ف1 أصل الحكاية
في إهداء رواية (ضجيج الضفادع)، عدّ السيّد نجم الروايات كلّها كاذبة، ولكنّها جميلة، ثمّ استهلّها برجاء القارئ أنّ لا يعدّ نصّه رواية، أي أنّه لن يحكي كذبًا، ولكنّه سيقدّم حكايات جميلة.. إنّه السارد، من سيكتب، على الرغم من احتجاجات بطلته جميلة؛ التي عدّت كتابته ضربًا من حالات أرقه، وقرنتها بالعفاريت والمقتولين.
من هو الراوي؟ ومن هي جميلة؟ ومن هم أبناؤه، الجنرال والإعلاميّ والعصاميّ، الذين احتلّوا بيته الكبير في المنصوريّة؟
لم يرتكز الروائيّ السيّد نجم على راوٍ واحد؛ إذ استهلّ روايته بمهندس الريّ عبد الوارث المصريّ، الذي استلم الطفلة جميلة بمحضر كتبه مأمور قسم الشرطة بأسوان؛ إذ كانت من دون راعٍ أو أهل، ودفعه للحكي عن حياته المصطبغة بحياتها؛ وبعد عقود - بعدما تخطّى السبعين من عمره - اكتشف أنّ جميلة تتذكّر أباها وأمها ونخلة حوش دارهم الطويلة قبل انغمارها بمشروع السدّ العالي، بل لم يشغل بالها كلّ المدن والقرى القريبة والبعيدة بعد عشرات السنين التي عاشتها في بيته مع أسرته، زوجته هانم، وأبنائه الثلاثة، وكان عبد الوارث لا همّ له سوى النيل، منذ اختصّ في هندسة الريّ.
جميلة نوبيّة فقدت أبويها بسبب السدّ العاليّ الذي اعتدى على تلقائيّة النيل وفطريته؛ فقد خفيّ على منفّذيه، أنّ اقتلاع النوبيين من بيوتهم كان بمرتبة اقتلاعهم من ذواتهم وتجريدهم من ذاكرتهم، ففضّلوا الانتحار على حياة من دون جذور. ولعلّ ذكرى نخلة جميلة في حوش الدّار، وعدم انشغال بالها بكلّ ما مرّت به، هو ما أدهشه في أواخر عمره؛ إذ لم تذكر جميلة الست هانم زوجته المتوفاة بالخبيث أو أولاده رامز الجنرال، علّام الإعلاميّ، عصام طالب الحقوق، او أحفاده.
بدأ السارد بضمير المتكلم، وأشار إلى العلامات التي ستسير وفقها روايته؛ إذ ظلّ على مقربة من بحر النيل طوال عمره، وها هو ذا يكتب حكايته مع النيل في أثناء شيخوخته.
يلتبس عنوان هذه الرواية على القارئ، ويدفعه للتساؤل عن دلالاته، ولعلّه يحتاج منه إلى التأمل بهذا الاقتصاد اللغويّ الذي جعل من الضجيج، وهو ضوضاء البشر عند الفزع ومن التعب والشكوى والمشقّة والانتحاب مقترنًا بالضفادع التي يلازمها النقيق، وهو صوت الضفدع أو الدجاج، فإلام رمز الكاتب بهذا العنوان الملتبس، أيكون قد عدّ البشر بمرتبة الضفادع؛ إذ أحال القارئ إلى أن هذا الضجيج هو أصواتكم، ولكنكم لستم بشرًا بل ضفادع، أم أنّه أراد أن يؤنسن الضفادع بإطلاق اسم الضجيج البشري على أصواتها؟ لعلّ لوحة صفحة الغلاف المتمثّلة بنوبيّة جميلة تلتفت نحو القارئ، حاملة سمات الملامة على محياها، تؤكّد أنّ الكاتب قصد أنكم أضحيتم كالضفادع بواقعكم الحاليّ أيّها البشر.
