يتقصى الباحث العراقي هنا عملية تأسيس علم الاجتماع، ومجالات اهتمامه المبكرة، وقواعده المعيارية، منذ وضع بذرته العربية ابن خلدون، وحتى أسس أوجست كونت دعائمه الغربية، وقد خلص إلى أن دور كل منهما لا غنى عنه في بلورة الأسس المنهجية والمعيارية لهذا العلم في كلا الحضارتين.

علم الاجتماع وجدلية الأب المؤسس

دراسة تحليلية

فراس عباس فاضل البياتي

 

المقدمة
ثمة حقيقة نرى من الضروري طرحها في هذا المقام وهي انه قبل نشوء علم الاجتماع، كان الفلاسفة والكتاب والشعراء والقصاصون ينصب اهتمامهم على دراسة السلوك البشري من خلال مناهجهم الخاصة باختصاصاتهم، أي أنهم يلاحظون نمطاً سلوكياً خاصة تحت ظروف معينة ثم يتأملون ويسجلون أسباب تصرف الناس ويستغربون من المظاهر السلوكية للأفراد عندما ينحرفون عن النمط العام من السلوك السائد في المجتمع، محاولين صياغة مبادئ عامة للسلوك البشري، وكان ذلك الخطوة الأولى لتوظيف وتقسيم السلوك البشري ([1])، ويعد طروحات الفيلسوف العربي العلامة ابن خلدون في وصف الطبيعة البشرية بأنها تضامنية وتنازعيه بوقت واحد، ولا يمكن الفصل بينهما وهما وجهان لحقيقة واحدة عد ذلك اللبنة الأولى لنشوء علم الاجتماع .

المبحث الأول : عناصر البحث العلمي .
مشكلة البحث

ليس من السهل البحث في موضوع مهم تروم فيه كشف حقيقة نشوء علم من العلوم، ومن ثم الكشف عن مؤسس هذا العلم مع وجود جدل كبير حول مؤسس هذا العلم كما هو الحال في علم الاجتماع موضوع بحثنا هذا، فعلم الاجتماع يختلف عن العلوم الصرفة بكونه علم متغير هدفه الإنسان والمجتمع البشري لذا سنحاول في بحثنا قدر الإمكان الكشف للقارئ حقيقة علم الاجتماع ومؤسسه.

  • أهداف البحث

لا يخلو بحث من هدف أو مجموعة أهداف يسعى الباحث بلوغها بالطرق المنهجية والعلمية وأهداف بحثي تكمن فيما يلي :-

  1. التعرف على ماهية علم الاجتماع، وأهميته للمجتمع البشري .
  2. دراسة التطور التاريخي لعلم الاجتماع.
  3. الإطلاع على جدلية الأب المؤسس لهذا العلم وتأكيد التأسيس.
  • أهمية البحث

لما كان علم الاجتماع من أهم العلوم الإنسانية التي تقدم الحلول المناسبة لمشكلات المجتمع البشري وسكانه، فدراسته تعد أهمية كبيرة، لتعريف القاريء بأهمية هذا العلم له ولمجتمعه.

  • منهجية البحث

اعتمد الباحث المنهج التحليلي في بحثه من اجل بلوغ أهداف البحث .

  • هيكلية البحث

ضم البحث الى جانب المقدمة، مبحثين جاء الاول (مفهوم علم الاجتماع والتطور التاريخي) تناول فيه ماهية علم الاجتماع، ونشاته وتطوره، اما المبحث الثاني فضم (جدلية الأب المؤسس لعلم الاجتماع)، تناول فيه جدلية التأسيس من خلال تناول افكار أهم عالمين وهما ابن خلدون واوكست كونت، ومن ث الخاتمة، والمصادر.

المبحث الأول : مفهوم علم الاجتماع والتطور التاريخي.
علم الاجتماع
Sociology
إن أول من استخدم اصطلاح سوسيولوجي (علم الاجتماع) العالم الفرنسي أوجست كونت، وتبعه الفيلسوف الانكليزي ستيوارت مل استعمل هذا الاصطلاح في كتابه (علم المنطق) في عام 1843، وكان يعني هذان العالمان بهذا الاصطلاح الحقيقة والمنهاج الذي يجب إن يتبعه علم دراسة المجتمع ليكون مطابقاً للعلوم الطبيعية من ناحية طرقه المنهجية وحقائقه النظامية المترابطة وتحرره من العواطف والنزعات النفسية والأحكام القيمية([2]).

