كنتُ دائماً على قناعةٍ بأنَّ المرأةَ إذا اسْتَحْوَذَتْ عليها فكرةُ الزواجِ من رجلٍ، فلن يُنقذه منها شيءٌ سوى الفرار. لَكِنْ ليس دائماً. فقد كان لي ذات مَرَّةٍ صديقٌ، أَوْشَكَ خِناقُ إحداهنَّ الأبدي أَنْ يُطْبِقَ عليه. فلم يجد مَهْرَباً سوى ركوب البحر واقتحام لُجَجِهِ، خاوي اليدين، إلا من فرشاةِ أسنانه. والتي كانت كل ما معه من أمتعةِ السفر. حيث لم يُسْعِفْهُ الوقتُ لحملِ شيءٍ آخر. لأنَّ الخطرَ كان عظيماً مُحْدِقَاً، والحركة السريعة الخاطفة، كانت ضروريةً للغاية.
وبعد أَنْ أمْضَى سنةً كاملة؛ وهو يجوب العالم، على متنِ سفينةِ الهروب نفسها، راوده الشُّعُورُ بالأمان، وعاوده الحنينُ إلى مُنْطَلَقِهِ الأَوَّل. فبدأ يقنع نفسه بأنَّ النساءَ مُتقلّباتُ الرأي والمزاج. وأنّ اثني عشر شهراً من الغِيابٍ كفيلةٌ بنسيانِ أَمْرِهِ، وكل شيء. لكنْ ما إِنْ رَسَتْ سفينتُه مُجَدَّداً، على نَفْسِ الميناء الذي أبحرت منه؛ حتى أبصر صاحبته، بشحمها ولحمها، وهي تُلَوِّح له بيديها، من على الرَّصِيف.
والمَرَّة الوحيدة التي عَرَفتُ فيها رجلاً استطاع في ظروفٍ مُشابهةٍ أنْ يُنقذ نفسه، كانت عندما عرفتُ روجر شارن. والذي كان وقتها قد وقع لِلتَّوِّ في حُبِّ روث بارلو، ذات الموهبة أو قل الخاصيَّة الفريدة، في اجتذاب عطف الناس، واستدرار شفقتهم. والتي قَلَّمَا كان ينجو رجلٌ من تأثيرها وسحرها.
ولهذا لا عجب أَنْ طاشَ لُبُّ روجر وذهبت حِكْمَتُهُ المَعْهُودة. وتهاوى أمامها بسرعةٍ، وانهار كالقناني الخشبية عند ضربها بالكُرَةِ، في تلك اللُّعْبَةِ. والسببُ بلا مراءٍ كان مشاعرَ العطفِ والشفقةِ التي أُسْتُثِيْرَتْ بِقُوَّةٍ وعُنْفٍ تجاهها.
ولا ريب، فقد كانت للسيدة بارلو، والتي سبق لها أن ترمَّلت لِمَرَّتين، عينان رائعتان، من أجملِ ما رأيتُ. بل هما الأكثر إثارة وتحريكاً للمشاعر. فقد كانتا تَبْدُوَانِ دَوْمَاً وكأنَّهما على وشك أَنْ تفيضا بالدُّموع. وتُوحيان بأنَّ الدنيا قد قست عليها جِدَّاً، ولم ترحمها، وأَنَّها قد كَابَدَتْ من الآلام فوق ما يُطِيقُهُ إنسان.
ولو كنتَ كروجر شارن؛ موفور الصحة والمال، لقطعتَ العَهْدَ على نَفْسِكَ وقُلْتَ لها: "لابُدَّ لي أَنْ أقف وأحول بين مخاطر الحياة، وبين هذه البائسة الرقيقة. يا له من عملٍ رائعٍ، أَنْ أزيل الحُزْنَ عن تلك العينين الساحرتين".
