وأنتَ تُحرر نفْسكَ بالاسْتعارَاتِ، فَكِّر بغيرك
مَنْ فَقدُوا حَقهمْ في الْكلام
محمود درويش
1. تقديم
حينما نضع على عاتقنا مهمة تحليل نص شعري أو سردي أو حجاجي نواجَهُ بالسؤال المُلِحِّ الذي يُعتبر الجواب عنه نقطةَ بداية أي تحليل جاد. وليس محتوى هذا الجواب إلا ما اعتبر المحتوى النثريَّ أو الفكريَّ للقصيدة، أي المحتوى الذي يُقصد توصيلُه إلى المتلقي. وسواءٌ أسمَّينا هذا غرضاً مقابل وجه الدلالة على الأغراض[1] (عبد القاهر) أم معنى أولَ مقابل معنى ثان[2] (حازم القرطاجني) أم مادةَ المعنى مقابل شكل المعنى[3] (جان كوهن)، فإن وجه الدلالة على الغرض والمعنى الثانوي وشكل المعنى لا يمكن ضبطه إلا على أرضية مقابلها الحرفي الغرَضي أو الأول أو المادي.
إن جمالية النص تتولد وتترتب عن التجوزات والعدول الملحوظة والتنافرات القائمة بين مادة المعنى وشكله. وليس لعلم الشعرية موضوع جدير به غير فهم هذه العدول والوقوفِ على آليات تولدها وموتها وكيفية اشتغالها وتأثيرها في المتلقي. كما يسعى هذا العلم إلى الوقوف على أصنافها وأجناسها وتطورها. إلا أن هذه التجوزات التي تُدعى مقوماتٍ جماليةً أو محسناتٍ بلاغيةً أو انزياحاتٍ، لا يمكن أن تدرك إلا على أرضية التعبير غير الشعري الذي نعتبره ترجمة حرفية لهذه العبارة الشعرية. وما دام قصدنا هنا هو محسنات المعنى أي المحسنات المجازية، فمن الواجب وضع اليد على أرضية هذا المجاز الذي هو عبارته الحرفية.
1.1. حرفية أسماء الأعلام
حينما نشمل بهذا المنظور ديواناً كاملاً، وليكن ديوان الفروسية[4] للشاعر المغربي الكبير أحمد المجاطي،[5] نتمكن من إحكام القبضة على هذا المعنى الحرفي من خلال أغلب العناوين التي يضعها لقصائده. وهذه العناوين تحيل في غالبيتها على أسماء أماكن ومدن وعواصم عربية. القدس، وكتابة على شاطئ طنجة، وسبتة، والدار البيضاء، ووراء أسوار دمشق، وملصقات على ظهر المهراز. إننا لا نشك في حرفية هذه العناوين. وإذا أضفنا إلى هذه العناوين الستة القائمة على العَلَمِيَّة المكانية، دار لقمان 1965، المستندة على العلمية الزمنية أدركنا الأهمية القصوى التي تلعبها هذه الإحالات المرجعية ودورها في تسييج المعنى المهيمن في الفروسية. ومع هذا وجبت الملاحظة هنا ونحن نتطرق إلى مشكل جانبي في استخدام الأعلام استخداماً غيرَ حرفي كما هو الأمر في لقمان، أن هذا الاسم هو بالضرورة مستخدم استخداماً معدولاً، إذ إن لقمان عاش في عهد غابر ليس العهد المشار إليه بتاريخ 1965. هذه مسألة سنعود إليها لاحقاً. نكتفي هنا بالقول إن هذا التاريخ وهو حرفي الدلالة، يشير إلى لحظة حاسمة في تاريخ المغرب؛ ويتعلق الأمر بانتفاضة شعبية في الدار البيضاء. وهذا يعني بكل بساطة أن هذا العنوان بدوره ذو طبيعة شبه حرفية، مضمونها هو الدار البيضاء. ألا يقول الشاعر في تلابيب القصيدة:
تَناءَتْ سَفْرَتِي
نَادَيْتُ
مَا أَجابَتْ السُّـيُوف
يادَارَنا البَيضَاء
مَنْ أسْرَى بِريشٍ منْ جَناحِ الَّليْل
فِي عَينَيكِ
دَقَّ الفَجْرَ مِسْمَارا.[6]
بهذا نكون قد أحطنا بشكل إجمالي بالقصائد التي تتخذ عناوينَها اسمَ المرجع أو العلم لا اسمَ الجنس. وهذه المراجع ـ العناوين هي كلها مدن وعواصم مغربية عربية.
هذا التعيين للمعنى الحرفي، أرضيةِ المعنى المجازي، غاية في الأهمية إذ على أساسه تتبدد سُجُفُ الغموض الذي اشتهر به الشعر الحديث.
هذه الأعلام المكانية هامة جداً هنا، إذ هي التي يعتبرها بعض اللسانيين الكلمات الدالة حقاً دون الكلمات الدالة على الجنس. يقول جُونْ لَايْنسْ: "ينبغي، لكي تُوفَّقَ العبارة الإحالية، أن يختار المتحدِّث عبارة إحالية ــ خاصة اسم علم أو مركب اسمي محدَّد أو ضمير ـ تسمح للسامع، حينما تستعمل بالتوافق مع قواعد النسق اللساني، في سياق التلفظ، بعزل الإحالة عن كل الإحالات الممكنة"[7]. إن اسم جنس "مدينة" ليست دالة في نظرهم كما يدل اسم العلم "الرباط".
تدعم هذه العناوين العلمية لقصائد الفروسية بأعلام أخرى حرفية تتخلل قصائد أخرى في الديوان. إن قصيدة الخمارة تحتضن مقطعاً تتخلله أسماء أعلام عديدة:
إنَّ العَمائِمَ تَنْبتُ كَالفُطرِ
مثْلَ النُّجومِ عَلَى كَتفِ الجِنِرالَاتِ
والسُّجونِ الَّتِي تَمْلأُ الرَّحْبَ
بَيْن الرِّباطِ وصَنْعَاءَ
مثْلَ الْجُسورِ الَّتِي نَسفَتْ
خَطَّ بَارْلِيفَ
أَينَ الطَّرِيقُ إِلَى جَبَلِ الشَّيْخِ.[8]
ومن هذا أيضاً قوله:
فهَلْ تَعْلَمُ الطِّفلَةُ
القُبَّرهْ
حِينَ يْحِملُ مِنْقارُها
جبَلَ الرِّيفِ لِي والسُّهولَ الفَسيحَهْ
بَيْنَ الرِّباطِ وطَنْجَة. [9]
ومن هذا أيضاً، قوله:
لفَظتْهُ آلِهَة الثَّمَانِينَاتْ
فانْتَعَلَ الْهوَاء
وعَدَّ عَكْساً
مَا تَواتَرَ
منْ سُلالاتِ الدَّقائِق
فاسْتوَى نَهراً
بِبَابِ الَخَمْسِ والسِّتِّين.[10]
هذه الإشارات الزمنية، خلافاً للإشارات المكانية، يصعب اقتلاعها من مسارها الزمني وغرسها في الحقول الاستعارية. ولهذا يمكن القول إنها أشد التصاقاً بحرفيتها. إن الأعلام الشخصية قابلة للنقل الاستعاري شريطة أن تدل على شخص اشتهر وذاع بصفة ما. إن حاتم الطائي يستخدم، بسبب شهرته بالكرم، استخداماً استعارياً للدلالة على شخص كريم. وتبيح شهرة الحجاج الدموية استخدامه استعارياً للدلالة على شبيهه. ويقدم المجاطي مثالاً لطيفاً في قصيدته "دار لقمان 1965"[11] إننا نبادر بمجرد النظر إلى تأويل لقمان[12] بوصفه قناعاً دالاً على شبيه به.
ومن الأعلام المستخدمة في الفروسية مراكش والأطلس[13]، والقصر والرباط وزَلاغْ[14] ، ووهران ومكة وطور سينيناَ[15]. وهذه القصيدة تفرض علينا الواجبات العلمية الاستشهاد يجزء منها، فقد بشر المجاطي بما تعيشه المدينة منذ أزيد من أربعين سنة. يقول المجاطي:
فَجِئتُ إِلَيْكِ مَدْفوناً
أنُوءُ بِضَحْكةِ القُرصَانْ
وبُؤْسِ الفَجْرِ
في وَهْرَان
وصَمْتِ الرَّبِّ فِي خَراِئبِ مَكَّة
أوْ طُورِ سِينِينَا.[16]
ويقول أيضاً:
دِمشْقُ عَلى سَفْحِ قَاسْيونَ بَانَه
وشَاهِدُ قَبْرٍ جَفَتْهُ الْمَنُون
دِمَشْقُ تَخُون
وَيُبحِرُ بَابُ دِمشْقَ
ومَلْهَى الوَلِيد
وقَصْرُ هِشَام
وتُبحِرُ حَتَّى قُبورُ الشَّام.[17]
هي هذه أغلب الأعلام المكانية الحرفية التي التجأ إليها المجاطي. وهي كلها أعلام مدن عربية تعاني من التسلط والهزائم والهوان. يمثل هذا النُّسغَ الأساسي لدلالة الفروسية.
2.1 . حرفية أسماء الجنس
إلا أن لهذا الديوان، الفروسية، رافداً دلالياً حرفياً آخر مهماً أيضاً. لنتأمل أول قصيدة في الديوان: "الخوف". إن محتوى القصيدة هو، كما تفوح العبارة المتكررة على امتدادها، "الكلمة الصغيرة". وكنت أتمنى أن تعنون بدل "الخوف" "الكلمة الصغيرة". والمقصود الكلمة المضَلِّلة الخادعة المزيِّفة للحق والحقيقة المتنكرة للإنسانية. لقد تكررت العبارة في القصيدة ثلاث مرات وتحققت في ضميرٍ ما يقرب من عشرين مرةً وتحققت في كلمات جناسية مرتين "مملكتي مملكة". ووردت في كلمات مترادفة أو كلمات مجازية مرسلة دالة عليها أزيد من سبعِ مراتٍ. هذه القصيدة "الخوف" تحتل فيها الكلمة الحيز الأكبر. وليس هذا غريباً من شاعرٍ عاشقٍ لنقاء الكلمة. ومات ولم تتلطخ كلماتُه، أي شعرُه. يقول المجاطي:
الكَلِمَة الصَّغيرَة
تُقَالُ
أوْ تُخَط
تَمْشِي بِهَا الرِّياح
أوْ تَبُثهَا الرِّمال
فِي الصَّحْرَاء
تُولَد
أوْ تَكُون
أوْ تَصُوغُها
مُصَادَفاتُ الصَّخْب
وَالضَّوْضَاء.[18]
تنضوي هذه القصيدة في الديوان تحت عنوان أشمل هو "افتتاح" الديوان. ويقابل هذا الافتتاح "خاتمة" الديوان التي جاءت عبارة عن قصيدة "الحروف". وترتبط هذه القصيدة بالأولى بعلاقة طباقية جدلية. فإذا كانت الأولى ذات تلوين شجني يميل إلى اليأس فإن الأخيرة أميل إلى المناخات الحاملة للبشارات التطهيرية:
هيَ كَلِمَةٌ خَفقتْ
بِسبْعةِ أَحْرُفٍ
وأَجازَهَا الدَّمُ
قبْلَ أنْ تَفْتَضَّها
السَّبْعُ الخَطايَا
وأنَا الَّذي آنَسْتُها
ناراً
وجَدَّلْتُ السَّرايَا
عَبْرَ أحْرُفِها
لتَقْتَحِمَ السَّرايَا
أأَقُولُ جِئْتُ أَمُدُّ جِسْراً
مِن جِبالِ الرِّيف
جِئْتُ بِخَيْلِ طَارِقْ
وعَقدْتُ أَلْوِيَةَ الرِّفاقْ
وَرَاءَ عُقْبَة
أمْ أَتَيْتُ أُعَلِّمُ الفُرْسانْ
كَيْفَ تَغصُّ بِالدَّمْعِ
البَنادِق.[19]
ينبغي التنبيه على أن بناء ديوان الفروسية بناء خطابي. أي ذو بناء شبيه ببناء الخطبة. إن هذه تتألف من أربع محطات هي: الافتتاح والعرض والحجاج والخاتمة. وكذلك هذا الديوان يتألف من الافتتاح والفروسية والسقوط والخاتمة.
افتتاح الديوان وخاتمته يمتحان من نفس المعين، أي اللغة: الكلمة والحرف. فلو تأملنا قصيدة "مشاهد الحكمة في دار لقمان" لوجدنا كلماتها تنتظم في خيط الدلالة على الكلام.
هَا أنَا ذَا أَنْبشُ فِي الَأَوْراق
ألُمُّ أطْرافَ الْحرُوف
أقرَأُ الإِشارَة
واللُّغْز
والطِّلِّسْمَ
والتَّمِيمَة
أقْرَأُ عَلَّ الحِكْمَة القَدِيمَة
تُخْرِجُ مِنْ أَثْوَابِهَا الصَّفرَاء
مِنْ مِحْبَرةِ الْهَزِيمَة.[20]
كَتَبْتُ فَوْقَ الظِّلِّ
كتَبْتُ في سَوالِفِ السَّحابْ
كَتَبْتُ فَوْقَ قَدَمِ الثَّوانِي
النَّهْرُ دِيوَانِي
وأَنْتَ لَا تَسْأَلُنِي
لَا تَرْفَع الحِجاب
عَلَى أَنفِي الْمجْدوع عَنْ لِسانِي.[21]
هذه دلالات حرفية على اللغةِ والكلامِ الذي يخدم انتصار الإنسان على التخلف والقهر والهزيمة. وفي دار لقمان 1965. يقول المجاطي:
بقِيَّةُ الْحَدِيثِ
صَمْتٌ
فاغْمِس رِيَاحِي
فِي الدَّمِ
يَامَقْبَرَةَ الْمَدِينَهْ
مُدِّي مِنْ الْأسْلاك
وَالسَّكِينَة
نَاراً تَفُكُّ الْحَرْفَ
مِنْ شَواهِدِ القُبُورْ
مَتَى يَدُقُّ الْجَبَلُ الْمَوتُورْ
طُبُولَهُ
مَتَى يَفِيضُ التَّمْرُ والحَلِيبْ
فِي الشِّفَاه
دِمَشْقُ لَا تَمُدُّ لِي ثَدْياً
وَلَا تَبُلُّ فِي يَفَاعَةِ الْمِيَاهِ
يُبُوسَة الْمَشِيبِ فِي الْجُنُونِ
بُؤْسَ الْحَرْفِ
فِي الـمَتاه. [22]
إذا كانت الكلمات ذاتُ الدلالةِ المرجعية متسلطةً على الشاعر أحمد المجاطي وعلى أغلب عناوين قصائد الفروسية وعلى العديد من مفاصل قصائد الفروسية، وإذا كانت هذه الدلالة الحرفية تجد المبررَ والمسوغ في ذاتها، وبالخصوص حينما يتعلق الأمر بأسماء أعلام الأماكن، فإن الدلالات الحرفية على الكلام واللغة والقول الشريف والخائن يجد المبرر والمسوغ خارج الذات. إننا نؤكد أن هذه الدلالية حرفية نظراً للصورة التي تكونت لدينا عن هذا الشاعر المعروف: أحمد المجاطي. إن صورته عندنا هي صورة شخص احترف الكلمة الشريفة، ولأجلها عاش ومات.
لقد أشرنا سابقاً إلى البناء الخطابي لديوان الفروسية، أي الافتتاح والخاتمة الذين يتخذان موضوعهما من الكلام. نشير هنا أيضاً إلى أن الحلقتين الممتدتين بينهما تتوزعان على موضوعين كبيرين؛ أولهما هو هموم العالم العربي التواق إلى الانعتاق الاجتماعي والحرية السياسية والتخلص من الاستعمار والصهيونية، وثانيهما هو موضوع اشتهر به أحمد المجاطي ألا وهو الخمرة. ففي هذا الإطار أنتج المجاطي قصائد بالغة الجمال والدرامية. لنشر على سبيل التمثيل إلى قصيدتي الخمارة (ص. 99) والسقوط (ص. 63). إلا أن هذه الموضوعة منتشرة في الكثير من قصائد الفروسية. هي هذه الموضوعات الكبرى التي يتنفس فيها ديوان الفروسية. إلا أنه بالإمكان متابعة هذا التفصيل لكي نشير إلى موضوعات ثانوية أخرى. إلا أن هذا الغرض التفصيلي ليس قصدنا الآن وإلا لوقفنا عند موضوعات من قبيل المحتويات الميتافزيقية في ديوان الفروسية.
هذه الموضوعات، المدلول عليها بالدلالات الحرفية العلمية أو الجنسية، أي العالم العربي وضمنه المغرب والكلمة والخمرة، هي التي تشكل المفاصل الكبرى للرؤية المجاطية إلى العالم. قد تبدو الخمرة جسماً غريباً بين الكلمة والعالم العربي. إلا أن الواقع هو أن المجاطي الذي عاش ملء جوارحه وعقله محنة العالم العربي مع التخلف والفقر والقهر، كان يبحث عن جواب ما أمام هذا الإشكال المروع. وبطبيعة الحال لم يلمح المجاطي أي مخرج لهذه المحنة، بل لقد تتالت على العالم العربي عوامل اليأس والإحباط: ثورات مغدورة وسيطرة الامبريالية على العالم العربي ومعها هيمنة إسرائيل وعجز الأنظمة العربية وخيانة المثقفين للمهام التاريخية. كل هذه معاول هدم لأعز ما يملكه أحمد المجاطي، ألا وهو انتماؤه القومي. لقد كان قلبه وتوقد إحساساته الإنسانية أضعف من أن ترى الأمل في هذا الليلِ الحالكِ. لم يجد الشاعر بلسماً أفضل من البوح الشعري عن الاحتجاجات الميتافزيقية والاستسلام شعرياً لمعاقرة الخمرة. وهاتان الموضوعتان المتواشجتان قد تلتحمان في عبارة واحدة كما نجد ذلك في قصيدة الخمارة :
حينَ أَخْلُو بِهَا
بَعْدَ مُنتصَفِ الَّليلِ
تَرْشُقُ في الخَصْلَةِ المُسْتَرخيةِ
زَنْبَقَةً
تَفتَحُ الصَّدْرَ لِي والشَّوَارِعَ
تَضْحَكُ مِنْ وَجهِيَ المُسْتدِير
قلِيلاً
تُبَادِلُني قُبْلَةً
آه، خدُّهَا بَاردٌ حِينَ أَوغَلَ فِي البُعْدِ
وامتَدّ بَيْنِي وبَيْنَ الزُّجَاجة
صَوتُ المُؤذِّن:
إن العَمَائِمَ تَنْبُتُ كالفُطرِ
مِثلَ النُّجُومِ عَلى كَتِفِ الجِنِرَالاتْ .[23]
وقد تأتي الموضوعتان مرفقتين بالوصف المنفر لرموز السلطة.
