يرى الناقد المصري ان هذه المجموعة تتراوح بين قصص تتخذ صيغة الحكي التقليدي حيث تنتهي بمفارقة، واخرى مُلغزة تقف بالقارئ علي حدود الحيرة ثم تأتي القصة الفانتازية، المعتمدة علي تقنية الحلم، حيث ينطلق الخيال، ويتحدث الجماد، والخروج خارج دائرة الأرض وما يدور عليها، وإن ظل مرتبطا بها.

«وكأنه هو» .. فمن هو؟

شوقي عبد الحميد يحيي

شوقي عبدالحميد يحيى

 

علي غلاف مجموعته "وكأنه ... هو"[1]، أشار د عصام حسن عبد الرحمن إلي عمله بـ(قصص)، ولم تكن تلك مجموعته الأولي، حيث صدر له من قبل ثلاث مجموعات، صدرها كلها بـ(قصص). في الوقت الذي صدر فيه أربع أعمال روائية بـ(رواية قصيرة). الأمر الذي يدعو للتساؤل من البداية عن مفهوم القصة والرواية عنده، علي الرغم بأن (قصصه) تندرج تحت لواء القصة القصيرة بإمتياز، ويشهد علي ذلك مجموعته الأحدث، والتي نحن بصددها، حيث يثير الأسئلة، وربما الدهشة طوال قصص المجموعة بادئا بالعنوان، الذي يأتي علي رأس الأسئلة، والدهشة. فإذا كان الدارج أن يختار الكاتب عنوان أحد قصص المجموعة، ليمنحها للمجموعة ككل، أو أن يكون العنوان معبرا كمدخل، أو كعتبة أولي، تقود القارئ إلي رؤية عامة للمجموعة. إلا أن عصام عبد الرحمن، لم يتبع أي وسلة منهما. الأمر الذي يدعو للبحث عن الرابط بين العنوان والمجموعة، فلا يجد إلا في مفتتح المجموعة { أعلم... أني لست هو تماما. لكن ربما أشعر كثيرا وكأني .. هو} والذي شكله، كتابةً، علي طريقة قصيدة النثر. دون أن يوضح لنا من هو الذي يشعر كأنه هو، فضلا عن بدئه بحرف العطف (و) بينما ظل المعطوف عليه مجهولا، وهي الصيغة التي إتبعها في كثير من قصص المجموعة، حيث يوقعنا في المتاهة، خاصة أنه يمكن قراءة الكثير من القصص علي أكثر من مستوي. الأمر الذي معه يمكن تقسيم القصص، إلي ثلاثة مستويات:

المستوي الأول، وفيه تكون القصة متخذة صيغة الحكي التقليدي حيث تنتهي بمفارقة، ربما تكون مضحكة، علي غرار قصص ما قبل يحيي حقي كما في قصة "مفتاح صيد البياض".

أما المستوي الثاني فتأتي فيه القصة عادية السرد، سهلة العبارة، إلا ان الكاتب يستدرج قارئه، ليوقعه في حبائل رؤية قد تكون بعيدة، ولكن مع التقكر والتمعن، يصل إلي رؤية أكبر وأوسع من حدود السرد المباشر. كما في قصة "ذو الشعر الأبيض" وأسير الرائحة".

ثم يأتي المستوي الثالث وفيه نري القصة المُلغزة، التي تقف بالقارئ علي حدود الحيرة، بحثا عن رؤية عامة، وقد لا يصل إليها إلا بالكثير من التفكير والفك وإعادة التركيب. كما في قصة "ضفاف أخري للحياة" و"في البحث عنها".

ثم تأتي القصة الفانتازية، المعتمدة علي تقنية الحلم، حيث ينطلق الخيال، ويتحدث الجماد، والخروج خارج دائرة الأرض وما يدور عليها، وإن ظل مرتبطا بها، بحثا عن إجابة للسؤال الذي يدور بداخل الإنسان، منذ أن وُجد علي الأرض (أين الله} كما في قصة "تموهات حالم بالسماء" وإن نطق العنوان، وحدد مسار الرؤية من البداية.

إلآ أنه يمكن أيضا تقسيم قصص المجموعة من حيث الرؤية المُتَنَاولة إلي أربعة أقسام:

قصة إنسانية، بمعني فردية، أي تتناول الإنسان الفرد، ومعاناته مع الحياة كما في قصص "ذو الشعر الأبيض" و "أسير الرائحة" و "مفتاح صيد البياض" و"لافتة ممنوعة" وكذلك قصة "لحظة".

أما القسم الثاني فهي القصة الاجتماعية، التي تتناول رؤية عامة للمجتمع، أو وضع إجتماعي ما، مثل قصص "ضفاف أخري للحياة" و"شيخان" و"ليمون وخمسة أرغفة" و"صدي الزيارة" ، "لحظتان" وقصة " مُظلم وبعيد".

والقسم الثالث وهو القصة السياسية (بمعناها الضيق، أو المباشر)، والتي معها يمكن قراءة المفتتح، وعنوان المجموعة، وكأن الكاتب يتحدث عن أبطالها، (وكأنه هو). ويأتي فيها قصص "أم فتحي" و "نصفان".

أما القسم الرابع فهي القصة الفلسفية، أو الوجودية، وفيها قصة "البحث عنها" و قصة "تموهات حالم بالسماء".

