هنا تقرير من عمان حول إصدار شعري لصوت شعري نسائي يبحث عن كوامن تلك الحقيقة الداخلية والتي تجعل من الغياب لحظة أزلية بفعل هذه الويلات التي نعيشها في عالم اليوم، هنا شاعرة تكتب عن أوجاع الإنسان الفلسطيني وهمومه وعذاباته ونشدانه الحرية، في مزج بين تجربتها الذاتية الخاصة وتجارب حيوات متعددة.

الجشّي تؤنسن الغياب في مجموعتها «نم أيها الموت»

 

ليس كما يقول الشاعر: تعددت الأسباب والموت واحد، فثمة أنواع من الموت، منها البيولوجي والمعنوي، والحقيقي والوهمي التي تجعل من الموت على صور شتى، فالغياب والسفر والبعد والإنكار والجمود والإقصاء والتهجير والرعب، هي دوال على السكون والموت.

وربما هذا ما تقصده الكاتبة جليلة الجشّي في عنوان كتابها الصادر حديثًا عن الآن ناشرون وموزعون بعمان والذي تخاطب فيه الحقيقة الكونية المطلقة ككائن حي أو طفل يجلس جوارها، ويمكن أن يغفو وينام ويسبل عينيه وربما يحلم أيضًا.

ويبدو أن الطلب في عنوان المجموعة ليس أمريًا، بل رجاء لهذا الكائن الأزلي والسرمدي والأبدي أن ينام, تاركة جواب الطلب مفتوحًا على كل التأويلات، وفي الوقت نفسه تذهب إلى أنسنة الموت، وتحوّله إلى طفل وديع، تخاطبه، ومثل ذلك لا يتسنى لأحد, ما لم تكن طالت معه الرفقة التي تتيح مثل ذلك الخطاب لفرط الخسارات.

وهي ألفة الموت الذي غدا واحدا من الصحبة في غزة ونابلس والخليل وأريحا، وكل فلسطين، حيث الموت الذي يطارد الذاكرة بالأسماء التي حوّلت الرأس إلى مقبرة تضج بشواهد القبور للراحلين، الذين يكون حضورهم طاغيًا أكثر مما يستطيع أن يخفي الموت.

وتمزج الكاتبة في فضاء النص بين التجربة الذاتية، والهّم العام الذي يمسي فيه الحب مطاردًا ومطلوبًا، وحينما يخفق القلب يلوذ بالصمت الذي يشبه الرحيل، فهو الغياب الذي قتلته الخيانة.

تقول الكاتبة في مجموعتها التي تقع في تسعين صفحة من القطع الوسط، وصمم غلافها الفنان بسام حمدان: "كتبت هذه المجموعة شعرا ونثرا تعبيرا عن أحاسيس ومشاعر الكثيرين من حولي، لملمت كتاباتي المبعثرة والمتناثرة في الصحف والمجلات أحزان أولئك الذين سكنوا سطور أوراقي".

وتذكر مقولة للشاعر الأميركي روبرت فروست حول طموحه الأبعد للشعر، بأنه أراد أن يغرسَ القصائد في ذاكرة القارئ بحيث يصعب اقتلاعها من الجذور. وأنا نزفت من المشاعر على جسد أوراقي، وأتمنى أن تغرس كلمات نصوصي وقصائدي في ذاكرة القاريء. ورسالتي كانت أن تعبّر عن الروح الإنسانية لدى كل قارئ، وتخترق حدود الظلم..

فهي حيوات رصدتها الكاتبة ودونتها الذاكرة ثم استعادتها بظلال الذاكرة ودونتها بأثر التجربة القاسية، ومن "دعوني أنم"، تستذكر الكاتبة المفارقة التي يعيشها أطفال غزة تحت لهيب "عملية الرصاص المصهور" وتصريحات شمعون بيرس الذي قال: "نريد لأطفال فلسطين هواء نقيا وحياة هادئة وعصافير يحلقون في سماء صافية".

ولكن أطفال غزة لم يذهبوا للمدرسة لأن الشوارع والأزقة وغرف الدرس والمقاعد وحتى الدفاتر والحقائب كانت مزروعة بالموت الذي أرسلته قوات الاحتلال الصهيوني حمما على غزة، التي تطلب منها الكاتبة في نص "غزة سامحينا" العذر لأننا لم نستطع أن نمنع عن أطفالها الموت.

وفي نص"نم أيها الموت"، الذي حملت المجموعة اسمه، تطلب من الموت أن ينام طويلا، ويستريح ويريح، وتزين له ذلك، كي يستريح الأطفال من الخوف والركض، وتنفتح لهم كوة من الفرح ولو كانت صغيرة. وتطلب من الموت أن يستريح لأنها تشفق عليه أيضا.

"نم أيها الموت

واغرق في بحار النوم طويلا

ودعنا نستريح في الحياة قليلا

أما أنهكك التجول والتجوال

في أزقة حارتي .. وشواطئ وطني".

ومن نص اختاره الناشر للغلاف الأخير، تصرخ الكاتبة مستنكرة أن يكون ثمن الحب هو الموت، وأن يكون ثمن البحث عن الوطن هو الموت الذي لم يمنح المحبين فرصة القبلة الأولى واللهفة الأولى التي بقيت معلقة في سقف الذاكرة، وبات علاج هذا الخوف بالبوح .

"أنا التي أسرفت بالصمت

فتلعثم البوح فوق سطور أوراقي

أنا الذكرى المعجونة بخوف

اللهفة الأولى والقبلة الأولى

أنا من سكرت حروف كلماتي

من خمر حضورهم.. ومرارة غيابهم".

وجليلة الجشي كما تقول: تكتب لعيون "الوطن الجريح ولهموم الإنسان الفلسطيني الذي تورمت عذاباته وشمس الحرية الغائبة عن سماء الوطن.. أكتب لكل الذين استباحوا الدم الفلسطيني ويحاولون حرق سنابل عشقنا للهوية والأرض.. أكتب للحب الصادق... للعاشقين وأرسم بالكلمات معاناة شعب قدره أن يحيا على أرض يقاسمه فيها الجراد ويقارع الظلم والظالمين".

ويصف الكاتب الفلسطيني زياد الجيوسي كتاباتها بأنها: همسات الأيام التي تلامس الروح الإنسانية وتترجم إحساس الذات

ويذكر أنه صدر للكاتبة: "ثرثرات الأيام"، "جرح البوح"، و"نم أيها الموت".