ومن هذه الاحتجاجات الميتافزيقية قوله في قصيدة القدس:
فَجِئتُ إِلَيْكِ مدفُوناً
أَنوءُ بِضَحْكَةِ القُرصَانِ
وَبُؤْسِ الفَجْرِ
فِي وَهْرَانْ
وَصَمتِ الرَّبِّ في خرائب مكَّةٍ
أو طُورِ سِينِينَا.[24]
والأشد مرارة مما تقدم قول المجاطي في قصيدته "من كلام الموتى"
تَجاوَزنِي الْمَدَى
وانْحَلَّ مَا بَينِي وَبَينَ الله
تمَزَّقَ كلُّ شَيء فِي يَقِينِي.[25]
وقوله في قصيدة "كتابة على شاطئ طنجة":
آه أَمْسَى جَبَلُ الرِّيفِ سَرَادِيبَ
وَعادَ الصَّمْتُ مِنْبَرْ
لا تَقُلْ هَذا وَطنُ
الله
ففِي طَنْجَةَ يَبْقى الله فِي مِحرَابِهِ الخَلْفيِّ
عَطْشَانَ
وَيَسْتَأْسِدُ قَيْصَرْ.[26]
هي هذه أسئلة الواقع على أحمد المجاطي، وهي هذه أجوبته التراجيدية. تشكل هذه الأسئلة وهذه الأجوبة الحلقات المتصلة لرؤيته إلى العالم.
لقد كان المجاطي ينشد الخلاص للعالم العربي خلاصاً من كل ما يحرمه إنسانيته. ولم يكن مشغولاً أبداً بخلاص شخصي. لم يكن أبداً يحلم بالمساومة مع النظام القائم لأجل ترقيع وضعه على حساب وضع الشعب. إن أُفُقه هو أفق حياة إنسانية لكل الشعب والأمة العربية.
هذه المحتويات ذات الطبيعة الاحتجاجية والنقدية المنكشفة عبر لغة تعيينية تشكل إلى جانب البناء الخطابي الحريص على التواصل والتلقين واللغة المعتمدة على العلَمِية بكل تلويناتها الزمانية والمكانية والشخصية وعلى اللغة المشتركة ذات الدلالة المتداولة تشكل نُسغَ لغة المجاطي الشعرية. إلا أن شاعرنا حينما يتزود من اللغة الاستعارية التجوزية لا ينساق أمام إغراءاتها. إنه يخص الاستعارات المتداولة بحظوة مثيرة.
3 .1. الاستعارات العرفية
الاستعارات العرفية هي الحلقة الوسيطة بين الدلالة الحرفية والاستعارات الخاصة. إن الدلالة الشعرية المجازية لا تتحقق إلا حينما تتمرد على الحرفية. إلا أننا نفترض بين النثرية الخالصة والشعرية الخالصة محطة وسيطة هي التي أدعوها شعرية أو استعارية مستهلكة أو عامة أو بكل بساطة استعارات عرفية. هناك جنس من الاستعارات التي لا يبتكرها الشعراء وإنما يتناولونها جاهزة من إرث الثقافة التي ينتمون إليها. إرث الأمة أو الإنسانية. بل إن هذا المخزون الاستعاري العرفي يمثل رصيداً وركيزة أساسية من ركائز ثقافة شعب ما. إذ إن لكل شعب وثقافة نظامه الخاص في الدين والطقوس والأسطورة واللغة والفن والعمل والترفيه إلخ. وتمثل الاستعارات العرفية الشائعة بين كل الناس أحد الأعمدة الأساسية التي تستند عليها ثقافة شعبٍ ما. بل أحد الأعمدة التي ترسخ الرابطة الجماعية، أي ما يسميه شَايمْ بِيرِلْمَانْ communion التشارك":
"إن محسنات التشارك هي تلك التي يُقصدُ من ورائها، باعتماد مقومات أدبية، إلى خلق أو تأكيد التشارك مع المستمع. هذا التشارك هو في الغالب حاصلٌ بفضل الإحالات الثقافية، وتقليد ما وماض مشترك"[27].
يقابل هذا الجنس من الاستعارات العرفية التي تترسخ بها الآصرة الجماعية، جنسٌ آخر من الأستعارات التي لأدعوها خاصة. إنها استعارات لا تنسب إلا إلى مبدعها الذي تحمل توقيعه. وهي ترسخ الأنا مقابل الجماعة. إن استعارة المتنبي:
هوَ البحرُ غصْ فيه إذا كانَ ساكِناً علَى الدُّر واحذرهُ إذا كَان مُزبِداً.
أي استعارة البحر للمدوح السخي من قبيل الاستعارات الشائعة التي ذاعت في الثقافة العربيةّ. وكذلك استعارة الأنوار والظلم للدلالة على المعرفة والجهل في قول أبي الطيب المتنبي:
ومَا انتفاعُ أخي الدنيَا بناظرِهِ إذا استوتْ عندهُ الأنوارُ والظُّلَمُ.
إن الشاعر أحمد المجاطي المنافح عن قيم التحديث وعن المقهورين والحلم بحياة إنسانية لكل مستضعفي الأمة العربية تتغذى قصائده من هذه الاستعارات الموروثة والشائعة. قد تكون استعارة الفجر، الاستعارةَ الشائعةَ بل الشعبيةَ الأكثرَ تواتراً في "الفروسية" بمعنى الخلاص والتحرر والانعتاق. ولو أننا قصدنا إلى مجرد التمثيل لتوقفنا مع المجاطي عند قصيدة "عودة المرجفين":
حِينَ عَادُوا كَحَّلَ الصَّمْتُ جُفُونَهُ
مَدَّ لِلْفَجْرِ يَداً
أرْخَى جُنونَ الضَّوْءِ
فِي لَيْلِ الْمَدِينَه
وأفَاقَ الغَجَر الْمَصْلُوب
والْخَمْرُ اسْتَباحَتْ خُلْوَةَ الصَّفْصَافِ بِالشَّمْسِ،
ارْتَمَتْ نَهْراً عَقِيقِياً
وبَاتَتْ دَارُنَا تَكْبُرْ
وامْتَدَّتْ مِنَ الفَرحَةِ غَابَاتٌ
وسَالَ النَّجْمُ فِي الرَّمْلِ
فَلوْ فَجَّرتْ أَحزَانَ اليَتَامَى
فِي جَناحِ الَّليلِ لاخْضَلَّتْ يَنَابِيعٌ
وفَاضَ اللَّحْنُ فِي الكَأسِ الْحَزِينَة.[28]
ومن الفجر أيضاً قوله:
مَدَدْتُ إِلَيكِ فَجْراً مِنْ حَنِينِي . [29]
[…]
فَجِئْتُ إِليْكِ مَدْفُوناً
أنوءُ بِضحكَةِ القرصانِ
وبُؤسِ الفَجْرِ
[…]
وتَلْتَفِتِينَ لَا يَبقى مَعَ الدَّمِ
غَيْرُ فَجْرٍ فِي نَواصِيكِ.[30]
وفي قصيدة "السقوط" يتعانق المعنى الحرفي والمعنى الاستعاري تعانقاً حميمياً رائعاً:
فِي اللَّحْظَةِ الأَخِيَرة
إِذَا تَلَاشَى الَّليْلُ
فِي سَعْلَتِهِ الضَّرِيرَة
يَرْفُضُ أَنْ يَغْسِلَنِي الفَجْرُ
وأنْ تَشْرَبَنِي الغَمَامَة
أَبْقَى وَرَاءَ السَّيْفِ
والغَمَامَة
مُلْقَى علَى ظَهْرِ الثَّرَى
مُلْقًى بِلا قَبْرٍ
ولا قِيَّامَهْ.[31]
ويقول المجاطي:
دِمشقُ على مَتنِ ظَبيةِ بانِ
تعودُ إلى شَاطِئ الأطلسيِّ
تمدُّ ظفَائِرهَا
تَتجدَّدُ
تغدُو ولادةَ حَرفٍ
وفرْحةَ بدءٍ
وفجرَ حَقيقَة.[32]
ويقول في قصيدة كتابة على شاطئ طنجة:
جبَلُ الرِّيفِ علَى خاصِرَةِ الفَجرِ
تعثَّرْ.[33]
ويقول عن النجم وهو مقابل كنائي للفجر:
وَكيْف تُسامرُونَ النَّجمَ بعدَ غيَابِه.[34]
ويقول جامعاً بين استعارتي النجم والليل:
يسْمرُ عند أبْوابِي نُباحُ اللَّيل
وَيرقُصُ في بَصيصِ النجْمِ
ظلٌّ من شياطِين.[35]
وإذا كان النجم الاستعاري ينافس لفظَ الفجر كما ينافس نقيضَه الليل فإننا نود أن نقف عند لفظ استعاري آخر مرتفع إلى مستوى الرموز الإنسانية، ألا وهو "النهر" الذي عشقه المجاطي أيما عشق. ولعل أجمل مثال على رمزية النهر الصيغة الدرامية التي قدمها في قصيدته سبتة:
أنا النَّهرُ
أمتَهِن الوَصلَ بيْنَ الْحَنيِن
وبين الرَّبابة[36]
وبَينَ لهاثِ الغصُون وَسمْع السَّحابَة
أنا النهرُ أسْرجُ هْمسَ الثَّوانِي
وأَركُب نَسغَ الَأغانِي
وأَترُكُ للرِّيحِ والضَّيفِ صَيفِي
وَمجدُولِ سَيفِي
وَآتي عَلى صَهْوةِ الغَيمِ
آتي علَى صهْوةِ الضَّيْم
آتِي علَى كُل نَقعٍ يثَار.
وَآتيكِ.[37]
ومن هذه الاستعمالات الرمزية للنهر قول المجاطي في "قراءة في النهر المتجمد"
يَحمِلُ في غُثّائهِ الأَشْجَارَ
وَالكُتُبَ الصَّفرَاء
والمَوائِدَ
والصَّمْتَ والقَصَائِدَ
ودارَ لُقْمَانَ
وَأطْلَالَهَا
والمْـدنَ والأَسْوارَ
حتَّى إِذا أتَى رِحَابَ القُبَّةِ السَّعيدَة
ألْـقَى نِـثَارَ الْغَضْبَةِ الحمْراء
وصَار خَيطَ مَاء
[…]
وهَا أنَا على مَدارِ النَّصر والهَزِيمَة
أُمسِكُ حَدَّ السَّيفِ
ماءَ النَّهْرِ
رأسَ الوَطنِ المقْطوعِ
لونَ العَلَمِ المرْفوعِ
أُمسِكُ
ها …
كبرت يانهر نَمَتْ مِن حَوْلك الأغصانْ
وخَرجَت أحْجارُك السَّودَاء
مِنْ أسمَائِهَا.[38]
والواقع أن ثبات مثل هذه الاستعارة وتواتر استعمالها بنفس المعنى في تراث الإنسانية هو الذي يسمح بتسميتها رموزاً كونية.
لا يمكن في سياق الفروسية الحديث عن الاستعارات العرفية مثل: الفجر والنجم والضوء والشمس والصبح دون الخوض في مقابلاتها من قبيل الليل والصمت والأطلال والعتمة الخ. وهي تحمل كلها دلالات مناقضة للفجر. لنتأمل المثال الآتي من قصيد "دار لقمان 1965"
ويكذبُ النجمُ وتبقَى الرُّؤَى
مبحِرةً في لَيلِ تَسآلِها
ويسْفرُ الصبحُ ولما تَزلْ
أطلالُ لقمانَ علَى حالِهَا.[39]
وفي كل الأحوال ففي الفروسية فيض من هذه الاستعارات التقليدية الموروثة العرفية منها:
الصمت:
وتَسقُط كلُّ البنَادِقِ
قَتلَى
وتدْخلُ كلُّ الدوَاوينِ في زَمنِ الصَّمتِ
والدَّمعَة الماَلحهْ.[40]
ويقول :
يَحمِلُ في غُثّائهِ الأَشْجَارَ
وَالكُتُبَ الصَّفرَاء
والمَوائِدَ
والصَّمْتَ والقَصَائِدَ
ودارَ لُقْمَانَ
وَأطْلَالَهَا
والمْـدنَ والأَسْوارَ.[41]
ويقول:
رَأَيْتُكِ تَدْفَنِينَ الرِّيحَ
تَحتَ عَرائِشِ العَتْمَهْ
وتَلتحِفينَ صَمتَكِ
خَلفَ أعْمدَةِ الشَّبابِيكِ[42]
ويقول:
حينَ عَادُوا كَحَّلَ الصَّمْت جفُونهْ
مدَّ للفَجْر يَداً
أرْخَى جُنونَ الضَّوءِ
في لَيلِ المْدِينهْ.[43]
ويقول في نفس القصيدة
كذِبْتِ يارُؤْيَا
طَرِيقُ الصَّمْتِ لا تُفضِي
لغَيرِ المقْبرَهْ
ومن هذه الاستعارات العرفية العتمة. من استعمالاتها عند المجاطي قوله:
تخْرجُ الأكْفانُ مِنْ أجْداثِهَا
يوْماً
وتَبقَى هَاهُنا العتْمَه.[44]
وكذلك استعمل هذه الاستعارة في قصيدة القدس[45]
ومن هذه الاستعارات العرفية "النسر". يقول:
لم تَمُتِ النُّسُورْ
لكِنَّ لقْمانَ الحَكيمَ
مَاتْ.[46]
ومنه أيضاً:
ظنَنَّا النَّسْرَ حَطَّ عَلى
مَدينَتكُمْ
فأيْنَ مَضَى؟[47]
ومنه أيضاً:
وكَانَ ريشُ النَّسْرِ
في جِراحِنا العَمِيقَهْ
فَماً
وتَوْقاً ضَامِئاً
لِدَقَّةِ الطُّبولْ.[48]
ومن هذه الاستعارات "القرصان":
أرْسُم فوقَ جَبهَةِ القُرصانِ
عَلامَة الثَّورةِ.[49]
ومن هذا أيضاً:
فَجئْتُ إليكَ مَدفُوناً
أنوءُ بضحْكةِ القُرصَانِ
وبؤْسِ الفَجْرِ
في وَهْران
وصَمتِ الرَّبِّ في خَرائِبِ مَكَّة
أو طُورِ سِينينَا.[50]
ومن هذه الاستعارات "الثعبان والعقرب"
تحُزُّ خَناجِر الثُّعبَانِ
ضوءَ عُيونِك
الأشْيب.[51]
هذه المحتويات ذات الطبيعة الاحتجاجية والنقدية المنكشفة عبر لغة تعيينية تشكل إلى جانب البناء الخطابي الحريص على التواصل والتلقين واللغة المعتمدة على العلمية بكل تلويناتها الزمانية والمكانية والشخصية والمعتمدة على اللغة المشتركة ذات الدلالة المتداولة تشكل نُسغَ لغة المجاطي الشعرية. إلا أن شاعرنا حينما يتزود من اللغة الاستعارية التجوزية لا ينساق أمام إغراءاتها. إنه يخص الاستعارات المتداولة بحظوة مثيرة.
4.1. الاستعارات المبتدعة المجاطية
وكما نتحدث عن الاستعارات العرفية التي تعزز الانتماء الجماعي في ديوان الفروسية فإننا نلاحظ أن هذا الديوان يعرض بعض الاستعارات العرفية عند الشاعر وحده. هذه استعارات عرفية خاصة يبتكرها الشاعر، إلا أنه لسبب من الأسباب يعمد إلى الإلحاح عليها ومعاودة استعمالها مرات عديدة في ديوانه. إنها استعارات تسلطية، إذا جاز القول، بل نستطيع نعتها بالرموز الشخصية. ولا تحظى بهذه التسمية في رأيي إلا حينما يتواتر استعمالها بنفس المحتوى. وإن كان هذا لا يمنع استعمال نفس الكلمة بمعنى حرفي. من هذه الاستعارات "الريح". يقول المجاطي في "كبوة الريح":
علَى المُحِيط يَسْترِيحُ الثَّلجُ
والسُّكوت
تَسَمَّر الْمَـوْج علَى الرِّمَال
والرِّيحُ زَوْرَقٌ
بِلا رِجَال
وبَعْضُ مِجْذافٍ
وَعَنْكَبوت[52].
ويقول :
وكَانَ رِيشُ النَّسْرِ
فِي جِراحِنا العَمِيقَة
فَماً
وَتوْقاً ظَامِئاً
لِدَقةِ الطُّبُولْ
لِعَصْفةٍ مِنْ كَرَمِ الرِّيحِ
تَبلُّ رِيقَهْ
ويقول في عودة المرجفين:
ياقلباً رَمَى المِرسَاةَ
- الجَرِيئَة[53].
ويقول في قصيدة "سبتة":
أنا النَّهرُ
أمتَهِن الوَصلَ بيْنَ الْحَنيِن
وبين الرَّبابة[54]
وبَينَ لهاثِ الغصُون وَسمْع السَّحابَة
أنا النهرُ أسْرجُ هْمسَ الثَّوانِي
وأَركُب نَسغَ الَأغانِي
وأَترُكُ للرِّيحِ والضَّيفِ صَيفِي
وَمجدُولِ سَيفِي[55].
ويقول في قصيدة "القدس":
رَأَيْتُكِ تَدْفَنِينَ الرِّيحَ
تَحتَ عَرائِشِ العَتْمَهْ[56].
ويقول في قصيدة كتابة على شاطئ طنجة:
هَبَّتِ الرِّيحُ مِنَ الشَّرْقِ
زَهَتْ فِي الْأفْقِ الغَرْبِيِّ
غَابَاتُ الصَّنَوْبَر[57].
وفي قصيدة الدار البيضاء يقول:
هَا أَنَذَا أُمْسِكُ الرِّيحَ
أَنْسُجُ مِنْ صَدَإِ القَيْدِ رَايَهْ[58].