ومن هنا نلحظ أن القصة الاجتماعية تحتل نصيب الأسد من بين تلك التقسيمة، حيث تشمل ست قصص. وهو الأمر الطبيعي، حيث يعيش الكاتب، كأي كاتب، في مجتمع، ويتفاعل معه، إن سلبا أو إيجابا. وكذلك تَلِهيا القصة الإنسانية ، أو الفردية بخمس قصص، حيث الإنسان الفرد، هو الوحدة الأساسية في المجتمع، ليشكلا معا أحد عشر قصة من خمسة عشر قصة. الأمر الذي يعني ما دائما نؤكد عليه أن الإبداع يأتي من مبدع، والمبدع إنسان يعيش علي أرض محددة، في زمن محدد، فالرابط جوهري، ولا مهرب منه.

وقد نكتفي في رؤيتنا التفصيلية، بالتقسيم الأول، علي أن التقسيم الثاني قد يتضح من خلال المناقشة، وإن كنا نفضل أن نبدأه معكوسا، بمعني أن نبدا بالقسم الثالث فالثاني فالأول.

المستوي الثالث

وتنغلق القصة فيه ، وتضع القارئ في أكثر من طريق، وأمام أكثر من رؤية، حيث لا تستقر علي مستوي واحد للقراءة. تبدأ المجموعة، بالقصة الأولي فيها "ضفاف أخري للحياة" بما يشه المتاهة، أو كتلك اللعبة التي تأتي بعدد من الطرق المتداخلة، وتطلب منك تحديد أي الطرق تؤدي للهدف في النهاية. حيث لجأ الكاتب إلي الحذف بعنف، حتي لم تعد الفراغات التي يمكن أن تكون بالعمل، أشبه بالموانع المائية التي عليك البحث في كيفية عبورها. الأمر الذي قد لا يحتمله القارئ العادي، فيلجأ في النهاية للتوقف دون استكمال الطريق. أما إن كان علي القارئ الذي يصر أن يصل لنهاية الطريق –الذي يراه أمانا من وجهة نظره- أو حسب تأويله، فعليه أن يجمع أشلاء الحكاية، ويفض تشابكات الخيوط، إذ ربما يصل إلي مبتغاه. وهذا ما نحاوله.

تبدأ القصة بالعنوان "ضفاف أخري للحياة" حيث يحمل العنوان في طياته مجموعة من الضفاف، لا ضفة واحدة، كما تعودنا. وهو ما يوحي بتعدد المخارج التي أشرنا إليها، يسوقها الكاتب، أو يسربها، في مكر إبداعي. ولأن الدكتور عصام ليس مبدعا فقط، وإنما هو أيضا يمارس النقد، فهو يعي بالضرورة دور العنوان، ومركزيته في رؤية العمل. فمنه يمكن الانطلاق نحو المركز. فتبدأ القصة ب { لأكثر من عقد ونصف من الزمان وهما يسيران فيه ومعه كما يسيران مع أنفسهما}. كما يقول السارد أن هذا الشارع الذي كان يهرب بهما إلي ضفاف أخري للحياة، و هو العنوان الرئيس للقصة، ما يعني أن هنا تكمن البؤرة. لنعلم بعد ذلك، نرجسيتها، وحبها للحياة واستغلال كل شئ يحقق لها متعة الحياة، حتي علي حساب أمها التي ضحت بكل شئ بعد موت زوجها، من أجلها، وكما يوحي لنا الكاتب بأنها شخصية مضطربة، وسريعة الارتباط بالآخرين، فبعد سنين، تتردد علي عيادة الطبيب النفسي، ثم لتدعوه، بعد ذلك، كحبيب إلي شقتها، وهناك { احتضنها .. وأمطرها بقبلات سريعة ومتدفقة طالت كل جزء بوجهها ورقبتها، لكنه حاول التوغل أكثر في صحرائها المترامية، ظنها ككل الصحاري عطشي، تنتظر من يرويها. فجأة أسرع بالخروج كالمصدوم دون أن ينطق بكلمة واحدة، من وقتها اختفي، لا أحد يعلم أين ذهب ولماذا خرج؟} لنستنتج أنه اكتشف آثار تلك الواقعة البعيدة علي طريق الشهيد، حيث يقول عنه السارد بعد وصف ذلك الشارع الجانبي، المتفرع من طريق مصر اسكندرية الزراعي {هنا إلتقيا، قصة عشق ابتدأت بمقابلة جنونية فوقه}. فها هنا كانت البداية، و النهاية. وكانت النقطة المركزية، التي معها أشرنا إلي أن (قصص) عصام عبد الرحمن، قصص قصيرة بامتياز. فبعد دعوتها للطبيب النفسي، واندفاعاته كالمحموم. وكالمصدوم .. {شعر أنه منهك تماما، سقط علي الأرض} لتكون علامة إختفاء الحبيب، فتسقط هي أيضا{في نفس اللحظة سقطت هي الأخري بعد أن اختنقت صورتها في المرآة} وليصبح السقوط أيضا معنويا، فصورة المرآة هي التي إختنقت، أي الصورة وليس الأصل. ويمتد السقوط ليشمل سقوط الأم أيضا، إلا أن سقوطها كان قبل ذلك التاريخ ، حيث {قالت الأم أمام الجيران: لم تسقط ابنتي وحدها، بل سقطنا معا منذ أن مات} حيث ترجع الإشارة هنا إلي الأب- دون أن يصرح الكاتب- الذي بموته سقط عمود البيت، فسقطت الأم، في الحرمان {منذ أن توفي زوجها وهي تكتم كل عواطفها، ولم تعد تنشغل بشئ إلا ابنتها} ، وسقطت الإبنة- في الخطيئة- ، حيث يقول السارد عن علاقتها بالطبيب النفسي، الذي مهمته تشخيص الحالات النفسية {لم يكن يدري وهو يقابلها في عيادته أثناء السنوات الأولي لممارسته الطب النفسي، أنه سيكون الضحية القادمة لنرجسيتها}. بينما يوضح الطبيب نفسه وهو يشرح لها الفرق بين المرض النفسي واضطراب الشخصية { وقد يشترط لتشخيص الاضطراب اجتماع عدد معين من الصفات في الشخص تظهر جليا في مواقف اجتماعية مختلفة، كالشخصية النرجسية، والحدية، غير المتزنة عاطفيا}. وتلك الأعراض هي ما يمكن التأكد منه في شخصية "مها".

