الشّاعر أسامة نصّار حلّ ضيفًا على نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 1.2.2019، حيث أقيمتْ لهُ أمسيةً شعريّة جميلة في قاعة القدّيس يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وبرعايةِ المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وسط حضورٍ مِن الأدباء والشّعراء والأصدقاء، ازدانتِ القاعةُ بأعمالٍ تشكيليّةٍ للفنّان إياد جبارين، وقد افتتحَ الأمسيةَ المحامي فؤاد نقّارة رئيس نادي حيفا الثّقافيّ، وتولّت عرافةَ الأمسية آمال عوّاد رضوان، وتحدّثت بإسهابٍ مستفيضٍ د. روزلاند دعيم، حولّ ميزاتِ المنجز الشّعريّ لأسامة نصّار، وقد أطربَ الشّاعر أسامة نصّار الحضورَ بصوته الجهوريّ الرّخيم وإلقائِهِ العذب المُتألّق، ثمّ تمَّ التقاطُ الصّور التّذكاريّة.
جاء في مداخلة آمال عوّاد رضوان:
مساؤكم شعرًا وإبداعًا.. الإبداعُ هو وسيلةُ أداءٍ لموهبةٍ ما، تُعبّرُ بأشكالٍ فنّيّةٍ مُتنوّعة، عمّا يَجولُ في النّفسِ مِن أحاسيسَ وعواطفَ وأفكار، وحينَ سُئلَ بيكاسو عن غموضِ بعضِ لوحاتِهِ غيرِ المَفهومة، أجابهم: هذا العالم بلا معنى، فلماذا تُريدونَ منّي أنْ أرسُمَ لوحاتٍ ذاتِ معنى؟ إنّ الفنَّ يَمحو عن الرّوح غُبارَ الحياةِ اليوميّة.
وحين سئل أبو تمام: لماذا لا تقول ما يفهم؟ أجاب: لماذا لا تفهمون ما يقال؟ فهل الفنُّ كما قالَ أرسطو: هو شكلٌ مِن أشكالِ العلاج؟
نعم، فهناك الإبداعُ البصريُّ مثل التّشكيليّ مِن رسمٍ ونحتٍ ونقشٍ وتجسيم، وهناك إبداعٌ صوتيٌّ مِن مَسرح وحكاياتٍ وغناء، وهناكَ إبداعٌ حركيٌّ مثلَ الرّقصِ والسّيرك والألعاب الرياضيّة والألعاب البهلوانيّة وإلخ، ولأنّ الإبداعَ يَعكسُ ثقافةَ شعوبٍ وتاريخَ حضاراتٍ، وواقعَ أُمَمٍ بكافّةِ تشكيلاتِها الاجتماعيّةِ ونشاطاتِها الإنسانيّة، فلا يَسعني إلّا أنْ أقول: الحضورُ الكرام، أهلًا بحضورِكم الميمونِ مُوشّحًا بالمطر، وبغمارِ الشّعر وغِلالِ الإبداع. أهلا بكم أحبّائي، وعساها أبصارُكم تتكحّلُ بجميلِ الإبداعِ مِن نحتِ ورسمِ ونقشِ مُبدعِنا النّجّار مِن الفريدس، الفنّان إياد جبارين يَزهو بأربعةِ عقودٍ، عَشّشَ الفنُّ بينَ أصابعِهِ منذُ الصّغر، فنقشَ الخشبَ ونحَتَ عليه، ولأنّ النّفاياتِ المنزليّةِ مِن ورقٍ ومَعدنٍ وبلاستيك وخشبٍ وملابس وغيرها تُشكّلُ خطرًا على البيئة، لجأ الفنّان إياد جبارين إلى إعادةِ تدويرِ النّفاياتِ المنزليّةِ، واستغلّها جماليًّا في تشكيلِ لوحاتٍ وتجسيدِ مُجسّماتٍ مِن براغي ومُعدّاتٍ وملاعقَ وعِملاتٍ انتهتْ صلاحيّتُها، ولكن، بكلّ أسفٍ مريرٍ، لم يلتفتْ إلى أعمالِهِ الفنّيّةِ أحدٌ، وظلّ على حالِهِ يُمارسُ هوايتَهُ بصمتٍ وتواضعٍ، إلى أن وافتْهُ الصّدفةُ الجميلة، وساقت إليهِ كفاح إغباريه ونجوى كبها رئيسة جمعيّة نجم للفنّ، فضمّتْهُ لمجموعةِ الفنّانين والرّسّامين، ومنذها، بدأت مرحلةُ تسليطِ الضّوءِ على فنِّهِ، مِن خلال لقاءٍ إذاعيٍّ أجرتْهُ المذيعةُ سوزان دبّيني، ومِن خلال بلال شلاعطه في تلفزيون هلا، ومِن خلفِ السّتارِ أطلَّ الفنّان بخطوتِهِ الأولى في مشوارِهِ الفنّيّ، بأوّلِ معرضٍ فنّيّ لهُ في بلدِهِ الفريديس، لينطلقَ ثابتَ الخطى في تشكيلِ لوحاتِهِ المعدنيّةِ والخشبيّة. أهلًا ببديعِ فنِّكَ في جنان الإبداع، وأهلًا بما رسمتَ ونحتتَ وشكّلتْ أنامِلُك من لوحاتٍ ومنحوتاتٍ ومُجسّماتٍ معدنيّةٍ وخشبيّة، وها نحن نقف أمام فنون المبدع إياد الدقيقة متعدّدة الحجوم والمُعدّات، لوحة فتاة مكوّنة من قطع معادن وأسلاك و3000 برغي، ولوحة الحصان من 1500 برغي، ولوحة ظلّ رجل مؤلفة من 2000 مسمار صغير، ولوحة برج إيفل من قطع نقديّة معدنيّة ومفاتيح، ولوحة سلة تتكوّن من أسلاك كهرباء نحاسيّة، وباب مدخل بيت خاصّ منحوت من الخشب، ومجسّمات من زجاجات مشروب فارغة، ومُجسّمات مدمجة من ملاعق، شوك وقطع معدنيّة وخشبيّة.
الحضور الكرام، نتمنى لكم أسعد الأوقات وأمتعها معنا هذه الليلة، ومن روعة فنّ الانامل، الليلة نمضي من هناك من ضفة البعيد القريب المبتور إلى ضفة حيفا الجليل، أحبائي وبكل البشر والفرح، وبعيدا عن اصطخاب الموج واضطرابه ما بين مد وجزر، دعونا نركب زوارق الكلام الواعي الراقي، لنمخرَ في بحر الشّعر والاحساس، ونشقَّ عبابَ القصائد المتوهجة، لنشنّفَ أسماعَنا بأعذب الكلام وأجزله، ينثرُ شذاه عطْرًا فوَّاحا، لتطرب به أرواحنا. *الشّاعر أسامة نصّار أهلًا بفوْحِ زهورك الشّعريّةِ مِن ممشاها رام الله إلى ملفاها حيفا. أهلًا بقصائدك البرقيّة الورديّة العابقة بالإحساس في جنان القوافي. أهلًا بك بيننا بكلّ عناوين المَحبّة النقيّة، وبكلّ ألوان التّرحيبِ الجميل، اسامة فيصل محمد نصّار من مواليد 1971 دمشق، أتمّ دراستَهُ الابتدائيّةَ في سوريا، والثانويّةَ والجامعيّةَ في العراق، خرّيج كليّة العلوم السّياسيّةِ جامعة بغداد عام 1993. بدأ الكتابة عام 2007، عضو اتّحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيّين، عضو اتّحاد الكتّاب العرب. مِن أعمالِهِ الشّعريّة الصّادرة *نغم وشاعر وطن، *فارس على صهوة العشق، *رجل تائه، والعمل الرابع في شهر آذار القادم باللغتيْن العربيّةِ والإنكليزيّة بعنوان *ظلال العطر، فدعونا نُحلّقُ معًا إلى ذرى العاطفة، حتّى تصدح بالنغم.