روى السارد أنّه كان مهندسًا مشرفًا على القناطر التي شيّدت لحجز الماء على النيل، والتحكّم في منسوب مياهه، كما ذكر تاريخ تلك القناطر ومن أشرف على بنائها، وأنّ لكلّ سدّ وترعة وقنطرة حكاية، ثمّ أشار إلى جريمة الناس بحقّ النيل، بدءًا من الانتحار به، ومرورًا ببناء الملاهي والأوكار وتدنيسه بالمخلفات.. ولحظة همس ليلة نيلية يحكي عن طفولته، عن حفيظة المنتحرة في مياه التّرعة، التي كانت تضمّه لرائحته، وتحبّه أكثر من شحاتة البتاو، على الرغم من مخاوف أمّه، ثم ذكر أسطورة عروس النيل هاميس وتداخلها مع موت حفيظة، التي استمرّت تتحكّم بمشاعره؛ حتّى عبر السبعين سنة، وإن كان الكاتب قد تمكّن من خلخلة الزمن بين الماضي البعيد والحاضر، فإنّه أبقى على مساحات سرديّة من المسرود طابعها مرجعيّ أكثر منه تخييليّ، مثل المعلومات التي قدمها عن تاريخ القناطر والترع والنيل، أو عن أسطورة هاميس، وإن كان قد تمكّن من توظيفها معرفيًّا ضمن بنية السرد في قالب سرديّ واحد، فإنّ ما ميّزها هو امتزاج النيل بحياة البشر، ولعلّه ذكر همسات ليالي النيل الأنثويّة مه هاميس وحفيظة، ثمّ انتقل ليعنون فصلًا آخر بـ: المنصوريّة ليست وطني، فيغيّر السارد وجعله أنثى؛ إنّها جميلة، فهيّ رفضت ذكر اسمها لأحد، وتتذكّر طفولتها مع النيل شاغل أهل النوبة وأمّها، ثم تذكر ما عرفته من سي عبده أنّ مسؤولي الوزارة جهلة أو أغبياء أو منافقون أو فاسدون، وتذكر أن اهتماماتها بنهر النيل غير اهتمامات عبد الوارث الذي تبناها بعد موت أبويها، وعاشت في البيت الكبير الذي أشاده جدّه، فعبد الوارث يرى جدرانه جرباء؛ بينما تراه جميلة بأنه مثل الوردة، ثم تتذكر ما حكاه لها عن النيل، وفي الحالتين سنرى أنّ السرد يتمّ من موقع واحد وإن اختلفت وجهات النظر، فعبد الوارث هو القيّم على النيل‘ وإن كان غاضبًا من الاعتداء عليه، إلّا أنّه عاجزًا على طهرانيته ونقائه، غن لم يكن مشاركًا بالأذى، أمّا جميلة فهي رافضة أن يختصر النيل بالمنصورية، بل هي ترفض أن يكون لها اسم حينما يعتدون على النيل، هي تتذكر كيف كانت ترفض النطق؛ بعدما فقدت والديها؛ حينما أغرقت مياه السدّ أرضهما، وبقيا فوق المقابر؛ حتى ماتا غرقًا، ثمّ كيف استلمها عبد الوارث طفلة قبل نصف قرن، وتتذكر كيف تنبأت للست هانم، الزوجة، إصابتها بمرض عضال، وأن الأخيرة لم ترض أن تهتم بعلاج نفسها.