وإذا كان الوصول لتلك الرؤية لم يتطلب منا غير الربط بين الجمل، والكلمات الدلالية. فإن الكاتب أدخلنا في النهاية في شبكة خيوط متداخلة، قد تسوق لمتاهة أبعد، وكأن الكاتب يختبر ذكاء القارئ.

حيث تكتشف الفتاة عند الأربعين – بينما تتداخل الأمور بين الأم والإبنة، أيهما التي وصلت الأربعين - ما يدعوها للمعاناة، الأمر الذي يتطلب اسشارة طبيب أمراض النسا، فقد{ كانت تعاني من إفرازات مهبلية كثيفة، يتبعها نزيف مهبلي حاد. وتساقُط سريع لخُصلات شعرها، رغم إصرارها علي عذريتها، وجدت نفسها تراجع كل ما قصصتُه عليها عن العلاقة مع الطبيب النفسي..} { لكن إصرارها علي أنها عذراء، وتأكيد الأم مرارا علي أنه لم يدخل بها، يجعل التشخيص يبتعد، لكن ثمة هاتف يؤكد أنه هو، وسببه مؤكد، هو الاختلاط الجنسي، الفيرس المسبب لا ينتقل باختلاط المني ببعضه، وإنما بالعلاقة الجنسية المباشرة،، رغم عدم تضرر الرجل منه.. رغم أن الفيرس يبقي خاملا لعقد ونصف من الزمان} وهو ما يعود بنا، في الجملة الأخيرة، إلي بداية القصة. حيث كانت بداية الحكاية، او نهاية الطبيعة السوية، وبداية حالة القلق النفسي الذي تعاني منه { وهل مصادفة أن تصاب مها في مثل هذا اليوم من كل عام بنوبة اكتئاب حادة تجعل من فكرة الانتحار أمرا مُلحا}.

علي أنه من الأشياء التي أري أنها ساهمت في ضبابية المشهد أو تشابك الخيوط، إختلاف الضمائر عبر القصة، دون تمهيد، أو توضيح.

فبداية القصة كانت بضمير الغائب ، حيث يقف السارد علي مسافة من الوقائع {وهما يسيران}.

ثم يتحول السرد فجأة لضمير المتكلم {وجدت نفسها تُراجعُ كلَّ ما قصصتُه عليها} حيث يبدو الضمير هنا، ضمير المتكلم (قصصتُه)، ليختلط علي القارئ، من المتحدث، ولمن يتحدث؟ هل للأم أم للإبنة؟ .

كما تداخلت الجمل دون فواصل، ومتروك للقارئ أن يُجري هو عملية الفصل، ففي أثناء زيارة طبيب أمراض النسا { ولا وسيلة أخري تؤكد ظنه إلا عبر مسحة من عنق الرحم وتحليلها. الرغبة في الاختفاء للأبد تُطوقه، شعر انه مُنهك تماما، سقط علي الأرض..}. فإلي من يعود هذا الظن، هل علم بعلاقتها علي الطريق في البداية، أم يعود الأمر إلي الطبيب النفسي، أم أنهما شخص واحد؟. ثم {الرغبة في الاختفاء للأبد} علي من يعود الضمير هنا؟، حيث تأتي الإشارة هنا –وفق رؤيتنا التي طرحناها- إلي الطبيب النفسي، بينما الحديث يدور مع طبيب أمراض النسا.

  • الجُمل الجامعة بين الأم والإبنة { بسرية تامة حرصت الأم علي علاقتها بفاروق، لم يكن مجرد زوج مسيار يأتي لها كلما كانت الظروف مواتية، بل كان شريكا خفيا لها في كل حياتها علي جميع المستويات}. فذِكر "فاروق" يأتي هنا لأول وآخر مرة دون أن نعلم علي وجه التحديد من يكون فاروق هذا، وكان زوج من فيهن؟ الأم، كما قد يُفهم من العبارة، رغم أننا نعلم أنها لم تتزوج بعد وفاة زوجها، ووهبت حياتها لإبنتها، الأمر الذي يعني أن عشيقا في حياتها لم يكن. أم هو زوج الإبنة، ولم تأت الإشارة من قريب أو بعيد بأنها تزوجت، حتي ولا في السر.

إلا أن المرء لا يستطيع إلا تحية الكاتب علي هذه القصة المرهقة، والممتعة في ذات الآن. تداخلت فيها الجمل والعبارات، إلا أنها كرؤية إجتماعية، تعبر بتداخلاتها، وضبابيتها، عن الحياة التي لم تكن يوما غير ذلك. وهو ما اتضح في قصص أخري بهذه المجموعة.