ومن هذا أيضاً:
يَاأَحِبَّائِي مَضى أَبَدٌ وَلَمْ يَمتَدَّ جِسرٌ
بَيْنَنا
مَا عَادَتِ الْأَفرَاسُ تَجْمَحْ
أوْ تَصولُ الرِّيحُ[59].
ومن استعارات المجاطي الشخصية المتواترة، أي الرمزية الشخصية "الخمرة". إن هذه اللفظة يستعملها في الواقع استعمالين: حرفي موصوم، واستعاري موسوم ومحبوب. فمن هذا الاستعمال الثاني قوله:
وَالْخَمرُ اسْتبَاحَتْ خُلْوةَ الصَّفْصَافِ بِالشَّمْسِ
ارْتَمَتْ نَهْراً عَقِيقِياً
وَبَاتَتْ دارُنَا تَكْبُر[60].
ويقول في كبوة الريح:
التَّائِهُونَ فِي مَدارِ الوَخْدِ
يَحْلُمونَ
بِلَحْظَةٍ يَنْحَسِر الزَّمانُ
فِيهَا وَرَاءَ كَانَ
وَبَعدَمَا يَكُون
رأَيْتُهمْ يُصاوِلونَ النَّجْمَ
يَرقصُونَ
والخَمْرُ وَالْمرَايَا
وَالكُحلُ فِي الْجِراب
ونَكهَةُ الخمْرِ علَى أَسِنَّةِ
الْحِرَاب[61].
ولعل أجمل ما نستشهد به هنا قولة المجاطي في قصيدة وراء أسوار دمشق:
وحِينَ تَجَلَّتْ
وحِينَ تَمازَجتِ الرِّيحُ والْخَمرُ فِيها
وأمْسَت وِلادَة حرْفٍ
وفَرحَةَ بَدءٍ
وفَجرَ قَصيدَة[62].
ملاحظة أخيرة على الاستعارات العرفية العامية والعرفية الشخصية. الاستعارات الأولى يتناولها الشاعر جاهزة من مستعملين داخل نفس الثقافة أو التقاليد الأدبية العريقة التي يُستَعَان بها لتقوية الآصرة الجماعية. إن تأويلها معطى جاهز، ولا مجال للابتكار أمام الشاعر ولا أمام المتلقي، في حين أن الاستعارات العرفية الشخصية يبتكرها الشاعر، إلا أن تأويلها لا يتم ولا يتأكد إلا بتعاضد استعمالاتها المتكررة فهذه الاستعمالات المتكررة هي التي تؤكد تأويلها الاستعاري الثابت.
ومن تلوينات هذه الاستعارات العرفية ما يدعوه جابر عصفور "القناع" وهو استعمال أسماء الأعلام للدلالة على صفة جنسية. ومن الأقنعة الأعلامية الشخصية التي ألح عليها المجاطي بكثرة إلى حد أشرف بها على الابتذال، قناعا لقمان وحنين. يقول في أولهما:
يادَارَ لُقمَان
موَائِدُ الَأمْطارِ فِيكِ
والرَّدى
والرِّيحُ والأَشعَارْ
فكَيفَ لَا يُورِقُ بَيْن هَذهِ
الأَسوَارْ[63].
ويقول:
تَفجَّرتْ أَطلَالُ لقْمانَ
فَكُل حَصْوةٍ نَهرٌ
وكلُّ رملَةٍ سَحابهْ[64].
ويقول في ثانيهما:
فدَوَّمْنا
ومرَّ بِركْبنا المنبتّ
يَمْضَغ عَظْمَ نَاقَتهِ
وفِي عَينيْهِ خفُّ حُنينْ.[65]
تمثل هذه الاستعارات القناعية إلى جانب الاستعارات العرفية العامة أو الشخصية وأسماء الأعلام والجنس أساساً دلالياً قاراً إلى حد ما. ويمكن لهذا الأساس الثابت أن يتخذ أساس التمكن من المعنى والتأويل بمجرد مواجهة الاستعارات المبتكرة أو الفريدة التي يتنافس عليها الشعراء. ولننتقل الآن إلى الاستعارات الابتكارية والفريدة والجديدة أو العقم كما يدعوها النقاد القدماء.
5.1. الاستعارات العقم
إن مفخرة الشعراء هي التمكن من ابتكار الاستعارات التي تستعصي على المحاكاة ولو من لدن الشاعر نفسه. ولعل أرسطو كان يقصد هذا الجنس بقوله في الخطابة:
"أما الأسلوب فمن أهم مزاياه ما يمكن أن يسمى باسم: الوضوح. ويتبين ذلك من أن الكلام إذا لم يجعل المعنى واضحاً، فإنه لا يؤدي وظيفته الخاصة، كذلك ينبغي ألا يكون وضيعاً، ولا فوق مكانة الموضوع، بل مناسباً له، فإن الأسلوب الشعري ربما لم يكن وضيعاً ولكنه ليس مناسباً للنثر، والأسماء والأفعال المناسبة هي التي تجعل الأسلوب واضحاً. أما الأخرى التي تكلمنا عنها في فن الشعر فإنها تسمو بالأسلوب وتزينه. ذلك لأن البعد عما هو معتاد من شأنه أن يجعل الأسلوب أرفع قدراً. وفي هذا المجال، يشعر الناس نحو الأسلوب بما يشعرون به نحو الغرباء والمواطنين. ولهذا ينبغي أن نضفي على أسلوبنا طابع الغرابة لأن الناس تعجب بما هو بعيد، وما يثير الإعجاب يسر ويمتع"[66].
نتبين من خلال هذه العبارة لأرسطو أن الأسلوب الشعري يمتاز بإثارة المتعة والدهشة. تماماً كما أن الأسلوب النثري أي الخطابي لايثير إلا الإحساس بما هو معتاد. فإذا كان النثر يقابل الناس الذين تعودنا على مشاهدتهم صباح مساء، فإن الشعر يقابل الناس الغرباء الذين لم نألف مشاهدتهم ولهذا نعيد النظر إليهم بتجديد الرؤية وكأننا نكتشف ما لم تسبق مشاهدته. وهذا مصدر دهشة ومتعة، أي رؤية غير المألوف. وهكذا ففي كل شعر طابع غريب في العبارة وفي المحتوى. وهذه من الأطروحات الأرسطية الفذة التي تتحدى الزمن. والواقع أن هذا الطابع الغريب يتحقق في جزء كبير منه بسبب الاستعارة.
هذا الجنس من الاستعارات الغريبة هي التي سماها العرب الاستعارات الخاصة أو العُقْم.
يقول حازم القرطاجني: "وهذه هي المرتبة العليا في الشعر من جهة استنباط المعاني، من بلغها فقد بلغ الغاية القصوى من ذلك، لأن ذلك يدل على نفاذ خاطره وتوقد فكره حيث استنبط معنى غريباً واستخرج من مكامن الشعر سراً لطيفاً […] والمعاني التي بهذه الصفة تسمى العقم، لأنها لا تلقح ولا تحصل عنها نتيجة ولا يقتدح منها ما يجري مجراها من المعاني. فلذلك تحاماها الشعراء وسلموها لأصحابها، علماً منهم بأن من تعرض لها مفتضح"[67].
لنتذكر مجرد تذكر تشبيه المتنبي لطهرية امرأة بعبارته:
حَصانٌ مثل ماءِ الْمُزنِ فِيهِ كَتُومُ السِّرِّ صادِقةُ الْمَـقَالِ
وقوله:
أرَاقِبُ وَعْدهَا مِنْ غَيرِ شَوقٍ مُراقَبَة الْمَشوقِ الْمسْتهَامِ
وتشبيه امرئ القيس الذي يتحدى الزمن وكل الشعراء
ولَيْلٍ كمَوْجِ البَحرِ أَرْخَى سُدولَهُ علَيَّ بِأَنوَاعِ الْهُمُومِ لِيَبتَلِي
مثال هذه الاستعارات العقم قول المجاطي في رائعته "سبتة":
أنا النَّهرُ
أمتَهِن الوَصلَ بيْنَ الْحَنيِن
وبين الرَّبابة
وبَينَ لهُاَثِ الغصُون وَسمْع السَّحابَة
أنا النهرُ أسْرجُ هْمسَ الثَّوانِي
وأَركُب نَسغَ الَأغانِي
وأَترُكُ للرِّيحِ والضَّيفِ صَيفِي
وَمجدُولِ سَيفِي.
وَآتي عَلى صَهْوةِ الغَيمِ
آتي علَى صهْوةِ الضَّيْم
آتِي علَى كُل نَقعٍ يثَار.
وَآتيكِ[68].
هذه الاستعارة شديدة التفرد، ناصعة الابتكارية. ولهذا فإننا نصطدم ببعض الصعوبة عند محاولة تأويلها. وهذا المعنى يعبر عنه جان كوهن بقوله: "إن السنن الشعري يمكنه أن يتجذر في لهجة شخصية idiosyncrasique لمؤلف كما يتجذر في نفس الآن في السنن الطبيعي أو الثقافي. إن النص يصبح هنا لهجة فردية يغدو معها التفكيك صعباً"[69].
ومع هذا فإننا بالاهتداء بأسماء الأعلام وما يتبعها من قيود وبدائل ضميرية ومحددات، وبالاعتماد على أسماء الجنس والاستعارات العرفية، وهذه كلها دوال تقوى أو تضعف من حيث وضوحها الدلالي، نتمكن من الإحاطة بمعانيها. إننا نتوفر هنا على اسم علم هو "سبتة" كما نتوفر على تكراراته الحرفية وعلى تكراره الضميري في العبارة الأخيرة "وآتيكِ". وكذلك نتوفر على أشهر استعارة عرفية عامة عند المجاطي، وهي النهر. ودلالته هو والضمير الذي يعود عليه واضحان. وبعد هذا التسييج الحرفي نستطيع بسهولة تأويل بقية المفاصل الاستعارية الابتكارية.
ويمكن أن نسلك نفس النهج مع عبارة المجاطي الاستعارية:
جبلُ الرِّيفِ علَى خَاصرةِ الفجْرِ
تَـعـثَّـرْ
هبَّتِ الريح مِن الشَّرقِ
زهَتْ في الأفُـق الغَربيِّ
غاباتُ الصَّـنوبرْ.[70]
هذا النص نتمكن من تأويله بالاستناد على اسم علم هو "طنجة" و"جبل الريف"، فهذه وحدات لغوية قارة المعنى في تعيينيتها، ويتدعم هذا بالاستناد على استعارتين عرفيتين هما "الفجر" و"الريح"، وقد نعثر هنا على أسماء جنس حرفية الدلالة، ألا وهي "الشرق" و"الغرب". وقد نستطيع بعد هذا التسييج الحرفي وشبه الحرفي للاستعارة الابتكارية: "خاصرة" و"زهت" و"غابات الصنوبر" بعفوية متناهية. إلا أن هذه الاستعارات الابتكارية هي النجيمات التي تلتمع في سماء "نثرية" القصيدة أو حرفيتها وشبه حرفيتها.
هذه الضرورة التأويلية قد تخفت كثيراً ولا تبعث أي خرق لتوقعات القارئ، وذلك حين يأتي الشعر خلواً من التحققات الاستعارية العقم أو الفريدة. وإذا كان هذا لايكلفنا أي عناء وقد يشعرنا ببعض الرضى ونحن ندرك المعنى بسهولة، إلا أن هذا الرضى تصحبه خيبة أمل جمالية ناتجة عن كون قدراتنا التأويلية تستسلم للراحة والهمود وتتعطل كفاءاتنا التي تنتج عنها لذات جمالية حينما ندرك المعنى ببعض الجهد وإعراق الجبين، أي حين يأتي المعنى استجابة لما نبذله من جهد، وذلك يشعرنا بأن الخالق ليس هو الشاعر وحده، بل نحن شركاء له في ذلك.
هو هذا السلم الهرمي لبلاغة الفروسية. والمقصود حالات المعنى في ديوان الفروسية من الحرفية الأَعلامية المكانية والزمنية والجنسية والاستعارية العرفية العامة والخاصة والاستعارية الخالصة المتفردة. بهذا نتمكن حقاً من الرسالة التي يمكن للمجاطي أن يقصد إلى توصيلها. إن للمجاطي رسالة يريد تبليغها وهو يبلغها بما يؤمن قدراً عظيماً من المتعة الجمالية التي لا تنسي أبداً المقاصد الحقة لكل تواصل لغوي بما في ذلك الشعري الذي هو دفع بالقدرات التوصيلية اللغوية إلى مداها حيث تصبح شعراً.
2. استعارات قصيدة «سبتة»
إننا نعين، حينما نواجه النص الشعري، هدفين اثنين مترابطين: يتمثل أحدهما في وضع اليد على الرسالة التي يسعى الشاعر إلى توصيلها، ويتمثل ثانيهما في وضع اليد على المقومات الجمالية موضع التلذذ الشعري. هاتان الغايتان كثيراً ما توسل الشاعر بنفس الأداة التعبيرية، أي "الاستعارة"، للتعبير عنهما.
ينبغي، ضمن هذا التصور الذي تحتل فيه الاستعارة الموقع المهيمن، أن نقدم التوضيح الآتي: إننا نزعم أن الاستعارة تحتل في نسق الشعر المعاصر المكانة المهيمنة. لقد تقهقرت مقومات الأوزان والقوافي والمقومات اللفظية المحسناتية، التي كانت تهيمن في القصيدة العربية الكلاسيكية والتي كانت تشمل بسلطتها كل المقومات الأخرى بما فيه الاستعارة. كما تصدَّع النسق "الأغراضي" للقصيدة العربية التي كانت، في رأيي، مقيدة بالوظائف الخطابية المباشرة في كثير من الأحيان. وفي مناخ مثل هذا لم تكن إمكانات التفتح الاستعاري متاحة أمام الشعراء. وعلى العكس من هذا ما تعيشه القصيدة المعاصرة. لقد تحررت من الإيديولوجية السائدة من جهة، ومن متطلبات هذه الإيديولوجية الملزمة بالتشبث والتعلق القسري بالمقومات الجمالية المهيمنة المتكررة على امتداد العصور، والتي تشكل رصيداً من الموروث الثقافي. وكما تحررت الاستعارة، فقد تحررت القصيدة المعاصرة من الخطاطات الإيديولوجية المهيمنة. هذان القطبان اللذان تقوم عليهما القصيدة المعاصرة متلازمان. إننا، لأجل تعيين محتوى القصيدة، نستند على الاستعارة مع ما يقتضي ذلك من عمليات تفكيكية للتمكن من المعنى. ولأجل إحكام القبضة على الاستعارية وما يرتبط بها من جمالية، نستعين بالمعنى في شتى تجلياته، على كل الأصعدة المعجمية والتركيبية والنصية.
2. 1. الإحالات المرجعية والرمزية
يمكن لعنوان القصيدة أن يشكل أحد مفاتيح تأويلها. نلاحظ أن العناوين قد تكون حرفية كما نلاحظ في الأرض لعبد الرحمان الشرقاوي، و محمد لتوفيق الحكيم، والقدس لأحمد المجاطي، ومن العناوين الاستعارية جناحان للريح لشريف حتاتة، وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم وكبوة الريح وخف حنين للمجاطي، ومن العناوين الكنائية أو المجازية المرسلة، بيروت 75 لغادة السمان ووراء أسوار دمشق لأحمد المجاطي.
أغلب عناوين أحمد المجاطي في ديوانه الفروسية[71]حرفية الدلالة. ينبغي تبعاً لهذا التأكيد أن بلاغة عناوين المجاطي مرجعية، أي إن إحالاتها هي تسميات مدن وعواصم عربية. إننا نواجه بهذا بلاغة مرجعية جغرافية، وهي جغرافية العالم العربي. هذه الإحالات المكانية والزمانية تجعل لشعر المجاطي مرسى مرجعياً ودلالياً قاراً؛ يند إجمالاً عن الغموض الذي اشتهر به الشعر الحديث. وقد تأتي القصيدة مترعة أحياناً بهذه الإشارات المرجعية. كما لاحظنا ذلك سابقاً في قصيدة "الخمارة".
هذه الإشارات كثيرة في شعر المجاطي. لا ينبغي أن يغيب عنا كون هذه الأعلام المنتشرة في ديوان الفروسية من شأنها أن تكسب النص ثوباً شفافاً. وهذه المراسي المرجعية الزمنية أو الأعلامية الشخصية أو الكنائية وما يتعلق بها من مسندات أو قيود من العناصر التي تكسب شعر المجاطي هذه الشفافية الدلالية وتبعده عن الغموض المعهود في القصيدة المعاصرة.
ليست سبتة هي وحدها الحاضرة في قصيدة سبتة، بل إن هناك أسماء أعلام عديدة من شأنها توفير مَرْسَى لتعيين معنى مرجعي référentiel ثابت. فمن أسماء الأماكن المذكورة نصادف: قرطبة وغرناطة وتطوان ومراكش. وبطبيعة الحال فإن هذه الأعلام تحيل على معنى حرفي. وهي تتقاسم هذه الدلالة المرجعية الثابتة مع الضمائر التي تحيل عليها، من قبيل
أَقـولُ عَـرفْـتكِ أنْـتِ.
وهذه الضمائر تلعب نفس الدور حينما تحيل على أسماء الجنس. أنظر على سبيل المثال في قول محمود درويش:
لَم نَكنْ قَبلَ حُزيْرانَ كَأفْراخِ الْحمَام
ولذَا، لَمْ يَتفتَّت حبُّنا بَينَ السَّلاسِل
نَحْن يَا أخْتاهُ، مِن عِشرِين عَام
نَحْن لاَ نكْتـبُ أَشعَاراً
ولَكنَّا نُقاتِل[72].