وتكمل جميلة بصفتها الساردة عن (العدوّ المتخّفيّ الذي لم يستسلم)؛ فتتذكّر حياتها مع الست هانم وأمها الأولى، ثم تتحدث عن الصراع بين عبد الوارث وأولاده الذين لا يحترمون شيخوخته، ولكنّه يحاول أن يؤدّبهم، أما جميلة فتقول: إنّ حبها لأبنائه لا يقل في قلبها عن حبّ أبيهم، ثمّ تذكر رحيل الست هانم بالخبيث، ورحيل الابن الجنرال إلى القاهرة. تُرى أليس من علامات مُضمرة داخل هذا النصّ، أليس من إيحاءات باطنيّة تحتاج من القارئ إلى استكشاف معالمها؟
إذا كانت القراءة مقتصرة على تفاعل العلاقات بين شخصيتي عبد الوارث المصريّ وجميلة على ما جرى معهما من وقائع ظاهرة، فإننا غالبًا سنبقى عند حدود البنية السطحيّة للنصّ، أمّا إذا أردنا أن نستكشف معالم البنية العميقة فلابد من تأويل رمزية الإشارات والأيقونات ومنحها دلالات تمتدّ من النصّ نحو الواقع، وبذلك لابد كما مرّ معنا آنفًا من تحليل نظرة أيقونة الغلاف النوبيّة، ولعلّها هي جميلة المنصهرة مع النيل، حتّى كادت تكون علامة بارزة له، لا بصفتها امرأته، بل أيقونته التي ستساير طهر انيته حتى نهاية حكاية الرواية.
ثم ينتقل الكاتب موظّفًا ساردًا من خارج الأحداث، حينما يشرع بـ: رامز الجنرال! فيذكر عن شقاوته في طفولته، وإبداعه في إصلاح الساعات، ثمّ يقفز السارد زمانيًّا، ويتساءل: كيف برّئ رامز الجنرال من تهمة القتل بعد سنتين من سجنه؛ إذ أمر بإطلاق النار على المتظاهرين في أثناء مظاهرات ميدان التحرير، ويتابع عن علام الإعلامي المتمرد،... وكان قويًّا منذ صغره، وكانت جميلة تفرح منه؛ لأنّه يلعب مع أبناء الفلاحين، ولا يأمرهم مثلما يفعل أخوه الجنرال، ثم تنافس الأخوة على الاقتراب من جميلة وامتلاكها، إلى أن اشتغل علام صحفيًّا في قسم حوادث الجريدة، وكان نشيطًا جدًّا، ودخل الآخر سلك الشرطة.
ينتهي القسم الأول، ولعلّ الكاتب دعا القارئ ليشارك معه في وقائع وأحداث يعيشها حاليًّا، ويربطها بتاريخ، لابدّ أنّه جزء منه ومن مخيلة شعبيّة مصريّة: النيل وترعاته وسدوده وأساطيره الممتدة لما قبل التاريخ، وإن كان مرام الكاتب الحفاظ على النيل ونظافته؛ بما يتناسب مع عظم شرفه لدى المصريين؛ ليجعل من نظافته نسقًا ثقافيًّا، فهو تجاوز النيل بروايته وجعله دالًّا عميقًا على صلته بمصر كلّها، ولعلّ جميلة هي أيقونة النيل النظيف، على ما مرّ معنا، ولعلّ الكاتب أراد أن يشير إشارة موحيّة أنّ للنيل معادل هو شباب ثورة 25 يناير، وبذلك يكون حدّد ملامح الوطن الذي رمز له برمز كبير هو النيّل.
ولكنّ إلام يرمز عبد الوارث المصريّ، وولديه الجنرال والإعلاميّ، قد يكون عبد الوارث هو الأب، السلطة الذكورية، الزوج الشرقيّ، هو الذي تابع الإشراف على النيل – الوطن، منذ خمسينيات القرن الماضي، واستمر بداره المطلّة على النيل حتى الوقت الحاليّ، ولعلّ النص اصطفاه ليكون علامة رامزة للدولة المصريّة، وولديه الجنرال القاتل للمتظاهرين، والمثقف الإعلامي الوصوليّ، هما أبناء هذه الدولة، هما علامتان على درب سلطة الدولة التي اعتدت على شرف النيل وتاريخه وأساءت له.
