صالة استقبال الضواري، هو عنوان كتاب الشاعر العُماني سيف الرحبي، الصادر عن الآن ناشرون وموزعون بعمّان، وهو يمثل رحلة في المكان، كما يمثل في الوقت نفسه رحلة في مرايا الذات.
فالكاتب الشاعر بالمقدار الذي يطوف فيه الأماكن بين أوروبا وجنوب شرق أسيا، يتوقف أمام الذات لمقاربات ومقارنات تنهال من الذاكرة في صور تأملات للنفس البشرية والوجود. الكتاب الذي يقع في 249 صفحة من القطع المتوسط يمثل في الآن نفسه أربعة نصوص متوازية ومتداخلة، بين الرحلة في المكان، والرحلة في الكتاب، أو التطواف المعرفي، والرحلة عبر السينما التي تمثّل الذاكرة البصرية، ورحلة النص الشعري الذي يشكل خلاصة التجربة المعرفية.
والكتاب هو رحلة النفس المتوقّدة لمعرفة الوجود من خلال المشاهدات، وتداعيات مماثلاتها مما اختزنت الذاكرة لفهم ذلك الوجود المأساوي الذي يعيشه الإنسان بين حديّ الولادة والموت.
الشاعر سيف الرحبي الذي صدر له أكثر من عشرين كتابا في الشعر والنصوص والمقالة والرحلة وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، يركّز في رحلاته ليس على القصور والعمارة والآثار والطبيعة، وإن كان يشير إليها، بل يتوقف عند الهامشي منحازا للإنسان الذي كسرت روحه تلك الماكنة المسننة التي تطحن الإنسان في دورانها.
ففي بريطانيا يستعيد تلك الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، ويرتم بداية في مطاراتها التي لا تخفي ريبة من الآخر، وحينما يقيم فيها تلفته حالة الناس الهامشيين واللاجئين الذين يبحثون عن حيوات توفر لهم مساحة من الصراخ أو الصمت.
يقسم الشاعر الرحبي الكتاب إلى سبعة فصول، تمثل خريطة الرحلة، وهي: "في وصف رحلة.. شظايا بشر وأمكنة"، و"عن البلاد البعيدة والقريبة"، "من صحراء الكوكب إلى أعماق الغابة".
ومن الفصول أيضا، "غروب آسيوي.. الحلم والمتاه"، "المرأة التي يترجف في قلبها الغزال"، "في ضوء صباح آسيوي"، و"صالة استقبال الضواري" الذي حمله الكتاب عنوانا.
وفي المتون يحار القارئ أين يصنف الكاتب ضمن حقول الإبداع الذي يتعربش فيه النثر على ساق الشعر، فتغدو الكتابة لوحة يتبارى فيها الشعر والنثر على صفحة واحدة، ليشعرن الرحبي النثر، ويسرد الشعر.
فهو كتاب شعرية الأمكنة التي لا يتأتى جمالها من صفة الموصوف، بل في الدهشة التي تتحقق من التفاصيل اللامتوقعة التي ينتبه إليها الكاتب في المكان اللامتوقع، ولكنه في الوقت يجمع ما اختزن من ثقافة ومعرفة وخبرة بصرية ومهارة تأملية لوضع اللحظة في سياقها الإبداعي.
إن الكتابة ليست مجرد وصف، بل ارتحال في سيرة الأشياء، ورصد حرنات التاريخ من خلال الإمساك باللحظات المؤلمة فيه، والتي تنعكس على أرواح الناس الذين خرجوا من أتون الحروب، وما تزال غبارها تلوث معاشهم على ابتعاد المسافة من مكان الجمر، وإمساك بلباب ما ترك التاريخ على الآخرين من وجع بعد عقود نتيجة ما أسس الاستعمار في تشويه للعلاقات بين الناس.
فالكتاب، هو قراءة في التاريخ غير المكتوب عبر قراءة تجلّيات الهامشي في الحضارة التي كسرت في الإنسان طبيعته الإنسية ليتمثل صورتها المتوحشة.
ويتذكر الكاتب في باريس، عاصمة النور، رشيد صباغي، وعلي بن عاشور، وصموئيل شمعون، الأكثر رأفةً في التعاطي مع أولئك الذين انكسر بهم قارب الأمل في أول الطّريق أو منتصفه، فقطعوا بما يشبه الطّلاق الباتَّ مع مجتمعات النفاق والاستهلاك.
