يستعيد الناقد الفلسطيني هنا ثلاثية نبيل خوري الروائية، ويركز على قيمتها التسجيلية للحَدَث ساعة وقوعه، وتصوير ردّة فعل الناس عليه بصدق وعفويّة وشفافيّة. متجنبا التعرض للجوانب الفنيّة المختلفة التي يفرضها العملُ الرّوائي، كي لا يظلم الكاتب، وكي يركز على أهمية الكتابة التسجيليّة في وجه المحو وتكريس الاستيطان.

الصّرخة الروائية الأولى بعد نكسة1967

في «ثلاثيّة فلسطين» لنبيل خوري

نبيه القاسم

 

في البداية

نستعيد في الذّكرى السبعين للنكبة عام 1948، وفي الذّكرى الخمسين لهزيمة حزيران 1967، الرّوايات الثلاث التي كتبها المرحوم الكاتب نبيل خوري، وسجّل فيها ما حدث للشعب الفلسطيني منذ احتلّ الإنكليز البلاد. هذه الأعمال التي تمتاز بقيمتها التّسجيلية للأحداث الكبيرة ساعة حدوثها، ومن أحد الذين عايشوها. والروايات الثلاث هي: حارة النّصارى (1967)، الرّحيل (1969)، القناع (1970) (الطبعة الثانية: وزارة الثقافة الفلسطينيّة. البيرة- فلسطين 2017 )

وكان وزير الثقافة الفلسطيني الشاعر الدكتور إيهاب بسيسو قد أكّد في مُفتَتح ملتقى فلسطين الأول للرواية العربية في العام 2017، أنّ الدورة الأولى لملتقى فلسطين للرواية العربية حملت اسم القدس عاصمة دولة فلسطين، واسم الكاتب الإعلامي والروائي الفلسطيني نبيل خوري (1929-2002) صاحب "ثلاثيّة فلسطين" الذي سجّل روائيّا احتلال القدس الشرقيّة عام 1967 من خلال روايته "حارة النصارى.

«حارة النصارى»:
كتبها عام 1967 بعد احتلال القدس، وتروى قصّة صراع الشعب الفلسطيني ضدّ الانتداب البريطاني، وتَصدّيه لوعد "بلفور" الذي اعترفت بريطانيا بموجبه بحقّ الشعب اليهودي في دولة له في فلسطين، وبلوغ المقاومة ذروتها في إعلان ثورة 1936 التي خاضتها قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني مدّة ستة أشهر، أنهكت جيشَ الاحتلال البريطاني، وأربكت الحكومات العربية، وشدّت إليها أنظارَ شعوب العالم حتى كان وتدخّل زعماء العرب، بضغط من بريطانيا، وأعلنوا وقفَ الثورة وبدء المفاوضات السّلميّة مع الانكليز، وانتهى الأمر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بخروج الانكليز من فلسطين، بعد تسليمهم البلاد لليهود. فخاض الفلسطينيون حربا خاسرة، خاصّة بعد دخول الجيوش العربية، حربا انتهت بتقسيم البلاد وطرد الشعب الفلسطيني، وإقامة دولة إسرائيل عام 1948.

بطل القصة يوسف، شاب في العشرينات من عمره يسكن في حارة النّصارى في القدس، يُساعد والده في دكّانه، لكنّ هموم الوطن ومَشاغله، وما يطرأ كلّ يوم من أحداث جديدة، تُشير إلى مخاطر ستُحيق بالبلاد، تشدّ يوسف، وتجعله يُهمل عمله، ويتفرّغ لمقاومة ومُطاردة جند الاحتلال.

