تخلص الناقدة إلى أن الحوار بين الثقافة والتقانة سيستمر وقد يتحول في أحايين إلى حالة من حالات الصراع، عندما تفتقد الثقافة دورها التي كانت تجده في الماضي، بهيمنة التقانة ووسائلها الإعلامية وقيامها بأدوار ثقافية استهلاكية نيابة عن الثقافة ووسائلها التقليدية المعروفة.

جدل العلاقة بين الثقافة والتكنولوجيا

حـواس محـمود

 

برزت بقوة في الآونة الأخيرة (وخاصة بعد ازدياد وتيرة التطورات التكنولوجية في العالم) موضوعة العلاقة بين الثقافة والتكنولوجيا نظرا للتأثيرات الكبرى للتكنولوجيا ولا سيما ذات الطبيعة الإعلامية كالاتصالات والمعلوماتية والإنترنت ووسائل اتصالات أخرى كثيرة وهنا سنتناول هذا الموضوع من خلال علاقة التأثير والتأثر بين الجانبين الثقافة والتقانة (التكنولوجيا).

الثقافة توجه الإنتاج في المجتمع "المصدر للتقانة" نحو إنتاج تقانة معينة تلبي حاجاته وتنسجم مع قيمه، وفي المقابل التقانة في المجتمع "المستورد للتقانة" تحدث ثقافة جديدة، ويتفق معظم الخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين على أن التقانة لا يمكن أن تكون حيادية، لأنها تؤثر في كل شيء في المجتمع تقريبا، فهي تؤثر “ مثلا “ في المشاركة الشعبية وفي العمالة، وهي تحابي الأقلية الغنية على حساب الأقلية الفقيرة، ويرى مستشار معهد الكويت للأبحاث العلمية الدكتور أسامة أمين الخولي (رحمه الله) أن "التكنولوجيا بطبيعتها محملة بالقيم، قيم المجتمع الذي نشأت فيه وفاء لطلب اجتماعي تولد في ظروف تاريخية معينة لهذا المجتمع .. وتكتسب المجتمعات المستوردة للتكنولوجيا خلال عملية النقل هذه القيم الغريبة عنها والخاصة بمجتمعات أخرى لها تكوين اجتماعي مختلف، وتعيش اليوم مرحلة من مراحل تطورها لها أصول تاريخية تختلف تماما عن تاريخ مجتمعاتنا وواقعه".

ولا شك أن كلا من الثقافة والسياسة والاقتصاد تؤثر في الاختيارات التكنولوجية وبالمقابل للتكنولوجيا نتائج وتأثيرات سياسية وثقافية واقتصادية، فالأساليب الفنية الجديدة هي مظاهر للتغيرات وعوامل له.

إن مراكز المعلومات وتكنولوجيا الاتصال هي التي تمتلك اليوم مفاتيح الثقافة إذ أن التكنولوجيا تحمل الثقافة، والثقافة محمولة عبر التكنولوجيا ،التكنولوجيا تقوم بعملية الاختراق الثقافي بسيطرة الثقافات القوية تكنولوجياً على الثقافات الضعيفة.

تكنولوجيا، فباتت الثقافة متأثرة بالتكنولوجيا إلى حدٍ بعيد، وبواسطة التكنولوجيا المتطورة نجحت الدول الغربية في نشر ثقافتها عبر المحيطات والقارات، والترويج لأفكارها وقيمها الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية على حساب اكتساح الثقافات الوطنية، وطمس الهوية الثقافية للدول الفقيرة أو النامية، ويشير الدكتور نبيل علي في كتابه "الثقافة العربية وعصر المعلومات" إلى أن عولمة الاقتصاد تقود حاليا قافلة العولمة جارة وراءها عولمة الثقافة.