هناك عدة تعاريف ومفاهيم علمية دقيقة لعلم الاجتماع أهمها تعريف مورس كينزبيرك الذي ينص على انه «العلم الذي يدرس طبيعة العلاقات الاجتماعية وأسبابها ونتائجها وفق نهج ومستويات مختلفة كالعلاقات بين الأفراد والجماعات والمجتمعات».

وعرفه العالم ماكس فيبر في كتابه (نظرية التنظيم الاجتماعي والاقتصادي) هو «العلم الذي يفهم ويفسر السلوك الاجتماعي _وهو يقصد بالسلوك الاجتماعي_ أية حركة أو فعالية مقصودة يؤديها الفرد وتأخذ بعن الاعتبار وجود الأفراد الآخرين»، أما العالم جورج زمل فقد عرف المصطلح (علم الاجتماع) على انه «العلم الذي يهتم بدراسة شبكة العلاقات والتفاعلات والمؤسسات على اختلاف أنواعها وأغراضها _فعلم الاجتماع كما يراه زمل_ ينبغي أن يدرس العلاقات والتفاعلات كما تقع وتتكرر خلال فترات تاريخية مختلفة وفي موضوعات حضارية متنوعة.»

ولمفهوم علم الاجتماع (السوسيولوجيا) معنيين هما :
المعنى الضيق : في بداية القرن العشرين اقتصر مفهوم (Social Science) مدلول ضيق ليعني فرع الدراسة الذي اهتم بتدريب وتأهيل الاختصاصيين الاجتماعيين (Social Workers).

المعنى الواسع : فتشير إلى الموضوعات الأكاديمية التي تتعلق بدراسة المجتمع الإنساني وطبيعة العلاقات الاجتماعية داخلها والمشكلات التي تعاني منها .... وغيرها.

هنا لابد من الإشارة ولفت الانتباه إلى إن الفرق بين علم الاجتماع (Social Science) والسوسيولوجيا (Sociology)، هو أن علم الاجتماع (Social Science) يشير إلى العلم يدرب الاختصاصيين الاجتماعيين على فن الخدمات الاجتماعية،أما والسوسيولوجيا (Sociology) فهو العلم الذي يختصص بدراسة نظريات المجتمع الإنساني المتعلقة بالمؤسسات الاجتماعية والتغير والطبقية والعائلة ومشكلات المجتمع([3]).

إن علم الاجتماع معنيٌّ بدراسة الحياة الاجتماعية والجماعات والمجتمعات البشرية وطبيعة العلاقات الاجتماعية لسكان المجتمع،وبسبب التطور العلمي الحاصل في مجالات البحث العلمي والمنهجي انعكس ذلك على مفهوم علم الاجتماع فتعددت المفاهيم بتعدد وجهات نظر الباحثين، وطبيعة البيئة الاجتماعية التي يعيش فيه.

استنادا إلى ما تقدم من مفاهيم فعلم الاجتماع برأي هو العلم الذي يعيش مع الناس ويهتم بطبيعة حياتهم، ويتطور بتطور الحياة داخل المجتمعات، ويقف على خط واحد من المشكلات التي يتعرض لها سكان المجتمع من حيث التحليل والتفسير، فضلا عن كونه علم يتهم بطبيعة العلاقات الاجتماعية لسكان المجتمع.

علم الاجتماع علم اجتماعي في مقابل العلوم الطبيعية، لذا لو اتبعنا التقليد الذي طور في ألمانيا خلال القرن التاسع عشر، لأمكننا القول أن على جميع العلماء من طبيعيين أو اجتماعيين أن يطوروا مبادئ وتفسيرات تعليلية سببية للحفاظ على هيكلية بحوثهم وعملها، وسواء تناولت مواضيع بحثهم مدارات الكواكب أو الموضوعات البيولوجية أو استمرار البنى الاجتماعية وبقاءها، لاتضح لنا انه لابد من تحليل تعليلي أو سببي لكن على عالم الاجتماع أن يفهم الظواهر التي تشكل العالم الاجتماعي علاوة على تفسيرها وشرحها([4]).