يعود الكاتب في القسم الثاني / ماذا يعني الصمت؟ للسارد عبد الوارث المصريّ من جديد؛ إذ يروي للقارئ عن أبنائه وزوجاتهم وحميهم وأولادهم، حلّوا في بيته الكبير، يخاطبونه بعنجهية وتمرد، ويقول: "لم يشغلني ذو النون ولا نقيق الضفادع وحدهم، رأسي خزينة بلا أبواب، وبحر متلاطم الأمواج..." حلّوا عليه عنوة، وأساءوا لجميلة، وهي رفضت أن تظهر تقاعسها عن خدمة الجميع، شعر عبد الوراث بالأذى، ثم ذكر ألم جميلة بعد أحداث ثورة ميدان التحرير، التي جعلت أبناء عبد الوارث يختلفون من أجل احتلال جزء من الدار؛ دون تقدير مكانة أبيهم.
ويتابع في اسمعي يا جميلة: ويصف كيف فرغ البيت، ولم تتغير جميلة، ويحاول الأب اكتساب ودّ الصغير طالب الحقوق عصام، واصفًا ولديه الآخرين بالمتمردين، ثم تحاول جميلة تهدئة مزاجه بالالتصاق به، وتدعو له بالخير، وتقتنع أن الله من وضعه في طريقها. يرجع الكاتب لتوظيف سارد مستقل عن أحداث قصّته فتتداخل الأفكار في رأس عبد الوارث، فهو يعيش سنواته الأخيرة وحيدًا، سوى من العجوز جميلة، ثمّ "شعر الرجل، وكأنّ البلاد امرأة حامل في لحظة مخاض؛ في انتظار الميلاد الجديد، الذي يترقّبه الجميع، ويخشاه أيضًا.."ص75، ثمّ صار يهرب إلى النوم، سوى من كثرة الاستيقاظ ليلًا للتبول بكميات هينة، إنها الشيخوخة.. إضافة إلى آلام معدته، ثم يحكي عن عظمة النيل، يصف المعتدي على النيل بالظالم والمعتدي، وروى قصة عن الأدب المصري القديم.. تُرى، أليس في هذا المشهد ما يثبت تقصّد الكاتب من معادلة النيل، جميلة، شباب 25 يناير بمصر الوطن، ومعادلة المعتدين على النيل كلّهم، والجنرال والإعلاميّ، ولدي عبد الوارث بمصر الدولة؟ وهل المصادفة هيّ من قادت الأحداث إلى المواجهة في ثورة 25 يناير، وإن كانت الدولة ظهرت بأقنعة متغايرة؟
وفي ماذا يعني الصمت عند جميلة؟ يستمرّ السارد بالإخبار عن حياة جميلة النمطيّة مع أسرة عبد الوارث، وينتقل ليروي السارد - على لسانها - عن حياة الست هانم مع الأسرة، ويذكر معجزات الأولياء والأنبياء على لسانها؛ حينما كانت تعالج من السرطان، ثمّ تحكي أحداثًا تتذكرها منذ طفولتها تنم عن سذاجة أهل النوبة، إلى أن يستعيد السارد موقعه - من جديد – ليخبر أنها أضحت تنفّذ الأوامر وتتابع أعمالها المنزليّة حتى بعد احتلال الأبناء للبيت.
إنّ ما يرجح قراءة هذه الرواية سيميائيًّا أسماء شخصياتها أيضًا، فقد اختارها الكاتب بوعيّ لمدلولاتها، فالمهندس هو العابد لسلفه الذين مرّوا وعاشوا على النيل بصفتهم رعاته، إنّ عبد الوارث مصريّ تحديدًا، ولعلّه هو رمز السلطات المتعاقبة في رعاية الدولة، ولعلّ جميلة هي المعادل للدولة إنّها النيل، الوطن، الطهورة، وإن أخفت اسمها عن الآخرين، ولكنّها استحوذت على اسم جميلة، كما النيل جميل، ثم نجد رامز الجنرال القاتل، الذي عرف بعدوانيته منذ صغره، وعلّام الإعلاميّ الرامز إلى من يتثاقف كاذبًا، ثمّ نجد هانم زوجة عبد الوارث التي لا تملك سوى طيبتها بصفتها الأنثوية، والتي لم تتمكّن من متابعة الحياة فماتت بالخبيث، نتيجة الجهل والإيمان بالخرافة، ثمّ نجد عصام الطالب المنصهر باحداث ثورة 25 يناير، فهو الأخ العارف بتقنيات ثورة التكنولوجيا، وهو العصاميّ القادر على الحبّ، وهو رمزٌ للأمل على درب حرية النيل وطهرانيته.
