يقدم الكاتب العراقي هنا شهادته على تجربته السردية، وكيفيه ارتباطها الشديد بالعراق، بالرغم من حياته في بلدان أخرى وتعرفه على ثقافات مغايرة. ويحاول تفسير تلك العودة الدائمة للهم العراقي/ الهم الإنساني والوجودي في آن.

كل ما كتبته كان عن العراق وقناعاتي عرضة للشك

محسـن الرملي

 

في إحدى المحاضرات التي ألقيتها في المكسيك، متحدثاً عن الأدب العربي عموماً والعراقي خصوصاً وتجربتي على وجه أخص، جئت على ذِكر ما نعرفه عن الأدب المكسيكي ومنه اسم كارلوس فوينتيس، ففاجأني أحد الحضور، ضمن المداخلات، بأنه على الرغم من فخرهم بكاتبهم الكبير فوينتيس إلا أنهم ملّوا من أعماله، لأنها كلها تدور عن المكسيك. هذه الملاحظة جعلتني أفكر طويلاً بنفسي وبأعمالي، لأن كل ما كتبته كان عن العراق.

روايتي الأولى (الفتيت المُبعثر) تناولت آثار الحرب العراقية ـ الإيرانية على المجتمع ـ ورواية (تمر الأصابع) دارت حول إشكاليات المهاجر العراقي والدكتاتورية وثنائيات أزمة الهوية، و(حدائق الرئيس) حاولت فيها استعراض مساحة أوسع من تاريخ العراق الحديث مع التركيز على ما حدث له قبل وبعد الغزو الأمريكي.

النقاش حول هذه المسأله، لازال دائراً في ذهني، فأقول: وماذا في ذلك؟ أليس من المتعارف عليه أن الكاتب يكتب عما يعرفه؟ نعم، ولكن أيضاً، الكتابة عما لا يعرفه، فالكتابة لابد وأن تنطوي على كشف واكتشاف ما، اكتشاف للذات والعالم، للفكرة والأحاسيس والخيال، تلمس لما نشعر به ونريد أن نقوله، وإذا كان بعض الكتاب يكتبون لأنهم يعرفون ما الذي يريدون قوله، فأنا أفضل أن أكون من أولئك الذين يكتبون كي يتعرفوا على: ما الذي يريدون قوله. ثم أنني لم أعرف العراق وحسب، فقد عشت وعرفت بلداناً وثقافات وأناس وتجارب مختلفة، فلماذا إذاً تكون كتاباتي كلها عن العراق؟ وماذا في ذلك؟ ألم يعش فوينتيس أكثر حياته خارج المكسيك وهو واحد من أكثر الكتاب اطلاعاً ومعرفة بالثقافة العالمية، ومع ذلك ظل يكتب عن المكسيك حتى مماته؟.

إذاً، ليس لدي ـ حتى الآن ـ سوى بضعة قناعات تقليدية ومعروفة تتعلق بالرواية والكتابة، وهي أيضاً عرضة للشك مثل كل الأشياء الأخرى التي أفكر بها. ومن بين أبرز هذه القناعات: أن الرواية، عموماً، هي رؤية للعالم أو للحياة من خلال عرضها لجانب أو لمقطع مجتزأ من هذه الحياة، وأكاد أعجب بكل الروايات التي أقرأها بما فيها التي يعتبرها غيري سيئة. لأنه ما من نص في العالم إلا ويوحي بشيء ما ويعني شيئاً ما. والقناعة الأخرى هي أن المضمون هو الذي يفرض الشكل، ومما لمسته في تجربتي بهذا الشأن أن ثمة تحولات قد طرأت على الأسلوب وفي المراحل التي تناولتها كل رواية، فكانت "الفتيت المبعثر" أكثر تجريباً وتكثيفاً وإيحاءات رمزية، وفي "تمر الأصابع" هيمنت الثنائيات على كل شيء تقريباً من حيث مستوى السرد والزمان والمكان والمواضيع والانشطار النفسي، أما في "حدائق الرئيس" فقد عاد السرد المستقيم المباشر الذي يركز على الموضوعة أكثر من التجريب باللغة، مع أن هذه الرويات الثلاث تشترك جميعها بأنها تتحدث عن العراق وأثر الأحداث والتقلبات السياسية عليه، لكن هذه التحولات في السرد، متأتية من طبيعة محتوى كل عمل بذاته وكذلك متأثرة بتحولات السرد الروائي في العالم بشكل عام.

والقناعة الأخرى هي: أن أبرز ما يجب التركيز عليه في المضمون هو الصدق. ولهذا فإنني كلما شرعت بالكتابة بصدق حضر العراق فيما أكتبه. ليس لأنني شخص وطني متعصب، كما أني لست بصاحب قضية وطنية يكرس كل حياته لأجلها، وإنما، في الأصل هو أمر يخص علاقتي بالكتابة ذاتها، أي أنه هم وجودي يتعلق بمحاولة إيجاد فهم ما لهذا الوجود، لذا فهو يتمحور حول المواضيع الأساسية ذاتها وأولها معضلة الموت وبالتالي بالهموم الإنسانية عموماً، أي أن أكثر ما يهمني هو الإنسان، أوجاعه، أحلامه، تعقيداته، جوانب الخير والشر فيه، لذا فإن ما يحيط به من أشياء وكائنات أخرى وأمكنة وظروف، ما هي بالنسبة لي إلا أدوات مساعدة في محاولة الفهم هذه، وهكذا تأتي ظروف العراق التي عشتها وأعيشها وأعرفها بمثابة حاضنة خصبة لجل كتاباتي وكمناخ خاص، أثر على مجمل حياتي وتجاربي وتكويني ونفسيتي، أحاول من خلاله التفحص والتعبير عن وجوه من هموم الإنسان عموماً.

لازلت مقتنعاً أيضاً بالفكرة المتوارثة عن أرسطو وابن سينا وفرويد وباختين وغيرهم ممن قالوا بأن عملية الكتابة تحمل في طياتها جانباً تطهيرياً يتعلق بالذات والآخر، حيث أشعر بتفريغ الشحنات الانفعالية والهواجس وبالتغيرات التي تطرأ على نفسيتي ورؤيتي وشخصيتي أثناء وبعد الانتهاء من كتابة كل عمل، وكذلك بنوع من راحة الضمير كوني أشعر من خلال الكتابة بأداء أمانة التعبير عن هواجس وهموم الناس الذين عرفتهم ومعاناة الضحايا في بلدي، وتكرار محاولات إعادة طرح وصياغة الأسئلة الوجودية الإنسانية ذاتها.

سحري وغريب هو أمر الرواية! فكلما ازددت معرفة بها من خلال القراءة والكتابة والحديث، كلما ازددت حيرة في توصيفها بالشكل الذي تشعر معه بالرضى عن أنك قلت كل ما تعرفه وما ترغب بقوله حيالها، فليس من السهل الحديث عن تجربة روائية شخصية، مهما تكن متواضعة، لذا عادة ما يكون الأفضل هو ترك الأمر للأعمال الروائية ذاتها لتقدم نفسها بنفسها، وبالتالي ترك التقييم لمتلقيها من قراء ونقاد ومتابعين، وهذا ما أفضل فعله حتى الآن.