تطور العلم واعتباره منهجا دراسيا.
قبل الدخول في تطور علم الاجتماع يتوجب عليً إن أتطرق إلى أهمية استخدام علم الاجتماع ودوره في المجتمع، إذ يكمن أهمية علم الاجتماع إلى جانب انه العلم الذي يلعب دوراً مهما في توعية سكان المجتمع توعية اجتماعية، وفي ترسيخ مبادئ الديمقراطية وتدعيم خطط وبرامج التنمية الهادفة إلى تقديم الخدمات للصالح العام، علم الاجتماع يعمل على الحد من الجريمة وذلك ففي المحافظة على النظام الاجتماعي للمجتمع .

فضلا عن ما تقدم إن اغلب الجامعات العالم لا تخلو اليوم من وجود قسم علم الاجتماع في أقسامها، وانتشار مراكز البحث العلمي والاجتماعي فيه.

تطور علم الاجتماع بتطور تيارات الفكر التي ظهرت في العلوم الإنسانية والمؤثرات المحيطة التي كان يعيش بينها حيث التفاعل معه والتأثر به .أوضح عالم الاجتماع الأمريكي (سى رايتز ملز) أن الخيال الاجتماعي هو مقدرتنا على الإفلات من ظروفنا الفردية والنظر إلى عالمنا الاجتماعي في ضوء جديد. ولد علم الاجتماع أثناء محاولة شرح التغيرات الاجتماعية الناتجة من الثورة الصناعية وسيساعدنا المنظور الاجتماعي على فهم هذا العالم والمستقبل الذي يخبئه لنا. تطور المنظور العالمي والشامل يدل على الأهمية العظمى لعلم الاجتماع لأنه يفتح أعيننا على حقيقة أن اعتمادنا المتبادل مع المجتمعات الأخرى يعنى أن أفعالنا لها نتائج على الآخرين وأن مشاكل العالم تؤثر علينا.

والسؤال هنا لماذا ندرس علم الاجتماع وكيف يساعدنا هذا العلم ويساعد مجتمعنا؟

إن دراسة علم الاجتماع ليست مجرد عملية روتينية لاكتساب المعرفة فحسب، وإنما هو أوسع من ذلك وأكثر شمولية مما نتصور إذ إن الباحث الاجتماعي يكتسب العلم ويطبقه في حياته وفي مجتمعه متحرراً من الظروف الفردية والشخصية والروتينية بل هو إلقاء نظرة جديدة للظواهر الاجتماعية بمخيلة اجتماعية أوسع.

المبحث الثاني : جدلية الأب المؤسس لعلم الاجتماع.
في سنوات دراستي لعلم الاجتماع وقراءتي للموضوعات السوسيولوجية توجب عليً الوقوف عن مسالة جدلية منذ نشأة هذا العلم وتطوره إلا وهو جدلية الأب المؤسس لعلم الاجتماع.فبعض المؤلفات تشير إلى إن العلامة ابن خلدون (1332_1406) هو مؤسس هذا العلم (سنتطرق إلى نظريته)، والبعض الأخر يشير إلى إن العالم الفرنسي أوكست كونت (1798-1857) هو الأب المؤسس لعلم الاجتماع، وفي الحقيقة القولين صائبين إذا ما نظرنا إليهما من وجهة علمية وبالشكل التالي :-

إن العلامة بن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع عن العرب، وان العالم الفرنسي أوكست كونت هو مؤسس علم الاجتماع عند الغرب، ومنذ قديم الزمان كان الفضول يتملكنا نحن البشر لمعرفة مصادر سلوكنا وبواعثه وغير إن مساعينا لفهم أنفسنا خلال آلاف السنين كانت تعتمد على مناهج التفكير التي تنحدر ألينا جيلا بعد جيل وكثيراً ما جرى التعبير عن الآراء بمقولات دينية أو باللجوء إلى الأساطير الشائعة، أو الخروقات أو المعتقدات التقليدية، إما الدراسة الموضوعية المنهجية للسلوك الإنساني وللمجتمع، فهي نسبياً من التطورات الحديثة التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، وكان من ابرز هذه التطورات استخدام العلم لفهم العالم، وكذلك بروز النزعة للمقارنة العلمية مما أدى إلى تغيير جذري في النظرة الكلية والمفاهيم لدى البشر وبدأ التفكير العقلاني والنقدي لاكتساب المعرفة يحل محل التفسيرات التقليدية القائمة على أسس دينية في شتى المجالات([5]) . وعلم الاجتماع برز كعلم مستقل ساهم في فهم البشرية لمجالات حياته.