وكان مِمَّا التَقَطْتُهُ من روجر عنها، أنَّ الناس جميعاً قد آذَوْهَا، ولم يُحْسِنُوا مُعاملتها. لذا وضح لي تماماً أنَّها كانت من أولئك النَّفَرِ من ذوي الحظ العاثر، الذين لا يَسْتَقِيمُ لهم شيءٌ في الحياةِ، ولا يستقرُّ أَمْر. فإذا تَزَوَّجَتْ مثلاً انقلبَ عليها زَوْجُها، وأَوْجَعَها ضَرْبَاً وتنكيلاً، وكَشَفَ لها من أخلاقِهِ ما كان خَافياً، وتستحيل معه الحياة. واذا أَوْكَلَتْ أَمْرَاً من أُمُورِهَا إلى سمسارٍ لِيُنْجِزَهُ لها، خَدَعَهَا وسَرَقَ مَالَها. بل اذا أَتَتْ بخادمةٍ تَطْبَخُ لها وتُعِينُها، فإنَّه لن يَمْضِي عليها وقتٌ حتى تنقلب سِكّيرةً، سيئةَ الحالِ والمزاج. وعموماً كانت روث بارلو من ذلك النوع الذي يُقال عنه أنَّه ما إنْ يمتلك حَمَلاً يَافعاً نَابِضَاً بالحياةِ حتى كان ذلك أقوى مُؤَشّرٍ إلى دُنُوِّ أَجَلِهِ، وانطفاء نَبْضِهِ، وروح المَرَحِ فيه.
لكن عندما أخبرني روجر بأَنَّه قد استطاع أخيراً اقناعها بالزواج منه، لم يكن بوسعي إلا أَنْ أَتَمَنَّى له حياةً سعيدةً معها. وكَأَنَّهُ حينها قد استشعر خاطري. حيث ابتدرني قائلاً:
- أَتَمَنَّى أن تكونا صديقين مُقَرَّبَيْن. وَضَعْ في بالك أَنَّها تخشاك قليلاً، لأنَّها تَظُنك جافَّاً صَعْبَ المراس
- عجبي والله، من أين لها أن تظنَّ بي هذا الظن؟
- هل هي تروق لك؟
- جِدَّاً
- اذن التمس لها العذر، فلقد مَرَّتْ حبيبتي المسكينةُ بأوقاتٍ عصيبة، وأنا آسف لذلك أشدَّ الأسف
- نعم!
ولم أستطع أن أنبس له بشيءٍ آخر، رغم سابق علمي وادراكي بأنها مُتبلّدةُ الحِسِّ والشُّعُور، وقاسيةٌ كَقَسْوَةِ الحَدِيدِ الصُّلْبِ، وفوق ذلك تَنْطَوِي على مَكْرٍ شديد.
فلقائي الأوَّلِ لها كان على لُعْبَةِ البريدج، حيث لِسُوءِ وعَاثِرِ حظي كانت شريكتي فيها. ولأَنَّها لم تَكُنْ تُحْسِنُ اللَّعِبَ؛ فقد أَضَاعَتْ لي فُرْصَتين مُحَقَّقتين للفوز. فخسرتُ بسببها مَبْلَغَاً كبيراً من المال. لكن رغم فَدَاحَة المُصاب؛ إلا أنّني تصرَّفتُ معها كتصرُّفِ مَلَكٍ من الملائكة. وأعترف بأَنَّه لو كان لِأَحدٍ أنْ تَفِيضَ عيناهُ بالدُّمُوع؛ لكنتُ أنا هو، لا هِيَ. ولم ولن أَنْسَى ما حَيِيتُ وعدها الكذوب لي في أعقاب تلك الأُمسية بإرسال شَيْكٍ يُعَوِّضني عن خسارتي. لذلك فيقيني أنني أنا، وليست هِيَ، الذي ينبغي أن يكسو الحزنُ وجهه اذا التقينا مُجَدَّدَاً.