إن ضميرَيْ الانفصال والاتصال "نحن" و"نا" يلعبان نفس الدور في تأمين الدلالة. إنه الدلالة على عنصر المتكلم الجماعة. هذه الضمائر تلعب أدواراً هامة في انسجام cohésion النص على المستوى المركبي، تماماً كما تلعب أسماء الأعلام نفس الدور في تماسك cohérence النص، على المستوى البدلي أو المرجعي. ففي الأشطر الممتدة من الأول إلى السادس والأربعين يحيل ضمير المفرد المتكلم، متصلاً ومنفصلاً، على اسم جنس "النهر". وهذا من العناصر الأساسية المؤمنة لتماسك النص. وإذا أضفنا إلى هذه الضمائر بأنواعها الأوصاف والنعوت التي ترتبط بها، كما يمكن أن نلحظ في المقطع الآتي:
آه قَاتِلتي أَنتِ
حين أَجُوس شوَارِعَكِ الخَلفَ
حَاناً وَمبْغى
وَحينَ أَراكِ عُطوراً مُهرَّبةً
وَخمُوراً
وَتِبْغاً
وَحينَ أرَاكِ علَى مَدخَلِ الثـغْرِ
عَاشِقةً غَجَريةً[73]
أدركنا الرصيد الدلالي الهام الذي يُؤمَّن بفضل هذه الإحالات والقيود العالقة بها.
وبطبيعة الحال فإننا حينما نفزع إلى اسم العلم سبتة فإننا نسارع إلى القول: إن النهر الذي يفتتح القصيدة إنما هو نهر مجازي. النهر يدل على القوة الطبيعية التغييرية الخيرة التي لا يستطيع أحد كبح جماحها. أو هو القوة الواصلة بين حالي العدم والوجود؛ أي بين حالي الحاجة والإشباع؛ بين حالي الفقد والتملك. وبما أن النهر استعارة ملموس لمجرد، وبما أن هذه استعارة شائعة بهذا المعنى، فإننا ندعوها رمزاً. بل نستطيع القول: إن هذه استعارة شائعة بين كل الأعراق الإنسانية. وبهذا المعنى فإن المجاطي كان يستجيب لحافز إنساني، باستعماله النهر رمزاً لذلك المعنى المشار إليه. يتعلق الأمر بشكل من أشكال الاستعارات المستهلكة عند الإنسانية كافة. وهذا يرشحها لكي تكون رموزاً كونية أو أساطير. وقد تعلق المجاطي بهذا الرمز تعلقاً كبيراً في ديوان الفروسية. فقد استعمله بهذا المعنى في قصائده:
"عودة المرجفين" وفي "قراءة في النهر المتجمد" وفي "دار لقمان" وفي "مشاهد سقوط الحكمة في دار لقمان" وفي "الخمارة" وفي "كلام الموتى" وفي "الحروف" الخ.
فلنشر مجرد إشارة إلى قصيدة "قراءة في مرآة النهر المتجمد":
يَحمِلُ في غُثّائهِ الأَشْجَارَ
وَالكُتُبَ الصَّفرَاء
والمَوائِدَ
والصَّمْتَ والقَصَائِدَ
ودارَ لُقْمَانَ
وَأطْلَالَهَا
والمْـدنَ والأَسْوارَ
حتَّى إِذا أتَى رِحَابَ القُبَّةِ السَّعيدة
ألْـقَى نِـثَارَ الْغَضْبَةِ الحمْراء
وصَار خَيطَ مَاء.[74]
إن رمزية هذا النص واضحة. وهي نفسها الرمزية التي نلحظها في قصيدة "سبتة". والواقع أن هذه الرمزية، أو هذه الاستعارية الثابتة الناقلة لنفس المعنى ضمن ثقافة ما، لمما يكسب التعبير الشعري شفافية ما. هذا الاستعمال يغَلِّب الأعراف التعبيرية على التفرد التعبيري. بهذا نكون قد وفرنا قاعدة دلالية ثابتة، ولو مؤقتة، نستعين بها لتأويل كل العبارات المجازية أو الخارقة. وهذه هي الطريقة التي يفضلها الشعر لتوصيل رسائله ولتحقيق متعته.
2. 2. الطريق إلى بلاغة الاستعارة
سنتبع في دراسة قصيدة سبتة تحليلها مقطوعة مقطوعة، ثم نعمد في الخطوة الثانية إلى تأليف وتجميع الملاحظات وتركيبها، ثم نعود في الخطوة الثالثة والأخيرة إلى الربط بين هذه الخلاصات وبين البنيات الخارجية. وبعد هذه الخطوات التي تتوسل بتحليل مادة النص إلى عناصره التمييزية المكونة والمحايثة. واللجوء إلى التأليف بين هذه العناصر في أفق تصور تركيبي يتخطى التفكيك والتحليل.
1 أنا النَّهرُ
2 أمتَهِن الوَصلَ بيْنَ الْحَنيِن
3 وبين الرَّبابة[75]
4 وبَينَ لهاثِ الغصُون وَسمْع السَّحابَة
5 أنا النهرُ أسْرجُ هْمسَ الثَّوانِي
6 وأَركُب نَسغَ الَأغانِي
7 وأَترُكُ للرِّيحِ والضَّيفِ صَيفِي
8 وَمجدُولِ سَيفِي.
9 وَآتي عَلى صَهْوةِ الغَيمِ
10 آتي علَى صهْوةِ الضَّيْم
11 آتِي علَى كُل نَقعٍ يثَار.
12 وَآتيكِ
الذي يتحدث، من خلال العبارة "وَآتِيكِ" هو النهر، والمخاطبة هي سَبْتَة. وهذا لم يُصرَّح به إلا في الشطر 12. ولقد سهَّل هذا التأنيث اعتبار المدينة المحتلة مواطنة مغتصبة، جرياً مع التقليد الثقافي الذي يعتبر اغتصاب امرأة من الأقارب من الشنائع الجارحة للكرامة الإنسانية. ولقد عمم المجاطي هذا الوصف على كل المدن المغربية تطوان ومراكش وسبتة وقرطبة. إنها استعارية ذات شحنة انفعالية قادرة على الاضطلاع بأدوار حجاجية قوية. دلالة النهر عند المجاطي هنا هي الطاقة الطبيعية التغييرية الخلاقة. النهر حامل البشارة إلى سبتة بالانعتاق والحرية. بعد عبارة "أنا النهر" هناك حزمة من الاستعارات تمتد من البداية إلى "آتي على كل نقع يثار". والنهر الذي يمتهن هنا الوصل بين حنين الناقة إلى الماء أو الأوطان أو الأولاد، حسب لسان العرب، يحقق الوصل بين عالم الحاجة وعالم الإشباع. الحنين، بكل معانيه يكثف الدلالة على الحاجة. وفي سياقنا الملموس فهو الدلالة على الحاجة إلى الماء. وهذا يتأكد بالعبارة "الربابة" التي هي الطرف الثاني الإيجابي في هذه العملية الوصلية. والربابة هي الغيمة المحملة بالماء. ويترادف هذا المركب الاستعاري مع المركب الموالي: إن "لهاث الغصون" دال على حاجة هذه الغصون إلى الماء. لهاث الغصون مترادف مع الحنين فكلاهما يدل على الحاجة إلى الماء. وقياساً على هذا نقول إن "سمع السحابة" هي المقابل المرادف للربابة. هناك أذن سلسلة من الاستعارات المترادفة التي تؤدي نفس المحتوى. إنها متباينة باعتبار "الناقل véhicule " حسب اصطلاحات ماكْسْ بْلَاكْ ومتفقة أو ثابتة باعتبار "المحتوى teneur". إنها التقاط صور من زوايا للنظر متعددة لنفس الشيء.
وبما أن النهر هو الذي يتكفل بأمر التحويل، فإنه هو الذي يقرر الدخول في دورة المقاومة لاجتراح الغايات التحريرية. النهر هو الأداة الرابطة بين حالتي الحاجة والإشباع. وبهذا يدخلنا الشاعر في مناخ الحروب ودق طبول المواجهة. يوحي الفعل "أسرج" بمناخ الحرب. إنه يستثير متناظرة الحرب والانتقال من الرغبة إلى الفعل. إلا أن ذلك الفعل يجد له رجعاً في الفعل "أركب" الذي يتمم بسط مناخ دق الطبول والغناء الطقوسي المنذر بالحروب لأجل تحقيق الغايات الكبرى. ويتم هذا الفعل بتوكيل الريح والضيف بإكمال الفعل.
هذه الاستعارات المتعاقبة مترادفة من جهة، ومتقابلة من جهة ثانية. إن المترادفة لها نفس الحمولة الدلالية. مثال ذلك: "الربابة" و"السحابة" و"الغيم"؛ وهذه تتقابل مع "الحنين" و"لهاث الغصون" الخ. والاستعارة المهيمنة في هذا الجزء من النص هي استعارة الحيوان ـ المطية للمقاومة. فنلاحظ كيف يستعير:
أسْرجُ هْمسَ الثَّوانِي
وأَركُب نَسغَ الَأغانِي
وَآتي عَلى صَهْوةِ الغَيمِ
آتي علَى صهْوةِ الضَّيْم
آتِي علَى كُل نَقعٍ يثَار.
ففي كل هذه العبارات، أو الضميمات الاستعارية، يقوم معنى الامتطاء والركوب عبر الأفعال: "أركب" أو "آتي على" أو الإسم " صهوة" أو هما معاً الاسم والفعل "أسرج". وما تلقى من الاستعارات فهي مجلوبة من مجال الطبيعة "الربابة" و"الغصون" و"السحابة".
ومما يثير الانتباه في هذه المقطوعة الافتتاحية، وأعتقد أن هذه خاصية الشعر الحديث، أن الشاعر حينما يطرح أمام المتلقي استعارة فإنه يُركِّبُ فوقها استعارة، أو استعارات، أخرى. بمعنى أن الشاعر يعمد خلال العملية الاستعارية، إلى تركيب حقل دلالي على حقل دلالي غريب ومتنافر معه من الزاوية التخاطبية المعتادة. وهذا يبعث الحاجة إلى التأويل لتحقيق الانسجام في المرسلة اللغوية. إلا أن الشاعر بمجرد ما يخرق توقعنا بهذه الاستعارة يبادر إلى إردافها باستعارة أخرى. ولهذا أمكن تعديل الرأي السابق الذاهب إلى أن بلاغة المجاطي تمتاز بالشفافية المرجعية، بالقول: إن بلاغة المجاطي تتوزع بين المرجعية الشفافة والاستعارية المكثفة. فلنتأمل عبارته التي تتلاحق فيها الاستعارات التي قد لا نجد لها تأويلاً.
أنا النَّهرُ
أمتَهِن الوَصلَ بيْنَ الْحَنيِن
وبين الرَّبابة
وبَينَ لهاثِ الغصُون وَسمْع السَّحابَة.
إن القول: "أنا" يقتضي أن يكون اللفظ الذي يردفه كائناً إنسانياً، والحال أن ما يردف هذه الكلمة غير إنساني وهو "النهر". ثم يردف النهر بفعل "أمتهن الوصل". إن الامتهان ممكن بالنسبة للإنسان وليس ممكناً بالنسبة إلى النهر. ويبالغ الشاعر في هذه الكيفية التعبيرية فيردف هذه الاستعارة باستعارة أخرى مباشرة. ونفاجأ بالعبارة "لهاث" التي تبعدنا عن احتمال الربط. وعندما نجعل اللهاث صفة من صفات الغصون ثم نعقب هذا باستعارة "سمع" الذي نجعله صفة للسحابة التي هي بدورها استعارة، أدركنا السديمية التي نخوض غمارها في الشعر المعاصر. وبكل بساطة فإن الإكثار من الاستعارات المبتكرة وهذا بالغ الأهمية، ثم تصفيفها في تعاقبية متواترة لمِمَّا يحرم القارئ من السند التأويلي الوضعي أو المطابقي. ومع هذا تتوفر لدينا أحياناً، كما في حالتنا، فرصة التأويل حينما تكون هذه الاستعارات مترادفة. إذ هناك موضوع ثابت واستعارات متعددة.
ويمكن أن نعمم هذا الحكم على ما تبقى من المقطع الذي نحلله هنا. إن الاستعارة "أسرج" تقتضي كائناً حيوانياً، والحال أن الفعل مسند هنا إلى "همس" وهذا بدوره يقتضي كائناً إنسانياً والحال أن ما أسند إليه هو كيان مجرد. وهكذا دواليك. لقد وقف حازم القرطاجني على هذه الظاهرة ونصح الشعراء بالابتعاد عن تركيب استعارة على أخرى وذلك بسبب ما يترتب على ذلك من غموض في المعنى. "وربما ترادفت المحاكاة وبُنِيَ بعضها على بعض فتبعد الكلام عن الحقيقة بحسب ترادف المحاكاة وأدى [ذلك] إلى الاستحالة. ولذلك لا يستحسن بناء الاستعارات على بعض حتى تبتعد عن الحقيقة برتب كثيرة لأنها راجعة إلى هذا الباب"[76].
13 أمنحُ عينيكِ لونَ سُهادي
14 وحزْنَ صهِيلِ جَوادي
15 وأمنحُ عَينيكِ صَولةَ طارقْ
16 وأسقطُ خَلْفَ رمادِ الزَّمان
17 وَخلْفَ رَمادِ الزَّوَارِقْ
18 أَقُولُ عرَفتُك:
19 أَنتِ قَرارَة كَأسِي
20 وَقبْضَةُ فَأسِي
21 وَعَتْبٌ وَكفَّارَةٌ
22 وَصَلَاةٌ
23 وَزَنزانَةٌ يَشمَخُ الصمْتُ في قبْضتيْهَا
- وَتعْنُو الدَّوَاة.
25 أقُولُ عرَفْتُكِ،
26 أَنْتِ…
27 وَيَخْذُلنِي العِشْقُ
28 تصرَعُنِي قَهْقَهاتُ السُّكَارَى
29 فهلْ أنْتِ وَاحدَةٌ مِن نِسائِي
30 العذَارَى
31 أمْ أنَّك عَينانِ
- غرنَاطَةُ فِيهمَا طِفلَةٌ
يرتبط هذا المقطع بما تقدم باستئناف النهر حديثَه. وحدة هذا الجزء من النص تتمثل في حضور موضوعة واحدة هي المقاومة المتمثلة في السُّهاد أو اليقظة الدائمة وصهيل الجواد، وهو مطية المقاومين وطارق الفاتح العربي للأندلس وإحراق الزوارق إمعاناً في استحضار صورة البطل العربي. إلا أن الزمن المجاطي لا يستأنف معركة طارق؛ إنه يسقط وراءها "خَلْف رمَاد الزَّمان وَخلْف رمَاد الزَّوارِق". والواقع أن هذا ما يجعلنا نفهم حزن صهيل جواده، كما نفهم لون السُّهاد، فكلاهما معتم. هذا الجزء من النص يضعنا وجهاً لوجه أمام التراجيديا المجاطية. إن جزءاً هاماً من الكلمات محمَّلٌ بهذه المعاناة الشجنية dysphorique بعد أن وضَعَنا، في بداية القصيدة، على الطريق الاغتباطي euphorique: حزن، خلف، رماد، قرارة كأس، زنزانة، صمت، تعنو، يخذلني، تصرعني، السكارى.الخ.
وليس المقصود من وراء هذه الصورة الاستعارية التاريخية المستحضرة الإفادة التاريخية، وإنما المقصود هو التوسل بـ "طارق" كقناع للتعبير عن وضع راهن. وهذه الاستعارة الشاهدية لا تقبل التأويل بالاعتماد على كفاءاتنا اللغوية، كما نفعل حينما نؤول عبارة "أنَـا الـنَّهـر"، وإنما نستشير المخزون المعرفي، أي ما يدعوه اللسانيون والتداوليون "المعارف" أو "الإنسيكلوبيديا". فلا يستطيع هذا التأويلَ إلا من له بعض المعرفة بالتاريخ الأندلسي والبطل العربي: طارق بن زياد. وبهذا المعنى فإن هذه المحتويات لا يستوعبها قارئ أجنبي على هذه المعرفة التاريخية. وعلى الرغم من أن سبتة تملأ كل المجالات الحميمية عند المجاطي فتغدو "قرارة الكأس" و"قبضة فأس" "وعتب كفارة" "وصلاة" "وزنزانة وصمت"، إلا أن القدرة على الفعل منعدمة. وهذا معنى عبارة المجاطي: "ويخذلني العشق". إذ ما جدوى العشق إذا كنا عاجزين عن إنقاذ من نعشق؟ وهذه الحال هي التي جعلت الشاعر أحمد المجاطي يطرح السؤال على نفسه. هل سبتة مجرد واحدة من نسائه العذارى؟ وهذا نعت تشم منه روائح الغواية الرخيصة، أم أنها طفلة غرناطة بريئة محتلة. والواقع أن العبارات الأربع: "أسقط خلف رماد الزمان وخلف رماد الزوارق" "وتعنو الدواة" "وتصرعني قهقهات السكارى" تعبر كلها عن هذا الإحساس الممض بالعجز والانكسار.
والواقع أن هناك استعارة، أو إذا شئنا التدقيق، قلنا استعارة شاهدية كبرى في هذه القصيدة تتمثل في استعارة الأندلس لسَبْتَة، أو النظر إلى سبتة بمنظار الأندلس. وهذه الاستعارة تمثل واحدة من المتناظرات الأساسية في القصيدة. وهي تمثل بدلا استعارياً أساسياً، إنه ينتشر على امتداد القصيدة في صورة شظايا استعارية. وليس هذا الترابط ترابطاً معنوياً وحسب، بل إن هناك ترابطاً عاطفياً، وهو الذي دعوناه تراجيدياً. إن سبتة هي صورة الأندلس. إننا، مع المجاطي، نطل على سبتة من كوة الأندلس. أقول الأندلس باعتبار واجهتها الدرامية المنكسرة سياسياً وأخلاقياً. يتابع المجاطي حديثه عن سبتة المعاصرة الملطخة والمنتهَكة:
33 آه قاتِلتِي أنتِ
34 حينَ أجوسُ شَوارعَكِ الخَلفَ
35 حاناً ومَبغَى
36 وحِينَ أراكِ عطوراً مهَربةً
37 وخموراً
38 وَتِبْغاً
39 وحِينَ أرَاكِ علَى مَدخَل الثغْر
40 عاشِقةً غجَرِيَّةً
41 مضَرَّجَة تَحتَ أحْذيَّة الْهتْكِ
42 لاَ حَولَ لِلفتْكَة البِكرِ فيكِ
43 وَلا لِلنّخْوَة العرَبِيّةِ
ينتقل المجاطي عبر مقطع حرفي الدلالة وهو المتعلق بـ "الحان والمبغى والعطور المهربة والخمور والتبغ" إلى إطلاق استعارة أخرى أنوثة منتهَكَة. والذي يَنْتَهِكُ هو الأجنبي أي المحتل. إلا أن المجاطي قد قدم سالفاً لهذه الاستعارة الأنثوية في قوله "يخذلني العشق" و"أنت واحدة من نسائي العذارى". وهذا التوزع لهذه الاستعارة الأنثوية والمنتشرة على جسد القصيدة يسوِّغ القول بأن هذه تمثل رافداً دلالياً أو معنوياً مهيمناً، والوقوف عليه وتقَصِّي الكلام فيه يقدم إنجازاً مهماً في سبيل استهلاك المعاني الإضافية في النص. وما نقوله عن هذه الاستعارة الأنثوية يجوز قوله عن استعارة الأندلس، إذ إن هذه أيضاً تقدم لنا في النص متوزعة، لا دفعة واحدة. إن هاتين الاستعارتين تترددان على مسرح النص باستمرار. إلا أن هذه الاستعارة الأنثوية المنتهكة تتعارض مع استعارة الأنثى المحرمة. وفي الحالتين فإن هذه من الاستعارات الشائعة.