خلدون المؤسس الأول.
لا تكمن أهمية العلامة بن خلدون (عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (1332-1406) في مؤلفه التاريخي الضخم الذي سماه كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم ذوي السلطان الأكبر، بل أن أهميته تتمثل في (المقدمة) التي وضعها لهذا الكتاب، لأنه يدرس طبيعة المجتمعات وتطورها من حال إلى حال، ليتزود المؤرخ بمعيار يمكنه على أساسه التحقق من الأحداث والتغيرات المدونة، ويحكم عليها فهو يرى أن الحاضر يشبه المستقبل مثلما يشبه الماء الماء.

يعد ابن خلدون أو من نادى بضرورة إنشاء علم العمران البشري وهذا العمران يعني لديه الاجتماع الإنساني وظاهرياته، وهو يصوغ موضوع هذا العلم من خلال قوله أن الاجتماع الإنساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: «الإنسان مدني الطبع، أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معني العمران» وأولى النقاط التي نبرز هنا هي النظر للمجتمع نظرة شمولية مع التركيز على ضرورته وما هو ضروري فيه، فهو لم يدرس الاجتماع الإنساني إلا بقصد بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال واحدة بعد أخرى، وهذا يعني أن التركيب الجدلي المعقد من الأحوال في العمران هو المجال المتميز الذي يسعى ابن خلدون لكشفه وتهيئة المستلزمات المعرفية له ([6]) .

حدد بن خلدون بوضوح المبادئ الرئيسة التي ينبغي أن يرتكز عليها علم الاجتماع، زمنها:-

  1. أن الظواهر الاجتماعية تخضع لقوانين لا تكون ثابتة كتلك التي تحكم الظواهر الطبيعية، غير أن فيها من عناصر الثبات ما يسمح للأحداث الاجتماعية أن تتوالى وفق أنماط منتظمة ومحددة، وان تلك القوانين تفعل فعلها في الجماعات ولا تتأثر بصورة كبيرة بالأفراد والأحداث المنعزلة .
  2. أن اكتشاف تلك القوانين لا يمكن أن يتحقق إلا بعد جمع عدد ضخم من الحقائق وملاحظة ما يقترن بها أو يليها من وقائع، فانه لايمكن جمع هذه الحقائق من احد مصدرين او من كليهما (مدونات الوقائع الماضية، وملاحظة الأحداث الراهنة).وهذا يتطلب الأمر إيجاد علاقة بين الترابطات التي تجري ملاحظتها من اجل تفسير ذلك.
  3. إن منظومة القوانين الاجتماعية الواحدة تصدق على المجتمعات المتماثلة البنية على الرغم من تباعد هذه المجتمعات في المكان والزمان، وان المجتمعات ليست ساكنة بطبيعتها أي أن الأشكال الاجتماعية بعبارة أخرى عرضة للتغير والتطور والعامل الوحيد الذي ينوه به ابن خلدون تحديداً باعتباره سبباً للتغير هو التماس والاتصال بين الشعوب والطبقات المختلفة.
  4. إن هذه القوانين ليست نابعة من دوافع بيولوجية أو بدنية، وإنما هي اجتماعية في طابعها وعلى الرغم من أن ابن خلدون أخذ بالاعتبار العوامل البيئية مثل الطقس والمناخ والغذاء فانه يشدد على هذه النقطة بكل وضوح، فيرجع الأثر الأكبر لعوامل اجتماعية بحتة مثل التماسك والحرف والمهن ومستويات الصنائع([7]).