لكن لا ريب أَنَّ روجر كان في بادئ أمره معها مغتبطاً للغاية، فَرِحَاً بها جِدَّاً. عَرَّفَها إلى أصدقائه، وأَهْدَى إليها مجوهراتٍ ثمينة. ثم طاف بها هنا وهناك، وفي كلِّ مكانٍ لِشِدَّة ِسعادته بها. ثم أخيراً كما كان مُتَوَقَّعَاً جاء الإعلان بأنَّ زواجهما سَتُقام مراسيمه في القريب العاجل.
نعم، في ذلك الوقت، كان روجرُ سعيداً للغايةِ، سعادةً لا تكاد تُوصَف، وقد خالجه حينها شعورٌ بالغِبْطَةِ عظيم، جعله يُحِبُّ الحياة والأحياء، ودفعه إلى القيام بأعمالٍ رائعةٍ جليلةٍ، عن طيبِ خاطرٍ ورضاءِ نفس.
ولكن ومن دُونِ سَابِقِ إنذارٍ، وعلى نحوٍ مفاجئٍ، وغير مُتَوَقَّعٍ؛ تَبَدَّلَتْ عاطفتُهُ المشبوبةُ نحوها، وانقلب مَيْلُهُ عنها، فلم يَعُدْ يُحِبُّها، ولا أدري لماذا؟. ولا أعتقد أنَّ ذلك كان بسبب ثرثرتها وكثرة أحاديثها. فهي على العكس تماماً، لا أحاديث لها البتة. لكن ربما طلعتها الحزينة، الساحرة تلك، لم تَعُدْ تَهُزُّ أوتارَ قلبه. وإذا بسكرته بها تتلاشى، ويعود إليه رُشْدُه، فَيُقْسِمُ قَسَمَاً مُقَدَّسَاً غير حانثٍ به ألّا يتزوج بها.
لكنَّه وجد نفسه في ورطةٍ ومأزقٍ كبير، لإدراكه التام أيّ نوعٍ من النساء هي. فلو فاتحها ونفض إليها قراره، ودخيلة نفسه، حتماً سَتُقِيمُها مناحة، وسَتُبالغ أَيّما مبالغة في إظهار مشاعرها النازفة الجريحة. وسوف لن تُوَفِّر شيئاً من أساليبها وسحرها وجاذبيتها في سبيل استدرار التعاطف معها. لذا من المُؤَكَّدِ حينها سيظن الناس به الظنون. ولن يرتابوا في أَنَّهُ قد أَساءَ التصرُّف معها. فتتأثر سُمْعَتُهُ جِدَّاً. لذلك آثر الصمت. وفَضَّلَ ألا ينبس ببنت شفة، ولا حتى مُجَرَّد إيماءة صغيرة؛ قد تفضح مشاعره الجديدة. وهكذا استمر في استجابته لكل رغباتها. يأخذها كُلَّ ليلةٍ لتناول العشاء في المطاعم، ويأخذها إلى المسرح، ويُرْسِلُ لها باقات الورد. أما بخصوص الزواج فقد أقنعها بأن يعقداه حالما يجدان منزلاً مناسباً.
فابتدأتْ اثر ذلك تنهال عليهما عروضُ سماسرة المنازل. وابتدأ روجر يصطحبها معه للمعاينةِ والفحص. والنتيجة: هذا منزل واسع جداً غير لائق، وذاك ضيق خانق. وهذا بعيد، وذاك قريب أكثر مما ينبغي. وهذا ثمنه باهظ، وذاك تعوزه ترميمات وإصلاحات كثيرة. وهذا بلا تهوية، وذاك في مَهَبِّ الرياح. وأحدها قاتم اللون، وآخر شكله كئيب وموحش.