إلا أن بين المتناظرتين الواقعية الحرفية والاستعارية الأنثوية، رابطاً ظاهراً يتمثل في المساس بالقيم الاجتماعية والاقتصادية. إن المعشوقة تتعرض لعملية اغتصاب تماماً كما تتحول سبتة إلى مجرد بضائع مهربة، وهي بضائع مخربة للإنسان، أو هي بضائع الاستهلاك الترفي غير الإنساني. وتظل سبتة في الحالتين متروكة وحيدة تواجه المصير الحالك ولا من يستجيب لمطلب التحرير.
ويبدو أن هذا الجزء من النص ميال إلى التعبير التقريري. من قَبِيل ذلك:"حاناً ومبغى" "وعطوراً مهربة وخموراً وتبغاً" و"على مدخل الثغر" و"لا حول للفتكة البكر فيك" و"لا للنخوة العربية". ويعقب هذا هذه العبارة الاستعارية الشفيفة التي تمكننا من معانيها بيسر وسهولة، من قبيل هذه الاستعارات المستهلكة نجد "العشق" و"قاتلتي" و"عاشقة غجرية" وما قد يرتبط بهذه الاستعارات من قبيل ذلك: "مضرجة" و"الهتك". يتابع المجاطي بإعطاء الكلمة لسَبْتَة مجيبة خطاب النهر مقدماً لذلك بوصف لثْغتِها القرطبية:
44 وتمْتَد لثغَتكِ القرطُبِيةُ
45 بَينِي وَبَيْن القُبورِ
46 وَبينِي وَبينَ الْعبُورِ
47 "إذَن سَوفَ تأْتِي
48 عَلى قَدمٍ منْ لُجيْنِ
49 سَتأتِي متَى نبتتْ شَوكَةٌ
50 بَينَ نفْسِي وَبَيْنِي"
51 وتُلقِينَ مِعطَفكِ الفَروَ:
على الرغم من انتقالات المجاطي بين متناظرات عديدة متباينة فإن شاهد الأندلس والمدن الأندلسية الشبيهة بسبتة قد تسلطت على شاعرنا. ولهذا نجده في المتناظرة الرابعة يبدأ خطابه بها. "وتمتد لثغتك القرطبية". إن صورتها الأندلسية تفرض نفسها عليه في حالي اليأس والأمل. هنا تتناول سبتة الكلمة واصفة أحوال شقيقاتها من المدن المغربية مثل تطوان ومراكش. إننا في هذا الجزء من النص ننتقل إلى المقارنة بين سبتة وبين باقي المدن المغربية مثل تطوان ومراكش. وبطبيعة الحال فإن هذه المدن ليست أحسن حالاً من سبتة. فإذا كانت هذه منتهكة جنسياً فإن الأخرى منتهكة اجتماعياً. وفي الحالين لا مخلص يرد المنتهكين. بل إن المقابل هو دوماً الاستسلام لسلطان الشهوة وتجاهل عناصر المأساة. وفي الحالين تظل الاستعارة المركزية هنا هي استعارة الأنثى المنتهكة جنسياً واجتماعياً.
وهذا الوضع التراجيدي لا يسلم النهر إلى اليأس. صورة الأندلس التي تمتد بينه وبين القبور أو السقوط وبينه وبين العبور أي الأمل والخلاص، تمنعه من الاستسلام للهزيمة. إنه سيأتي منتصراً على قدم من لجين سيأتي متى صحا المخلص. يعود الشاعر هنا مرة أخرى إلى هذا الربط الشاهدي بين سبتة والأندلس. كما يعمد إلى الربط الاستعاري حينما يجعل تطوان ومراكش جاريتين عبدتين. وسواء أتعلق الأمر بالشاهد أم بالاستعارة فإن شفافية هذين المقومين لا تخفى على القارئ. وهذه اللهجة الشعرية الشفيفة فد نعدمها أحياناً كما في استعارات "العبور" و"قدم من لجين" وأحياناً نحس أن الشاعر يقتسر بعضها كما هو الأمر في شوكة.
52 "هل همَسَت نَسْمةٌ
53 أنَّ تطْوانَ جَارِيةٌ
54 وأن مراكِشاً تنفُشُ العِهْنَ
55 أَني أحَاوِرُ أرْوِقَةَ القصْرِ
56 أَلْبسُ للَّيْلِ زَهوَ الخِوانِ
57 وَقَهقَهَةَ القَهْرَمانِ
58 وأَنِّي
- هلْ همَستْ نَسْمَة"؟
60 يَتدَاركُ عَينيْكِ شَوْقٌ وثُكلٌ
61 تُغنينَ مقْرورةً:
62 "آه، حِينَ يفِيضُ الضوءُ
63 من شقَائِقِ النُّعْمانِ
64 وتنْـتشِي تطوان
65 أُحِسُّ نَفسي طِفْلَةً خرْساءْ
66 تَكتُب لِلفَـجْـرِ اسْمَها
67 فِي جَسدِ الصَّحرَاء
68 أحِـسّ نفْسِي
69 طِفلَة مسْكونَهْ
70 تكتُبُ لِلمَاءِ اسْمَهَا
71 فِي جِذعِ لَيْمونَهْ
72 حينَ يَفِيضُ الضوْءُ
73 منْ شَقَائِقِ الـنُّـعْمَان"
لقد عمد الشاعر في هذا الجزء من النص، إلى عرض استئناف حديث سبتة عن تطوان ومراكش. هنا نلاحظ أن بين سبتة والمدينتين المذكورتين قواسم مشتركة. بل ربما أوحى الشاعر بأن ما تعاني منه سبتة إنما هو ناتج عما تعاني منه باقي المدن المغربية. إن تطوان جارية، تماماً كما أن سبتة مضرجة تحت أحذية الهتك. وإن مراكش تنفش العهن، أي عبدة شأنها شأن سبتة. هذه العبارة تتقاطع تناصياً مع عبارتين واردتين في القرآن الكريم: (القَارِعَةُ مَا القَارِعَة، ومَا أَدرَاكَ مَا القَارِعَة، يَومَ يَكونُ النَّاسُ كَالفَراشِ الْمبثُوثُ وتَكونُ الجِبالُ كَالعِهنِ الْمَنفُوش. فأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُو في عِيشَة رَاضِية وأَمَّا مَن خَفَّتْ موَازِينُه فَأُمهُّ هَاوِيهْ ما أَدْرَاكَ مَاهِيَّهْ نَارٌ حَامِيَّهْ)[77]
ينبغي التأكيد هنا أن تناص قصيدة المجاطي ليس قائماً بينها وبين القرآن الكريم. إن الآية الكريمة أوردت العبارة "كَالعِهنِ الْمَنفُوش" على سبيل التشبيه وليس على سبيل المعنى الحرفي الغرضي. والأرجح أن التناص حاصل بين نص المجاطي وبين نص من الحديث الشريف (الأَمَةُ تَنفُش الْعِهْنَ). وهذه المتناظرة هي التي يستثمرها المجاطي في استعاراته. ونرجح هذا التأويل لأن المعنى الذي يسند هذا التناص ليس مجرد لفظة بل إنه "عبدة تنفش العهن" مقابل "مراكش تنفش العهن". والمقصود، على سبيل التضمين، أن مراكش عَبْدَةٌ تنفش العِهْنَ. ولنتوقف لأجل توضيح هذا عند تفسير ابن منظور لهذه العبارة: "نَفَشَ: نَفْشُكَ الصوفَ، والنَّفش مَدُّكَ الصوفَ حتى ينتفش بعضه عن بعضن وعهن منفوش، والتنفيش مثله. وفي الحديث أنه نهى عن كسب الأمة إلا ما عملت بيديها نحو الخبز والغزل والنفش، وهو ندف القطن والصوف إنما نهى عن كسب الإماء لأنه كانت عليهن ضرائب فلم يأمن منهن الفجور، ولذلك جاء في رواية: حتى يعلم من أين هو"[78].
علينا، بعد هذا وذاك، أن نقول: إن الذي يستثير هذه الاستعارة، أي جعل مراكش أمة ليس الكفاءة اللغوية، إذ هذه الكفاءة لا تقول أكثر من كون مراكش تنفش الصوف، وهذا تأنيث لمراكش. والذي يستثير التأويل الاستعاري الذي يجعل من مراكش عبدة هو هذه الكفاءة الأنسيكلوبيدية (أي رصيد المعلومات العامة التي تجعل المخاطب يفهم العبارات التي يتلقاها ويؤولها تأويلاً خاصاً، وهو الرصيد الذي يشكل ملمحاً أساسياً من ملامح ثقافة ما). وإن شئت فقل إن قرائن الاستعارة هنا، ومن هذا المنظور، هي قرائن مقامية أو حالية حسب عبارة البلاغيين العرب. إن الكفاءة اللغوية وحدها غير كافية لاستثارة هذه الاستعارة، إذ المسألة لا علاقة لها بالمعرفة النحوية أو اللغوية، كما أن المعجم بدوره لن يفيدنا لاستثارة هذه الاستعارة. إذ إن المعجم لا يقدم لنا هذه الإحالات التاريخية المحتضنة لاستعمالات الكلمات. ولهذا فإن هذه الاستعارة لا تستثار بالاستناد على هذه الكفاءة المعجمية أو الدلالية أو النحوية. إن هناك كفاءة إنْسِكْلوبِيدِيَّة تتعلق بمعرفتنا بهذه الأحاديث النبوية التي لولاها لاختنقت هذه الاستعارية. ولهذا فإن هذه الاستعارة لا تمكن ترجمتها وذلك لأن الإحاءات التاريخية والحضارية للكلمات ليست متطابقة أبداً بين الثقافات المتباينة. بالإمكان ترجمة الكلمات كوحدات معجمية، ولكن تتعذر ترجمة المضمرات الثقافية للكلمات. وإلا لما كانت هناك ثقافات. ولهذا أيضاً نقول بتعذر ترجمات استعارات من هذا القبيل.
إن الكلمة العربية "نفش" لها معنى مختلف على هذا الصعيد التناصي مع الكلمة الفرنسية ébouriffer التي يثبتها المعجميون مقابلاً للكلمة العربية، وعن الكلمة الإسبانية cardar التي يفسرها المعجم الإسباني بإعداد الصوف للنسج. إن هذين التفسيرين للكلمتين الفرنسية والإسبانية هما تفسيران لغويان. وهما شأن أي تفسير لغوي بعيدان كل البعد عن الإخلاص لمهمة أداء المعاني الحقيقية للكلمات. ويقوم هذا العجز الحتمي على استعصاء ترجمة هذه المحتويات أو المضمرات التاريخية. إن للوحدات اللغوية المعجمية تاريخاً وذاكرة، وهما التاريخ والذاكرة اللذان لا يعيشان إلا في أذهان أفراد الأمة. وهذه المعاني التاريخية والحضارية العالقة بأذهان الناس لا تمكن ترجمتها، بل تُكتَسبُ في ينابيعها الأصلية والفطرية، ويتم تعلمها بالتدريج. إن لكل كلمة داخل محيطها اللغوي الثقافي ذكريات وتاريخاً لا يمكن تصيده بالمقابلات الشروحية ولا الترجمية. إن هذا الاقتناص للمقابلات يظل عملا هامداً بارداً آلياً ولا يمكن أن تسري في عروقها نفس المحتويات الموروثة. القارئ الفرنسي أو الإسباني لن يتمكن أبداً من استحضار الحديث النبوي الشريف وهو يتلقى ترجمة المجاطي. لا تستحضر ذاكرته قصة الأمة التي تنفش العهن المذكورة في الحديث النبوي الشريف.
في هذا السياق يقول فْرِيدْرِيشْ شْلَايِيرْمَاخِيرْ:
"من الجلي أن معجم لغة ما لا يتطابق بالتمام أبداً مع معجم لغة أخرى، على الأقل في عديد من المجالات. وبنفس الطريقة فإن المفاهيم تتغير بحسب الزمن داخل نفس اللغة المفردة، بحيث أن كلمة ما تتعاقب عليها سلسلة من المعاني"[79]. ينبغي من جهة أخرى القول إننا نجد في الكفاءة النصية، أي القدرة على الربط بين وحدات النص ربطاً دلالياً تماماً كما نربط بين وحدات الجملة، سنداً للكفاءة الإنسكلوبيدية من خلال هذه الحوافز التي هي "تنفش العهن" تـثـبته الكفاءة النصية من خلال الربط بين هذا المعنى وبين معنى العبارة السابقة الواصفة لحال تطوان الجارية. إننا نؤول العبارة "مراكش تنفش العهن" على أرضية مسبقة هي "تطوان جارية". وهذا معطى نصي سياقي. وربما جاز القول: إن هذا المعطى دلالي سياقي داخلي وغير معطى خارجي ثقافي. في حين أن المعطى الإنسيكلوبيدي هو معطى بدلي يضرب بجذوره في الذاكرة، إذا جاز القول. ويمكن أن نوفر مثالاً على هذا التأويل السياقي أو النصي العبارة السابقة من قصيدة المجاطي:
أمْنحُ لَونَ عيْنيكِ سُهادِي
وحُزنَ صَهيلِ جَوادِي
وأمْنحُ عَينيْكِ صَولةَ طَارقْ
وأسْقطُ خَلفَ رمادِ الزَّمانِ
وَخلْفَ رَمادِ الزَّوارِقْ.
إننا لم نتمكن من تأويل بعض الأجزاء من هذه المقطوعة إلا على أساس أجزاء أخرى نجد لها السند في المرجع. إن العبارة "خَلفَ رمادِ الزَّمان" لم نتمكن من تأويلها إلا بالاتكاء على العبارة "أمْنحُ عَينيْكِ صَولةَ طَارقْ". وعلى نفس الأساس نؤول أيضاً العبارتين "وأسْقطُ خَلفَ رمادِ الزَّمانِ" كما نؤول العبارة "صَهيلِ جَوادِي" لأنها تمتح هي الأخرى من نفس المعين البطولي الملحمي. وهذه كلها معطيات نصية. أو إذا شئت فقل إن هناك تناصاً داخلياً حيث تؤول أو تشرح بعض العبارات عبارات أخرى. إلا أننا نعمد إلى تناص خارجي، تناص مع نصوص أخرى غائبة من النص الحاضر إلا أنها حاضرة في الذاكرة. تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى العبارة السابقة "تنفش العهن".
والمجاطي المشهور بقوميته العربية المتجذرة، واستيحاءاته من الشعر العربي القديم، ومن القرآن الكريم والحديث الشريف، ومن التاريخ العربي؛ والمشهور بتمثيله للفحولة الشعرية العربية الكلاسيكية، ونفوره من استلهام التراث الغربي، نجده هنا يستلهم قصيدة الشاعر الفرنسي بُولْ إيلْوَارْ. وهذه القومية المتجذرة هي التي جعلته لا يفتح قلبه، من بين كل شعوب العالم الثالث، إلا للشعوب العربية. ويقابل هذا العشق القومي قصر عشقه على الشعر والثقافة العربيين. ومع هذا فإن هناك حالات استلهام الثقافة الغربية بأشكال متوارية.
ولن نستغرب ونحن نفحص المثال السابق، "تنفش العهن"، هذا التناص. كما لا نصاب بالدهشة إزاء الربط بين حديث نبوي شريف وقصيدة بول إيلوار. إن لكلا النصين موضوعاً واحداً هو العبودية والحرية. ولنا الحق في أن نقول: إن المتناظرة الأساسية المدعمة للمتناظرات الاستعارية في قصيدة المجاطي هي العبودية والحرية. إن كل هذه النصوص تغترف من نفس المعين الدلالي.
إن قصيدة بول إيلْوَارْ تتغنى بالحرية، وقد تم توزيعها في الحرب العالمية الثانية، وفرنسا ترزح تحت نير الاستعمار الألماني، في شكل منشور سري. وفي هذه القصيدة يقول بول إيلْوَارْ:
فِي كرَارِيسِي الْمَدرسِيّة
وعَلَى مَكْتبي وَعلَى الأشْجَارْ
وعَلَى الرِّمالِ وعَلَى الثُّلوجْ
أكْتبُ اسْمَكْ.
فِي كلِّ الصَّفحَاتِ المقْروءَة
فِي كلِّ الصَّفحَاتِ البِيضِ
والأَحجَارِ والدَّمِ والْورَقِ أوِ الرَّمادِ
أكْتُبُ اسْمَكْ.
لَقَدْ خُلِقْتُ لأَعْرفَكْ
لِتَسْمِيَّتكْ الْحُرِّية.[80]
وليس المجاطي هو وحده، في الشعر العربي المعاصر، من استلهم هذه القصيدة عبر اللعبة التناصية. إن الشاعرة فدوى طوقان قد استلهمتها في قصيدة لها مشهورة تقول فيها:
سَأَظلُّ أحفرُ اسمكِ وأنا أناضٍل
في الأرْضِ، وفي الجدرانٍ، في الأبْوابِ، في شرفِ المنازل،
في هَيكلِ العذراءِ في المحرابِ في طرقِ المزارِع
في كلِّ مرتفعٍ ومنحدر ومنعطفٍ وشارعْ.[81]
وغني عن البيان الإشارة إلى تشابه الوضعين الذين أفرزا القصيدتين، أي التعبير عن المعاناة من الاحتلال ونشدان الحرية.
والواقع أن المجاطي لا يشير إلى الحرية إلا بالتسميات الاستعارية، أي "الفجر" و"الماء".