ثم يعود بنا الكاتب في القصة التالية "في البحث عنها" إلي بدايات الإنسان علي الأرض، منذ أن كانت الحياة بسيطة وبدائية، حيث الكهف، والآنية الفخارية حيث تعيش "سالي، في {حوش صغير، جدرانها مدهوكة بالطين ... حجرة وحيدة علي أطراف البلد} – ولنلحظ استخدام كلمة (مدهوكة) والتي توحي بالبدائية والعشوائية والبساطة، ولم يستخدم (المدهونة) مثلا. تشرب الكائنات فيه من وعاء فخاري، وليس بها إلا شجرة فيكس وحيدة. علي أن إختيار شجرة الفيكس تحديدا، لم يكن مجانيا من الكاتب، خاصة إن عرفنا أن شجرة الفيكس، علي أنها شجرة زينة، وجميلة المنظر، إلا أنها شجرة ضارة، حيث تتميز جذورها بالتغلغل إلي أبعاد كببرة، تؤثر علي جدران المباني، كما أنها قادرة علي إمتصاص المياه الجوفية، لذا تظل وافرة الأوراق، مُخضرة طوال العام. فامتداد جذورها تحيلنا إلي القدم والثبات، وأن القضية ليست جديدة، إلا أنها مستمرة –بالاخضرار طول العام -. يعيش مع سالي في هذه الحجرة البدائية المنعزلة، البطة والأوزة، وهما دائمي الشجار، والتناحر علي الماء، بينما العصفور يترقب إنتهاء عراكهما، منتظرا أن يتركا له بعضا من الماء في الآنية الفخارية، أو بعضا من الحياة (وجعلنا من الماء كل شئ حي)[2]. الأمر الذي يحيلنا للنظر في رمزية كل من البطة(السوداء) والأوزة (البيضاء) - رغم أن الكاتب لم يُشر أيضا إلي أي من اللونين، وإنما تركها لفطنة القارئ- حيث يمثلان الليل والنهار، أو الخير والشر، وصراعهما الدائم علي مر الأيام. وكذلك رمزية الأب القاسي الذي حرم المرأة (سالي) من اللعب، أو من الحياة، خاصة أنه {كان لا يهتم بشئ غير إطالة لحيته وملء بطنه، ومضاجعة أمي قهرا} حيث تشير كل الصفات تلك إلي الرجال الذين اتخذوا من الدين وسيلة للمعيشة، لا أكثر. وقد لا أكون مجاوزا، لو رأيت أن هؤلاء، ما أشبههم بذلك الكلب الذي ينبح دون أن يَعُض {أعلم أنه ينبح لإثبات وجوده، دور يؤديه .. تجاربي السابقة علمتني أن مثل هذا الكلب ينبح فقط، لا يقترب ولا يعُض، فقط ينثر الغبار ويصيح لمدة معينة..}. فرغم طول نباح هؤلاء طوال السنوات، إلا انهم لم يقدموا رؤية تقود لمعرفة الحقيقة، بل إنهم يخنقون الحياة، والتي ربما كانت هي الحقيقة المطلقة، والتي قد تصل إلي معرفة الله، خاصة أن الإنسانية، الممثلة في تلك الأسرة البائسة، مكونة إلي جانب الأب القاسي، والأم قليلة الحيلة، هناك ولدان وابنة هي "سالي" (الحقيقة) الباحث عنها، حيث { لم يكمل أحدنا تعليمه، فتحي اكتفي بالإعدادية وبعدها (فص ملح وداب)، ومن بعده أنا، أما سالي فلم تجد ما يساعدها لاجتياز المرحلة الإعدادية}. فلم يبلغ الإنسان بعد المعرفة اليقينية، فلا زال الهروب (العجز) هو وسيلتهم. كما تحولت {الفراشة الحرة الطليقة التي تؤنس وحدتي، تحولت بفعلة أبي إلي حشرة تقبع في زاوية شباك عنكبوت} للتتسع رؤية النظر إلي القصة عامة، للسير في طريق البحث عن الحقيقة، وكذلك ما فعله (المتأسلمون) ولا أريد قولة (رجال الدين) من القضاء علي تلك العصفورة الباحثة عن شربة الماء، أو تلك الفراشة التي تحولت إلي حشرة في شباك العنكبوت "سالي". فالقصة تقودنا إلي أكثر من مستوي في القراءة، وهو ما يزيدها ثراء.