ثمّ يروي السارد عن سبب تعلّق الناس بالنيل، ويدخل في عرض أسطورة ابنة الملك؛ التي ضحوا بها في النيل، ولكن الخادمة أنقذتها بصناعة دمية بديلة ضحت بها، ولعلّها تعدّ سرديّة مستقلّة تدعّم مقولات الكاتب عن النيل وتاريخه التليد.
إنّ الأحداث التي رواها عن شخصياته التي تحمل أسماء دالّة على فعلها، بـ: ماذا يعني الصمت عند الجنرال؟ إذ كان وصفًا صريحًا لما حدث في 25 يناير، نهبًا وسلبًا من البلطجية والسجناء؛ الذين أخرجتهم الشرطة، ثم وصف سرقة الآثار من المتحف، ثم قتل الجنرال – الابن - متظاهرين وغيرهم مع سبق الإصرار، وإدانته لفعل الجنرال المجرم، وفي نفس السياق يسرد في ماذا يعني الصمت عند علام؟ عن الصحفي الذي دخل إلى ميدان التحرير، فاستذكر مشاركته بانتفاضة الحرامية؛ حينما كان طالبًا منذ سبعينيات القرن الماضي، ثمّ آثر الدخول بالفعل في أحداث يناير، ويشير إلى انتهازيته ووصوليته، إلى أن يذكر في ماذا يعني الصمت عند عصام؟ دهشة عصام من مساءلة أبيه عن سدّ النهضة في زمن المظاهرات، ويجيب عصام أباه بمعلومات عامة عن السدّ، فأورد السارد معلومات تاريخية عن مياه النيل وتقسيمها وفق اتفاقيات...، ثمّ فسر الأب أنه يحفظ معلوماته لأنه من جيل الإنترنت، وعصام هو الدال على طاقة مصر الوطن، مصر النيل الولادة...
إنّ العلامات السيميائيّة التي ذكرت سابقًا، لا شكّ تحتاج إلى ربطها بالواقع المعيش، وأن يلتقط القارئ معالم المتواري منها للوصول إلى بنية النصّ العميقة، ولا شكّ أن القسم الثالث: ضجيج الصمت يؤكّد على ما تمّ معالجته آنفًا؛ إذ استهلّه السارد بـ هتاف تحيا مصر، واتكأ على ضمير المخاطب: "لا تخدعك الكلمات، ولا تصدّق كلّ ما يقال أو يكتب، من كلّ الإذاعات أو المرئيات..." وبعد أن وصف المظاهرات، والاتفاق على هتاف تحيا مصر، سمع الجنرال هتاف يحيا رجل الصحافة علام، يحيا الجنرال ابن عبد الوارث، ثم أقسم الجنرال أنّه أنقذ عصام ورفاقه من السجن، ولعلّ الكاتب قصد إيراد إشارات من دون مواربة عن سلوك رجال الأمن السيء مع المعتقلين.
ثم يتابع الإجابة عن سؤال كيف استقبل علام الهتاف؟ الذي كان قريبًا من الأحداث، ثم ظهر على القنوات التلفازية؛ ليحذّر من الفوضى والمؤامرات الخارجيّة، كان يكتب: "قرأت المستقبل ولم ينتبهوا..." إشارة لمزاعم المثقف الأداتي السخيفة، وهي ليست بعيدة عن وعيّ القارئ؛ الذي يلتقي كلّ لحظة مع نماذج من أنصاف مثقفين عدميين، ثمّ يصف زوجته؛ التي أصابها الرعب من تحليلات زوجها علّام؛ حتى حينما احتل منزل الأب عبد الوارث مع أولادها والآخرين، واعتدت على جميلة، كانت قد أصيبت بهستيريا أيضًا.