وهناك قصيدة أخرى للمجاطي تتناص مع قصيدة بول إيلْوَارْ وهي "سقوط الحكمة في دار لقمان"، حيث يقول:
كَتَبْتُ فَوْقَ الظِّلِّ
كَتَبْتُ فَوْقَ سَوالِفِ السَّحابْ
كَتَبْتُ فَوقَ قَدَمِ الثَّوانِي
النَّهْرُ دِيوَانِي
وَأَنْتَ لَا تَسأَلُنِي
لا تَرفَعُ الْحِجابْ
عَنْ أنْفِيَ الْمَجْدُوعِ
عَنْ لِسانِي.
إن الإحالات القرآنية والسنية المحمدية (تنفش العهن) والإشارات التاريخية (قيصر طارق وغرناطة) والأمارات الأعلامية المعاصرة (مراكش وتطوان الخ) والإشارات الخفية إلى قصائد شعراء غربيين من قبيل قصيدة بول إيلْوَارْ "الحرية"، ويمكن أن نضيف إلى هذا تلك الرموز الكونية من قبيل "النهر"، وذلك الزاد الوافر من الاستعارات العرفية تكسب شعر المجاطي القدر الكبير من الشفافية الدلالية. هنا ينتهي خطاب سبتة لكي يأخذ الكلمة الشاعر أو المتحدث في النص حيث يقول.
74 وأَمْضي مَعَ اللحنِ حَتَّى أُباغِتَ عَيْنَيْكِ
75 أَصْحُو عَلَى مَذْبَحِ النَّهْرِ
76 أَصْحُو عَلَى مَصْرعِ الكِبْريَاءْ
77 عَلى غُصْنِ قَافِيةٍ
78 مِنْ رِثاء
79 وَمَا أَيْسَرَ الوَصْلَ
80 مَهْمَا تَنَاْءَى
81 وَشَـط المَـزَارُ
82 سآتي عَلى صَهْوةِ الغَيمِ
83 آتي علَى صهْوةِ الضَّيْم
84 آتِي
85 علَى كُل نَقعٍ يثَار.
على أن لنا كلمة أخيرة في ذلك الرمز الذي لونه المجاطي بكل الألوان الشخصية والعاطفية. ونقصد بهذا إلى رمز النهر. النهر الذي يلتبس في القصيدة مع صوت الشاعر. لقد صوره المجاطي في بداية النص باعتباره قوة خلاقة وباسماً ناشراً جواً من التفاؤل في جسد القصيدة. وعاد الشاعر، في آخر النص لكي يصحو على مذبح النهر ومصرع الكبرياء وقافية من رثاء. إن النهايات المجاطية هي في الكثير نهايات تراجيدية، أو كارثية. إلا أن تلك القتامة تتخللها خيوط من الأمل في الخلاص وهو الأمل الذي يمثل فاتحة القصيدة، إلا أنه أمل غير مقنع في حضرة طوفان الانكسار:
سآتِي عَلَى صَهْوَةِ الْغَيْمِ
آتِي عَلَى صَهْوَةِ الضَّيْمِ
آتِي
عَلَى كُلِّ نَقْعٍ يُثار.
وهي نفسها العبارة التي تختم قصيدة "سبتة" على سبيل إنهاء القصيدة نهاية دورية حيث ننتهي بنفس الاستعارة البدئية. إنها ليست أية نهاية، لقد انتهت بمقوم شعري هو الاستعارة، وهي استعارة مسترسلة. وبطبيعة الحال فإن هذا يسمو بالقصيدة أكثر بسبب هذا البناء الدوري وبسبب النهاية بإلزام المتلقي على إعادة تلقي هذه الاستعارة. وبطبيعة الحال فإن التحقق الثاني لا يكتفي بتوصيل نفس المعنى الأول، بل إنه يوصله في الأخير مفخماً. القصيدة ذات بناء مغلق تنتهي إلى حيث ابتدأت. هذا البناء الدوري للقصيدة ملحوظ أيضاً في بعض أجزاء القصيدة هنا بحيث أنها تنتهي إلى حيث تبتدئ. انظر إلى العبارة
حينَ يفيضُ الضوءُ
من شقائقِ النعمان
المتكررة في الشطرين 62 و 63 ثم في الشطرين 72 و 73
نوضح هنا، بطبيعة الحال، أن التحقق الأول يُختم، خلافاً للتحقق الثاني بعبارة: "وتنتشي تطوان" التي تحتل الشطر 65. كما تنبغي الإشارة هنا أن هذه العبارة المتكررة لم يثبتها الشاعر في نشره الأول للقصيدة في مجلة الوحدة سنة 1986. إلا أن الشاعر قد أثبت هناك في الموقعين عبارته: "آه في العاشر من يُوليُوزْ". أعتقد أن هذه العبارة الأخيرة ذات دلالة حرفية، بل وتضرب بجذورها في سياق زمني معروف وتشير إلى حدث تاريخي يتمثل في الانقلاب العسكري الفاشل. هذه العبارة الحرفية تم تعويضها بعبارة مجردة من هذه الإحالة التاريخية. إن العبارة البديلة ذات دلالة استعارية وذات إيحاءات خاصة ومختلفة. العبارة الحرفية النثرية قد تم تعويضها بعبارة رمزية واستعارية شعرية. إلا أن الشاعر احتفظ بالهيكل التكراري، أي بعبارة تفتتح المقطوعة وتختمها.
والشطر
هلْ همستْ نسمةٌ
المتكررة في الشطرين 52 و 60
والشطر
أقول عرفتك
المتكرر في الشطرين 18 و 25
إذن هناك بنية دورية كبرى هي القصيدة؛ إلا أن هذه تنطوي على عبارات دورية مصغرة تحاكي البنية الكبرى.
هذه الظاهرة التكرارية مثيرة عند المجاطي؛ وهي لا تقف عند هذه الحدود، حيث اللفظ أو العبارة المتكررة تفتتح وتختم عبارة ما، أي هناك متوالية لفظية تحدها من الجهتين العبارة المتكررة في الافتتاح وفي الاختتام.
إلا أن هذا التكرار قد يتخطى هذه الحالات. فقد نجد تكراراً لألفاظ ترد في مستهل شطر ما، وفي مستهل شطر آخر. مثال ذالك أنا النهر في الشطرين 1 و 5، وآتي المتكررة في الشطرين 9 و 12؛ أمنح عينيك المتكررة في الشطرين 13 و 15، وحين أراك المتكررة في الشطرين 36 و 39، ولا حول المتكررة في الشطرين 42 و 43، وأحس نفسي المتكررة في الشطرين 65 و 68..
هذه مجرد أمثلة للظواهر التكرارية اللفظية، إلا أن هناك ضرباً آخر من التكرار أشدَّ خفاء، وهو ذلك المتمثل في تكرار الهياكل التركيبية وهو المدعو التوازي parallélisme، وقد يتدعم هذا التوازي باحتوائه تكرار كلمات أو حروف. بل قد يتدعم ذلك البناء باحتوائه لاستعارة. القصيدة تكاد تكون متوالية من التوازيات. فلنستعرض أمثلة منها:
9 وَآتي عَلى صَهْوةِ الغَيمِ
10 آتي علَى صهْوةِ الضَّيْم
11 آتِي علَى كُل نَقعٍ يثَار.
12 وَآتيكِ
هناك ثلاثة مركبات متوازية. الظاهر أن كل واحد منها مستقل من الناحية التركيبية. وهي كلها تنطوي على عبارة استعارية إذ يمتطي "النهر" هنا غير المطية: صهوة الغيم، وصهوة الضيم، و كل نقع يثار. إن المركبات استعارية مكنية. لأننا ننسب إلى شيء صفة أو فعلاً ليس له. هذا التلاحم بين التوازي والاستعارة مما يقوي المقومين معا الاستعارة والتوازي. هذا بغض النظر عن النهر الذي هو استعارة، بل رمز. إلا أننا نلاحظ أن هناك تركيبَ استعارة على أخرى في هذه المركبات. إن صهوة الغيم وصهوة الضيم استعارتان مكنيتان. وامتطاء النهر لصهوة هو استعارة أخرى. هكذا ينشأ الغموض في القصيدة المعاصرة.
مثال ثان:
13 أمنحُ عينيكِ لونَ سُهادي
14 وحزْنَ صهِيلِ جَوادي
15 وأمنحُ عَينيكِ صَولةَ طارقْ
العبارات المتوازية هنا لا تمثل مركبات مستقلة بل مركبات تابعة على سبيل العطف. وهي بدورها مرتبطة بالفعل على سبيل المفعولية الثانية. هذه المركبات الثلاثة المتوازية طرف في العبارة الاستعارية المكنية دائماً. المجموعة الثانية:
16 وأسقطُ خَلْفَ رمادِ الزَّمان
17 وَخلْفَ رَمادِ الزَّوَارِقْ
هي بدورها تتألف من مركبين متوازيين معطوف أحدهما على الآخر. وهما معا غير مستقلين تركيبياً بل تابعان للفعل أسقط. التوازي هنا يتقوى بتكرار مركب فرعي "خلف رماد". ونواجه دائما تراكب الاستعارات والتجوزات الدلالية. ففي رماد الزمان خرق دلالي إذ الرماد مادي معلق هنا بشيء مجرد. استعارة مكنية دوماً. بالنسبة إلى "رماد الزوارق" صحيحة دلالياً، إلا أن السقوط "خلف رماد الزوارق"، يتطلب إعادة تأويل كل العبارة. فالسقوط ليس سقوطاً بل انكسارا وانهزاماً ورماد الزوارق إحالة استعارية لتشابه الحادثتين القديمة والجديدة.
التوازي هو دائما يشحن هنا بعبارات استعارية. هذا يباين ما نلاحظه في القصيدة القديمة من قبيل قول المتنبي
فقرُ الجهولِ بلا عقلٍ إلى أدبِ فقر الحِمارِ بلا رأسٍ إلى رسَنِ
أو قوله
يموتُ راعِي الضَّأنِ في جهْلِه مِيتَة جالينوسَ في طِبِّه
وربما زادَ على عُمْرِه وزادَ في الأمنِ علَى سِربِه
وغايةُ المفرِطِ فِي سِلمِهِ كغايةِ المُفرِطِ في حَربِه
هناك توازيات تشف عن المعنى بكامل العفوية، إنها ترسل وتُتَلقَّى عفو الخاطر. وبطبيعة الحال فإن هذا البناء يمثل واحداً من الهياكل المهيمنة في ديوان الفروسية. وأعتقد أن له حضوراً قوياً في القصيدة العربية المعاصرة. فبعد انهيار النسق العروضي الخليلي، التمست القصيدة المعاصرة سد ذلك الفراغ في التوازي. فلنتأمل مثالاً آخر يحقق حالة عينية متميزة:
18 أَقُولُ عرَفتُك:
19 أَنتِ قَرارَة كَأسِي
20 وَقبْضَةُ فَأسِي
21 وَعَتْبٌ وَكفَّارَةٌ
22 وَصَلَاةٌ
23 وَزَنزانَةٌ يَشمَخُ الصمْتُ في قبْضتيْهَا
- وَتعْنُو الدَّوَاة.
25 أقُولُ عرَفْتُكِ،
26 أَنْتِ…
في البداية نواجه دائما نفس المركبات المتوازية المترابطة بالعطف، والمرتبطة دلالياً لا تركيبياً بجملة سابقة، على سبيل التفسير. التوازي يتمثل هنا في العبارتين: "قرارة كأسي وقبضة فأسي". مركبان استعاريان، كما عهدنا. إذ أنت لا يمكن أن تكون قرارة الكأس. شيء مادي مقابل شيء إنساني أو حتى جغرافي. وكذلك الأمر قبضة فأسي. ربما أراد الشاعر أن يجعل من سبتة التي يخاطبها شيئاً من ملازماته الوجودية الأشد عفوية وطبيعية. إلا أن هذا التوازي مذيل بأربع توازيات صغرى يتألف كل طرف من كلمة واحدة. وترتبط هذه بالعطف في ما بينها. كما ترتبط بالتوازيين السابقين بالعطف أيضاً. هذه التوازيات الصغرى هي أنت "عتبٌ وكفارةٌ وصلاةٌ وزنزانةٌ" الخ. هناك دائما تشبيه أو استعارة بأشياء مما يرتبط ارباطاً حميمياً بالإنسان أو بهذا المتحدث. إلا أن هناك في هذا العطف شيئاً لافت، ألا وهو عطف زنزانة على العتب والكفارة والصلاة وهي كلها ذات محتويات دينية وعاطفية. عطف الزنزانة على هذا فيه بعض المفارقة. ولكن في الشعر هذا جميل. وفي النثر مرذول. ففي النثر لا نعطف إلا بين الأشياء المنتمية إلى نفس الجنس. في الشعر حيث يعتبر "الجمع بين أعناق المتنافرات" من المفاخر، فهذا ليس مباحاً فقط بل مطلوباً. إلا أنه في الشعر ينبغي أن يكتسب هذا التنافر انسجاماً ما إيحائياً أو عاطفياً حيث ترغم الكلمات على أن تبوح في الشعر بما لا يصرح به في المعاجم وفي الممارسة النثرية. إلا أن الشاعر قد يتوسل بالتوازي الحرفي أو شبه الحرفي، كما نلاحظ في المقطوعة الآتية:
33 آه قاتِلتِي أنتِ
34 حينَ أجوسُ شَوارعَكِ الخَلفَ
35 حاناً ومَبغَى
36 وحِينَ أراكِ عطوراً مهَربةً
37 وخموراً
38 وَتِبْغاً
39 وحِينَ أرَاكِ علَى مَدخَل الثغْر
40 عاشِقةً غجَرِيَّةً
41 مضَرَّجَة تَحتَ أحْذيَّة الْهتْكِ
التوازي الحرفي المصغر يتمثل في عبارته "حاناً ومبغى" و "عطوراً مهربةً" و"خمراً وتبغاً". إنها ألفاظ حرفية يُعطف بعضها على بعضٍ. وهي في مجملها ترتبط بالفعل "أراك" باعتبارها مفاعيل. إن هذه عبارات تدل على البضائع المهربة والموجه بلاستهلاك السفيه والمؤذي. وهي تنأى عن العبارة الاستعارية. بل لا استعارية هنا إلا ما هو شفيف ينتسب إلى الرصيد الثقافي أو حتى الشعبي. جعل سبتة أنثى يُنتهَك عرضها، وتداس بأحذية البطش ويَتنكَّر لها الأهل. وهذا إما عبارات حرفية أو عبارة استعارية عامية. هذه بصفة مجملة أشكال التوازي في هذه القصيدة، التوازي بشكلية المصغر والكبير، وبصيغتيه الأستعارية والحرفية. لقد توقفنا من خلال العرض السابق على مقومين من مقومات قصيد سبتة للمجاطي. أقصد إلى الاستعارة وإلى التوازي.
3. بناء القصيدة.
علينا الآن أن نتصدى للمتوالية الممتدة من البداية إلى النهاية. نلاحظ أن هذه المتوالية لا يمكن إخضاعها للنماذج البنائية المعروفة في تاريخ البلاغة والشعرية. فحينما نستعرض نموذج القصيدة في النقد العربي، كما صاغه ابن قتيبة، نجده يقوم بالأساس على اعتبار هذا البناء قائماً على تتابع الأغراض من جهة، وعلى ربط هذه الغرضية بالمقاصد التداولية. يقول ابن قتيبة:
"قال أبو محمد: وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مُقصِّد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها […] ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه وليستدعي إصغاء الأسماع لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب […] فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب والسهر وسرى الليل […] فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه للسماح […] فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام"[82].
هذا التصور لبناء القصيدة لا نعترض عليه لكونه نموذجا اختص بالقصيدة المدحية وحسب، بل نعترض عليه لكونه قائما على اعتباره القصيدة تعاقبَ أغراضٍ، علماً بأن البلاغي العظيم عبد القاهر قد ميز بين الأغراض ووجه الدلالة على الأغراض[83]. لقد اعتبر الأولى لا علاقة لها بالشعر، واعتبر الثانية هي معدن الشعر. وهذا النموذج لابن قتيبة لا يلتفت إطلاقاً إلى الخاصية المحايثة للنص الشعري، أي وجه الدلالة على الأغراض. إنه يصف القصيدة باعتبارها هيكلاً نثرياً وأغراضاً مجردة ولا يقول كلمة ما على الخاصية الشعرية، وبالخصوص ملمح التصوير الاستعاري الذي ينقل المادة النثرية إلى مستوى الشعر.
وكما نعترض على نظرية ابن قتيبة نعترض أيضاً على نموذج أرسطو الموضوع للشعر وللخطابة. إن بناء الشعر يقوم، حسب التصور الأرسطي، على "ترتيب الأحداث" وهذه الأقسام هي التقديم والعقدة والانفراج. ويمكن أن تصل هذه الأقسام إلى العدد خمسة إذا راعينا غناء الجوقة الذي يتخلل الموقعين بعد التقديم وبعد العقدة. إلا أن الأرسطيين المتأخرين أمثال سْكالِيجِيرْ يجعلون أجزاء التراجيديا أربعة أجزاء هي التقديم والعقدة والتعليق (أو كبح الحدث) والانفراج. ويوصل هُورَاسْ هذا العدد إلى خمسة، وذلك بالتمييز في العقدة بين لحظتين[84].
أما بالنسبة إلى النموذج الخطابي فإن الخطابة تنقسم حسب المرجعية الأرسطية إلى قسمين أساسيين هما السرد والحجاج. إلا أن أرسطو تبنى التقسيم الرائج الذي يعتبرها أربعة وهي التقديم والسرد أو العرض والحجاج والخلاصة. إلا أن هذه الأقسام يمكن أن تصل إلى ستة، وذلك بتفريع الحجاج إلى تثبيت وتفنيد وتفريع السرد إلى عرض ووصف[85].
والواضح أن المقومات المميزة للتراجيديا، التي يدعوها أرسطو "الشعرَ"، هي "الأحداث مرتبة ترتيباً بحسب الضرورة أو الاحتمال" هذه النواة الحدثية، والمرتبة تبعاً لغايات سردية حكائية، ذات تأثيرات تطهيرية بعيدة كل البعد عن الجنس الشعري الذي نتحدث عنه هنا. إن الاستعارية لا تحتل هنا إلا المواقع الترفية أو الهامشية بحيث أن الاستغناء عنها ممكن جداً. كما أن هذا الاستغناء لا يمس بأي ضرر هيكل التراجيديا. والحال أن الاستعارية هي مادة الشعر وصورته المحايثة. وإن أي نص يتحول إلى حطام حينما نجرده من هذه الاستعارية.