لم يكتف ابن خلدون بوضع الأسس التي ينبغي أن يقوم وينشا عليها علم الاجتماع بل تجاوز ذلك إلى كشف العديد من الوسائل المنهجية للدراسة والعوامل التي يمكن علماء الاجتماع المحدثين استخدامها كأدوات للبحث، ويمكن إيجاز ابرز عناصر منهجه في ما يأتي:-

  • أكد ابن خلدون أن على الباحث إلا يقبل شيئا على انه حق إلا بعد أن يتأكد بوضوح انه كذلك، أي يجدر به إلا يتأثر بآراء مسبقة أو يتخذ من الأساطير وأراء الآخرين غير المؤكدة أساسا لدراسته، ولهذا كان ابن خلدون يقرا مفكري عصره وأسلافه بقصد المحاورة والكشف، ويستشهد ويشكك وينتقد ويصحح وينتقي ويقارن ثم يأتي بالاستنتاج وهو بصدد هذا القول في مقدمته: (فلا تثقن بما يلقي إليك من ذلك وتأمل الأخبار واعرضها على القوانين الصحيحة يقع عليك تمحيصها بأحسن وجه).
  • أكد ضرورة الأخذ بمنهج المقارنة بين ماضي الظاهرة وحاضرها ودراسة تطور الظواهر والنظم العمرانية دراسة تاريخية ذلك لان العمران متطور ومتبدل.
  • أكد أهمية وصول علم العمران إلى صوغ القوانين التي تحكم العمران لان الوصول إلى هذه القوانين وظيفة من وظائف العلم، وفي هذا المعنى يرى أن الظواهر العمرانية لا تشذ عن بقية ظواهر الكون، وأنها محكومة في مختلف نواحيها بقوانين طبيعية تشبه القوانين التي تحكم ما عداها من ظواهر الكون كظواهر العدد والفلك والطبيعة والفيزياء والكيمياء والحيوان والنبات.
  • ركز على أهمية الملاحظة التي تأتي عمليتها من مسلكيها التاليين:-

المسلك الأول: ويتمثل في القيام بملاحظات حسية وتاريخية قوامها جمع المواد الأولية لموضوع البحث من المشاهدات ومن بطون التاريخ.

المسلك الثاني : فيتمثل في القيام بعمليات عقلية يجريها على هذه وهو الكشف عما يحكم الظواهر العمرانية من قوانين([8]).
أوكست كونت المؤسس الأول.

ارتبط اسم العالم الفرنسي أوكست كونت بعلم الاجتماع من حيث انه أول من صاغ مصطلح علم الاجتماع Sociology، عادة ما تعطى الأولوية للعالم أوكست كونت عند الحديث عن تأسيس علم الاجتماع لابتكاره لاسم (علم الاجتماع، سوسيولوجي) وقد سمى كونت هذا الموضوع أو الأمر (الفيزياء الاجتماعية) إلا إن بعض منافسيه آنذاك كانوا يستخدمون هذا المصطلح، إلا إن كونت ميز بين كتاباته وكتاباتهم في مفاهيم العلم، انعكاسا من الظروف التي ألمت بالمجتمع كانت أفكار أوكست كونت تتسم بالعلمية في تفسير الظواهر وفق منهجية علمية هادفة إلى كشف النقاب عن قوانين شاملة.

إن رؤية كونت في علم الاجتماع كانت نظرة علمية وضعية وكان ينبغي على علم الاجتماع في اعتقاده إن يطبق المنهجيات العلمية الصارمة نفسها في دراسة المجتمع، كما هو الحال في الأساليب التي تنتهجها الفيزياء والكيمياء في دراسة الألم الطبيعي وترى المدرسة الوضعية إن على العلم أن يعنى بالكيانات العَيانِيَة التي يمكن ملاحظتها واختبارها بالتجربة فحسب([9]) .

