رمي جسده الناحل نحوي فأجبرني على العناق. كنتُ أقف على الرصيف المقابل لدكان عمي – خليل – الحلاق الذي تحول إلى مقهى صغير، أقف سارحا في أيام طفولتي التي قضيتها قناً في ذلك الدكان. كان مبتهجاً يعيد عبارات الترحيب بعودتي بعد سنوات الغربة، ثم راح يحدثني وكأننا عشنا العمر معاً .. تفاصيل قديمة عن عائلتي، أبي وأعمامي وأخويّ الصغيرين .. انشغل عني قليلا، فسألت الواقف جنبي:
- من يكون؟!.
- سيد – ك – من مثقفي المدينة الجدد.
كنا ننتظر رسول الخمر الذي سيأتي بكيسه ويدخل الزقاق الخلفي الضيق بين العمارتين ليضعه في مدخل السلم المظلم المؤدي إلى شقة رثة في الطابق الثاني، مكان سهرنا الليلي بعد أن منعت المليشيات الدينية الشرب وأغلقت نواديه. أول جلسة لزمت الصمت، فالوجوه لا أعرفها، جديدة عدا واحد أو أثنين. خليط غير متجانس، ضابط شرطة كبير – محقق -، ضابط مرور بملابسه العسكرية، طبيب نسائية، بائع تسجيلات، موظفون، شرطي، مذيع بإذاعة المدينة، شغَّلَ أحدهم قناة إباحية جعلت تمطرنا، من التلفزيون الصغير الموضوع على رفٍ عالٍ من الخشب يقابلني بالضبط، بالأعضاء التناسلية والآهات والصرخات ووجوه النساء والرجال المتشنجة وهي تمثل طريق الصعود على سلم الذروة لبلوغ ما لا يبلغ؛ الانصهار بالآخر. الجميع يتحدث في السياسة، يسخر من الوضع، ويعلق على القتال المحتدم بين المليشيات والحكومة .. وقتها كانت معارك النجف على أوجها. لم أفهم من الجميع موقفاً واضحاً مما يجري. كانوا يروون الأخبار مثل رواة حياديين، وكنتُ أركز على ملامح – ك – تحت ضوء المصباح الناري الضعيف المتدلي بسلسلة حديدية من السقف العالي. كان يجلس قبالتي تماماً وفوق رأسه تمتزج أجساد العراة مشتبكة كخلفية تزين كتلته النحيلة وهو يسحب النفس تلو النفس من سيجارته وينفعل ضارباً المنضدة رداً على رأي يناقضه. وفي ذروة الاحتدام. نبَّ المحقق ذو اللغد المتدلي:
- سيد.. سيد من وره .. من وره.. شوفْ!.
سقطَ صمتٌ أذهب بالسياسة والحرب الأهلية المشتعلة لتوها وشخصت العيون نحو السيد – ك - الذي التفت لاوياً عنقه الطويل وأطلق ضحكة قصيرة مرتبكة، وطفق يرتجف ويعاود النظر نحو الجميع وفي وجهه نشوة وظل بسمة تطوف حول شفتيه الصغيرتين. نطق بصوتٍ انبح قليلاً:
- استراحة من النقاش!.
ونهض ليعدل وضع كرسيه بزاوية تجعله يستطيع رؤية بحر اللحم وصفحة من المائدة. أمسيتُ أراه بشكل جانبي، والضوء يسقط على صفحة وجهه المواجهة. جبهة ممصوصة، أنف صغير بدا كمبتور عند نهايته البارزة. عين صغيرة بأهداب لم يبق منها سوى ظلال. فم بدا بلا شفاه. وبشرة ملأتها حفر سوداء قديمة وكأنها أثار جدري. تتبعت نشوة قسماته وهو يصرخ لحظة الإيلاج:
- قَبْطه.. قَبْطه يا أمة الإسلام. يا بوووووووووووووووووية!
كمن ضُرِبَ على رأسه بمطرقة، فانطلقت عاصفة من الضحك والتعليقات النابية، فاحمرت الوجوه لا من الخجل بل من ألق اللذة، ليعود النقاش عن السياسة والاحتلال، وجيش المهدي، وإيران، والتفجيرات، ومجلس المحافظة، والمستقبل. كنتُ أنصت متعجباً من حماس السيد – ك – وآرائه الثورية عن حق الفقراء والشعب في النفط والحكم وكأنه ثوري يساري، وهو يتحدث عن صراع الطبقات وماركس والصدر الأول في خلطة بدت لي جديدة، حينما دخل شاب بهي الطلعة ولعن الوضع ناعتاً – الصدر – بالمراهق الذي يصّب على النار زيتاً. فقفز – ك - من كرسيه ومزق قميصه مثل من أصيب بنوبة صرع وراح يصرخ :
- لا.. لا الصدر مراهق .. مراهق الله أكبر! الله أكبر
وسط ضحك الجميع. حملقتُ بذهول غير قادرٍ على تجميع الأمر، الصدر والفقر ماركس ومن وره، وطريقة تعرفه عليّ. قلت مع نفسي:
- لأرى أي مثقفين جدد ظهروا في غيابي!.