وما نقوله عن التراجيديا يمكن قوله عن بناء الخطابة. إن مكوناتها الأساسية هي كل المواد الحجاجية، من عرض للملف وتأكيد وتفنيد واستنتاج. إن أم الغايات هنا هي الإقناع. والحال أن الشعر لا ينظر إلى الإقناع إلا باعتباره غاية ثانوية. ولقد أحسن أ. بِيرْنْ جُوفْرُويْ A. Bern-Joffroy التعبير عن هذا الموقف الشائع في العصور الحديثة ما بعد الكلاسيكية: "إن الشعر الخالص هو هذه اللحظة السامية حيث ينشغل النظم عن محتوياته بتناغمه. إنه النظم الذي لم يعد راغباً في قول أي شيء، وأصبح يهوى مجرد الغناء"[86].
وفي كل الأحوال فإن الشعر لا يتميز عن الخطابة بإدارة الظهر للمقاصد الحجاجية المكشوفة، بل إنه يتمسك تمسكاً شديداً بما يعتبر في الخطابة مجرد زوائد وفضول مزعج. وليست هذه الزوائد إلا المقومات اللفظية والاستعارية، وهي المقومات التي لا تحتل إلا المنازل الوسطية في الخطابة. وحينما يتزود الخطيب من مستودعات هذه المقومات الشعرية فإنه يسارع إلى تطهيرها من ملامحها الشعرية. ولهذا فإن هذا لن يفيدنا في مسعانا.
لا نعتقد بالإضافة، إلى هذا، أن القصيدة الحديثة تخضح لبناء ثابت. بل لقد ذهب نُورْثْرُوبْ فْرَاي إلى أن القصيدة تعبر عن حالة نفس انفعالية مستعصية أمام محاولات عقلنتها كما نلاحظ في النص السردي الذي يقوم على الحبكة. تمكن المجازفة فوق هذا قائلين إن كل قصيدة تصطنع لها ترتيباً خاصاً. وهذا الترتيب لا يقوم على مراعاة خاصية واحدة. بالنسبة إلى حالة سبته يمكن القول إن الاستعارة تلعب الدور الأساسي في بنائها، بل يمكن أن نتمم هذا بالتناوب بين الاستعارة والعبارة الحرفية.
نلاحظ حينما نتأمل قصيدة "سبتة" أن النسيخات الاستعارية الملتصقة على ظهر الرسالة الحرفية هي التالية:
1. 1 ـ 12 استعارة مبتكرة: النهر عامل تطهير وانبعاث
2. 13 ـ17 استعارة مستهلكة ـ شاهد تاريخي: سبتة أندلس.
3. 18 ـ32 استعارة مبتكرة: سبتة أنثى طاهرة ومدنسة.
4. 33 ـ 38 قطعة حرفية كنائية: ملامح سبتة اللاإنسانية .
5. 39 ـ 43 استعارة مستهلكة: أنثى يغتصبها العدو على مرأى أهلها.
6. 44 ـ 50 استعارة مبتكرة: خطاب سبتة للنهر.
7. 51 ـ 59 استعارة مستهلكة ـ شاهد معاصر: تطوان ومراكش عبدتان.
8. 60 ـ 73 استعارة متصلة بالسابقة وتطوير لها: سبتة تنشد الحرية.
- 74 ـ 81 استعارة مبتكرة: تعديل استعارة النهر، مذبح النهر. والأمل في إدراك الثورة
- 82 ـ 85 استعارة مبتكرة: عودة الاستعارة القائمة في الأشطر 9 ـ 12.
إن تعاقب الاستعارات المعروضة في هذا النص لا يخضع لنظام ما أو منطق.
إننا نستطيع أن نلاحظ شيئاً مثيراً عند المجاطي هنا؛ يتمثل الأمر في هذا البناء الدوري الذي أغرم به.
يبدأ النص، إذا لم نعتبر العنوان ذا الدلالة الحرفية بداية، باستعارة ويختتم بجزء من هذه الاستعارة البدئية. ولهذا نستطيع أن نزعم أن للنص بناءاً دائرياً أو دورياً. إلا أن بين البداية والنهاية تقوم حزمة من الاستعارات الكبرى التي تؤول كلها على ضوء العنوان، أو على ضوء امتداداته الكنائية، حيث سبتة تبدو "حاناً ومبغى وعطوراً مهربة وخموراً وتبغاً" الخ. والواقع أن هذا النمط من البناء اعتمده المجاطي في قصائد أخرى. إن قصيدة "القدس" تفتتح بقوله:
رأَيْتُكِ تَدْفنِينَ الرِّيحَ
تَحْتَ عَرائِشِ العَتْمه
وتلتَحفِينَ صَمْتكِ
خَلْفَ أعْمِدةِ الشَّبابِيكِ
تَصبينَ القبورَ
وَتشْربِينَ
فتظْمَأُ الأَحْقَابُ
ويَظْمأُ كلُّ مَا عَتّقْتُ
مِنْ سُحُبٍ ومِنْ أكْوَابْ
ظَمِئنا
والرَّدَى فيكِ
فأيْنَ نَموتُ ياعَمه.[87]
وتنتهي القصيدة بتكرار جزئي لهذا المقطع وهو الممتد من "تصبين القبور" إلى "فأين نموت ياعمه". وكذلك فعل في قصيدة "كتابة على شاطئ طنجة". ففي بداية القصيدة يقول المجاطي:
جبَلُ الرِّيف عَلَى خَاصِرَة الفَجْرِ
تَعثَّر
هَبّتِ الرِّيحُ مِنَ الشَّرقِ
زهتْ فِي الأفقِ الغَرْبِيِّ
غَابَاتُ الصَّنَوْبَرْ
لا تَقُلْ للكَأسِ:
هَذَا وَطنُ اللهِ
فَفِي طَنْجةَ يبْقَى الله فِي مِحْرابِهِ الخلْفيِّ
عطْشَانَ
ويَسْتَأسِدُ قَيْصَرْ.[88]
ويكرر المجاطي الجزء الثاني من المقطع السابق في آخر القصيدة، أي قوله:
لا تَقُلْ للكَأسِ:
هَذَا وَطنُ اللهِ
فَفِي طَنْجةَ يَبْقَى الله في مِحْرابِهِ الخلْفيِّ
عطْشانَ
ويَسْتَأسِدُ قَيصَرْ[89].
من الواجب التأكيد أن مجلة المشكاة[90] التي نشرت هذه القصيدة مجردة من عبارة
فَفِي طَنْجةَ يبقى الله في مِحْرابِهِ الخلْفيِّ
عطْشانَ
لم تمس الصيرورة التناصية الاستعارية وحسب، بل مست بذلك بناء القصيدة برمتها كما يظهر هذا المثال.
إذ إن هذا المقطع الشعري بتجريده من العبارة السابقة تبطل الإحالة التناصية على عبارة السيد المسيح "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله". إن تعطيل الأحالة على عبارة المسيح، هو تعطيل لحقل دلالي كامل وإخلال ببناء القصيدة وإفقار لها بنائياً وجمالياً. إنها تُحْرَم هنا من الربط بين هذين السياقين، سياق عيسى عليه السلام وعلاقته بقيصر وما يلازم كلاً منهما، وسياقنا المعاصر في المغرب الذي يعتبر سياق قصيدة المجاطي. وهذا السياق المحذوف أو الإحالة التناصية جزء مركزي من النص. حذف هذه العبارة التناصية هو بتر لعضو أساسي من النص، وإبطال لكتلة مهمة من دلالة هذه القصيدة. حذف هذه العبارة يقوض حبلاً قويا تقيم من خلاله القصيدة علاقة مع عالم دلالي مترامي الأطرف. بحذف هذا المقطع نمزق هذه الرابطة التي تكتسب القصيدة من خلالها معاني أساسية. بتمزيق هذه الرابطة نبدد ذلك الغنى الدلالي الذي كانت تتمتع به القصيدة، لكي تصبح جسداً شاحباً.
إلا أن هذه النهايات تأتي أحياناً معدلة تعديلات شكلية تقوم على التأليف بين عدة أسطر واردة في بداية النص فتختم بها القصيدة. وهذا التأليف لا يغير من محتوى النص أو المقطوعة. إن دورها هنا تكثيفي. مثال هذا ما حصل في قصيدة "من كلام الأموات". إن القصيدة تبدأ بالمقطوعة التالية:
أنا المنسِيُّ عنْدَ مقالِع الأَحْجَارْ
وتحتَ الصَّخرَةِ الصَّماءِ
تأكلُ مِنْ شَرايينِي
مَساميرُ الدُّخانِ
أكَادُ لاَ أصْحُو ولاَ أَغْفو
تَجَاوزَني الْمدَى
وانحَلَّ ما بينِي وبين اللّه
تمزق كُلُّ شَيء فِي يَقينِي
ما هدِير الْمَوْج
ما الأَنْهارْ
وما الأَبَد الذي يَنأى
ومَا الأزلُ الذي يَجفُو
وَمعْنى أنْ أَحِنَّ.[91]
وتنتهي بعبارته:
يَاويحِي
تمزق كُلُّ شَيء فِي يَقينِي
ما هدِيرُ الْمَوْج
ما الأَنْهار
أنا المنسِيُّ عنْدَ مقالِع الأَحْجَارْ[92]
إننا نستطيع أن نصف كل هذه التكرارات باعتبارها، رغم التعديلات التي تمسها، تكرارات تكثيفية أو تفخيمية. إن هناك تقوية للتحققين. التحقق الأول يكتسب القوة بعد تلقي التحقق الثاني الذي يجعلنا نعيد الالتفات إلى التحقق الأول، ونجدد مشاهدته بعد أن كان خافتاً في اللحظة الأولى. إلا أن التحقق الثاني لا نتلقاه على خلفية فارغة، بل ممتلئة. بهذا التفخيم يفخم المعنى، وينبعث الانفعال. إلا أن للمجاطي استخدامات مختلفة عن هذا الجنس. فلو تأملنا المثال الذي يقدمه في قصيدته "الخمارة"
تفْتَح الكَأءسُ أَقبَاءَها
تتواتَرُ فِيهَا النُّعوتْ
تتَنكَّرُ فيِ ثَوبِ عاشِقَةٍ
تَنْثُرُ الوَرْدَ من شُرفَاتِ البُيُوتْ.[93]
يتناوله بالتعديل فيختم به القصيدة. وبهذا تصبح النهاية هي:
تَخْلَعُ الكَأسُ أَسمَاءَهَا
تتواتَرُ فِيهَا النُّعوتْ
تتَنكَّرُ فيِ ثَوبِ زَنْـزَانة
تَنْثُرُ الوَرْدَ من شُرفَاتِ البُيُوتْ.[94]
هذا الاستبدال لبعض الكلمات في هذه المقطوعة أكسبت نهاية النص لوناً سخرياً ودرامياً. إننا ننتقل من أجواء السكر التي تفتح القصيدة إلى أجواء السجن التي تختم بها. هناك تقنية مثيرة في هذا النص. إن تكرار المقطعين واستبدال التحقق الثاني لكلمة "عاشقة" بـ "زنزانة" من شأنه أن يولد صورة استعارية ونحن نندهش بالوقوف على هذه اللفظين المتناوبين على نفس السياق. لا مفر لنا هنا من الربط الاستعاري الحر. هناك عالمان متباينان، احتال الشاعر بإحلال أحد اللفظين، أو المعنيين، محل الآخر، على جعلهما متشابهين لمجرد استحضارهما بشكل في نفس اللحظة.
وقد يعمد المجاطي إلى أقفال لا تكرر مقطعاً متحققاً في صدر القصيدة بل تكرر مقطعاً يختم منتصف القصيدة. فإذا كانت الصيغة الأولى تتخذ الشكل الآتي:
س ، فإن الصيغة الثانية تتخذ الشكل الآتي: …س …س
ومثال هذا الشكل الأخير ما تحقق في قصيدة "قراءة في مرآة النهر المتجمد"[95]
فقد ختم الجزء الأول من القصيدة بقوله:
كَأنَّ ذاكَ الأطْلسَ العَاشِق
حِينَ رقْرقَ الَماء
بَكَى دماً وشَقَّ في الصَّحرَاءِ
صَحْراءَ.
وختم به نفسه نهاية القصيدة بعد تعديلات طفيفة:
ومنْ يَقولُ إنَّ ذاكَ الأطْلسَ العَاشِق
حِينَ رقْرق الَماءَ
بَكَى دماً
وشَقَّ في الصَّحرَاءِ
صَحْراءَا.
وهذه الصيغ التكرارية التي تدعم البناء النصي يمكن أن يتخذ صيغاً أخرى. ويمكن أن نعثر على ما يناظر هذا البناء في المحسنات التي تتحقق على صعيد بناء الجملة. إن الشكل الأول يناظر التكرار الاعتراضي أو الدوري، كما نلحظه في قول الأحيمر السعدي:
"عوَى الذِّئبُ فاسْتأنَستُ بالذِّئبِ إذْ عَوَى وَصوَّتَ إِنسانٌ فكِدتُ أطِيرُ"[96]
والشكل الثاني يناظر التكرار الاختتامي، ومثاله قولة محمود درويش في قصيدته "أنا يوسف ياأبي":
هُم سـمَّـموا عِنَـبي يَاأَبِي. هم حطَّموا لُعبِي يَاأَبِي.[97]
والواقع أن هذه من المسالك التي يمكن نهجها لوصف بناء القصيدة، أي أن نتخذ من بناء الجملة نموذج بناء القصيدة. إلا أن هذه قصة أخرى ليست موضوعنا الآن. وما عدا هذه الدورية التي تقوم عليها قصيدة سبتة، فإننا نؤكد أن القصيدة تتخللها هذه القطع الحرفية الدلالة الخالصة التي يمثلها العنوان أحسن تمثيل، أو الحرفية الكنائية كما نلاحظ ذلك في القطعة الممتدة بين الأسطر 33 و 38.
إلا أن هذه الحرفية تأتي مدعومة بالاستعارات الشاهدية القديمة: الأندلس، والمعاصرة: تطوان ومراكش. وتؤمن هذه الشاهدية الحرفية الشفافية شأنها شأن تلك الاستعارات العامية الملحوظة في الأسطر 39 ـ 43.
ويمكن اختزال هذا البناء بدلياً بعد أن فصلناه مركبياً في الصيغة التالية.
أولا: استعارة النهر التي تحققت في القطعة 1 الافتتاحية وفي القطعة الأخيرة الاختتامية 10 وفي القطعة ما قبل الأخيرة 9 أي النهر ذبيحاً وفي القطعة 6 حيث تخاطب سبتة النهر. (استعارة النهر يجوز أيضاً اعتبار هذه استعارة رمزية).
ثانياً: استعارة شاهدية تتمثل في القطع 2 شاهدية الأندلس و7 وهذه شاهدية معاصرة و8 التي تمثل نفي الشاهد حيث تنشد سبتة الحرية. (هناك امتزاج الشاهدية والاستعارية في الحالة الأخيرة).
ثالثاً: استعارة الأنثى في كل حالاتها، المحصنة والمغتصبة، في القطعين 3 و5 (استعارة مستهلكة، أي استعارة الأنثى للأوطان).
رابعاً: كناية، في القطعة 4. والكناية لها هنا أساس حرفي. لهذا فهي تطوير حرفي للعنوان الذي يمثل غرض النص. في الحقيقة كل العبارات الحرفية في القصيدة يمكن تأويلها تأويلاً كنائياً خفيفاً.
هي هذه البنائية البسيطة التي نسعى إلى تطبيقها، البنائية التي يمكن أن يطبقها أي كان، مع تفادي هدر حقوق الشعر والاستعارة على وجه الخصوص، ملكة المقومات الشعرية وسيدتها على الإطلاق. أو بعبارة جْيَانْبَاتِيسْتَا فِيكُو: "نور الخطاب ونجمه"[98]. فإذا كان هذا النص قد احتفظ بقدر كبير من الشفافية فإن ذلك يعود إلى عدة اعتبارات نصية. إن العنوان يشف عن محتوى النص بشكل واضح. إنه اسم علم مكاني ذو دلالة مرجعية خلو من كل إبهام. تتخلل النص كتلة نصية حرفية الدلالة تحيل على جزء أو صفات محددة من المرجع المشار إليه أعلاه. الاستعارات التي تنتثر عبر جسد القصيدة تعتمد الشاهدية أي تعتمد المقارنات المنتمية إلى نفس الجنس؛ مقارنة سبته بالمدن الأندلسية أو مقارنتها بالمدن المغربية المعاصرة. وهذا يجعلنا نتنفس في نفس المناخ المرجعي الذي يند عن الإبهامية. أما الاستعارات فهي استعارات رمزية حينا: رمزية النهر المتوزعة على مواقع مهمة في النص: في صدر القصيدة وفي نهايتها. وهذه تعتمد على مشابهات عرفية وربما كونية. وإلى جانب هذا هناك استعارات مستهلكة في الشعر المعاصر هناك استعارة الأنثى مطهرة ومدنسة لسبتة السليبة.
ويمكن تفسير هذه الشفافية باعتبارات خارجية. إن المجاطي نزاع إلى اعتبار الشعر أداة ينبغي تسخيرها في الصراع الاجتماعي ونصرة المقهورين. الشعر في هذا التصور لا تنتهي غايته في الاستهلاك الترفي أو الاستمتاعي؛ الغاية النهائية ليست هي جعل الكلمات أشياءَ، حسب العبارة الشهيرة لجَاكُبْسُون. بل إن للشعر، وراء التلقي المباشر، غايةً تتخطاه إلى الواقع والحياة الإنسانية وتغيير الأوضاع المتردية. ينفر المجاطي من تصورات "الشعر لأجل الشعر" التي بشر بها الرومانسيون ودعاة الفن للفن وكل من اعتبروا النص هو الغاية النهائية التي لا غاية بعدها، أو بناءً منغلقاً على ذاته. إن تصوره للشعر هو تصور الشعراء والأدباء والفلاسفة الذي يعتبرون الفن عموماً مجرد وسيلة لغاية تتخطاه نحو هموم الإنسان على هذه الأرض: يقول أُوكْتَابْيُو بَاثْ: "الأدب هو دائماً نقدي، دائماً ثوري. يستفز دعاة الأخلاق/ ويستفز الفلاسفة، ويستفز السياسيين ويستفز أيضاً الطوباويين"[99].