  • من تلك الرؤية، نجد أيضا قصة "تموهات حالم بالسماء" حيث السؤال الوجودي الأبدي الذي أرق الإنسان (أين الله) في إطار ما يحدث علي الأرض من شرور، وصراعات، تؤدي إلي قتل البراءة، وتُسيل دماءها. وقد بدأت القصة بما يشبه دقات الموسيقي النحاسية، التي تُعلن عن شئ خطير قادم، وربما لاستشعار الكاتب مخاطر الخوض في غمار هذا الطريق. فتبدأ الجمل السريعة، الباترة، المعبرة عن التوهان، أو فقدان الاتزان، مشحونة بما يشبه التخبط، والدوران، وإن بدأت بجملة غاب عني مضمونها {سكنتْ تَبْغَ شراييني الملفوفة برقائق قلقي}، إلا انها تستمر بما يؤدي للرؤية والمعني {الظلام يجتاح الأرض .. الثعابين لازالت تتربص .. شقوق كثيرة في حلقي}، حيث هنا يظهر الإنسان المتخبط، الإنسان الرومانسي الذي يحمل المزمار والكتاب، ويبحث عن الغزالة، ويفرح عندما تثور العصافير. غير أن مثل هذا الإنسان يفقد القدرة علي التعايش مع الحياة، فأصبح يخاف، من الحوائط، حيث تحيل الحوائط للجدران المانعة للرؤية، وكأنه يخاف المجهول، والمخبوء وراء الحُجب. فالجدار { خلفه ذُبحت الغزلان في الظلام} ، ذلك الخوف الذي خرجت الزوجة من حياته، علي أثره، حين اضطرته ظروف العمل التأخير في الحضور، فهي {تخاف كل شئ، من القطط والكلاب والفئران والثعابين، ومن الشقوق والثغور، ومن الغد وارتفاع أسعار المياه والكهرباء والسلع الغذائية واختفاء الأرز والسكر، ومن اختطاف الحبيب} حيث يهبط بنا الكاتب إلي الحياة الاجتماعية، ومعاناة البشر علي الأرض، وكأنه يعرض لنا الأسباب التي تدفع بالإنسان للهروب منها، او البحث عن ملجأ فوقها، لم يعد أمامه إلاه. خاصة عندما تتحايل المرأة بأساليب (الشحاته) وكأنها تتحايل علي الحياة، كي تعيش. وإن كانت الرؤية قد تتجه إلي الجانب الاجتماعي، بحثا عن الشفافية المفقودة فيها. إلا انه يتضافر مع تلك الرؤية الميتافيزيقية، عندما يستعرض السارد حلمه الذي لأول مرة يتذكره، حيث تتبعثر الأوراق من يديه، وتتعملق النخلة لتصل عنان السماء، ويطير هو إلي ما فوق السماء الأولي والثانية، وكأنه يصعد للسماء للبحث عن المخلص من هذه الحياة البائسة لينتهي إلي {انتظرته طويلا حتي شاهدته يبكي.. من عليائه يبكي علي الأرض}. وهنا كذلك يضعنا الكاتب – كما في الكثير من القصص - علي أكثر من مستوي للقراءة، وهو ما يتجاوز بها حدود السطح المباشر.

المستوي الثاني

ويضم القصص التي لا تقع في نطاق المباشرة، أو الوصول السريع للرؤية، ولا تقع في الإلغاز الذي وصمنا به المستوي الثالث، وإنما تتطلب إمعان النظر، وقليل من التمعن للوصول إليها. ومنها "أم فتحي". حيث ضاقت الدنيا حوله. ولم يعد قادرا علي إيجاد فرصة عمل، رغم حصوله علي الليسانس، فلم يعد أمامه إلا الهجرة، وغالبا الهجرة غير الشرعية، حيث {أعلم أنني وضعت البيض كله في سلة واحدة} فقد باع الدار، وقبض ثمنها. إلا أنه لم يبع الدار فقط، وإنما باع معها ذكرياته، وباع حبه ل"نبوية" التي لا مفر أمامه إلا "نزع "نبوية" من قلبه. و"نبوية" بالطبع هي ابنة الجيران، وهي الوحيدة المتبقية مع أمها "أم فتحي" بعد أن غادر "فتحي" (البكر) ولا يعلم أحد أين غاب، ولماذا غاب، ومتي غاب؟. ومن بعده، حرمت "أم فتحي" دخول كل "دكر" للدار. ربت أم فتحي الطيور في عُشة فوق السطوح، و{لم يكن بين الطيور ديك يصيح أو دكر بط يثور، كل الطيور من (البرابر)} رغم أم برابر أم فتحي دائمة الحركة، وتبحث عن ديوك الجيران، وإذا تجرأت إحداهن وسألتها، لا تجد غير لسان "شرشوحة" وشبشب يرتفع في الهواء صادما} الأمر الذي يعني الرفض التام للنوع. فقد أغلقت أم فتحي حياة الرجال في حياتها، علي فتحي، ولم يعد في البلد رجل بعد فتحي، وكأني بالكاتب في قصته "أم فتحي" يشير إلي رئيس معين لمصر، وكأن الحياة خلت من الرجال بعده. وكأني بالكاتب أحد أتباع السلفية السياسية، والذين توقف بهم الزمن عند عبد الناصر، حيث الإشارة واضحة. وقد تزداد وضوحا مع آخر قصص المجموعة "نصفان" حيث نجد أننا أمام قضية قتل، يتساءل الكاتب في نهايتها عن القاتل، وكأننا نشاهد البرنامج الإذاعي الشهير القديم (ستة وأربعين مائة وعشرين) غير أن القصة لا تتوقف عند حدود الجريمة، وإنما تتخطي ذلك إلي الرؤية السياسية، حيث مقتل "ذكية" وقد يكون الكاتب متعمدا أن يجعلها بال(ذ) وليس بال(ز). خاصة إذا ما أدركنا رمزيتها، والتي تشير إلي مصر. مصر التي يراها (الكاتب) قد تزين ذراعيها وأذنيها ورقبتها بالمجهورات، التي ورثتها عن زوجها (عبديّه). ورغم أنها قُتلت في بيتها، إلا أنها نُقلت في شوال (كجثة) إلي حديقة الشيخ حسن - وهو ما قد يشير إلي تسلم جثة مصر إلي الجماعات المتأسلمة، وهو الاتهام الأوضح للسادات - ولولا أنه من (بتوع ربنا) لتوجه إليه الاتهام، غير أن القضية حُفظت بسرعة ضد مجهول. ويأتي شبيها من حكاية "ذكية" حكاية "أم توتو" وقد عمد الكاتب هنا أيضا إلي إختيار هذا الإسم التهكمي، زيادة في توضيح الرؤية التي إرتآها، حيث خرجت من البلد أيضا ولكن علي قدميها، بعد أن شاع عن ابنها "توتو" المثلية السالبة. ومن كان يستعمله {كبار التجار، وبعض أعوان العمدة، ونفر غير قليل ممن ارتدو الجلباب الأبيض و أطلقوا الذقون، وبعض رواد المقهي الجديد قد تناوبوا علي ركوبه}، في إشارة واضحة علي أن هؤلاء هم من يتساءل الكاتب عنهم في النهاية {أفتش في رأسي عن إجابة لسؤال مازال يُلح عليَّ: من قتل ذكية؟}. حيث تأتي الإشارة الأخري، التي توضح من هم هؤلاء الذين أشار إليهم، وكأنه يراهم أعوان ذلك الرئيس الذي ينوي زيارة القدس { الدنيا كلها تتحدث عن زيارة الرئيس المرتقبة للقدس ......... ما أن تجاوزت قدماي جسر الرياح، حتي وجدتني بين قلة متجمهرة تتجمع تعلن عن رفضها للزيارة}. علي أننا لابد نلحظ إشارة الكاتب إلي أعداد المتجمهرين للإعتراض بأنهم (قلة). فضلا عن وصف "ذكية" أو مصر بما كانت تحمله من مجهورات – تم سرقتها – في الوقت الذي كان هو الطفل حينها {كان عليّ أن أقطع ثلاثة كيلو مترات معظم أيام الإسبوع سيرا علي الأقدام .... أرهقني المصروف اليومي القليل الذي أتحصل عليه..... باستطاعتي توفير حصة المواصلات، وعدم النظر إلي الطاسة الكبيرة التي تفوح منها رائحة الطعمية الساخنة، التي تقتحم فتحتي أنفي الحمراوين من شدة البرد}. وهو التعبير الشديد الصدق عن مرحلة ما قبل الرئيس المتأهب لزيارة القدس – وربما عفوية، وبدون قصد، خاصة إذا قرأنا السارد وهو يشرح علاقته ب"ذكية" التي كان يحبها وتحبه، حيث تنقذه من عصا الأمن المركزي الذي يهاجم المحتجين { جذبتني من يدي إلي صحن الدار، تقتصر المسافات وكفها البض يجتاح صدري، يمتد الذراع ليمر فوق خصلات شعري الطويلة..}. فرغم ما كانت تملكه من أطيان زوجها الراحل، وما كانت تتزين به من مجهورات، لم تُخرجه من عوزه وحرامانه، فقط، أفاضت عليه من حنانها، وحبها، ليتوقف العطاء فقط عند حدود القول. كما لا نحب أن ندخل في الرؤية السياسية بالسؤال عمن سرق مجوهرات مصر، وهل بالفعل، التجار ومحاسيب العمدة، والمتأسلون هم من قتل مصر؟.

