفى الغرافي الى توظيف الجاحظ لمصطلح "كلام" في مواضع كثيرة من كتبه باعتباره جنسا أعلى تتفرع عنه اجناس من القول، كما يقايض في مواضع أخرى، مصطلح "الكلام" بعبارة "أصناف البلاغة يقول في (البيان والتبيين): "وقد علمنا أن من يقرض الشعر، ويتكلف الأسجاع، ويؤلف المزدوج، ويتقدم في تحبير المنثور، وقد تعمق في المعاني وتكلف إقامة الوزن والذي، والذي تجود به الطبيعة وتعطيه النفس سهوا رهوا، مع قلة لفظه"[31]، ويقول الجاحظ: "ونحن أبقاك الله إذا دعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيد والأرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق، من الديباجة الكريمة والرونق العجيب والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك الا في السير والنبذ القليل." فهل يوظف الجاحظ مصطلح "البلاغة" بديلا لمصطلح "الكلام" أم البلاغة عنده فرع من فروع الكلام، وقسم من اقسامه؟ يجيب مصطفى الغرافي بأن البلاغة عند الجاحظ هي مرتبة من مراتب "الكلام البليغ"، لأنه يجعل للبلاغة أصنافا في حين يقصر الكلام على التأليف،[32] فلا يستحق الكلام اسم البلاغة "حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، فلا يكون لفظه الى سمعك أسبق من معناه الى قلبك."[33]

ومن نافلة القول أن الكلام البليغ عند الجاحظ يُصبح جنسا أعلى يتفرع عنه جنسان كبيران هما الشعر يقسمه الى القصيد والرجز، ثم النثر بأقسامه الثلاثة: السجع المزدوج وما لا يزدوج، وتتنزل هذه الأقسام من جنس المنثور منزلة الأنواع الكبرى التي تتفرع عند الجاحظ الى ضروب من النثر مختلفة تتجاور في مؤلفاته وفق تراتب عقدي."[34]

 

الكلام البليغ

الشعر

النثر

 

 

 

إن المتتبع لجهد الجاحظ في معالجة قضية الانواع الأدبية يتلمس وعي الجاحظ بتعدد ضروب الكلام في عصره وتمايزها واختلافها، إلا أنه في الوقت نفسه يعي "عجزا اصطلاحيا" ما فتئ الجاحظ يعانيه، كما هو ظاهر في مواضع عديدة يطلق فيها الجاحظ تسميات على أصناف من الكلام من دون أن يفلح في تحديد هويتها تحديدا دقيقا.[35] كالمنثور، غير المقفى، المزدوج، ما لا يزدوج، ما ضارع وشاكل كلام النوكى.

فوعي الجاحظ باختلاف ضروب الكلام "يبقى غائما وملتبسا ليس يسلم شائعة في مصنفات الجاحظ مجالها الأبرز والأظهر إجراء اصطلاحات الفنون من دون ضابط أو تدقيق، كما هو حاصل في هذا الذي تمتزج فيه أشكال الخطاب الأدبي (بالمعنى الضيق)، وغير الأدبي"[36]، يقول الجاحظ: "وأني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدين والفقه والرسائل والسيرة والخطب والأحكام وسائر فنون الحكمة."[37] ومن صور التداخل في الاصطلاحات والخلط في التسميات والأنواع ما يتضح في الشاهد التالي "ومن هذا الحديث ما خبر به عن بابويه صاحب الحمام ولو سمعت في قصصه في كتاب اللصوص، علمت انه بعيد من الكذب والتزيد وقد رأيته وجالسته، ولم اسمع هذا الحديث منه، ولكنه حدثني به شيخ من مشايخ البصرة"[38]، فالتداخل واضح بين الخبر والحديث والقصة.

نستدل مما سبق أنه على الرغم من وعي الجاحظ بالتمايز والاختلاف بين ضروب الكلام وصنوف المخاطبات إلا ّأنه لم يستطع وضع هيكل اصطلاحي، فقد اختلت المصطلحات والتسميات والمترادفات ما يثير نوعا من الالتباس والغموض لدى القارئ.

جامعة حسيبة بن بوعلي - الشلف

Metlef.assia@gmail.com

 

[1]_ الجاحظ : رسالة الحنين الى الأوطان ضمن رسائل الجاحظ، تح:عبد السلام هارون ج2،مكتبة الخانجي بالقاهرة ط1،1979،ص232

[2] _ الجاحظ، رسالة في الفصل ما بين العداوة والحسد ضمن رسائل الجاحظ، تح :عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة ج1،ص338.

[3] _جميل جبر، الجاحظ في حياته وأدبه وفكره، دار الكتاب المصري القاهرو ودار الكتاب اللبناني بيروت، ط1_2008، ص49.

[4] _ ينظر: أمجد الطرابلسي، نقد الشعر عند العرب حتى القرن 5 هـ، تر:إدريس بلمليح، منشورات مجمعاللغة العربية بدمشق_1955، ط1،1993.ص56

[5] _ نفسه ص56.

[6] _ينظر: الجاحظ، جميل جبر ص49

[7] _ علي بوملحم، المناحي الفلسفية عند الجاحظ، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ط2،1988 _ص 61

[8] _ الجاحظ، الحيوان ج3، ص209

[9] _ ينظر:جميل جبر:الجاحظ في حياته وأدبه وفكره، ص49.

[10] _ ينظر:شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي، مكتبة الدراسات الأدبية، ط10، القاهرة ص158.

[11] _شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، ط14، دار المعارف، ص 57.

[12] _ ينظر:أحمد درويش، أحمد الشايب ناقدا، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994، ص137.

[13] _ الجاحظ، الحيوان، ج4،ً69.

[14] _أحمد درويش، أحمد الشايب ناقدا، ص136.

[15] _ عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية، ط3، المركز الثقافي العربي 2005،ص 240.

[16] _ ينظر:المرجع نفسه ص240.

[17] _جميل جبر صٌ52

[18] _ فاضل عبود التميمي، النقد العربي القديم والوعي بأهمية الأجناس الأدبية، مقولات الجاحظ وابن وهب الكاتب مثلا، جامعة ديالي، كلية التربية ص226

[19] _ الجاحظ: نظرية الأدب ص11.

[20] _فن الشعر، ص 5 و6 .

[21] _ الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص383.

[22] _ الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص 241

[23] _ الجاحظ، الحيوان، ص72،.

[24] _ رضا أماني، يسرا شادمان، دراسة آراء الجاحظ حول الشعر ونقده، مجلة دراسات النقد والترجمة في اللغة العربية وآدابها، العدد 2، السنة الأولى خريف 2012، ً268.

[25] _ الجاحظ، البيان والتبيين، ج1،ً51.

[26] _ نفسه ص208.

[27] _ نفسه، ص243.

[28] _ البيان والتبيين ج1ص45.

[29] _ينظر:مصطفر الغرافي، مسألة النوع الأدبي، الأوان www.alawan.org

[30] _ ينظر، مصطفى الغرافي www.alawan.org

[31] _ البيان والتبيين ج4، ص28.

[32] _ ينظر :مصطفى الغرافي، www.alawan.org

[33] _ الجاحظ، البيان والتبيين ج1ص115

[34] _ مصطفى الغرافي www.alawan.org

[35] _ ينظر:مصطفى الغرافي

[36] _ المرجع نفسه www.alawan.org

[37] _الجاحظ، فصل مابين العداوة والحسد، رسائل الجاحظ، تح: عبد السلام هارون، ج1،ص 350.

[38] _ الجاحظ، الحيوان، ج2،ص299.