راوية القصة سلمى زوجة يوسف التي غلّف الحزنُ حياتَها منذ طفولتها. كان المطر يُثير فيها الحزن ويُفجّر الدموع. "كلما أمطرت السماء كانت تهرع إلى حضن أمّها وتبكي، وعندما تزوّجت وجدت في صدر زوجها مكانا لدموعها في المطر. لكنّها الليلة ليس هناك مَن تبكي على صدره فكما ماتت أمها، زوجها أيضا مات، الليلة أمطرت للمرّة الأولى بعد رحيله، هذه الليلة بكت مرّتين، بكت من المطر، وبكته. كلّ النّاس أحبّوه حتى العبادة، فقد عاش كبطل، ومات كبطل، وذكراه ذكرى بطل (ص11)

وتروي سلمى أنّها منذ أوّل مرّة قابلته كان يُقاتل. "هي لم تعرفه إلّا مقاتلا ومناضلا. أوّل كلمة سمعتها منه كانت: يجبْ أنْ نقاوم. عاش، ومات وهو يُقاوم" (ص11). لقد تفرّغ للمقاومة، كان يُشدّد ورفاقه في ضرب جند الإنكليز، فيُطارَد من قبلهم، حتى اضطر مرّة للاختباء في دار سلمى، لكن الانكليز اكتشفوا مكانه واعتقلوه. وتنفجر ثورة 1936 وتعمّ البلاد، ويتضايق الانكليز، ويلجأون للحُكّام العرب الذين يُسرعون لنجدتهم ولَجم ثورة الشعب الفلسطيني، ووأدها بوعود كاذبة قدّمها الانكليز، مما أدّى بالكثير من المقاتلين إلى حالة من الانكفاء على الذّات، والعزوف عن القتال، فعاد يوسف ليعمل في دكان والده، ومن ثم تقدّم لخطوبة سلمى وتزوّجها.

أحداث سنوات 1947/ 1948 وانسحاب جُند المحتل الانكليزي من فلسطين وتسليمهم البلاد لليهود، أثارت غضب الشعب العربي الفلسطيني، ودفعته لصدّ هذه المؤامرة والخديعة، فانطلق الشباب، ومنهم يوسف، مرّة أخرى للقتال لحماية الوطن، ومنع استئثار اليهود بفلسطين. ومرّة أخرى كان تدخّل الحُكّام العرب بفلسطين سبَبا لضياعها. فدخول جيش الانقاذ العربي، وغيره من الجيوش العربية، وأخْذ مسؤوليّة الحرب والدّفاع عن البلاد إلى أيديهم، أدّى في النهاية الى هزيمة هذه الجيوش، وتقسيم البلاد، وتهجير الشعب الفلسطيني، وقيام دولة اسرائيل عام 1948. ومع مَرارة الهزيمة وضياع نصف الوطن، وشَطر القدس، مدينته، إلى شطرين، استسلم يوسف كغيره من المجاهدين للواقع الجديد، وتابع حياته الروتينية، يهتم بشؤون بيته وتأمين الحياة الكريمة لزوجته وابنه.

لكن حرب حزيران 1967 فاجأت الجميع، وسارع يوسف مع باقي المجاهدين ليمنعوا سقوط القدس بتَصدّيهم للغزاة. ولكن ما حدث كان الهزيمة الكبرى للجيوش العربية، واحتلال الجيش الإسرائيلي لكل فلسطين وسيناء والمرتفعات السورية. ودخول الجيش الاسرائيلي للقدس، واحتلال باحات المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والبراق، ورفع العلم الإسرائيلي فوق أسوار القدس.

يوسف في مواجهة مواقف الانكسار والهزيمة:
شدّنا يوسف إليه في اندفاعه لتجنيد الناس والرّفاق للتصدّي لجند الانتداب البريطاني، ولخطّة الانكليز بمَنْح البلاد لليهود، بأنْ قام مع رفاق له، بنَصب الكمائن والإيقاع بجُند الاحتلال، وبتجنيد الناس للالتفاف حول الثورة وتأييدها والانخراط فيها، وكذلك في التّصدّي لمؤامرة تقسيم فلسطين واحتلال البلاد من قبل القوّات اليهوديّة، وفي مواجهته لجند الاحتلال الاسرائيلي في حزيران 1967 ومحاولة منعهم من دخول القدس واحتلالها، وجعلنا نعتصرُ ألما وحزنا ونحن نشهد عذاباته وتمزّقاته وهو يعترف بالهزيمة بسبب خيانة الحُكّام العرب وانصياعهم لرغبات بريطانيا بوقف ثورة 1936 كما ترويها زوجتُه سلمى.

