تحوّل البيت الطيني إلى معتقل للبؤس، من يوم حكمت الأعراف على أمه بالزواج من عمه بعد وفاة والده، ردّوها عليه ... كما يقال ليصونها ويربي أبناء أخيه الأيتام، عبدللي أكبرهم لم يتقبّل أن تخرج صورة والده من إطار موتى العائلة، على شكل عم يمتطي أمه وينام في فراشها بحكم عرف جائر.
نُتــَف العجين التي تتناثر خارج القصعة، تشي بانفعال (الـــزهرة الحمرة)، نظرة ابنها الغاضب تخترق صدرها حتى تخرج من بين كتفيها، دثّرت العجين بمنديل مخطط بالأحمر والأسود. فرائسها المرتعدة عجـــزت عن فعل شيء غير تحريك مكنسة الدوم وضرب البلاط. صفق الباب... انقبض قلبها وجلا، فزّت إلى زوجته:
- يا (مرزاقة) أمسكي زوجك عني، سيقتلني.. لم أعد قادرة على تحمّل نظرته التي تشق الصدر نصفين.
ترد كنتها:
- زوجي؟ من يوم جاء الحسّاب، حرّمني على نفسه.. أنا هنا أعينك على حلب البقـــرة وأدرّ دموعا وقهرا على إيقاع الحليب المشخوب داخل السطل.
من يومها كان الذّعــر هو ما تعنيه ملامحه... عذابات روحه فاضت على تقاسيم وجهه كلها، كان يفكر بالانتحار كلما سمع تأوهاتها، أمه تعي ذلك جيّدا لكنها لا تملك خيارا آخر. كان محترقا كعود ثقاب، فقط رأسه بقي مشتعلا... الموت هو الماء. الانتحار ممرّه القسري للخلاص من الصورة، كلمات العرّاف كانت تعويذة السّحر التي وضعت في عمامته فأخذت رأسه إلى ظلمات عشّشت فيها وودفعته إلى انتهاك مكمن الألم بالتخلّص من الجسد والحياة، كلما حاول ترتيب الفوضى ؟ ظهرت صورة العم في فراش الوالد وطغت على المشهد.
على صياح الديك، اعترضت والدته طريقه، كانت بلا عباءة إلى القفار، تتشبث بكل أصابعها به بقوة. هرع إلى داخل البيت بوجهه الحاد الذي أزداد نحولاً وبقلبٍ منقبض. - مرزاقة مرتك يا ابني وذراعي، معاونتني فيكم.. قل لعمي يركبها، ميش انتي تقولي "فرّش الحاذق كساتو رقد فيها البهلول" ولم أر بهلولا أكثر منه. انفلت لسان أمه بالدعاء:
-ياربي تلّف رايو.. ياربي تلّف رايو..
لمع السكين في جيبه وبذرة العرّاف التي وضعها عن طريق الخطأ في العمامة. يابني عبدلّلي، ثلاث نساء على خط العمر سيرتبن موتك، وسماية مرزاقة راها "قصّة شر وطير منايا، تلحس قع أجنابها وتنقر راسك"... تعويذة كاملة أفتك من أي سلاح نووي هي الكلمة. أمّــه لا تعرف ما قاله العرّاف ولا مرزاقة... ولا سبب الطلاق، لكن ما سمعه كان كافيا ليعرف أنها سبب كل مصائبه وأن النساء قصص أو نصص... قصة شر... أو ناصية خير... ومرزاقة ما لها فيه ولا من اسمها نصيب. "الحسّاب زقّــاد" أخبره أن أمامه حقيبة سفر وبركة ماء، أكبر من واد الغدير. مشى طويلا ودعاء أمــه يرطن في رأسه، يدور كحصّادة، يدور ولا يهدأ... كل تلك البراري تضيق، قوقعتي العزلة تتصالحان حول عنقه، أخرج السكين، استلقى أرضا وضعه على الوريد المتهدّج، صفير الرّاعي يثنيه، يعدل عن الفكرة، يغلق السكين... يتراجع ما ذنب هذا المسكين " يروح في جرتي "، سلك طريقا آخر في العودة، الطريق كلّه أنصال سكاكين... وصل البيت في ساعة متأخرة، ألفى خبزا ولبن.. قضمة واحدة وانسكب الطست، تشرّبته الأرض، تخيل نفسه امتدادا لهاوية تمنى لو تسحبه ويختفي وينتهي كل هذا الجنون من حوله، يده ترتجف على وقع الشبّاك ذو الطلاء