د. روزلاند كريم دَعيم:
كاتبة باحثة، محاضِرة، محرّرة وإداريّة من مواليد وسكّان حيفا. *حاصلة على شهادة الدكتوراه في الآداب المقارِنة والثقافة الشعبيَّة (جامعة حيفا). *تعمل محاضرة في الكليّةِ الأكاديميّة العربيّة للتربية- حيفا. *تشغلُ منصبَ رئيسة وحدة التداخل الاجتماعيّ فيها. *تعمل باحثة قُطريّة في مجال تقويم البرامج التعليميّةِ والتّربويّة- معهد موفيت. *باحثة وناقدة في الأدب والثقافةِ الشّعبيّةِ المُقارنة والإثنوغرافيا الوصفيّة. *باحثة في أدب الأطفال، وخبيرة في تدريس اللغات. لها مشاركاتٌ عديدةٌ بمؤتمراتٍ أدبيّةٍ نقديّةٍ وبحثيّةٍ دوليّةٍ ومَحليّة، ولها عدّةُ مقالاتٍ علميّةٍ أكاديميّةٍ منشورة في مواضيع البحث الأدبيّ والثقافةِ الشّعبيّةِ، والتّربية والعمل المجتمعيّ، ولها عدّةُ قصصٍ أصليّةٍ ومُترجَمة للأطفال. ناشطةٌ اجتماعيّة صاحبةُ خبرةٍ في إدارةِ وتطويرِ المجتمع المدنيّ والعملِ الأهليّ، تمتدّ إلى 30 عامًا شغلت خلالها مناصبَ إداريّةً ومهنيّةً مختلفة، منها رئيسة جمعيّة الجليل في السّنوات 2009-2013، ولها خبرةٌ في توثيق البرامج وتقويمِها.
مداخلة د. روزلاند دعيم بعنوان شاعر على صهوة عشق:
أرحّبُ وإيّاكم بالشّاعر أسامة الحسن نصّار في وطنه الأمّ طيرة اللوز- حيفا. سوفَ أتناولُ في هذه العجالة ديوانَي الشّعر “فارسٌ على صهوةِ العشق” و”نغم وشاعر وطن”، في ضوءِ مناهج النّقد المختلفة، وإن كانَ الوصولُ إلى جوهر القصيد يتطلب حفرًا في النّصّ وحفرًا في المعرفة. (ميشيل فوكو)
العناوين: لو نظرنا إلى عناوين القصائد، نراها تُشيرُ بمُعظمِها إلى علاقةِ عشقٍ مع سيّدة؛ علاقة قد تصلُ حدّ العقيدة. وتتناصّ (جوليا كريستيفا) مع الإغريق وفلسفتهم وحضارتهم وآلهتهم، ونجد ترجمتَها العمليّة في طقوسِ العاشق. هذه السّيّدة الّتي وصفها على أنّها “امرأة من مطر”، “ملكة حياتي”، “المستبدّة” الّتي “يعشقها حتّى الجنون”، ويَهيم بها عشقًا وهو الفارس على صهوةِ العشقِ، كما اختارَ أن يُسمّيَ أحد الدّيوانينk، وهي “زهرة الأقحوان”، و”سيّدة الكبرياء”، و”صاحبة الجلالة”، و”الدانة”، وهو “هذا أنا”، “طبعه الوفا”.