ويكتب شعرا:
"الطّائر يرفّ على وجه الغَمْر،
أكبر حجما من الغراب!
إنه الغداف،
يقرأ سورة الطّوفان القادم".
ويستذكر خلال ذلك حال ديستوفسكي مع الرجل المضطرب الذي لا يعرف مكان هذا العالم الموغل في انحطاطه القيمي والأخلاقي، الرجل المدفوع بتدفق المواقف والأحداث إلى جهة السب والارتباك، وتتداعى الذاكرة التي تستعيد صديقة الكاتب التي قضت انتحارا، وقالت له:" إنني أعرف كيف أتعامل مع كل هؤلاء المنقوعين في سمّ الكراهية والنميمة والانحطاط، بالتجاهل".
ويقارب الكاتب سيف الرحبي قصة الكلب الياباني التي تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان "هاتش"، الذي يبقى فيه الكلب وفيا لصاحبه حتى آخر نفس من عمره، وهو ما لا يتحقق في عالم الإنس.
ويتذكر بيت شعر للأحيمر السعدي الذي يقول فيه:
»عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسان فكدتُ أطيرُ... «
تلك هي المناطق الوعرة التي يغامر الأدب والشعر والفلسفة بولوجها، للاقتراب من النفس البشرية التي ينطبع عليها صدأ المكان، ويقول الرحبي: "أهل الأدب والفن لا يفعلون في صنيع الإبداع والجمال إلا استعادة فوضى الطفولة". التي تعني البراءة وجموحها للحرية والصدق.
وخلال ذلك يتذكر فيلم "برسونا" للسويدي انغمار برغمان وأنتج عام 1966 باللغة السويدية، وهو من بطولة ليف أولمان وبيبي أندرسون الذي يناقش قضايا الجنون والفصام والهوية والوجود من خلال أسطورة مصاص الدماء. ويحاول المخرج فهم أعماق الإنسان في مواجهة نفسه.
ويقرأ خلال واحدة من الرحلات رواية الفرنسي من أصول تشيكية ميلان كونديرا التي تحمل عنوان "حفلة التفاهة" الذي يذهب فيها إلى التأمل العميق في الوجود والعالم ضمن صميم بنيته.. حتى في أكثر المشاهد خرابا، ويخلص إلى ما إن إدراك البنى والمؤسسات التي تحكمنا بوصفها سابقة لنا ولوجودنا، فهذا يعني أننا سنكون أسرى لقوانينها التي تتحكم في سلوكنا، وهذه التي نسميها الإنسانية، هي بلا معنى لأننا نخضع لقهرها وعنفها اليومي الذي يرسم سلوكنا كما رسمته لنا وشكلتنا عليه.
في الكتاب رحلة للتاريخ عبر جغرافيتي المكان الشاسع من العالم، والنفس بكل ما تنطوي على عمق وتعقيد، ويقول الرحبي: " حين ينظر المرء إلى كل هذا الصخب القاسي والحطام، ويرى بما لا يقبل الشك، تواطؤ الأقوياء والضّعفاء على إنجاز هذه الفظاعات الشنيعة، يأخذه الدوار والألم إلى مهاوٍ سحيقة لا يعود منها إلا مضرجاً بالجراحات والأرق، إذ لا بد من البحث عن عزاء ما. عزاء ولو كان مؤقتاً أمام ديمومة المأساة".
ويقول:
إن حياتنا على الحافّة دائما
على حافة السرير ننام
على شفا جُرف الكون نعيش
على حافة جهنم تمضي صباحاتنا
والأماسي..
ويقول الكاتب محمد محمود البشتاوي على الغلاف الأخير للكتاب: " إنّ ما يجعل المنجَز الإبداعيّ لسيف الرحبي على هذه الصورة، تلقائيتُه، وصدقيّته، وجِدّته، وتدفُّقه بحرّيةٍ لا تتقيَّدُ بضوابط الأسلوب؛ فلا حدودَ للتعبير ولا قوالبَ جاهزة، لهذا لا يتردّد الرحبي إذا ما تعلّق الأمر بالتجريب وخوض غمار فضاءات تلين له وتنقاد بسهولة، فيما تستعصي وتنغلق على سواه.
يُعبِّر سيف الرحبي في نصوصه الحرّيفة هذه، عن ذاتهِ وعن العالم في آن، ويتداخلُ فيها الخاص بالعام في ضوء تنوُّع عوالمه واشتغالاته".