المقشر، أمه نائمة في مدخل الدار. عمه فرضت عليه الأعراف بيت شقيقه وزوجته وأبنائه الخمسة... حياة مدبرة، مقيدة الحرية كعقوبة، لكنها متسعة للذهاب والإياب فوق جسد امرأة كانت تحت شقيقه يوما ما... ذنبه الوحيد أنه أعجب أحد كبار الموت، فزاره في المنام وأخذه معه. بعد ليلة محمومة على ذات الفراش وذات الجسد البضّ، أثمن الموروثات.. علمه أبجديات التسلق بكرا، متحسسا محط أصابع شقيقه كلها وأقوى رائحة تركها، مودعا أجمل النتوءات التي كانت تدثر شقيقه في أشد أوقاته عزلة وتجردا، كأنه يودعه عبر جسدها. مستنفذا كل عسل الجرة... نافثا كلامه وقت الضحى مع سيجارته كأنه يدخنه، بعدما غسلت الزهرة الحمرة سراويل أبناءها الخمسة وسرواله سادسهم، على طرف الغدير وعمائمهم، نشرتها على شجرة السدر. باغتها بالسؤال:
- أين سروالي من بينهم وأين عمامتي؟
انتفض الدم كله إلى وجهها، كعادتها كانت الحمرة تعبيرها الجلي عن كل الأحكام الجائرة التي طبقوها عليها، كانت دما على وجهها، يفور ويهدأ. ألجمها السؤال، فهمت مقصوده، أن المهمة انتهت وأن أولادها قد كبروا... كان عبدللي العمامة السادسة المعلقة على شجرة الفاجعة، ستبقى تلوح لأمه من بعيد لما بقي لها من عمر. أم طعنته مرة بالانصياع لرغبة كبار القوم ومرة بدعاء ظل يطارده كلعنة. ـــ بالقرب من مضاربهم حط مرحول يقتفي أثر العشب، كعادة البدو، لا خلاص من صوت المطر المنحدر من قرميد الأسقف ولا خلاص من سحر ضفائر طويلة لشعر أجعد كثيف، ينقصها مشط خشبي، مقطوع من سنديانة كانت مشروعا لجسر أو مقعد وحيد في غابة... لا منجاة من نبع سري يغذي شيئا جديدا، لم يخبره عبدللي... اعترضت طريقه في غنج طفولي ممزوج بأنوثة لم تنضج بعد. كان متجها للتسوق، أمسكت بنطاله وهــزته.
ــ جيب لي مشطة. ابتسم للمرة الأولى، كأن تلك الابتسامة تشقّ فمه وتكشف أسنان بيضاء لامعة، تحت شاربين كــثّين. شعر "سمرة"، طلبها الأنثوي الذي يختبئ خلف جسد طفلة. كان تعطيلا للألم.. حيلة مؤقتة لتأجيج الاشتعال الذي أكل ثلث رأسه. لم ينس بوعبدللي مشط ابنة عم والده عطية، فهم الشيخ لعبة الحب اللذيذة، دفعه للعمل في فرنسا مقابل تزويجها له، انحصرت فكرة الخلاص في الموت، عيناها الدعجاوين كانتا تمنحانه كل ما يعده به الدين؛ أنهار خمر ولبن، لم يكن يبحث عن الجنة خارجهما. ثلاث سنوات كاملة، اشتغل أجيرا عند فرنسا ونفس السنوات كانت كافية لسقوط الحب من رمانة سمرة ولاضرام نار أخرى في جسد عبدللي، كان شغوفا لنار أرحم تحرق كل جروحه.. تزوجا بعد عودته، قبلتها الأولى أشبه بلقاح ضد الموت، أراد إفراغ صوته دفعة واحدة كقنينة خمر في جوفها، أن تثملي، أن تحبلي، يعني أنك خاصتي تنتمين إلي... لم ير ثمرتهما الأولى، تركها في الشهر الثامن، كان مضطرا للسفر مرة أخرى، لكن الحياة المومس كما يقول صديق طفولته لخضر؛ أوقعته ثلاثة أشهر كاملة أسير مرض السل في مستشفى فرنسي، صديقه الهواري الوهراني كان الوحيد الذي يسأل عنه من حين لآخر كلما سمح له وقت الركض خلف لقمة العيش... راسلهم من أجل العودة وبشأن مرضه مرسلا مبلغا مبللا بعرقه وغربته للكل ولزوجته فردّ شقيقه لا تأتي إلا ومعك (لمحنّة) أوراق تثبت عملك هناك وتجعلك تتقاضى راتبا من