المجاطي أقرب إلى مواقف علماء الخطابة الذين يعتقدون أن أي إنتاج خطابي يسعى إلى تغيير مواقف الناس عبر تعديل أفكارهم وعواطفهم بالتوسل بأدوات اللغة. إلا أننا قد نجد بعض علماء الشعرية ممن لا يمكن أن نحسبهم على المدرسة الاجتماعية أو على علماء الخطابة من يخص الشعر بهذا الدور الخطابيي. يقول جان كوهن: "إن الشعر يظل دوماً في وفاق مع الوظيفة البلاغية [أي الخطابية أو الحجاجية] العامة، التي هي تغيير حال ذلك الذي يتلقى الخطاب بواسطة الخطاب نفسه. إلا أن الأمر، بالنسبة إلى الشعر، لا يتعلق بتغيير المعتقد، ولكن تغيير الرؤية. إن هدف الشعر ليس هو الإقناع ولكنه، وعلى غرار ما تقول البلاغة القديمة "التأثير"، بمعناه الاستعاري، حيث يعني بالضبط: التحسيس"[100].
هذا الحرص على احترام أواصر التواصل مع المتلقي وتعديل أفكاره وعواطفه من الأسباب الرئيسية التي تكسب شعر المجاطي هذه السحنة الشفيفة. والمجاطي فوق هذا وذاك من شعراء النخبة التواقين إلى الديموقراطية وإلى العدالة الاجتماعية والوحدة القومية العربية، ومناهضة التبعية للغرب، والأخذ بالعقلانية في تدبير شؤون الأمة والنفور من كل أشكال النكوص الماضوية. هذه الاعتبارات لمما يكسب شعره لوناً وطنياً وتقدمياً هو امتداد للوطنية المغربية. بل إن سبتة نفسها دالة على أن الحركة الوطنية لم تستنفد مهمتها المتمثلة في تحرير كل التراب الوطني من نير الاستعمار. وهكذا فإن شعر المجاطي هو على هذا الصعيد استمرار لفكر الوطنيين المشهورين. عبد الكريم الخطابي والمهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وآيت يدر. وهو امتداد أيضاً للفكر السياسي عند عبد الله ابراهيم وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري. كما أنه يتنفس في أجواء الرياح التي كانت تهب من الشرق والتي امتازت في عمومها بمناهضة السلفية، وكل أشكال الظلامية، ومقاومة الصهيونية وليدة العصور الاستعمارية.
ولهذا فإن شعره على الرغم من أنه يعيش عصر الحداثة إلا أن هذه الحداثة لا ينبغي قياسها على الحداثة الغربية. شعر المجاطي بعيد كل البعد عن النوازع الرومانسية وما ترتب عنها من اتجاهات رمزية وسريالية وعبثية. إن شعره مزيج من الفحولة الكلاسيكية ومن الواقعية المناضلة التي تسخر الكلمة لأجل غد أفضل. وهذا هو الذي يجعل شعره ذا طعم خطابي. إن الشعر عنده قلما تكرس لخدمة الأهواء الذاتية، بما في ذلك الهوى الأكثر تجذراً في الذاتية وهو هوى الخمرة، أو هوى النساء. لقد كان على العكس من ذلك يرى الشعر أو الكلمة أداة فعالة لتغيير شؤون الناس في اتجاه إنساني. ولهذا جاء شعره سجلاً وتغنياً بكل التحركات النضالية الساعية إلى قلب الأوضاع الاجتماعية والسياسية، واستنكاراً أو احتجاجاً على ما يعاني منه الإنسان المغربي والعربي من الاستعمار والتخلف والقهر. لقد كان إحساس المجاطي بقساوة الواقع وسلبية المحاولات التغييرية وخمود المجتمع أمام أسباب التردي أكبر من أن ينفخ في شعره نفَس التفاؤل. ولهذا فقد جاء شعره مشبعاً بهذا الشعور السوداوي متمزقاً بهذا الإحساس الممض. وهذا اللون الانفعالي هو الذي أكسب شعره هذه النـزعة الغنائية. إذ الغنائية هي بالتحديد التعبير عن إحساس بفقدِ، أيِّ فقْدٍ، لا يعوض. إنه التعبير عن إحساس بأننا قد فقدنا شيئاً عزيزاً لا سبيل إلى استرجاعه. هو هذا إحساس المجاطي. ولا أعتقد أن هناك عبارة أجمل من عبارة المجاطي في التعبير عن هذا الإحساس بالإحباط.
المراجع
أحمد المجاطي، الفروسية، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، 1987.
عبد اللقاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تح. هيلموت رايتر، استانبول، 1954، ص. 313
ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تح. م. ج. دو كوج، بريل، ليدن،1902
حازم القرطاجني، منهاج البلاء وسراج الأدباء، تح. محمد الحبيب ابن الخوجة، منشورات دار الغرب الإسلامي، بيروت.
جان كوهين، بنية اللغة الشعرية، تر. محمد الولي ومحمد العمري، منشورات دار توبقال، البيضاء، 1986.
محمود درويش، حبيبتي تنهض من نومها ( الأعمال الأولى)، منشورات رياض الريس للكتب والنشر، 2005
يوميات جرح فلسطيني،حبيبتي تنهض من نومها ( الأعمال الأولى)، منشورات رياض الريس للكتب والنشر، 2005
ورد أقل، منشورات توبقال، البيضاء، 1990.
- Jean Cohen, Le haut langage, éd. Flammarion, Paris, 1979.
- Hugo Friedrich , Structures de la poésie moderne, ed . Livre de poche, Paris, 1999.
- Heinrich Lausberg, Elementos de retorica literaria, (3 Tomos), ed. Gredos, Madrid, 1975.
- John Lyons, Eléments de sémantique, éd. Larousse, Paris, 1978.
- Octavio Paz y Julian Rios, Solo a dos voces,ed. Fondo de cultura economica, Mexico, 1999.
- Chaim Perelman, Traité de l’argumentation, Edition de l’université de Bruxelles, 2008.
- Friedrich Schleiermacher, Des méthods du traduire , ed. du seuil,1999.
- Giambattista Vico, Elementos de retorica, editorial Trotta , Madrid, 2005.
أستاذ البلاغة، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس
[1] عبد اللقاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تح. هيلموت رايتر، استانبول، 1954، ص. 313
[2] حازم القرطاجني، منهاج البلاء وسراج الأدباء، تح. محمد الحبيب ابن الخوجة، منشورات دار الغرب الإسلامي، بيروت، ص.23
[3] جان كوهين، بنية اللغة الشعرية، تر. محمد الولي ومحمد العمري، منشورات دار توبقال، البيضاء، 1986، ص. ص. 34ـ35
[4] أحمد المجاطي، الفروسية، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، 1987.
[5] أحمد المجاطي أحد أكبر الشعراء المغاربة، من مواليد سنة 1936 كانت وفاته سنة 1995. صدر له ديوان واحد هو الفروسية المنشور سنة 1987.
[6] الفروسية، دار لقمان، ص. 35
[7] John Lyons, Eléments de sémantique, éd. Larousse, 1978. p. 148
[8] الخمارة، ص. 100
[9] ملصقات على ظهر المهراز، ص. 129
[10] الفروسية، الحروف، ص. 127
[11] الفروسية، دار لقمان 1965، ص. 31
[12] وأما لقمان الذي أتى عليه الله تعالى في كتابه فقيل في التفسير: إنه كان نبياً، وقيل كان حكيماً لقول الله تعالى : ولقد آتينا لقمان الحكمة، وقيل كان رجلاً صالحاً، وقيل كان خياطاً، وقيل كان نجاراً، وقيل كان راعياً وروي في التفسير أن إنساناً وقف عليه وهو في مجلسه فقال ألست الذي كنت ترعى معي في مكان كذا وكذا؟ قال بلى ، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال صدق الحديث وأداء الأمانة والصمت عما لا يعنيني، وقيل كان حبشياً غليظ المشافر مشقق الرجلين، هذا كله قول الزجاجين وليس يضره عند الله عز وجل شرفه بالحكمة.
لسان العرب، مادة: لَقَمَ
[13] الفروسية، قراءة في النهر المتجمد، ص. ص. 40 ـ43
[14] الفروسية، ملصقات على ظهر المهراز، ص. ص.47 ـ50
[15] الفروسية، القدس، ص. 58
[16] الفروسية، القدس، ص.ص. 57 ـ 58
[17] الفروسية، وراء أسوار دمشق، ص. 89
[18] الفروسية، الخوف، ص. 9
[19] الفروسية، الحروف، ص.ص. 128 ـ 129
[20] الفروسية، مشاهد من سقوط الحكمة في دار لقمان، ص.ص. 95 ـ 96
[21] الفروسية، مشاهد الحكمة في دار لقمان، ص.ص. 96ـ97
[22] الفروسية، دار لقمان، ص.ص. 36ـ37
[23] الخمارة، الفروسية، ص.ص. 99 100
[24] القدس، الفروسية، ص.ص. 57ـ58
[25] من كلام الموتى، الفروسية، ص. 105
[26] كتابة على شاطئ طنجة، الفروسية، ص.ص. 70 ـ71
[27] Chaim Perelman, Traité de l’argumentation, Edition de l’université de Bruxelles, 2008, p. 239
[28] الفروسية، عودة المرجفين، ص.ص. 16 ـ 17
[29] الفروسية، القدس، ص. 57
[30] الفروسية، القدس، ص.ص. 57ـ58
[31] السقوط، الفروسية، ص. ص. 65ـ66
[32] وراء أسوار دمشق، الفروسية، ص.ص. 92ـ93
[33] كتابة على شاطئ طنجة، الفروسية، ص. 67
[34] خف حنين، الفروسية، ص. 113
[35] من كلام الأموات، الفروسية، ص. 106
[36] في اللسان، الربابة: الحنين الشديد من البكاء والطرب، وقيل هو صوت الطرب كان ذلك عن حزن أو فرح. والحنين : الشوق وتوقان النفس […] وحنت الإبل: نزعن إلى أوطانهن أو أولادها. […] وأصل الحنين ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها. السحاب يرب المطر أي يجمعه وينميه. والرباب بالفتح سحاب أبيض، وقيل: هو السحاب واحدته ربابة؛ وقيل هو السحاب المتعلق الذي تراه كأنه دون السحاب. […] قال أبو عبيد: الرباب بالفتح : السحابة قد ركب بعضها بعضاً وجمعها رباب . […] أربت السحابة دام مطرها. […] الرباب قرب العهد بالولادة. […] قال الأصمعي أنشدنا منتجع بن نبهان
حنين أم البو في ربابها
والربابة بالكسر: جماعة السهام. وقيل خيط تشد به السهام: الجلدة تجمع فيها السهام […] والربابة والرباب العهد والميثاق.
[37] سبتة، الفروسية، ص. 73
[38] قراءة في النهر المتجمد، الفروسية، ص.ص. 39ـ41
[39] دار لقمان 1965، الفروسية، ص. 34
[40] الدار البيضاء، الفروسية، ص. 86
[41] قراءة في النهر المتجمد، الفروسية، ص. 39
[42] القدس، الفروسية، ص. 55
[43] عودة المرجفين، الفروسية، ص. 16
[44] كتابة على شاطئ طنجة، الفروسية، ص. 69
[45] القدس، الفروسية، ص. 55
[46] مشاهد من سقوط الحكمة في دار لقمان، الفروسية، ص. 95
[47] من كلام الأموات، الفروسية، ص. 112
[48] كبوة الريح، الفروسية، ص.22
[49] قراءة في النهر التجمد الفروسية، ص. 40
[50] القدس، الفروسية، ص.ص. 57 ـ58
[51] القدس، الفروسية، ص.ص. 55 ـ 56
ومن هذه الاستعارات استعارة "الصحراء" ؛ وقد استلهمها المجاطي في دار لقمان 1965، ص. 36، قراءة في النهر المتجمد، ص. ص. 41ـ43. القدس.57ـ58
[52] كبوة الريح، الفروسية، ص. 21
[53] عودة المرجفين، الفروسية، ص.ص. 19ـ20
[54] في اللسان، الربابة: الحنين الشديد من البكاء والطرب، وقيل هو صوت الطرب كان ذلك عن حزن أو فرح. والحنين : الشوق وتوقان النفس […] وحنت الإبل: نزعن إلى أوطانهن أو أولادها. […] وأصل الحنين ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها. السحاب يرب المطر أي يجمعه وينميه. والرباب بالفتح سحاب أبيض، وقيل: هو السحاب واحدته ربابة؛ وقيل هو السحاب المتعلق الذي تراه كأنه دون السحاب. […] قال أبو عبيد: الرباب بالفتح : السحابة قد ركب بعضها بعضاً وجمعها رباب . […] أربت السحابة دام مطرها. […] الرباب قرب العهد بالولادة. […] قال الأصمعي أنشدنا منتجع بن نبهان
حنين أم البو في ربابها
والربابة بالكسر: جماعة السهام. وقيل خيط تشد به السهام: الجلدة تجمع فيها السهام […] والربابة والرباب العهد والميثاق.
[55] "سبتة"، الفروسية، ص. 73
[56] " القدس"، الفروسية، ص. 55
[57] "كتابة على شاطئ طنجة، الفروسية، ص.67
[58] الدار البيضاء، الفروسية، ص. 81
[59] من كلام الأموات، الفروسية، ص. 107
[60] عودة المرجفين، الفروسية، ص. 16
[61] كبوة الريح، الفروسية، ص.ص. 26 ـ 27
[62] وراء أسوار دمشق، الفروسية، ص.ص. 87ـ88
[63] دار لقمان، الفروسية، ص. 31
[64] دار لقمان، الفروسية، ص. 35
[65] خفُّ حنَين، الفروسية، ص. 110 ومن هذه الاستعارات: طارق وعقبة، ص. 74 و129 وباقل، ص.125 وعرابي، ص. 91. وقيصر، ص.67.
[66] أرسطو، الخطابة، تر. عبد الرحمان بدوي، منشورات دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986، ص. 196.
يتحدث أرسطو في هذا النص على ثلاثة مستويات أسلوبية: الأول مناسب للموضوع، وهذا أسلوب خاص بالخطابة. إن غايتها هي الإقناع والإفهام اللذان لا يمكن أن يتحققا إلا بالوضوح. والمستوى الثاني هو المنحط أو الوضيع أي دون مستوى الموضوع. وهذا مما يناسب الكوميديا. أما المستوى الثالث "فهو فوق مكانة الموضوع" وهذا يناسب الشعر أو التراجيديا. بل ويناسب الشعر عامة بالمعنى الحديث للشعر.
[67] حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تح. محمد الحبي ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981، ص. 194
[68] سبتة، الفروسية، ص. 73
[69] Jean Cohen, Le haut langage, Paris, éd. Flammarion, 1979 . p. 166
[70] كتابة على شاطئ طنجة، الفروسية، ص. 67
[71] أحمد المجاطي، الفروسية، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، 1987،
[72] يوميات جرح فلسطيني،حبيبتي تنهض من نومها ( الأعمال الأولى)، منشورات رياض الريس للكتب والنشر، 2005، ص.ص. 356 ـ 457.
[73] الفروسية، ص. 75
[74] الفروسية، ص. 39
[75] في اللسان، الربابة: الحنين الشديد من البكاء والطرب، وقيل هو صوت الطرب كان ذلك عن حزن أو فرح. والحنين : الشوق وتوقان النفس […] وحنت الإبل: نزعن إلى أوطانهن أو أولادها. […] وأصل الحنين ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها. السحاب يرب المطر أي يجمعه وينميه. والرباب بالفتح سحاب أبيض، وقيل: هو السحاب واحدته ربابة؛ وقيل هو السحاب المتعلق الذي تراه كأنه دون السحاب. […] قال أبو عبيد: الرباب بالفتح : السحابة قد ركب بعضها بعضاً وجمعها رباب . […] أربت السحابة دام مطرها. […] الرباب قرب العهد بالولادة. […] قال الأصمعي أنشدنا منتجع بن نبهان
حنين أم البو في ربابها
والربابة بالكسر: جماعة السهام. وقيل خيط تشد به السهام: الجلدة تجمع فيها السهام […] والربابة والرباب العهد والميثاق.
[76] منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص. ص. 94ـ95
- سورة القارعه، الآيات 1 ـ 11 .
[78] لسان العرب، مادة نفش.
[79] Friedrich Schleiermacher, Des méthods du traduire, ed. du seuil,1999 différentes, p. 121
[82] ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تح. م. ج. دو كوج، بريل، ليدن، 1902 ص.ص. 15 14
[83] عبد اللقاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تح. هيلموت رايتر، استانبول، 1954، ص. 313
[84] تنظر تفاصيل هذا في كتابي لاوسبيرغ:
Heinrich Lausberg, Elementos de retorica literaria, ed. Gredos, Madrid, 1975, p. 42
Manual de retorica literaria, tomo 2, ed. Gredos, Madrid, 1966, pp. 464-469.
[85] Manual de retorica literaria, tomo 1, pp. 238-239.
[86]Hugo Friedrich , Structures de la poésie moderne, ed . Livre de poche, Paris, 1999, p. 191
[87] الـفـرُوسـيّـة، القدس، ص. 55
[88] الـفروسـيـة، كتابة على شاطئ طنجة، ص. 67 .
[89] الـفـروسـيـة، كتابة على شاطئ طنجة، ص. 71
[90] الـمشـكـاة، العدد، 24 ، 1996، ص. 111
[91] الفروسية، ص. 105
[92] الفروسية، ص. 105
[93] الفروسية، ص. 99
[94] الفروسية، ص. 102
[95] الفروسية، ص. 39ـ43
[96] عن ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص. 495
[97] محمود درويش، ورد أقل، منشورات توبقال، البيضاء، 1990، ص. 77
[98] Giambattista Vico, Elementos de retorica, editorial Trotta , Madrid, 2005, p. 209
[99] Octavio Paz y Julian Rios, Solo a dos voces,ed. Fondo de cultura economica, Mexico, 1999, p. 101
[100] Jean Cohen Le haut langage, ed Flammarion, paris, 1979, p. 172