في مقالته يتناول الناقد قصة المغنية الشعبية الشيخة خربوشة، التي كانت امرأة سباقة في عصرها، وكانت أغانيها تحفز على المقاومة، حتى أنها هزت بفنها «عرش» قائد منطقة عبدة، لانتشارها في كل أنحاء المغرب، ثم دفعت ثمن موقفها بالتعذيب والقتل.

عيسى بن عمر وإعدام الشيخة خربوشة

مصطفى لطـفي

 

يجمع المؤرخون والباحثون في حياة القائد عيسى بن عمر، على الدور الكبير الذي لعبته الشيخة «حويدة الغياثية العبدية» في تحريض ثوار أولاد زايد، وبسالتهم واستماتتهم في مقاومة القائد.

تتضارب الروايات حول أوصاف هذه «الشيخة»، إذ هناك من وصفها بذات جمال آخاذ، رغم وجود ندوب على وجهها بسبب مرض الجدري، ما جعلها تحمل لقب «خربوشة»، لدرجة أن ابن القائد «سيدي أحمد» أغرم بها وقرر الزواج منها، وهو ما عارضه والده بشدة. هذه الرواية اعتمدتها مسلسلات وأفلام مغربية عالجت هذه الفترة التاريخية.

إلا أن هناك رواية، وهي الأقرب إلى الحقيقة، تصف فيها «حويدة» أنها محدودة الجمال، و«خربوشة» و«كريدة»، لكن هذه الصفات القبيحة، رفعت عنها الحرج في مخالطة الرجال دون باقي النساء، وتحرضهم على قتال القائد عيسى بن عمر إلى آخر رجل.

يروي المؤرخون أن «حويدة» كانت تجلس إلى مقاتلي أولاد زايد ليلا، حين يخلدون للراحة بعد عودتهم من معارك الكر والفر، فتنشدهم قصائد «عيوط» كلها تحفيز لهم وتحريض على (الحرب) ضد السي عيسى، تحثهم فيها على الصبر والثبات والمبادرة في الهجوم.

هزت أغانيها وأشعارها «عرش» القائد عيسى بن عمر على منطقة عبدة، إذ كانت تشكل خطورة كبيرة، سيما بعدما انتشرت في الحوز وكل أنحاء المغرب، إذ أكد المؤرخون أن الناس كانوا يرددونها أفراد وجماعات، ما أعطى لقبيلة أولاد زايد دعما معنويا كبيرا، قلما ظفرت به قبيلة أخرى، حول مواجهتهم مع القائد والتي وصفت بـ«الملحمة».

بعد أن تمكن القائد عيسى بن عمر من قبيلة أولاد زايد، وفتك بزعمائها، فرت الشيخة «حويدة» عند أخوالها، بمنطقة أولاد سعيد بالشاوية، فأرسل القائد في طلبها، لكن قائد أولاد سعيد المدعو ابو بكر بن بوزيد، رفض تسليمها له وأعلم السلطان المولى عبد العزيز بها، فأمر بنقلها إلى دار المخزن، وصادف يوم تنفيذ الأمر السلطاني وجود جماعة من أصحاب القائد عيسى بمجلس ابن بوزيد، جاؤوا لتجديد طلب تسليمها، وحين خرجت «حويدة» رفقة مخزني قاصدة دار المخزن، لحق بها أفراد جماعة القائد عيسى، ورافقوهما مسافة، ولما انفصلت الطريق عمدوا إلى مركوب خربوشة وساقوه على غير طريق المحلة السعيدة، وحالوا بينها وبين المخزني، رغم أنه سلمهم الكتاب السلطاني الذي بيده، فلم يلتفتوا إليه ولم يقدر هو على مقاومتهم لأن عددهم كان 12 فارسا.

عند وصول «خربوشة» إلى القائد عيسى بن عمر، زج بها سجن قصبته، ليبدأ مسلسل تعذيب شديد وطويل، عبرت عنه في قصيدة لها تقول فيها : «الليلة العذاب أبابا ونقاسي، الدنيا تفوت أبابا نقاسي، آخرها موت أبابا ونقاسي».

اختلفت الروايات الشفوية ونصوص المؤرخين حول ظروف مقتل «الشيخة حويدة»، منها أن القائد عيسى بن عمر حبسها لمدة طويلة، وتفنن في تعذيبها وإهانتها، لدرجة أنه رفقة حاشيته، أركبها ناقة وأمرها أن تغني ما كانت تنشده لمقاتلي أولاد زايد، ، وبعد أن أشفى غليله منها قتلها ببشاعة.

في حين تظهر رواية أخرى أن الشيخة «حويدة»، فعلت المستحيل لكسب قلب القائد طلبا لصفحه ومسامحته، إذ مرة تستعطفه بأعز بناته وهي السعدية إذ تقول: «آ سعدية طلبي بوك علي.. إلى أوتيت سامح ليا.. واخا قتلني واخا خلاني.. مندوز بلادي راني زيدية.. على كلمة خرجت البلاد وأخرجت أحكام… لا سلامة ليك أليام».