ويجيب عن: كيف استقبل رامز الهتاف؟ رامز عبد الوارث ملازم1 وصف لقيادته اقتحام مفجر حافلة سياحية، وتم قتل ذاك الشخص وسط صراخ أمه وعويلها. في هتاف خاص لا يسمعه أحد! تغيّر السارد، وصار على لسان عبد الوارث، فوصف حالته وسط الأحداث، وذلك حينما احتلّ (الهكسوس) أي أولاده داره، وكيف كانت أحوال جميلة ومرضها، ولعلّ الهكسوس الذين احتلوا مصر منذ نحو 3700عامًا، فعاثوا فيها فسادًا وتخريبًا، هم ما ورد على ذهن السارد حينما روى احتلال الهكسوس الجدد للدار، تُرى أليس من علامة وظّفها الكاتب للكشف عن مآسي الوطن، النيل، مصر حاضرًا؟ ألم يجعل من الساسة، الدولة، الغزاة، الذين يتناوبون على حكم مصر ويعتدون على النيل في دروب الانقراض كما حصل مع الهكسوس القدامى؟ لعلّ الكاتب انتصر إلى النيل، الوطن، متحدثًا عن معادله الأنثويّ وعلامته جميلة التي بدأت بالمعاناة من مرضها مع انتشار الهكسوس الجُدد، ولعلّه كان مرض جميلة مقدمة لفصل جديد هو: مصير نمل النار، ففيه يخرج الجنرال رامز، ضابط المن المركزي، من محبسه بعد إدانته بالقتل العمد، ولم يجلس إلى جانبه الخونة: "زوجته وأولاده لا يكلفون أنفسهم مشقّة الجلوس معهم"، فاحتسى القهوة وحيدًا، لأول مرة على شرفة منزله، احتساها كما هي عادته باحتسائها في وظيفته الأمنيّة في الشرطة منذ ثلاثين عامًا، أي منذ 1981م، ثم استيقظ في صباح اليوم التالي على صوت دفعة هينة لباب الشقة، ذهب الجميع إلى أعمالهم وبقيّ وحيدًا، يمتلك الوقت وفائضه، من دون أن يدري كيف يصرفه، وهنا اتحفنا الكاتب بعلامة جديدة، "لوحة من "الجبلان" جرباء متربة، بدت للجنرال كهفًا عتيقًا يعيش فيه ولم يره" بقيّ الجنراك وحيدًا كما اللوحة التي حدّق لمعامها الغائمة.. تُرى أيكون مصيره هكسوسيًّا؟ هل اكتملت شروط الثورة لينقذ المصريون نيلهم، وطنهم؟
يجيب السارد بالعلامة التي أسس لها في المتن الحكائيّ، عصام الطالب؛ الابن الأصغر لعبد الوارث، المتمرّد، الذي قدّمه مستحوذًا على طهر الطفولة المتساوق مع طهرانية النيل، جميلة، إذ تعرّف على فريال، صاحبة الاسم الفارسيّ الذي يعني جميلة الجيد ذات المكانة الرفيعة الساميّة في المجتمع، إنّها ابنة ثورة 25 يناير، التي ضلّلت ضابطًا، وجعلت الطلبة يقومون بنشاطاتهم، فريال صاحبة الكف الخشن والملابس الممزقة، العلامة على أنّها من شعب مصر الفقير، المثابرة على تحصيلها العلميّ، ثم تزوجها عصام، ولم يطلب من أبيه الوارث، الدولة سوى " أن يتكفّل بالاتزامات الماليّة الواجبة لإجراء بعض التعديلات الهيّنة" ص129، أقام عند أبيه عبد الوارث، الذي قلت ردود أفعاله تجاه الحياة، وكأنما أراد الكاتب أن تستحيل مصر، سلطة الدولة، الهكسوس الجدد، الجنرال رامز والوصولي علّام، موتًا مع مشهد تماوت الوارث المصريّ، فقد "رفع رأسه وحدّق في عيني عصام، ابنه، وقال: وكأنذك كنت وحدك في المعركة" ثم ظنّ الابن عصام أن الأب، السلطة، قد مات، ولكنّه فتح عينيه من جديد واستدعى الجنرال، أمّا عصام فصمت، ولكنه لم يمت، كما أراد السيد نجم للثورة التي تصمت أمام الجنرالات ولكنّها لاتموت..