ورغم كل ذلك، إلا ان الكاتب استطاع بالفعل أن يصوغ رؤيته – التي بالطبع هو حر فيها - في صورة قصصية، دون صوت عال، أو شعارات تخرج بالعمل عن المجال الإبداعي.

ويواصل الكاتب الكشف عن رؤاه للشيوخ، أو المشتغلين بالدين في قصة "شيخان"، كما يؤكد رؤيتنا في قصة "أم فتحي" فيعود بنا إلي عصر ما قبل عبد الناصر، حيث الإقطاع والعمدة وشيخ البلد. وكأنه يشير إلي فرص التعليم، حينما يخبرنا بأن السارد لم يحظ إلا بالتعليم المتوسط. غير ان الشيخ "لبيب" شيخ البلد، كان راعي حدائق إبراهيم باشا للموالح، قبل أن يصطفيه إلي جواره ، ليطلع علي الكثير من أسرار البلد، قبل أن يتم ترشيحه لشياخة البلد، بالتعيين بواسطة العمدة وإبراهيم باشا، وكأنه إزاء هذا التعيين، اصبح أسيرا لهما. وفي إحدي زيارت السارد للشيخ لبيب بالقصر، رأي "عفت الجحش" أو وجه النور، تمسح وتنظف. فطلب من الشيخ لبيب أن يتزوجها، غير أنه –الشيخ لبيب- الذي كان يحدق فيها ، وبنظرة أوحي لها، لتستجيب للغة العيون وتغطي ما بان من جسدها، كما أوحي إلي السارد، الذي يريد الزواج منها، بأن الأنوثة الطاغية ليست للزواج.

فاختار – السارد – إحدي ابنتي الشيخ مهدي، شيخ الجامع الكبير، واختار وجه النور منهن "هناء" غير أنه يوم أن دخل بها، لم يجد إلا اختها "ثناء" التي كانت {سوء فعل الشيخ مهدي}، فهجر مضجعها. غير انه سكت ولم يتكلم مع الشيخ لبيب بشأنها، والذي يعلم كل شئ. خاصة عندما سأله { وعندما سالتك عن العمدة والدكتور إبراهيم لم تقل شيئا، ثم غفوت} فقد دخل الشيخ لبيب في غيبوبة، بعد أن أصدر الشيخ مهدي حكما بجلد "عفت الجحش، لأنها زانية. و { يعلم الجميع أن مساعده هو من راودها عن نفسها، لو كانت زانية ما أدخلها بيته، فهل بعد كل هذه السنين، لم أفهم شيئا وأنا ربيبك؟}.