"لم تنظر إليّ عندما فتحتُ لكَ الباب. غاضبا كنتَ. الشّررُ يتطايرُ من عينيك. توجهتَ فورا إلى حيث كان يجلس والدي، وبينما كان يمدّ يده لمصافحتك كنتَ تتهالك على أوّل مقعد وأنت تقول: لقد انتهت الثورة. قتلوها، ذبحوها، وبكيتَ." كنت تبكي الثورةَ كأنّك تبكي طفلكَ الوحيد. "يا خسارة.. يا خسارة الدّم، والشباب، والأرواح" كنتَ تقول ذلك وأنت تضرب كفا بكف. وتُعيد: "ستة أشهر كاملة ونحن نحارب، ومع ذلك تقف الثورة ولم تحقّق أيّ هدف من أهدافها." وقرأتَ على والدي البرقيّة التي أرسلها حُكّامُ العرب، وأنهوا فيها ثورة الشعب الفلسطيني. وصرختَ وأنت تقول: تصوّر.. تصور أنّهم يثقون بالإنكليز ويُسمّونهم أصدقاء!. وانتهت الثورة وعدتَ إلى دكانك. (ص124-127)

وتكرّر المشهد عام 1948 عندما خرج الانكليز. وكان اليهود يحملون في أيديهم وثيقة من هيئة الأمم، وثيقة تنصّ على تقسيم فلسطين، بين العرب واليهود. وثارت ثائرة يوسف وتَنادى والشباب إلى السّلاح. وتدخّل "إخواننا" العرب. قالوا ألقوا السلاح ونحن نتكفّل لكم بالنّصر. دخلت جيوشهم المعركة. خسروا المعركة. أُعلنت الهدنة الأولى. استُؤنف القتال. أُعلنت الهدنة الثانية. قُسّمَت فلسطين، وأخذ اليهود منها أضعاف ما نصّت عليه وثيقة الأمم المتحدة. وشُرّد مليون فلسطيني يعيشون في الخيام. وعاد يوسف إلى دكانه بعد أنْ أقسم أنْ لا يتدخّل في السياسة، وأنْ لا يُحارب طوال حياته (ص136).

وتتذكّر سلمى ما أصاب يوسف ليلة العيد الأوّل وضياع نصف القدس عام 1948: "صعدتَ إلى سطح المنزل ونظرتَ من بعيد إلى نصف القدس الضائع، إلى الأنوار البعيدة، وبكيتَ. مدينتك هذه .. دماؤك رَوَت أرضَها أكثر من مرّة، قُدتَ فيها عشرات المعارك، وانتصرت. كيف ضاعت، كيف سقطت، لا تدري. في الليل أيقظني صوتك وهو يصرخ: كيف.. كيف. لا تعرف. لا أحد يعرف ذلك" (ص94-95).

وتكرّرت مشاهد الحزن والمرارة والتمزّق التي ترويها سلمى بعد احتلال القدس في حزيران 1967: "عندما أطلقتَ رصاصتَك الأخيرة، كنتَ تبكي كالطّفل الصّغير. عدتَ إلى المنزل، وأقفلتَ الأبواب جيّدا، والنوافذ. ساعات طويلة جلستَ وأنتَ تضع رأسَك بين يديك، تفتح الراديو، تستمع إلى الأخبار كأنّك لا تستمع إليها، في عيني: ذهول.. لم تنفجر بالبكاء إلّا عندما جاء صوت كريه من خلال النافذة المغلقة .. صوت يقول بعربية (مكسّرة): إنّ القدس قد سقطت .. وأنّ على جميع الأهالي رفع الأعلام البيض فوق منازلهم" لقد احتلّوا القدس أخيرا. احتلوا كلّ فلسطين. تحقّق حلمُهم الأكبر. أنت تجلس بجانب الراديو .. لا تأكل .. لا تشرب .. تدخّن .. وتدخّن .. الراديو لا يتوقّف عن البثّ ليل نهار. عينك لم تر النّور لحظة. بقايا المعركة على ثيابك ويدك. ثيابك ممزّقة. كالأسد الجريح كانت تصدر تأوّهاتك: يا ضيعة الوطن، يا ضيعة الثورات، يا ضيعة الشباب، يا ضيعة الدّم المهدور. وتصرخ: لا أستطيع يا سلمى. سأموت .. لا أستطيع احتمال كلّ هذا، سأقتل نفسي نعم سأقتل نفسي" (ص139-144)

وكانت نهاية يوسف بأن اقتحم جندُ الاحتلال بيتَه واعتقلوه، وخرجوا به مُكبّلا وسط دموع وحَسَرات ونظرات غضب كلّ أهل الحارة إلى أنْ رماهم عدنان، صديق يوسف، بإشارة وإلحاح من يوسف، بقنبلة فجّرت الجُند، وقتلت يوسف معهم. ( ص147).

الرّحيل:
هي الرواية الثانية التي كتبها نبيل خوري وهو يقيم في الكويت عام 1969. وفيها يروي قصّة المناضل الفلسطيني أبو عدنان الذي حارب جندَ الانكليز يوم كانوا يحكمون البلاد، ومن ثم القوّات اليهودية التي كانت تخوض حربا شرسة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم ووطنهم لتُقيم الدولة اليهودية. وقد طورد أبو عدنان من قبل الانكليز، ومن ثم من قبل اليهود. وبعد وقوع النّكبة وتقسيم البلاد، ترك بيته وماشيته وحقله، وحمل صغيره عدنان على ذراعه، ومشت وراءه أمّ عدنان، تحمل ما استطاعت حَمْله من الثياب. وبعد أشهر طويلة استقرّ بهم المقام في مخيّم الدهيشة في بيت لحم. ولم يعد الناس يعرفون أبا عدنان المقاتل، وأصبحوا يعرفون أبا عدنان اللاجئ.

وها هو يواجه نفسَ المصير بعد عشرين عاما على النكبة، فالجيش الإسرائيلي عاد وهزَم الجيوشَ العربية في الخامس من حزيران عام 1967، واحتلّ كلّ فلسطين، واليهود سوف يصلون إلى بيت لحم ومخيم الدهيشة، ويبحثون عنه لينتقموا منه بعد كل ما فعل لهم في الماضي، ولهذا قرّر الرّحيل بعيدا خلف الحدود، واختار مخيّم الزرقاء في الأردن ليكون مكان إقامته الجديد. "اليوم بعد عشرين سنة، لم يكن هناك زغاريد. اليوم، عويل، وتفجّع. لقد ضاعت البلاد كلّها. حمل عدنان بقجة كبيرة، وحمل والده الأخرى، وبدأ الرّحيل الجديد" (ص160).

"نظر أبو عدنان إلى الناس واستغرب، ليس في وجوههم حزن، وليس في وجوههم فرح، ليس في عيونهم بكاء، وليس فيها أمل، ليس في وجوههم أيّ تعبير، كأنّهم منذ عشرين عاما كانوا يتوقّعون هذا الرّحيل، كأنّهم منذ أنْ رحلوا المرّة الأولى تعوّدوا على الرّحيل، أو كأنّهم بعد أنْ فقدوا أرضَهم المرّة الأولى فقدوا الإحساس بقيمة أيّ أرض إلّا تلك التي فقدوا. في رحيلهم الأوّل كان هناك عويل، وبكاء وتفجّع، أمّا اليوم، فليس هناك إلّا الصّمت. وفقط وجه ابنه عدنان اختلف عن باقي الوجوه، وجهُه كان الوجه الوحيد بين المجموعة البشريّة المنتظرة الذي كان فيه تعبير. كان فيه قسوة. وكان فيه غضب. وكان فيه ألَم "(ص185).