كما اختارَ أن يُسمّي الدّيوان الثاني “نغم وشاعر وطن”، فيُعلنُ بذلك مكانتَهُ كشاعر وطن، بعد أن كان قد أعلن عن نفسه أنّه الفارسُ العاشق، ومن خلال هذه المعادلة نرى أنّ قصائدَهُ ترتكز على ثلاث: “أنا” و”أنتِ” و”الوطن”. ولا تقفُ موضوعاتُهُ-مِن خلال العناوين- عند هذا الحدّ؛ فقد تظهرُ عناوينُ مِن موتيفات الطبيعة (“طواحين” و”شطآن”..)، أو من موتيفات ومجالاتٍ شخصيّةٍ أو وطنيّة: (رثاء لأخي الحبيب، الجدار وأمي، أبشرك يا جدي، حكاية زمن)، ولو اكتفينا بهذا القدر من العناوين، يتبقى أن نشير إلى أن عناوين القصائد تتطلب قراءة سيميائيّة شاملة وعميقة؛ فيُعتبر العنوان نظامًا سيميائيًّا ذا أبعادٍ دلاليّةٍ رمزيةٍ وأيقونيّة شديدة التّنوّع والثّراء، كونه يتمّ في اللقاء الأوّل بين المرسل والمتلقّي، وهو أوّل ما يُواجه المتلقّي من النّصّ والعتبة لتأسيس وعي القارئ (قطوس، 2001). وتتعدّد وظائف العنوان في النّصّ الأدبيّ، ليضع القارئ أمام علاقات مختلفة، يُمهّدُ للموضوع ويُشيرُ إلى المضمون، ويُثيرُ التّداعيات والتّوقّعات، ويُشير إلى معلومة أو معلوماتٍ ذاتِ أهمّيّةٍ في النّصّ (Taha, 2000- 68).
ولو عدنا إلى قضيّةِ النّصوص المُوازية، فهي المناصُ وعتباتُ النّصّ وكلُّ النّصوص المُرافِقة للمتن، والّتي تُعتبر مدخلًا لا بدّ منه للولوج إلى عالم النّصّ. وقد عالجَ المصطلحَ العديدُ من النّقاد المعاصرين (Genette1997).
من هنا نحن نرى أنّ عناوينَ القصائد مستوحاة من مضامينَ وفكرٍ فلسفيّ هادف.
مستوى النص وما وراءه- ثنائية المبنى والمعنى بحسب المنهج البنيوي، يكتب أسامة الشّعر الحر، ومع ذلك نراه يلتزم بالقافية ممّا يغني موسيقى الشّعر، فيقول في قصيدة امرأة من مطر (ص39- فارس على صهوة العشق):
يا امرأةً/ ينسكبُ المطرُ/ مِن حناياك جودا/ في روحي فتخضَرُّ/ وتزدادُ خِصبًا/ وتشتدُّ عودا/ (صُمودا، حُدودا، عُقودا، خدودا، رُعودا، وقعودا).
تحمل هذه القصيدة بعدًا ملوكيًّا باستخدام الشّاعر مفردات مثل: التاج، الماس والجواهر وعقود المرجان. كما أنها تحمل بعدًا عقائديا حضاريًّا بحديثه عن المواسم على أضرحتي؛ ولماذا أضرحتي بصيغة الجمع وليس ضريحي!
وتحمل على مستوى المعنى: يستعير الشّاعر معجمًا غنيًّا من الطبيعة، يمكن أن نصنفه تحت موتيفات مختلفة: الهواء، الشمس، النجوم والسماء، فوهة البركان، الدم القاني، الزلزال، العَنان، العواصف والرعد والأمطار والسيول (بصورتها العنيفة في قصيدة طائر الحُب) ومطر الحب الّذي يهطل مملوءًا بحواس العطر، والأحلام الّتي تحمله فوق الغمام في قصيدة حبيبتي)، البحور، النبع، الغمام، الموانئ والشطآن، خلجان لؤلؤ ويسبح بالمرجان.