ولقد نجح الاقتصاد متضامنا مع السياسة في التهوين من قدر الثقافة مستغلا في ذلك حقيقة مهمة مرتبطة باختلاف إيقاع سرعة التغير بين الأنشطة الاجتماعية المختلفة، ويبين د.علي أنَ شواهد كثيرة تشير إلى أن التكنولوجيا قد أصبحت –حاليا- أسرع من العلم، فالتكنولوجيا حاليا تملي مطالبها في كثير من الأحيان على العلم، في ضوء ذلك يلخص الباحث نبيل علي سلسلة التتابع في عملية التغير المجتمع:

- التكنولوجيا في أحوال كثيرة أسرع من العلم.

- العلم أسرع من الاقتصاد.

- الاقتصاد أسرع من السياسة.

- السياسة أسرع من الثقافة.

والسؤال الأساسي في إطار العلاقة المحورية بين الثقافة والتكنولوجيا والإقتصاد القائم على هذه التكنولوجيا بالتالي هو: من يكون له حق القيادة أوبتعبير آخر هل الثقافة تابعة للتقانة أم التقانة تابعة للثقافة ويرى الباحث في أنْ تسلم القيادة المجتمعية لقاطرة الثقافة، فالثقافة كما تقول لورد س أريزب -المدير العام المساعد لليونكسو لشؤون الثقافة- بحكم طبيعتها ترفض التهميش والاختزال، ولا يمكن لها أن تكون مجرد عامل مؤازر لعملية التنمية التكنولوجية كما هي الحال عادة،فليس دورها (ومازال الحديث للوردس أريزب) أن تكون خادما من أجل تحقيق الغايات المادية بل يجب أن تكون الثقافة هي الأساس الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الغايات نفسها.

إن أي تنمية تكنولوجية منزوعة من سياق مجتمعها وثقافته هي تنمية بلا روح، ومهما زادت سطوة التكنولوجيا كما هي الحال بالنسبة لتكنولوجيا المعلومات فيجب الا يكون المجتمع تابعا لها بل يجب أن تكون هي التابعة له الملبية لمطالبه المتوائمة مع ظروفه وقيمه وامكا نا ته، وتجدر الإشارة إلى ملاحظة بعضهم أن فن العمارة و"الديزاين" يمثل اللقاء التلاحمي بين الثقافة و"التكنولوجيا"، لا يزال يسود في البلدان العربية والنامية ما يعرف بالوعي التقليدي القديم سيادة غالبة وهو معرض حتى الآن لتأثيرات قوية من قبل التكنولوجيا المعاصرة، وبأشكال ومظاهر الوعي المختلفة : الفردي والجماعي والاجتماعي وسواء بصورة مباشرة أو بواسطة تأثير التكنولوجيا على نمط المعيشة، وعلى التجربة الإنتاجية والممارسات العملية، مما ينعكس بالتالي لاحقا على الثقافة والوعي بصورة غير مباشرة، وتؤثر التكنولوجيا على طابع الاختلاط والعشرة بين الناس بالتقليل من الاحتكاكات والصلات الملموسة المباشرة، وجعلها مجردة وتوسيطية وغير مباشرة بازدياد وباستمرار.

وأخيرا فإن الحوار بين الثقافة والتقانة سيستمر وقد يتحول في أحايين كثيرة إلى حالة من حالات الصراع وبخاصة عندما تفتقد الثقافة دورها التي كانت تجده في الماضي، بسيطرة وهيمنة التقانة ووسائلها الإعلامية وقيامها بأدوار ثقافية استهلاكية ثانوية نيابة عن الثقافة ووسائلها التقليدية المعروفة: صحف، ومجلات، وكتب، ومحاضرات.

* * *

المراجع

1- عبد الوهاب محمود المصري، "بين الثقافة والتقانة أية علاقة"، صحيفة تشرين، 27/ ت1/ اكتوبر 2008، ص9.

2- د. نبيل علي، "الثقافة العربية وعصر المعلومات"، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، يناير 2001، ص50-347.

3- د. معن النقري، بين التقانة والثقافة"، صحيفة تشرين السورية، 12 مايو 2001، ص10.