وإذا بحثنا في الكلمات، حيث يدخلنا عصام عبد الحمن في الحيرة من جديد، ولندقق النظر في الكلمات. فإذا كانت الكلمات تشير إلي (مساعده) بينما الحديث عن الشيخ مهدي، ولم نعلم أن له مساعد، وكذلك عفت الجحش، لم نعلم أنها دخلت بيته. كما أنه عندما سأل السارد الشيخ لبيب عن العمدة وإبراهيم باشا، لزم الصمت. فالإشارة تتجه صوب الشيخ لبيب، ليصبح هو {يعلم الجميع أن مساعده هو من راودها عن نفسها}. فهذا أحد الشيخان، الشيخ لبيب، هو من راوضحها عن نفسها، أما الآخر، الشيخ مهدي، فلم يتورع عن خداع السارد وزوجه من لم يخترها.

ومن هذه المجموعة أيضا تقع قصة "ذو الشعر الأبيض" حيث الرؤية الكلية للحدث، عبر تفاصيل تبدو كغلاف للرؤية الكلية، وعلي القارئ أن ينزع الغطاء ليصل إلي اللوب، أو الجوهر، الذي يمكن الوصول إليه عبر بعض الإشارات التي يسوقها الكاتب مغلفة، مثل الشعر الأبيض، والذي يعني بداية المسير نحو النهاية. و مقام السيدة نفيسة، حيث تجري مراسم توديع الراحلين. والقطة البيضاء بالشريط الأسود، حيث درجنا علي وضع الشريط الأسود علي صور الراحلين. فنحن إذن أمام رجل يشعر بدنو الأجل، ويلقي نظرة علي ما مر في حياته، لنري تلك المرأة التي فارقها منذ عشر سنوات، ودفع لها متعة، علي شئ لم يعشه، ليس معها فقط، وإنما في الحياة عموما، الأمر الذي دفع بالقطة البيضاء، ذات الشعر الأسود، أن ترفع ساقها الخلفية علي عمود النور، وكأنها تبول، وإن كانت القطط لا تفعل ذلك في الواقع، وإنما الكلاب هي التي تفعل ذلك، ولكن يمكن قبول الموقف، رمزيا، حيث تشير القطة (البيضاء) إلي حياة كانت مرجوة، غير أن الشريط الأسود، كان هو الشعور الفعلي، مما جعلها تبول علي عمود النور، وكأنها تبول علي الحياة كلها، والتي كان المفترض أن تكون نورا، لا ظلاما.

ويكشف الكاتب عن الرؤية، أو بما كان يسمي بلحظة التنوير، عند مشهد النهاية، حين {ظهر الرجل، جلس وحيدا في مواجهتي، سحب كرسيا آخر وطرقه بيده، دققت النظر فيه جيدا فبدا لي وكأني أنظر في المرآة}. لتأتي اللحظة الكاشفة في هدوء، وبلا إلغاز، حيث نري القصة الكلية وقد وقعت في أعماق السارد، وكأنها لحظة كاشفة عن حياة طويلة، وأوشكت علي النهاية.

وقريب من هذا قصة "أسير الرائحة" حيث تسير القصة سيرها الوئيد السلس، لتستعرض حياة ذلك الحُر، الذي تم إقصاؤه من رئاسة المؤسسة حيث قال لا، لا تَكبُراً ولا عناداً، ولكن لأنه لا يحب الكذب، وقد قادته صراحته منذ ثلاثين عاما، لأن يقفز سور حديقة الخولي، العامرة بأشجار الجوافة، والمغلقة علي بناته الثلاث- ليصبح رمز الإنغلاق- ويقابل ابنته نسرين الخولي، التي ظلت محتلة لفكره طوال كل تلك السنوات دون غيرها، ليقنعها بحقها في التعبير عن الحب، وأن تكون حُرةَ طليقة، غير انه رأي { الخوف في عينيها، ورعشة اليدين والقدمين}. وليتحول ذلك الحب المفترض لنسرين الخولي، إلي حب للحرية، وسعي لإطلاق سراح المكبوتين، وسعي للحرية التي شعر بها بعد الخروج من العمل، الذي كان مستغرقا لوجوده وكيانه، وكأنه الأسير. ثم تأتي النهاية، وبعد إنطلاقة الحرية في الحركة، يجلس في أحد المحال، ويطلب طعاما، لا يقربه. ثم يقع (المسن) الجالس في المائدة أمامه علي الأرض، ليكتشف كوب الليمون الذي أمامه، لم يقربه أيضا، فيتفحصه ولا يجده إلا ذلك الخولي والد نسرين، والذي هاجمه يوم أن حاول إطلاق صراح ابنته نسرين. وكأن الحرية والانطلاق هي التي لابد ستستمر وتعيش.

وكما لعبت رائحة الجوافة دورا في استعادت الماضي في قصة "اسير الرائحة"، ها هو يحاول الهروب من تلك الرائحة، غير أنها هذه المرة، رائحة الليمون، الذي كان صاحبنا يعشقه ويتلذذ به في صباه، في قصة "ليمون وخمسة أرغفة" فقد ارتبطت علاقته ب"سعاد" برائحة الليمون التي كان يعشقها، حين كانت تسبقه إلي المقابر، وهو غافل عما يعتمل في داخلها، واكتفي بصب حكاياته عن الكورة، وزيارته للنادي الأهلي لإختبارات الكورة التي لم تستكمل، حيث أصيب في ملعب جرن البلد، ظل علي إثرها يعرُج إسبوعين. وكأني به يلقي باللائمة علي البلد في تحطيم حلمه باللعب في النادي الأهلي.