ومن ملامح الحضارة المادية والفكرية: الطواحين، الأسوار والحصون، القصور، وجميعها تدلّ على عظمة وقوّة. ومن الحضارة الفكرية- الحب العقيدة (شعر العشق الإلهي- نشيد الإنشاد)، أسطورة العشق الإغريقيّة، (وهل هي أفروديت أم عشتار البابلية وعشتروت الفينيقية، وهل هي إنانا السومريّة أم فينوس الزهرة الرومانيّة؟)
ومن حوار بين السّطور (فارس ص22):
إن كنتِ أنتِ سيدتي نارًا فأنا على قمم الجبال بركان/ واعلمي أنني من يوقدُ كلَّ النيران ويخمدها/ فأنا أسطورة عشقِ تعيش في داخل إنسان/ أنا الماء في منابعه مطرًا وسحابٌ ينثر فيك النسيان/ أمطار الخير بين حنايا سحاباتي وعذب الفرات يلتقي بدجلة في مسافاتي/ أنا بناء فينيقي بنيت نواعير العشق في بابل/ أنا حارس العصافير والسحر في صدى الخرير/ أنا الّذي دمر كل قلاع الحب وبناها بيدين من حرير/ أنا من غزا سبأ بحروفه واقتلع مملكة وأعلن التحرير.
ملاحظات حول القصيدة: في القصيدة ترد موتيفات غير محلية كاللؤلؤ والمرجان، وإن كانت موتيفات ملوكية، وهو الّذي يتحكم بإيقاد النيران وإخمادها.
(وما زلنا في المنهج البنيوي الّذي يُعتبر أقرب المناهج إلى النّقد الأدبي)، يؤدي التحول في المبنى إلى تحول بالدلالة (دي سوسير، بياجيه)، فيكثر الشّاعر أسامة من استعمال التعابير الاستعارية والمحسنات اللفظية على أنواعها، مما يؤدي إلى انزياح في المعنى: قيثارة السلام/ سحاب الوفاء/ حممي تنفث جمر رمادها/ زلزالك يهز وجداني/ نور الشمس أضاء من عينيك
قصيدة طقوس عاشق (فارس ص32): أنتِ الكون وأنا الرسام الّذي يرسمه/ أنت المطر وأنا السّحاب الّذي يحمله/ أنت الشّعر وأنا من يكتبه/ أنت البركان وأنا اللهيب الّذي يوقده/ أنت طقوس تعانق كوني….
(ثنائيات- يوري لوتمان وأوسبنسكي): المناهج السياقيّة الخارجيّة تجد لها صدى في قصائد الدّيوانيْن، وإن المنهج كان المنهج النفسيّ يطغى على المنهج التاريخيّ والمنهج الاجتماعيّ.
التحام الشّاعر مع ذاته: ينعكس التحام الشّاعر مع ذاته ومع احتياجاته، من خلال استعماله الضمير “أنا”؛ فيقول: “أنا طواحين” (طواحين) وتظهر ياء الملكية في: حبيبتي، ملهمتي، مدرستي. ويستعمل ياء الملكيّة ليعبر عن تجاربه: حبي، اختباراتي.
يؤكّد الشّاعر بقصيدته “طواحين” على التحامه مع ذاته من جهة، وعلى علاقته بالأخرى “هي” الّتي تدير طواحينه، وتضيء الشمس والنجوم. وباستعماله كلمة طواحين تستحضرنا حضارة طواحين القمح المنتشرة بكثرة في الجليل، إلّا أنّه يسحبنا نحو طواحين الهواء الّتي تدور بالهواء أو بالهوى! وتدور بلا هوادة. ويُطرح السّؤال: هل الدّوران جسديّ أم نفسيّ؟ وهل هو الدّوران في طقس مقدّس؟ حيث “خرجت روحي عن الجسد مترنّحة من أشواقي”، فهل هو ترنّح الإعياء أم النّشوة! وهل هو أصلًا ترنّح الموت؟ أم أنّه التّجلّي؟
ونعود للضمير أنا، إذ يقول: أنا رجل (حبك عقيدة ص5). أنا أعشق (حبيبتي ص11). أنا رجل. أنا أنا كما أنا. أنا الحرف. أنا الّذي. أنا وطن (أنا ونفسي). أنا نغم أنا الحب. أنا الأرض.
