رواية "أجراس الخوف" للكاتب المغربي هشام مشبال، رواية تبحث في أعماق الذات الإنسانية المطحونة إجتماعياً ونفسياً، رواية يسيطر على جميع شخصياتها الخوف على اختلاف طبقاتهم الإجتماعية. تدور أحداث الرواية في المغرب في أقل من عامٍ؛ في ثلاثة فصول شهد العالم فيها تغيرات جذرية على مستوى العالم العربي. فالرواية تبدأ بفصل الخريف الذي قامت فيه ثورة تونس، ثم فصل الشتاء الذي حمل معه تمرد الشعب المصري على الظلم والطغيان، وبعد ذلك يأتي فصل الربيع بعطر الحرية من مصر وتونس، فيصور الكاتب أثر الثورتين في الشعب المغربي الذي ملّ تحطم آماله وبدأ تمرده من داخل الجامعة .
تعكس الرواية مواقف الكاتب الأيديولوجية والثقافية والسياسية من خلال تصويره عدة قضايا أهمها: السياسة والتعليم وفساد المحليات. فهو يعبر عن فساد المحليات المتمثلة في المجلس البلدي، من خلال قضية هدم بيت الأستاذ نجيب الأستاذ الجامعي الذي تمنى حياة هادئة بعيدة عن الضوضاء وصخب الحياة الزائفة يتمسك ببيته الذي نشأ فيه، يرفض بيعه ولكنه يضعف أمام محاولات الإغراء والتهديد ممن في صالحهم هدم البيت "يريدون أن يطردوننا بالقوة من بيوتنا ... أي حق وأي قانون يسمح بذلك؟- القانون عندنا يسمح بأشياء كثيرة ... عفوا من يطبق القانون يسمح بذلك ... ونحن لا نتحرك ..كل الناس لا تتحرك" (صـ 102)، وهذه صورة ترمز إلى الوطن الذي يُباع ويُجبر فيه الشرفاء على التخلي عنه.
كما نرى عشق الكاتب للأصالة وجمال الطبيعة من خلال تصويره حديقة بيت الأستاذ نجيب وحزنه على هدم البيت وإقتلاع أشجاره "كان يجلس في الشرفة المطلة على شجرتي التوت والبرتقال" (ص93)، "كانت السماء غائمة والمطر يسقط خفيفا ومتقطعا. ظل نجيب منزويا في سيارته يتأمل الجرافات وهى تهدم البيت .. تبدد تلك العتاقة وتسرق الذكريات .. امتلأت عيناه بالدموع الباردة ... يرفع نجيب عينيه إلى النخلة الكبيرة وهى تسقط هادئة ..تأتيه رائحة العتاقة الأبدية .. تتغلغل بداخله كأنها سهم نافذ .. عروقها المتشعبة الطويلة سكنت الأرض عميقا وتسللت إلى الهوة الساحقة . السياج الذي كان يحضن المنزل ويحضن تفاصيل وحكايات .. إخفاقات وأفراحا عشتها وامتدت فيك حلما طويلا وعزيزا يُهدم الآن أمام عينيك .. يتعرى المنزل وحيدا تحت السماء الممطرة .. وتتعرى أنت من دفء كان قلعتك الأخيرة في تبديد الخوف." (ص 174- 175) فكاتب المحب للأصالة والعتاقة صور السماء تبكي مع نجيب على هدم البيت بعتاقته الأبدية قلعته التى تحميه من الخوف.