كما استرحمته بأولياء الله الصالحين، قائلة «نسألك بالمعاشي سيدي سعيد مول الزيتونة..والرتناني سيدي احسين جاء بين الويدان.. والغليمي سيدي أحمد العطفة يا ابن عباد… والقدميري سيدي عمر مول حمرية… والتجاني سيدي أحمد مول الوظيفة».

استجاب القائد لاستعطاف حادة وتوسلاتها، وطلب من السجان، المدعو «الشايب» إحضارها إليه، لكنه أخبره أنه فتك بها انتقاما من هجوها لسيده، ومن شدة غضبة القائد على فعل سجانه وحسرته المريرة على حويدة، أمر بجلد السجان إلى أن يعجز عن الكلام انتقاما وقصاصا منه.

انتهت ثورة أولاد زايد بشكل مأساوي، وظلت نقطة سوداء في تاريخ منطقة عبدة، ومسار القائد عيسى بن عمر، بسبب مبالغته في القتل والتنكيل بخصومه من أولاد زايد، ساهم في ذلك أوامر السلطان مولاي عبد العزيز ببيع جميع ممتلكات سكان أولاد زايد ومنازلهم، وإجلائهم من المكان.

كان لثورة أولاد زايد وطريقة تعامل القائد بمساندة من السلطان، معها بشكل وحشي وقمع تأثير على نفسية الأوربيين بأسفي، والذين تملكهم الخوف من أن يتعرضوا للمصير نفسه الذي شاهدوه بأم أعينهم لزعماء أولاد زايد، ما دفع عددا منهم إلى التزام الصمت ومراسلة دولها من أجل التأهب لأي تدخل في حال انقلبت الأمور بأسفي.

فعلا تعاطت الدول العظمى مع هذه الأحداث بشكل حازم، إذ أرسلت سفنها الحربية، لترسو بطنجة في انتظار تدخلها عسكريا في حال تعرض رعاياها لأي اعتداء، لكن مع مرور الوقت خفت الاستنفار، بعد أن تبين حسن نية القائد والدولة بصفة عامة مع الرعايا الأجانب.

كانت الحرب على أولاد زايد وإخماد ثورتهم مكلفة بشكل كبير للقائد عيسى بن عمر، لدرجة انه اضطر إلى اقتراض مبلغ مالي كبير وقتها من السلطان المولى عبد العزيز لتمويل حربه على أولاد زايد، بلغت حسب نصوص تاريخية أزيد من 28 ألف ريال.

ثقة السلطان
بعد مرور سنة على إخماد انتفاضة أولاد زايد، سيتوصل القائد عيسى بنعمر برسالة، من السلطان المولى عبد العزيز يطالبه برد الدين، كاملا. كان هذا الأمر امتحانا حقيقيا للقائد، بحكم أنه أتى في ظرفية حرجة، لم يستعد بعد عافيته المالية من نفقات الحرب، إلا أن هذا الاختبار تم بنجاح، إذ تمكن القائد من رد الدين دون ان يصاب بإفلاس، كما الأمر للعديد من القياد الآخرين، إذ تبين أنه كان يمتلك إمكانيات مادية مهمة، جعلته يقوى على مواجهة نفقات الحرب على أولاد زايد.

خرج القائد من امتحان أولاد زايد، قويا، وصار يملك جيشا بالأسلحة المتطورة، ونقصد بها البنادق التي حصل عليها من المخزن، كما صار محط ثقة السلطان بعد نجاحه في القضاء على ثورة أولاد زايد، ما سيراهن عليه السلطان كثيرا في إخماد انتفاضات في حال اندلاعها مسبقا، وقائد يؤكد جدارته في الظروف الصعبة.

هذا الوضع دفع القائد إلى توسيع نفوذه وامتداد قيادته ليشمل منطقة عبدة كاملة، سيما أنه يتوفر على الشروط المادية والمعنوية لذلك، بل صار يتمتع بثقة السلطان وصدره الأعظم احمد بن موسى با حماد.

صار نفوذ القائد عيسى بن عمر يمتد من الواليدية إلى تانسيفت، ومن البحر إلى مشارف مراكش، على بعد ستين كيلومترا.

كما صارت كلمة القائد بعد إخماده فتنة أولاد زايد، مسموعة لدى المخزن المركزي، ما جعله يلعب دور الوساطة بينه وبعض القواد في جهات أخرى، إذ صار المخزن يعتمده في فصل الكثير من قضايا المخزن المحلي في جهات أخرى.

توطدت علاقة القائد بالحاجب با حماد، بشكل قوي، سيما أن الأخير، حسب نصوص تاريخية، تميز بسياسة إضعاف القبائل وإطلاق أيدي العمال والقياد من أجل النهب والسلب مقابل نصيب له من هذه الغنائم، ما فتح الباب أمام الظلم والجور والتعسف في حق الرعايا.

وكان من أكبر المستفيدين من هذه «الفوضى» قياد الحوز الكبار، على رأسهم القائد عيسى بن عمر والباشا الكلاوي، إذ زادت شراهتهم في جمع الثروات وتنافسوا في شراء المناصب لتوسيع دائرة نفوذهم، وهو ما جعلهم يتجاوزون المخزن المركزي، ما مهد لانقلابهم على السلطان مولاي عبد العزيز، بعد وفاة الحاجب با حماد، ومبايعة شقيقه مولاي عبد الحفيظ.