والمهم في كل مَرَّةٍ لابُدَّ من عَيْبٍ أياً كان، ولا شيء يُرْضِي روجر. لأنّه لا يليق بمحبوبته الغالية إلا أكمل وأجمل منزل. لكن البحث مُضْنِي والمهمة شاقة مُنْهِكَة. ولذا كان لابُدَّ أن يجد الضَّجَرُ سبيلاً إلى نفس روث، رغم تَوَسُّلاتِ روجر وتأكيداته، أَنَّه في مكان ما يقبع المنزل الذي ينشدانه. لكن، وبعد الطواف بالمئات من المنازل، وتَسَلُّق الآلاف من درجات السلالم، وفحص عدد لا يُحْصَى من المطابخ، أُنْهِكَتْ قُوَى روث، وانقطعت أنفاسها، فخرجت عن طَوْرِها وصاحت فيه قائلة:
- إذا لم تعثر قريباً على منزلٍ، فسأعيد النظر في وضعي معك، لأنَّه على هذا النحو لن نتزوج ولو لأعوام.
- لا تقولي هذا حبيبتي، أَتَوَسَّلُ إليكِ، لقد استلمتُ تَوَّاً قَوائمَ جديدةٍ بعث بها إلىّ سماسرةٌ آخرون، وبها ما لا يقل عن ستين منزل.
وإذا بحملةٍ جديدةٍ تنطلق. ثم تنصرم سنتان، وهما على نفس حالهما؛ ينتقلان من منزلٍ إلى منزل، بلا طائل. إلى أَنْ خَارَتْ قُوى روث تماماً هذه المَرَّة، وانطفأ وَهَجُ عينيها الجميلتين. ولم تَعُدْ تَعْرِفُ غَيْرَ العُبُوسِ والتَجَهُّم، والسخرية والتَهَكُّم. وأكيد لكل إنسانٍ حدودٌ ومدىً للتَحَمُّل. والحق يُقال، لقد صَبَرَتْ السيدة بارلو صبر الملائكة، لكن فاض بها، ونفد صبرها، فتَمَرَّدَتْ وثارت:
- أترغب بالزواج مني فعلاً، أم لا؟.
قالتها بقسوةٍ وصرامةٍ غير مَعْهُودة. لكن لم يُؤَثِّرْ ذلك أدنى تأثير على نُبْلِ الرَّد:
- بالتأكيد أرغب، وبالمناسبة لقد وَصَلَنِي لِلتَوِّ شيءٌ يُمكن أن يُناسبنا.
- لستُ في حالةٍ جيّدة لرؤية المزيد من المنازل.
- يا لحبيبتي المسكينة، أرى أنَّه قد نال منك الإعياءُ والتعب.
وبالفعل، قد انهارت روث بارلو، فَحُمِلَتْ إلى سريرها، وظَلَّتْ عليه لأيام. وروجر يزورها كل حين، ليطمئن عليها، ويُرْسِلُ لها باقات الورود. وظَلّ على عادته معها، مجتهداً في التَوَدُّدِ لها، والتَقَرُّبِ منها. يَكْتُبُ لها يومياً. ويَكْتُبُ فيما يَكْتُبُ؛ أنَّه قد سمع بمنزلٍ جديدٍ لابُدَّ من رُؤيتِهِ قد يُناسبهما. لكن بعد مُضِيّ أسبوع استلم هذه الرسالة:
روجر
لا أعتقد أَنَّكَ حَقَّاً تُحِبّني. لقد عَثَرْتُ على شخصٍ آخر، مُتَلَهِّفاً عليَّ، ومُهتماً جِدَّاً بي، وسأتزوجه هذا اليوم.
روث.
ثم عبر مَبْعُوثٍ خاصٍ وصلها هذا الرَّد:
روث
لقد حَطّمَتْنِي أخبارُك. ولَنْ أَشْفَى ما حييتُ من وَقْعِ الصَّدْمَةِ. لكنْ بالطبع تهمني سعادتك، لأنَّها هدفي الأسمى. لقد أَرْفَقْتُ لكِ ضمن هذه الرسالة سبعة عروضٍ لمنازل، قد وصلتني هذا الصباح عبر البريد، وأنا على يقينٍ بأنك ستجدين من بينها ما يُناسبك.
روجر.