تتجلّى روحانيّة العشق في قصيدة حبك عقيدة ص5 حيث يعلن:
“أنا رجل الحب لديه عقيدة”. “لا تظني عشقي غاية لإشباع رغباتي”. فحبه غير محصور بالملذات. ويقول: “والوفاء عندي عنوان في كتبي الفريدة”. “وعلمتني طباعي أن تكون نزواتي رشيدة”. “صدقيني أعشقك بإيماني لا بترهاتي/ أنك امرأة مع روحي وليدة”. “وافهمي أن كلّ هذياني وصرخاتي لأثبت لك أنّ حبي عقيدة”. ومن خلال التحام الشّاعر مع ذاته، تعمّد الإعلانَ عن نفسه وعن حبّه وعن روحانيّةِ عشقه.
في قصيدة نداءِ لها ص15 يقول: “ولستِ على مذبح رجولتي إحدى قرابيني/ ندائي ليس ضعفًا أبدا ولا تعتبريه خضوعًا/ لكن مصيبتي أنّك تسرين بشراييني”.
وبالرّغم من قدسيّة العشق، إلّا أنّه يشير في قصيدة قاضي الغرام ص21، إلى علاقةٍ جسديّة قد حدثت بقوله “قبلني وقبلته”. وينطلق الشّاعر نحو قضايا وجوديّةٍ جوهريّة، تُذكّرنا بطلاسم أبي ماضي في قصيدته من هي…! (وطن ص7)، حيث يقول: “هي من هي/ هي أنا ونفسي”. “نجم قطبي عانق المجرة ألقًا/ جاور الكواكب لتنهل منه النور وروعة المنظر”. “هي من هي/ هي إيمان عاشق…/ وجاذبيّة الأرض على سطح القمر.
الجوانب الوطنيّة: لو نظرنا إلى قصائد الشّاعر أسامة الحسن، فإنّنا نراها غنيّة مُشبعة بصور العشق على أنواعها، إلّا أنّنا لا نستطيع الوقوف عند هذا الحدّ، إذ تحتوي رموز العشق تضمينًا واضحًا ليكون عشق الوطن. وما يدعم رأينا استعارة الشّاعر لموتيفات من الطبيعة الجميلة، وما هي إلّا طبيعة الوطن، ومن الطبيعة الصاخبة، وما هي إلّا طبيعة الوطن بظروفه السّياسيّة. وهذا ما أتى في عنوان ديوانه “نغم وشاعر وطن”، وهذا ما يرد علانية في قصيدته “أنا ونفسي” ص15 بقوله، “أنا وطن يسكنه وطن”، أو بقصيدته أعشقك حد الجنون (وطن- ص18)، حيث يستعمل موتيفات مألوفة في العشق والغزل: “أعشقك يا كحيلة العيون/ يا غابة الورد والبان والزيزفون” …… “ملكة متوّجة على عرش قلبي”.