القناع:
وهي الرواية الثالثة التي كتبَها نبيل خوري بعد هزيمة حزيران 1967، وقد كتبها وهو في باريس عام 1970. وفيها يروي قصّة "كامل" رجل في الأربعين من عمره، ولد في مدينة القدس، لكنّه في العشرين من عمره، تركها إلى بيروت حيث بنى فيها نجاحَه وشخصيّته، وفيها كلّ معارفه وأصدقائه. أمّا القدس وفلسطين ، فذكرى قديمة، فيها نوع من الحنين لشيء مضى لا أكثر ولا أقلّ. وإذا صدف وزارها لمناسبة عائلية تفرض عليه الحضور. في القدس كان يشعر كالغريب الذي لا يعرف المدينة، ويحتاج إلى دليل ليعرّفه على مَعالمها وشوارعها. ومع مرور الزمن بدأ يقطع صلته بفلسطين وأهله. كانت زيارته الأخيرة للقدس مطلع حزيران 1967، وفوجئ بأنّ كلّ الناس ووالديه يعيشون جوّ الحرب القادمة. وعبثا حاول اقناعهما بأنّ لا حرب هناك ولا مَن يُحاربون. لكنّ الناس يعيشون جوّ النّصر الذي تبثه الإذاعاتُ العربية والأناشيد والتّعليقات، ويتساءل: "هل يصدّق الناس كلّ ما يسمعون؟ هل فقدوا الذاكرة؟ هل نسوا ما حدث عام 1948 وكيف انقلب النّصر المؤكّد إلى هزيمة مؤكّدة، وهرب الناس بالبرّ والبحر، لا يطلبون من الدنيا إلّا الحياة والنّجاة؟" (ص268/269)

وتركهم لآمالهم، وأحلامهم، وبدأ يعدّ الساعات ليُنهي زيارته، ويعود إلى بيروت، حيث هموم الناس بعيدة كلّ البُعد عن النّصر أو الهزيمة" (ص268/269). وفوجئ في صباح الخامس من حزيران بأنّ الحرب بدأت .. وتوالت أخبار الإذاعات العربية تُبشّر بالنّصر السّاحق. لكنّ الساعات القادمة عكست كلّ شيء، وكانت الهزيمة المدويّة، وانهزمت الجيوش العربية، واحتلّ اليهود مدينة القدس، ورفع "كامل"، كغيره، الشرشفَ الأبيض، دلالة الاستسلام والخنوع للمحتل (ص285).

وارتفعت الأعلام الإسرائيليّة على أسوار القدس، وانتشر الجُند في كل مكان، وأصبح الناس رهينة ذليلة في يد المحتل. ومرّ شهر على الاحتلال حتى استطاع كامل تركَ القدس والرّحيل إلى عمان وهو لا يتخلّص من تأثير ساعات الرّعب والفزَع التي عاشها أثناء الحرب على القدس. كيف كان يهرب من مكان إلى آخر في البيت خوفا من إصابته بشظيّة، ويتملّكه الخوف ممّا قد يحدث، ويتمنّى لو أنّه بقي في بيروت، ولم يوقع نفسَه في هذا الوضع المرعب. ولا ينسى اللحظات التي نظر خارج المنزل، وإذا "بالأعلام البيضاء تملأ أسُطح المنازل ونوافذها، وأيقن أنّ المدينة كلّها تُعلن الاستسلام والهزيمة. كيف فرّت الدمعة من عينيه، واجتاحه شعور بالذلّ والقَهر والهزيمة. فهذه أمّة العرب، تُعلن أنّها انكسرت. وشعر بالدّموع تتساقط على وجهه. وتراجع ينادي أمّه، يطلب منها شرشفا أبيض. صعد الدّرجات إلى سطح المنزل ببطء، ورفع العلَم الأبيض، ثم نزل إلى المنزل، وفي أعماقه حزن عميق.. عميق"(ص285).