فرنسا لما بقي لك من عمر... صرخ عبدللي صرخة مكسور، أمسك رأسه وانبرى يبكي، عاد قمل الإنتحار الذي بذره العرّاف من جديد، مثابرا.. يتوالد... لا يستكين. لم يكتف بالدم هذه المرة، طمع في الرأس كله. القملة الأولى أمه، بالزواج من عمه والإنصياع لقرار العرش و"دعوة الشر" التي طاردته كلعنة، فقط لإبقائه على امرأة انقضت فترته معها، فقط كي تعينها ولم تفكر في سعادته. القملة الكبيرة التي لم يجد لها تفسيرا خارج حدود القدر، والده الذي تركه دون توضيح للأسباب، والده الذي تعلق به أكثر من الحياة نفسها، لماذا الموت لا يمنح الفرصة ولا يستشير... القملة التي أكلت الكل ومعهم رأسه، إخوته... لا أحد يهتم لعبدال كما يسميه الفرنسيون، لا أحد اكترث لمرضه، كانوا يرونه صرّة نقود. ليلة كاملة يهذي، لن أدفن في مقابركم، سأنبذ في العراء، لن أدخل الجنة.. حيث لا نار هناك، أعدكم أن رأسي لن يكف عن الاشتعال بينكم، سأكون جذوة النار الوحيدة في الجنة لكن لا أحد سيأتيكم مني بقبس، سيطاردني الكل كسراب، جنازة واحد لتشييع الألم لا تكفي.. أنا النار الوحيدة التي ملّها الدخان، أنا التنور الذي أوقدته نبوءة العرّاف، أمي.. عمي.. إخوتي.. لم يكفه ماء الموت لينطفئ. تنبح فكرة الانتحار ككلب مستوحش ملدوغ... هيا اشربوا نخب الفاجعة هاهي سترتي وفيها كل أوراقي الثبوتية، معلقة على شجرة عارية.. (منام الأشجار العارية الذي سبب له الرّعب خرج للواقع الآن ولم يعد يخيفه). فيها المرتب الذي تريدون وكل حبات العرق التي قايضتها عمري، قسّم شقاءه وتعبه بالتساوي بينهم وترك أكبر حصة لسمرة وابنه دحمان الذي لم يره. دعوني أشرب نخب التخلّي، سأحلّق تحليقا لا متناهيا، لأول مرة، سأمارس سلطتي في الاختيار لمرة واحدة أخيرة، أنا هذه اللحظة أملك ذاتي، أرسم مصيرها دون تدخلهم. كوني لن أحظ بقبر لا تقولي مات منتحرا من أجل طفلنا، وإن خانتك الكلمات قولي له، محض موت.
لن يدفن في جبّانة العرش من قتل نفسه، لا يهم... كنت منبوذا كالجيفة وأنا حي، لا حياة لهم خارج سياج الأعراف، أنا الميت الوحيد الذي يسعى للحياة التي يجهلونها وأزرع الهلع في جينات المقبرة. سيبذلون قصار جهدهم في قتل العصفور الوحيد الذي شذّ عن الخمسة، ها أنا أخفف عنهم عناء الاحتكام إلى أعقلهم وأكبرهم سأضع عنهم أوزارهم وألقيها في نهر السين. يصعد قارب الموج الأخير خلسة عن تيار التساؤلات، الذي سيمطره به الهواري، لن يشغله شاغل عن الضفة الأخرى وهو ينظر في دوّامات المجرى. لا مشط أبطل مفعول السحر، لا قلبة تضيء من حدقتيها، جريمة الصمت وحدها تستعر على رؤوس أصابعها، شعرها الذي اشتعل شيبا، أنكرته أسنان مشطها الخشبي، ثدييها يبكيان حليبا، كلما جاع طفلها الذي انتزعه عمه بالقوة. بالعبارة قال: موتي وقطعي شعرك وخدودك... لن نعطيك ابننا كي لا ينهره رجل آخر على حبة تمر أو قطعة سكر، رباه عمه؛ من ليلتها وهي لا تنطق إلا شعرا، أرادوا تكرار المصيبة التي أودت بوالده معها... إذا كنتي تريدين طفلك، تزوجي سلفك عبدالقادر... غاضبة وهادئة كلعنة، لم تجبهم، كل الرفض الذي يسري في عروقها خرج على شكل قيء، على شكل كره أبدي لعبدالقادر الذي أرادوا توريطه في مأساة مشابهة للتي أودت بشقيقه...