وأخيرًا ينزوي عبد الوارث وحده، بعد "هجمة أولاده الهكسوس" ويتوجّه نحو الصوفية متذكرًا الأوردة والأدعيّة وتعلّق الزهّاد بالنيل ومحبتهم لمياهه؛ إذ أقسم عبد الوارث: "لولا النيل ما كان ذو النون المصريّ"ص132، وفي أثناء تجلياته يدعو لأبنائه؛ فتفاجئه جميلة قائلة: "على من تدعو يا عجوز.. إياك أن تكون غاضبًا على الأولاد" لم تسمع ردًّا..." ولكنّ السارد أضمر الردّ السلبيّ في سياق الحكاية التي لا يزال يعيشها قارئه حتّى هذه اللحظات...، أمّا عبد الوارث فازداد إيغالًا بالصوفية، ثمّ ينقل حوار الفرعون والكاهن عن عظمة النيل، ثم شغله صوت الضفادع، وصار يضحك لوحده، كالمجنون، لأنّه كما قال لجميلة: "تأكّدت أن نقيق الضفادع أفضل من نقيق أولادي وأحفادي" ثم يدعو إلى إعادة كتابة التاريخ بطريقة الحكاية لأنها أكثر صدقًا، وهنا يكون الكاتب قد قدّم لنا مسوّغ تسميته لعنوان روايته، ضجيج الضفادع، وليس نقيقها، لأنّ ما شهده منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى انطلاقة ثورة 25 يناير، يوحي أنّ من يزعم حماية مصر، الوطن، ما هم سوى ساسة يحملون سمات الضفادع، ولنعد مرّة أخرى إلى لوحة الغلاف، فتاة نوبية مصرية، هي النيل، جميلة، وفريال المحبّة لعصام، الوطن، السمراء التي واربت وقفتها، موجّهة العتب واللوم لمن تنظر نحوهم، نحونا، نحوكم.. إنّها بهيّة التي قال فيها المنشد:
مصر يمّا يا بهيّة / يا ام طرحة وجلابيّة
الزمن شاب وانت شابّة / هو رايح وانت جاية...
زائلٌ، هو زائلٌ، زمن الاعتداء على طهرانية النيل المستمرّ، أزمنة الهكسوس المتعاقبة التي انقرضت، زمن الهكسوس الجدد الذي احتلّوا دار الأب، الدولة المصرية، مواربة مع أسرهم الذين أفعموا فضاء مصر، الدولة، دار عبد الوارث بنقيقهم، هو زائل زمن الضابط القاتل والإعلاميّ الانتهازيّ والوارث المصري، رمز الدولة المصرية، العاجز عن حماية النيل، الوطن. أمّا جيل الألفيّة الرقميّ الجديد، جيل الطالب عصام، رمز الباحث عن ذاته الفاعلة بعصاميته، الذي هو امتداد لطهرانية جميلة النوبيّة، "الشاب العفيّ الذي يقتحم المخاطر ببساطة" المحب لفريال، تلك الطالبة المنضوية تحت لواء الثورة، "أيقونة العقد الأول من القرن الحادي والعشرين" و"أجمل فتاة في العالم"ص127
لقد شيّد الكاتب بناء سرديًّا تخييليًا متماسكًا، وإن أراد حصر زمن السرد بأحداث 25 يناير عن طريق رؤى رواة عديدين؛ إذ قدّم الراوي المركزيّ عبد الوارث المصريّ، مصر الدولة، وبالتوازي معه قدّم الساردة جميلة، مصر الوطن، ثمّ قدّم وجهات نظر الجنرال والإعلاميّ من خلال منظور عبد الوارث، الدولة، سلطة الحاكم.. وعصام وفريال عن طريق، جميلة، الوطن، ثورة 25 يناير، إلّا أنّه استعاد ذكريات من الماضي البعيد والقريب، ففتت عن طريق تقنيات الاستباق والاسترجاع والاستشراف، ومن ثمّ بعثر حبكة الرواية، ولعلّه استطاع أن يبئر أحداثها مكانيًّا في المنزل الكبير على النيل في المنصورية؛ التي تبعد 30 كم عن القاهرة، وإن كان تحرك بأمكنة أخرى على نهر النيل ومكان السدّ العالي وميدان التحرير؛ فإنّ مرجعيته المكانية كانت المنصورية.