توالي الأحداث جعلته مرغما على تذكّر القدس، رغم إصراره على النسيان وقطع الصّلات مع الماضي، فهو لا يعتبر نفسَه جزءا ممّا يجري، مات في قلبه الاحساس بأيّ ارتباط، أو وشائج مع كلّ ما يحدث، ولولا مصالحه الكثيرة في بيروت وفي دول الذهب الأسود في الصحراء لحَمَل متاعه وهاجر كما فعل الآلاف غيره. مرارا فكّر في بيع كل مصالحه والهجرة إلى بلد غريب بعيد لا يعرفه فيه أحد. الذي أبقاه كان الطمع وليس الارتباط بأيّ شيء آخر(ص215/216).

وسافر في رحلة نقاهة ونسيان إلى مدينة باريس لفترة ينسى فيها كلّ شيء، ويرفض، عن إصرار، متابعة أخبار وطنه وشعبه. "إنّه منذ أشهر في رحلة أشبه بالحلم، يعيش الحلم، يتمتّع به، يخاف على أيّامه، ساعاته، دقائقه، ثوانيه أن تنتهي. (ص187). لكن بائع الجرائد لا يتركه في هدوئه، ويُلاحقه ويضع الجريدة أمامه وهو يردّد "هيرالد"، ويأخذ الفرنك ثمنها ويبتعد. وأصبحت مُطاردة بائع الجرائد اليومية له كابوسا يُلاحقه، ويضغط على أعصابه، ويثير قلقَه، ويغضبه، ويُجبره على متابعة أخبار بلاده وشعبه، وهذا ما يريدُ نسيانهَ وقطع كلّ علاقة به، ممّا دفعَه للتّفكير بالخَلاص من بائع الجرائد. "وللحظات مرّت في رأسه فكرة مجنونة. الطريقة الوحيدة للخلاص من هذا العذاب، هي أن يقتل الرّجل، ويرتاح" (ص189).

ويتعرّف في باريس على فتاة جميلة تدعى جورجينا يقضي معها الساعات والليالي الدّافئة، لكنّها تُصارحه بأنّ أمّها يهودية رغم أنّها ترفض مواقف أمّها وتُصرّ على كونها إنكليزية مسيحية، ومتعاطفة مع الفلسطينيين، ورفضت الرّحيل مع أمّها إلى إسرائيل "لا.. لا أعطف على إسرائيل. وأنتَ حرّ في أن تُصدّق أو لا تصدّق، ولكنّني أعطف على الشعب الفلسطيني" (ص212). شكّكَ بصدق كلامها، وصارحها بذلك، وبدأ معها نقاشا حول القضيّة الفلسطينيّة، وتشريد الشعب واحتلال الوطن. ورفض كلّ تبرير لها. فقالت مدافعة عن موقفها ومتّهمة "لستُ أدري لِمَ تفقدون كلّ منطق عند مناقشة قضيّة فلسطين، تتصرّفون، وتتكلّمون، وتُناقشون بغباء، وعندما يتحرّك أحد تشكّون في نواياه، تماما كما تفعل الآن معي" (ص213). ووقع الشكّ في قلب كمال وقرّر الخلاص منها. فوجوده معها يُعيده لكلّ الماضي، ويُعيّشه قضايا الصّراع والعداء والحروب، وهو يريد النسيان الكامل وكل علاقة بالماضي.

لكنّها تُلاحقه وتترصّد خططه وتفاجئه بأنّها ستبقى ملازمة له مهما حاول الهرب منها. فوجدها مقابله على المقعد في الطائرة إلى لوزان، وتنتظره في السرير عارية في غرفة الفندق، وانهار وانتصرت عليه واستسلم لها. "وكالكلب استجاب. ذهب إليها.. صاغرا ، جاثيا.. ذهب إليها. أمام المرأة والجنس، والفراش، تنهار مقاومة أيّ عربي. فتوحات العرب، وهزائم العرب .. كان يقف وراءها: المرأة والجنس. تاريخ العرب، فيه ملايين النساء، وقصص النساء، والعطر، والمخادع. وهو كأيّ عربيّ منذ فجر التاريخ لا يملك المقاومة. وهجم العرب من جديد!! وعاد إلى المرآة بعد نصف ساعة وبصق من جديد" (ص229).