في اليوم التالي نهضت مبكراً كعادتي. أديت طقوس الصباح. خرجت إلى حديقة البيت فاستقبلتني الفضة وهي تقطر من زوايا السماء، والعتمة تبهت قليلا .. قليلا. لبثتُ غارقاً في الصمت والفضة وزقزقة العصافير على شجرة النارنج. كنتُ أريد حرز الأوقات كلها، الألوان كلها، الأصوات كلها، أنفاس الشجر والجداران والجيران وسماء شارع طفولتي، فعببتُ النفس العميق تلو النفس حتى قيام الضجيج ودبيب الحركة والشارع الذي ضج بمصلحي السيارات ومع كل ضربة مطرقة أو ضجيج محركٍ أشعر أن وقتي قد أزف وصار لمحة في ذاكرتي وأحلامي. توجهت نحو المدينة سالكاً نفس طريقي القديم المار بسوق الخضار المحتشد المجاور لسوق السمك القديم. أتريثُ في خطوي مستمتعاً بتراب المكان وقذارته ووجوه النساء والرجال المغضنة المتعبة وهي تنادي على بضاعتها الفقيرة، سلة خيار وطماطم، خضروات، سلال تفاح. أستمتع بنغم الباعة، الشمس اللاهثة الضوء، الزحام، أنفاس الجميع، باعة السمك، المخلل. وفيما كنت غاطاً في شجني سمعت من ينادي باسمي. توقفت وتلتفت. لم ألحظ أحداً. هممتُ بمواصلة طريقي، لكن النداء تعالى قادماً من تحت رواق الشارع. في الظل الكثيف رأيته يتحرك بقامته الناحلة وسط دكانٍ ضيقٍ، يملأ أكياسا صغيرة بالبهارات لزبائن من النساء والرجال، ويشخص نحوي مبتسماً مشرق القسمات ملوحاً بذراعه. أفرد لي كرسياً جنب وقفته، قال:
- أقعد .. تَفَرّجْ على بشر مدينتك اللي صار لك مفارقهم أكثر من عشرين سنة .. نصف ساعة وسأسلم المحل لمساعدي ونتمشى قليلا .. ما صدقت أشوفك وأتعرف عليك!.
أبحرتُ في الوجوه المتعبة، المشققة، اللاهثة، وجوه نساء بعباءات رثة، وجوه أطفال غضة تلهث تجهد لتبيع أكياس نايلون للمتسوقين المتعبين، وجوه رجال هرمت بغتةً وتغضّنتْ قسماتها وهي تُساوم لتحصل على الخضرة بسعرٍ أقل. وجوه لا تعرف بأنها تعيش فوق بحيرة من الذهب الأسود هي من أغنى بقاع العالم. شعرت بالعجز التام، - فماذا أستطيع لهذه الجموع المتعبة المشققة البشرة، السائرة بوهنٍ ؟! وماذا أقول فقد ضيعت عمري من أجل فكرة مساواتهم والرقي بهم إلى مجتمع لا فقر فيه؟!
شعرت بعجزي وعزلتي أنا في خريف العمر. ها أنذا أجلسُ وسط السوق والسيد – ك - الذي تعرفت عليه مساء البارحة هاشا باشاً يرمقني، وكأنه يعرف دخيلتي وما أفكر به .. هل الخيبة رسمت ملامحي؟!.. لا أدري، أعياني الأمر. التفت إليه فوجدته يرمقني بعينيين فيهما خبث وكأنه يقول:
- ها.. لا تفهم شيئاً.. لقد تغيرت الأحوال!.
نفضَّ عن ملابسه غبار البضائع وهو يتكلم مع صبي لا يتجاوز الرابعة عشر حلّ محله، ثم التفت إلي قائلا:
- هيا بنا!.
سألته:
- هل يستطيع هذا الصغير إدارة المحل!.
تبسم قائلاً:
- يقدر. يقدر.. هذا الحبيب اللي ربيته من هذي الأيد لهذي من كان عمره ثمن سنيين!.
قلت مع نفسي:
- ها أنذا أدخل عالماً قديماً يلوح كذكرى مريرة ومضت في صباي!.
ونبَّ الآخر الخبيث الكامن في ناحية من نفسي ونفس كل إنسان:
- هذا كنز لا تضيعه!. كنز مغمور وسط الزحام!
تصّنعتُ البلاهة كشأني كل العمر، حينما أود أن يشعر الآخر بأنني ثقيل الذهن أحتاج إلى الشرح ولا أفهم الكلام المرموز وقلت:
- سيد ما فهمت شيء!. عفواً!.
- حقك صار لك هواي عايش بالغرب!. قلت ربيته مثل الزغيرون حسن!.
كان يشير إلى الأغنية العراقية الشهيرة "ربيتك أزغ يرون حسن.. ليش أنكرتني" وأضاف:
- بس هو جَلدْ!.
في إشارة أيضا خفية لمربي الطير، الذي يضيع مع جوقة الطيور في السماء، لكنه لا ينسى مهبطه القديم!.
أمعنت في تصنع السذاجة فقلت:
- سيد ما أحب الحزورات .. ولا أعرف حلْ واحدة .. يعني شنو؟!.
أطلق ضحكة عاصفة وقال:
- يعني إلا أحكي بالقلم العريض .. هو "فرخي" يا فهيم يا أديب!.
لم أتضايق من سخرية جملته الثقيلة، فقد أدركت أن مفتاح الكنز صار بيدي وسيطلعني على عالمٍ أحتاج إلى عمرٍ أخر كي أعرفه.