يأتي نقد الكاتب لنظام التعليم من خلال قضية ابن السي احميدو، فالكاتب يصور فساد التعليم وعدم الإقبال عليه على لسان نوال زوجة الأستاذ عثمان قائلا: "لا أحد هناك يهتم بالعلم أو يريد الدراسة ... معظم الناس تعلم أبناءها لتقضي على الأمية ، حتى يتمكن الولد أو البنت من قراءة الكلمات الضرورية وكتابة الأرقام." (ص 110 )
كما يصور الكاتب انعدام أخلاق التلاميذ وما يعانيه المدرس من سلوكياتهم المستفزة قائلا على لسان الأستاذ عثمان: "في حصة المساء جاء متأخرا .. ومع ذلك لم أقل له شيئا .. فأنا صرت أتجنب الأحتكاك به، لا أريد أن أعكر دمي مع ولد غير مهذب أفسده والده وواقعه. فهو يشعر وكأنه اشترى المدرسة بمال أبيه واشترانا نحن لنخدمه. ولكنه هذا المساء تجاوز كل الحدود. رأيته هو وزميله في المقعد الذي يجمعهما يتهامسان وعندما اقتربت منهما حاول أن يخفي شيئا وراء ظهره. جذبته بقوة وسحبت هاتفه المحمول ... وجدته ممتلئا بالصور الفاحشة ولقطات الفيديو الإباحية." (ص 110- 111) فالكاتب يصور مدى الانحطاط الإخلاقي لدى التلاميذ ويحاول أن يتلمس العلل التى أدت إلى هذا الانحطاط، فيجد سببين ألا وهما عدم وجود حد رادع في المدرسة والمنزل. فيصور ضعف المدرسة على ردع هولاء التلاميذ قائلا على لسان الأستاذ عثمان "لقد استغل ضعف باقي الأساتذة والمدير وتلك المعاملة التى يلقاها منهم وحاول إرغامي أنا أيضا على التنازل ... وأعرف أني لو طردته سيأتي المدير ويقول كالعادة "أمسحها في أنا هذه المرة." (ص 110 -111) كما يصور الفساد الأسري الذي يشجع التلاميذ على العنف وانعدام الأخلاق بدل أن يهذب أخلاقهم ويعلمهم احترام معلميهم من خلال موقف السي احميدو الذي يدلل ابنه ويخشى غضبه حتى لو على حساب كرامة معلمه "جاء السي احميدو ومعه ابنه . دخلا قاعة الدرس بالقوة. حاول المدير أن يمنعه ولكن أحميدو دفعه بقوة وهو يصيح" لا مشكلة معك .. أنا أريد الحمار الذي ضرب ابني!" وأشار إلى بأصابعه الغليظة . ثم أخرج من تحت جاكتته الطويلة بندقية صيد وصوبها نحوي . وأصيب التلاميذ بالهلع.أما المدير فتراجع إلى الوراء وبدأ يتوسل إليه أن يخرج . لكن أحميدو نادى ابنه وقال له "اركله " فقام ابنه بفعل ما طلب منه أبوه وركلنى بقوة وهو يضحك .. ثم أخذ أحميدو ابنه وخرج ... دخل هو والمدير، والتقط رزمة من المال من حقيبة صغيرة معلقة على كتفه وهو يقول : "لا تغضب مني يا أستاذ .. أنا فعلت ذلك لأن ابني كاد يموت من الغضب حينما طردته وهذه مجرد مزحة أطفئ بها ناره .. فأقبل مني هذا المبلغ مكافأة ورد جميل "ثم وضع رزمة المال على الطاولة وهو يقول بكبرياء الجهلاء " ليست هناك مشكلة يا أستاذ .. أليس كذلك؟" (ص 111 -112) وصل الانهيار الإخلاقي وفساد نظام التعليم إلى الحد الذي يضرب فيه التلميذ أستاذه بأمر من والده أمام مدير المدرسة دون أن يتخذ موقف قانوني، بل يعتبر مشارك في إهانة المعلم بسكوته الذي طمّع احميدو أكثر فعرض رزمة مال للمعلم حتى لا يفكر في أخذ حقه وكأن الكرامة تُشترى بماله! .
أما موقف الكاتب من السياسة نستشفها من خلال إشاراته إلى ما يحدث في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان . ومن خلال تصويره لشخصية كمال المحامي الذي ذاع صيته في المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني الذين يقضون أوقاتهم في الحديث عما يحدث في فلسطين والعراق وعقد الندوات التى لاتغير واقع، ومن خلال تصويره لندوة تعقد من أجل غزة "انشغل كمال مبكرا بالتحضير للندوة التي يعقدها هو وبعض الحقوقيين المغاربة مع لجنة أطباء العرب حول حرب غزة ... افتتح الأستاذ كمال الندوة وقدم الضيوف مؤكدا أهمية القضية وضرورة التشاور مع المنظمات الأوربية للضغط على إسرائيل وإيصال القضية إلى المحكمة الدولية نظرا لتوفر كل أركان الجريمة ضد الإنسانية . بعدها استفاض الضيفان الحقوقيان المغربي والأردني في ذكر تفاصيل عن عدد الشهداء والجرحى وكم الدمار الحاصل في البنية التحتية وانتهاكات حقوق الإنسان وغيرها . لكن ما أثار انتباه الحاضرين هو كلمة الطبيب المصري الذي روى شهادته بصوت هادئ وحزين" ( ص 77- 80) رغم عدم جدوى الندوات التى تعقد، وعدم تحقيق أي شيء مما تنادي به ، إلا أن الكاتب يريد أن يؤثر في قارئه فيثير في داخله مشاعر الحزن والأسف على ما يحدث لأهل غزة على مرأى من العالم العربي، وفي مقدمته مصر التى تؤكد في الإعلام أنها تقدم المساعدات الطبية والغذائية لأهل غزة.