وترك لوزان إلى جينيف وجورجينا معه. وفي الفندق صادف الكثير من العرب والمعارف من أغلب العواصم العربية، واستمع إلى كلّ أخبار العالم العربي السيّئة، وقرّر الهرب، فانسحب من الجلسة إلى الغرفة، إلى جورجينا، حيث لا عرب ولا عروبة، ولا أخبار ولا مَن يُخبرون" (ص231).

والتقى كامل في باريس بشاب لبناني من معارفه القدامى، وكان يهوديّا باسم راؤول. ترك لبنان إلى إسرائيل عام 1956، وها هو يراه اليوم عام 1970 في باريس. وفي جلسة صاخبة تناقشا حول مختلف القضايا، قال كامل مُتحدّيا "مَنْ يدريك، فقد أحمل السّلاح غدا .. وقد أقتلك؟ ابتسم راؤول وأجاب: لا، لن تحمل السلاح، لا اليوم، ولا غدا، إنّك تنتمي إلى طبقة البرجوازيّة الفلسطينيّة التي تُعلن الحرب في بارات بيروت ولندن وباريس فقط. وأؤكد لك لولا مَعرفتي من قبل بأنّك فلسطيني لأنكرتُ ذلك. فأجابه كامل بغضب متحدّ: أنت مخطئ .. أنت تعرفني من قبل، وليس الآن، لقد تغيّر كلّ شيء بعد حرب حزيران، لقد حملنا جميعا السلاح. فأجابه راؤول: الذي حمل السلاح هو الفلسطيني الذي بقي في الخيام منذ عشرين عاما، الفلسطيني المشرّد، الجائع، النّاقم، الذي يحلم بالعودة، وليس الذي لا يرضى إلّا أن ينزل في فندق "جورج الخامس" بباريس"(ص242).

وانتهى اللقاء بعداء وكره. وعاد كامل إلى غرفته في الفندق. وعندما استيقظ في الصباح فتح صفحات جريدة "الهيرالد تربيون" وفاجأته العناوين الضخمة على الصفحة الأولى: "الفدائيون يخطفون أربع طائرات نفّاثة. وأصابه شعور ممزوج من الخوف والقلق والدّهشة .. والاعتزاز معا" (ص245). وشاهد اهتمام الناس بالخبر وملاحقتهم للصّحف المختلفة، وفوجئ عندما علّق أحدهم "إنها قَرصَنة!" (ص248) ورفض الرّجل تصديق ما سمع عن مأساة الفلسطينيين. واشتدّ الغضب والحماس بكامل حتى فكّر بترك باريس والعودة إلى بيروت، ليكون في قلب الأحداث، لكنّه وقد تتابعت الأخبار عمّا يجري في الأردن من مواجهات شرسة بين الجيش الأردني والمقاتلين الفلسطينيين في ما سُمّيَ بإيلول الأسود. تجاوز فترة القلق والحماس والتّفكير بالعودة إلى بيروت.

وعاد ليغرق في حياة باريس وينسى مشاكل الوطن، وأنسته باريس بلياليها ونسائها كل شيء، نسي الطائرات والركّاب وفلسطين والعرب والقتال والمقاتلين والأيام والتّواريخ .. وكل شيء" (ص257)، حتى صعقه الخبرُ المفاجئ بموت جمال عبد الناصر إثر نوبة قلبية، فعقد الذهول عقلَه ولسانه وجسده معا. وغاب عن كلّ ما يحيط به، ومشى محنيّ الظهر إلى المقهى المجاور، وارتمى على أوّل مقعد يقرأ. ولم يقرأ طويلا، بل انفجر بالبكاء. منذ أنْ سقطت القدس لم يبك، دمعُه المتجمّد منذ سنين هطل كالمطر دفعة واحدة. لم يكن يبكي عبد الناصر فقط، كان يبكي القدس." (ص303).