اعتمد عالمنا (كونت) على المنهج التاريخي ألاستنتاجي، في تفسير الظواهر الاجتماعية محاولة منه رسم مسيرة تطور المجتمعات الإنسانية، وقد قدم لنا نظريته المشهورة نظرية ( قانون المراحل الثلاث) في تفسير تطور المجتمع الإنساني، إذ افترض أن المجتمع الإنساني _اي مجتمع كان_ يمر خلال ثلاث مراحل أو ثلاث أطوار هي([10]) :-

  • المرحلة الأولى : مرحلة اللاهوتية (Metaphysical Stage)، هي مرحلة دينية، وفيها يهيمن الفكر الديني الذي يقف عليه رجال الدين والكهنة وما شابههم ممن يحظون بالمكانة والاعتبار في المجتمع، والاعتقاد بان الفكر الإنساني مسيراً بالفكر الديني والاعتقاد بان المجتمع ما هو إلا تعبير عن إرادة الله.
  • المرحلة الثانية: مرحلة العسكرية (Military Stage)، هي مرحلة يهيمن عليها رجال المؤسسة العسكرية، بسلوكهم وقيمهم ومفاهيمهم على المجتمع،أو ما يسمى بعسكرة المجتمع إذ تشب المظاهر العسكرية في المجتمع وتنتشر أعمال العنف والصراعات والنزاعات إذ يصبح المجتمع معسكراً للتنافس والصراع، وهي مرحلة تصدرت الفكر البشري في فترة عصر النهضة الأوربية. بدا الناس ينظرون إلى المجتمع في إطاره الطبيعي .
  • المرحلة الثالثة: المرحلة الوضعية (Industrial Stage)، مرحلة تنتقل فيه المجتمعات من الصراعات إلى الاكتشافات العلمية، ومرحلة الصناعة التي تسود فيها الصناعات ووسائل البحث العلمي العقلاني مما يقود بالمجتمع إلى عجلة التقدم والتطور والنمو والتحضر، واعتبر كونت أن الصناعة هي المرحلة الأولى لتقدم المجتمعات ورقيها.

سعى كونت بذلك إلى إنشاء علم عام للمجتمع، ولقد اعتبر دراسته المطولة عن السياسة الوضعية دراسة في علم الاجتماع، أو أنها تلخيص لعلم دراسة المجتمع الجديد، ومبادئ هذا المذهب سوف لا تجعلنا بحاجة إلى الاعتماد على الديانات التاريخية فالمبادئ الوضعية يجب أن تحل محل الديانات القديمة (المسيحية التقليدية)، وربما السبب هذا دفع كونت إلى أن يعتبر مذهبه الوضعي ديانة جديدة للإنسانية يقوم على الميل إلى الإيمان القطعي بالعقيدة إلى الارتكاز إلى المبادئ العلمية، وعلم الاجتماع يعد نواة لهذا الدين، وعلماء الاجتماع في نظره هم كهنة هذا الدين الجديد(العلم الجديد) والقائمون على أمره، حقيقة أنهم سيلتزمون التزاما صارما بالابتعاد عن توجيه الشؤون الدنيوية، وستسير الأمور في ظل النظام الجديد بصرامة وسيصبح الخلق الكريم والطاعة واجبا ملزما على كل إنسان، وسيصبح كل فرد موظفاً في خدمة المجتمع([11]).

إضافة إلى نظرية المراحل الثلاث أو قانون المراحل الثلاث لكونت، فان مساهمة كونت تتجلى في تقديم عدد آخر من المفاهيم والأفكار المهمة، من هذه المفاهيم مفهوم الحِراك الاجتماعي (Social Dynamics) والاستقرار أو الثبات الاجتماعي (Social Statics)، وكان يقصد كونت بالحراك الاجتماعي كل ما يرتبط بحركة المجتمع وقدرته على التغير والتكيف والاستجابة لمختلف المؤثرات والقوى الكامنة فيه إضافة إلى القوى الخارجية، أما مفهومه للاستقرار أو الثبات الاجتماعي كل ما يربط جوانب البناء الاجتماعي والسكون والاستقرار والنمطية في سلوك الجماعات والأفراد داخل المجتمع ([12]) .

الخاتمة
في الحقيقة لابد من الإشارة إلى في هذا البحث الذي يعد مدخلاً إلى علم الاجتماع، فعلم الاجتماع علم عريق ومتطور بتطور العلوم والمناهج وتطور المجتمعات الإنسانية، سيما مراحل الانتقال الديموغرافي للمجتمعات وما ينتج منها من تغيرات في الظروف الديموغرافية والاجتماعية.