  • الثلاث ليالي التي كان مقدرا له إقامتها بالقاهرة، لإجراء الاختبارات، يتعرف علي الحياة، الممثلة في "زيزي" الراقصة بمصاحبة التخت الشرقي، ورأي الممثل إبراهيم سعفان، كما رأي نجوم النادي الأهلي، وكأنه عاش بالقاهرة علي أضواء نجومها اللامعة. كما تعرف علي تلك التي كانت بأحد البيوت المجاورة، وكان أجمل ما فيها، شعرها، لتذكره بسعاد التي طلب منها أن تفك شعرها، فرفضت، رغم أنها لا تخاف المقابر، ولا تري في ساقيها الشبيهتان بشحرة البلوط ( بما تعنيه شجرة البلط من قوة ومتانة، وكأن القاص يرمي بها إلي ما يشبه الرجولة فيها، أو إلي قوة الجذور التي تربطه بالأرض الممثلة في سعاد) متدلية من سطوح بيتهم. يقع صاحبنا في غرام بنت الشرفة، والشعر الحرير ع الخدود يهفهف ويرجع يطير، ورغم محاولاته في لفت نظرها إليه إلا أنها لم تعره انتباها، حتي يراها الثالثة في طابور النساء أما الفرن، بينما كان طابور الرجال طويل، فأسرع إليها، ووقف أمامها {ممكن تجيبي لي معاك خمسة أرغفة؟}. وكأنه يسألها الغذاء، وإن كان هنا غذاء البدن، وكأنه يسألها الوصال. وكأننا أمام شخص يحاول الخروج من أسر وظلام القرية، إلي اضواء القاهرة، أو أن الكاتب يضع أمامنا المفارقة، التي تُبدي مدي إظلام الهامش، في مواجهة أضواء المتن.

المستوي الأول

وهو المستوي الذي يكاد يكون فيه القص سهل التناول، والرؤية قريبة من القارئ. وقد جنح الكاتب فيها إلي تقنية المفارقة، أو المواجهة الكاشفة. ومنها قصة "مفتاح صيد البياض"، حيث النهاية المتوقعة، والتي تحمل الكثير من الفكاهة، حيث يحضر صاحبنا صديقته، التي طُلقت في نفس الوقت الذي طَلق هو زوجته. يحضرها إلي البيت، ويبحث عن المفتاح، فلا يجده، حتي تضطر الصديقة إلي المغادرة، وبعدها يجد المفتاح.

وأيضا قصة "صدي الزيارة" فبعد إنتهاء البعثة الطبية لسانت كاترين، حيث يعمل طبيب جراحة العظام، ليحقق أمنية كان يتمناها، بزيارة المكان السياحي، وسط مجموعة من السائحين، يصاب أحد أبناء المنطقة بكسر في ساقه، ويرفض شقيق المصاب عمل عملية لشقيقه، بحجة أن عنده شلل نصفي ، فليس في حاجة لهذه الساق. ويكشف الكاتب لنا بطريقة مياشرة أن هذا المصاب متزوج بامرأة في ضِعف عمره، بينما شقيقه متزوج من امرأة في نصف عمره. و يسمع السارد أذان العصر، وكأنه يقول لهذه الحالة، بما يشبه التعجب (لا إلله إلا الله)، حيث التناقض غير المفهوم، وحيث العادات غير المفهومة للمناطق والأشخاص، وحيث إدانة الدولة المصرية التي رغم أهمية المكان، وإمكانية اسغلاله بطريقة أفضل، فإنها لم تنظر إلي من يتعاملون مع السياح، والذين من المفترض أنهم واجهة مصر هناك.

كما تأتي قصة "لحظتان" ضمن قصص هذا القسم، السهل التناول، حيث تضعنا في مواجهة التخلف الذي يعيشه المصري، القائم علي الحفظ والتلقين، والعقاب الدافع للهروب، حين لا يستطيع السارد استكمال حفظ الآيات، رعبا وخوفا من العصا الممدودة. في مقابل لحظة الإشادة والدعم والتشجيع في الخارج عندما يتفوق، هو نفسه، المصري، علي أستاذه الإنجليزي، ولتدخل القصة أيضا ضمن مجموعة القصص التي تتناول الجانب الاجتماعي.

وأيضا تأتي قصة "لافتة ممنوعة" حيث يستوحد السارد، بعد أن فارقته من كان حضنها يفتح شرايين روحه، فساقه الملل إلي القاهرة، ليجلس علي أحد المقاهي في مواجهة من تشبه "ريري" في حالة قلق، إلي ان أتي (شاب) واحتضنها طويلا، لتهدأ ثورتها، وتبرد عصبيتها. فيتجه صاحبنا من فوره ليشتري ورقا وقلما، ويكتب لافتة {إحضنوني كي تتفتح أوردة وشرايين روحي}، ليأتيه من يسأله { هو الونس م الحضن عيب ولا حرام؟}.

وكذلك كل من قصة "مُظلم وبعيد" و "لحظة"، حيث يصبح من اليسير الوصول إلي مرماها، دون عناء.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1] - عصام حسين عبد الرحمن – وكأنه... هو – قصص – يسطرون – ط1 2018.

[2] - سورة الأنبياء – الآية 30.