قيمة الروايات الثلاث:
كما ذكرت سابقا أنّ قيمة الروايات الثلاث، قيمة تسجيليّة للحَدَث ساعة وقوعه، وتصوير ردّة فعل الناس عليه بصدق وعفويّة وشفافيّة. ففي "حارة النّصارى" صوّر حدَثين مهمّين في تاريخ الشعب الفلسطيني: فترة الانتداب البريطاني على فلسطين والصّراع على البلاد بين اليهود والعرب بعد إعلان وعد بلفور، ونشاط القيادات اليهوديّة في هجرة اليهود إلى البلاد، وامتلاك الأرض، وإقامة المستوطنات، والتّضييق على العرب قدْر المستطاع بتأييد من الإنكليز ثم انفجار ثورة 1936. والحدَث الثاني خروج الإنكليز من البلاد، وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب، وإعلان اليهود لقيام دولة إسرائيل عام 1948، وانفجار الحرب، وهزيمة الجيوش العربية، وتشريد الشعب الفلسطيني.

أمّا رواية الرّحيل فيصوّر فيها ردّة فعل عدد كبير من الفلسطينيين الذين آثروا تركَ مكان إقامتهم في الضفة الغربية أو غزة والرّحيل إلى الأردن خوف انتقام اليهود منهم بعد حرب حزيران 1967، واحتلال كامل التراب الفلسطيني.

ورواية القناع تتطرّق لثلاثة أحداث مهمّة: هزيمة حزيران 1967 واحتلال إسرائيل للقدس وكل الوطن الفلسطيني، انبعاث المقاومة الفلسطينيّة التي تمثلت في خطف الطائرات وإثارة اهتمام العالم بقضيّة الشعب الفلسطيني، ثم القتال الشّرس بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية فيما سُمّي بإيلول الأسود، وموت الرئيس جمال عبد الناصر يوم 28/9/ 1970.

ويُقدّم صورة مغايرة للفلسطيني في روايتي "حارة النّصارى و الرّحيل" الذي رأيناه في شخصيّة المقاتل المواجِه القويّ، المصرّ على القتال، الرّافض للاستسلام، والمفضّل ترك المكان والرّحيل على تمكين العدوّ من إذلاله وتحقيره. بينما في رواية "القناع" يُقدّم لنا صورة الفلسطيني الرّافض تحمّل المسؤوليّة، والمفضّل ترك الوطن والرّحيل على المواجهة والقتال، الفلسطيني المُرتعب من الحرب، والباحث عن المكان الآمن ليهربَ إليه، غير عابئ حتى بوالديه اللذين معه وما قد يُصيبهما، الفلسطيني الرّاغب في التّنكّر لكلّ تاريخه، وحتى شعبه وأهل بيته ومدينته، والمؤْثر عليهم جميعا حياةَ الرّغد والفرح والنّساء والخمور في باريس. فشخصيّة "كامل" في رواية "القناع" مناقضة جدا لشخصية يوسف في "حارة النصارى" وشخصيّة أبو عدنان في "الرّحيل".

"كامل" يُمثّل انتكاسة الفلسطيني الكاملة أمام الهزائم التي لحقت بالشعب الفلسطيني منذ النّكبة، ولا يؤمن بإمكانيّة الانتصار في المستقبل على ضوء ما يعيشه ويتابعه ممّا يجري في العالم العربي وفلسطين بشكل خاص.

ختاما:
قد نظلم الكاتب إذا ما تعرّضنا للجوانب الفنيّة المختلفة التي يفرضها العملُ الرّوائي، وكما ذكرت، قيمة الروايات الثلاث قيمة تسجيليّة من قَلب الحَدَث، جاءت مُتسرّعة، حارقة، راغبة في إسماع الصّرخة القويّة بصدق وعفَويّة وشفافيّة.