فيروي شهادة طبيب مصري كان واحدا من فريق البعثة الطبية إلى غزة أيام القصف، يروي بشاعة ما حدث بذكره بعض الحالات التى شاهدها، وتأكيده على عدم وصول أي مساعدات طبية أو غذائية . ويأتي رأى الكاتب في النداوت التى لا تفيد على لسان الأستاذ نجيب "نحن من ضيعنا أنفسنا يا منى .. كل هذا الخراب وما سيأتي لاحقا نحن السبب فيه .. بقينا لسنوات نتحدث عن الماركسية والاشتراكية والرأسمالية والإسلامية ونسينا أن العالم يتقدم بسرعة .. لا فائدة من الثرثرة ولن نبيع للكون الأوهام .. وهاهى النتيجة .. بيوت تقصف وكلاب تأكل الناس .. والإعلام ينقل الصور ونحن نبكي ثم ننسى .. ونعود لتفاهاتنا التى لا تنتهي." (ص 81 -82) فالكاتب يحثنا على العمل حتى لا نضيع مثلما ضاع الأخرين بدل الثرثرة والبكاء.
يخوف الكاتب الشباب من ارتياد عالم السياسة من خلال تصويره شخصيتي عاطف ولبنى. فعاطف يخشى ارتياد عالم السياسة حتى إنه يخاف الحديث عنها لأنه محرم عليه إرتيادها من أبيه كمال، ورغم أن كمال من أكبر السياسيين إلا إنه زرع الخوف داخل ابنه عاطف من السياسة، لأنه يعلم إنها أكذوبة كبرى وأن من يقترب منها يتجرع آلاماً شتى. أما لبنى فقد ارتادت عالم السياسة بحماس لأنها افتقدت النصيحة من ذي خبرة بالسياسة، فـ "لبنى" الطالبة الجامعية التى ظنت أن ماحدث في مصر وتونس سيحدث في المغرب؛ فحلمت بوطن نظيف وسعت إلى تحقيق حلمها، فكانت توزع المنشورات وتشارك في المظاهرات، ورغم كل التهديدات التى تأتيها للابتعاد عن السياسة كانت تتعالى على الخوف، رأت في حب عاطف الأمان؛ فبدلت معطفها الأسود القديم الذي يرمز إلى حياتها الماضية وما عانته فيها من فقر وخوف بمعطفٍ أبيضٍ جديدٍ، تبدأ فيه حياتها الجديدة مع عاطف المليئة بالحب والأمل في وطن أجمل. ولكن هذا المعطف يتلوث بدمائها، فقد دفعت ثمن ارتيادها عالم السياسة والدفاع عن وطنها بأعز ما تملك، فقد اُغتصبت لبنى، وفي اغتصابها اغتصاب لوطن كامل. لذلك نرى تجمع عدد من الشخصيات في مشهدٍ واحدٍ إذ تجمع نجيب ومنى وعاطف، ووقفوا مع الطلبة الثائرين من أجل لبنى. ولكن هل تنقذ وقفتهم لبنى من شبح الخوف؟! هل تعد من يرتاد السياسة بالأمان؟!
يحس قارئ هشام مشبال إنه مولع بتصوير الآمال التى تتحطم وعذابات المثقفين والمتعلمين الذين يحلمون بمستقبل أفضل لكن يكون واقعهم الحيرة والخوف والتيه بين خيال حلو وواقع مر مثلما رأينا في روايته الأولى "الطائر الحر"، وروايته الثانية "أجراس الخوف". ولكن هل يظل الكاتب على نفس الوتيرة في تصوير الذات الحائرة الحزينة؟ أم يخرج بنا إلى عالمٍ مرحٍ لذيذٍ تشتاق النفس إلى العيش فيه؟