ومع تطور علم الاجتماع وولادة فروع جديدة للعلم فان ذلك يعد مؤشراً هامة إلى الباحثين في هذا المجال، إلا وهو إن علم الاجتماع علم ديناميكي متغير ومتجدد بتغير وتجديد المجتمعات وظروفها، والبناء الاجتماعي والتنظيمي لها، وان دراسة علم الاجتماع في الجامعات العربية يعد أمر ضروري لأهمية العلم في تكوين شخصية الفرد والمجتمع .

فلابد من التأكيد على أهمية العلم في مجالات الحياة كافة وخاصة في حل المعضلات الاجتماعية والأزمات التي يمر به المجتمع في ظل التغيرات الهائلة التي يشهد عصرنا عصر العولمة والتغيير .

ولعل من ما تقدم نستفهم ان الأب المؤسس لعلم الاجتماع العربي هو ابن خلدون، والأب المؤسس لعم الاجتماع الغربي هو أوكست كونت، فأي كان مؤسس هذا العلم الهام فلابد لنا أن نرفع قبعاتنا له لما أبداه من أراء وأفكار لنشأة هذا العلم الذي خدم البشرية بكافة جوانبه.

 

مدرس الديموغرافية الاجتماعية

قسم علم الاجتماع/ كلية الآداب/ جامعة الموصل / العراق

 

المصادر

  1. إحسان محمد الحسن، موسوعة علم الاجتماع، الدار العربية للموسوعات، بيروت، لبنان، 1999.
  2. احمد زايد، علم الاجتماع بين الاتجاهات الكلاسيكية والنقدية، ط1، دار المعارف، القاهرة، 1981.
  3. أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة : فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2001.
  4. حسن الساعاتي، علم الاجتماع الخلدوني _قواعد المنهج، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت،1972.
  5. روبرت نيسبت، وروبرت بيران، علم الاجتماع، ترجمة: جريس خوري، دار النضال للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1990.
  6. شفيق إبراهيم الجبوري(أستاذ علم الاجتماع المساعد)، محاضرة لطلبة الدراسات العليا، قسم علم الاجتماع، كلية الآداب، جامعة الموصل، العراق، 2003.
  7. عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، 1981.
  8. عبد اللطيف عبد الحميد العاني وآخرون، المدخل إلى علم الاجتماع، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، بغداد، بدون تاريخ.
  9. لاهاي عبد الحسين، مقدمة في علم الاجتماع، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، 2008.
  10. ميشيل دينكن، معجم علم الاجتماع، ترجمة : إحسان محمد الحسن، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1980.
 

[1])) عبد اللطيف عبد الحميد العاني وآخرون، المدخل إلى علم الاجتماع، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، بغداد، بدون تاريخ، ص12.

([2])ميشيل دينكن، معجم علم الاجتماع، ترجمة : إحسان محمد الحسن، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1980، ص333.

([3]) إحسان محمد الحسن، موسوعة علم الاجتماع، الدار العربية للموسوعات، بيروت، لبنان، 1999، ص418_419.

([4]) روبرت نيسبت، وروبرت بيران، علم الاجتماع، ترجمة: جريس خوري، دار النضال للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1990، ص12.

[5])) أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة : فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت، 2001، ص 54.

([6]) عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، 1981، ص55.

[7])) أنتوني غدنز، علم الاجتماع، مصدر سابق، ص 56_57.

([8]) حسن الساعاتي، علم الاجتماع الخلدوني _قواعد المنهج، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت،1972، ص18.

[9])) أنتوني غدنز، علم الاجتماع، مصدر سابق، ص 63.

([10])شفيق إبراهيم الجبوري، محاضرة لطلبة الدراسات العليا، قسم علم الاجتماع، كلية الآداب، جامعة الموصل، العراق، 2003.

([11]) احمد زايد، علم الاجتماع بين الاتجاهات الكلاسيكية والنقدية، ط1، دار المعارف، القاهرة، 1981، ص71

([12]) لاهاي عبد الحسين، مقدمة في علم الاجتماع، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، 2008، ص 14.