ويعلن أنّه نبذ العنف وعشق السلام: من ديوان (نغم وشاعر وطن) ص20: عشقت بك سحر العيون/ وجمال القوام/ ونبذت العنف بحبك وعشقت / السلام/ لا تحسبينه ضعفا أو ترجمة/ لمعاني الانهزام، فهل هي المرأة أم الوطن؟
وترد إشارات سياسية واضحة في قصيدة رثاء لأخي الحبيب (ص66)، وفي الجدار وأمي من ديوان (فارس على صهوة العشق) ص69-70: جدار/ ومئة حصار/ وألف حوار في الأزقة والأسواق/ والحقول والبيوت/ جدران شيدت قصرا لا بالاختيار/ ولم يبقَ سوى بقايا أمي/ ويا ليت كل أمهات الأرض / كأمي/ تسكن روحي ووجداني/ أعشقها حد النخاع/ وهي كل همي
وترد اشارات مهاجمة جيوش العروبة في أبشرك يا جدي ص74: من ديوان (فارس على صهوة العشق):
بشرك يا جدي/ قد حررت أرضي/ لا تسألني كيف/ فالسؤال غير مجدي/ لا تسأل كثيرًا فالمفاجآت كثيرة/ يا جدي/ جيوش العروبة حاربت وقبلت التحدي/ لا تصدقني فوالله أكذب عليك يا جدي/ فقد ضاع بعد الأرض بيتي وعرضي/ عدموا زعماء العرب في أعيادهم/ وجميعنا نصغي/ كنا بدولة وأضحينا بثلاث أليس هذا/ من دواعي الفخر يا جدي
وكأننا بنزار في قصيدته “الّذين يزنون بالكلام”، فيقول في حكايا زمن ص86، من ديوان (فارس على صهوة العشق):
هي طفلة في بلد عربي/ ما ذنبها زمن/ وما ذنب ابتسام وحسام/ وعمر وحسن/ أطفال بعمر الورد/ سطروا بجراهم آهات وطن/ وكتبوا على جدار التاريخ/ بأشلائهم لمَ نحن ندفع الثمّن/ بأي ذنب وأدتمونا أحياء/ ونفضتم عن جبينكم عار الزمن
على مستوى إشكالية النّقد:
يعتمد المنهج الفني على عمل الأديب، مستخدمًا الأصول والقواعد الفنية، ويتطلب النّقد الفنيّ معرفة أدبيّة وافية وقدرة نقديّة متطوّرة. وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ الخطاب النّقديّ قد تعرّض لتحوّلات في العقود الثلاثة الأخيرة، إذ يصعب على النّاقد اليوم اعتماد المقاربة الكلاسيكيّة، أو اعتماد أسرار البلاغة والمستوى النّحويّ، حيث أنّ لغة الشّعر الحديث وتنوّع موضوعاته وانزياحاتها اللّامتناهية، تجعل الشّعر بعيدًا عن التأطير والتنظير- في بعض الأحيان- ويأتي ذلك على ضوء تعدُّد وتداخل مناهج النّقد المعاصرة.
بناء على هذه الإشكاليّة، فإنّنا نقترح قراءة النّصوص المطروحة أمامنا بمقاربة سيميائيّة، بحسب نظريّات ما بعد الحداثة، دون إلغاء القراءات السابقة.
فمن كون النّصّ مجموعة من العلاقات (بحسب البنيويّة)، فإنّ السّيميائيّة تعتبر النّص مجموعة من العلامات أو الشّيفرات، تسعى إلى تطوير طرائق منفتحة للقراءة، من خلال الاهتمام بالخطاب الفلسفيّ والدّينيّ، بوصفها أنظمة فكريّة تخفي خلفها سيلًا من المعاني، وتنتمي إلى أنظمة رمزيّة تشكل ثقافة النّصّ، كالكتابة والفن والأساطير والسلوك والطقوس (دي سوسير، شارل موريس- علميّ/ رولان بارت، لاكان، كريستيفا- كمنهج نقدي/ أو بحسب سيمياء الثقافة (لوتمان وأوسبنسكي وإيفانوف وتوبوروف- جماعة موسكو- تارتو)
وأخيرًا.. في قراءة شاملة لديواني الشّعر، يمكننا توظيف جميع المناهج النّقديّة الداخليّة والخارجيّة، ولا نتنازل بشكل جوهريّ عن المنهج الفنّيّ، لأنّه دون المستوى الفنّي اللائق، تكون كلّ قراءة نقديّة أخرى واهنة أو مبتورة، ولكنّنا نرى قيمة مضافة لقراءة القصائد مع مقاربة سيميائيّة، لما فيها من استحضار حضاريّ وثقافيّ غنيّ من ناحية، ولاتّساع دائرة المواضيع والموتيفات الّتي يصعب حصرها بقراءة بنيويّة فقط.