إن الكاتب منح نصّه سمات الأدبيّة موظّفًا تقنية الرواة المتعدّدين، فقدّم لوحات سرديّة متجاورة حول سردية كبرى بؤرتها المكانيّة المنزل الكبير في المنصورية، الذي استوعب عبد الوارث، رمز دولة السياسة بملازمة جميلة له، التي أرادها رمزًا للعفة الوطنيّة والشرف الرفيع، أما سيمائيّة المكان فارتبطت بالزمن التاريخيّ المعالج للأحداث، فقرى النوبة التي انغمرت بمياه السدّ العاليّ أواخر خمسينيات القرن الماضي، تختلف مكوناتها ووصفها عن قاهرة ميدان التحرير في 26 يونيو 2011 وبدوره يختلف عن المنصورية التي شهدت احداثًا مغايرة، ولعلّ الكاتب نجح في رسم معالم جدليّة الوقائع السردية ليتكامل الزمان والمكان وينصهران في فضاء الزمكان.
لقد أضفى على السرد كثيرًا من القيم المعرفية والمعلوماتية والجمالية على ألسنة متعددة، وإن تشابهت أساليب الرواة اللغوية، إلا أن جميلة كانت مغايرة بخطابها الأنثوي، كما أنّ الكاتب لم يهتمّ بالبناء الخارجيّ للشخصيات، ولكنّه استطاع - بخبرة الروائيّ المتمرّس - أن يمنحها سمات مستمدّة من أفعالها، ولعلّه وظّف الكشف عن فاعلياها النفسيّة؛ إذ أظهر عصبيّة عبد الوارث؛ بعدما احتلّ أبناءه، الهكسوس، منزله، وهدوء جميلة ونقاء سريرتها، وأحوال الجنرال رامز وإظهار حبّه للسيطرة منذ طفولته، ثمّ قدّم لحظات الوجد بين الطالب عصام ومحبوبته فريال، إضافة إلى سمات الشخصيات المهنيّة، فعبد الوارث خبير بأحوال النيل وتقلباته وبالمشاريع التي أقيمت عليه، وجميلة نقطة التوازن الضرورية لتماسك الأسرة، وعصام المستحوذ على أضعاف معلومات أبيه عن طريق وسائط التكنولوجيا الرقميّة، ورامز الخبير بالساعات وإصلاحها وأنواعها، وعلّام الخبير بشؤون الصحافة والإعلام، وفريال الطالبة المجتهدة في كلية الحقوق،...، ثم نجده يضفي سمات اجتماعية على شخوصه، عبد الوارث المتحوّل إلى الصوفيّة، والجنرال المنزوي وحيدًا بعد سجنه نتيجة جريمة قتله المتظاهرين، وانتهازية علّام، وذكاء فريال، وسعة اطلاع عصام، وفطرية جميلة، ودروشة هانم،...
أخيرًا وليس آخرًا، فإنّنا نظلم هذه الرواية إذا قرأنا فيها الأحداث بواقعيّتها، الأحداث التي لا تتجاوز البنية السطحيّة للنصّ، من دون أن نستقرأ ما تخفيه من مواقف ودلالات تطال البنية العميقة الممتدة نحو فاعليات اجتماعيّة قد تؤدّي إلى أخطار حقيقيّة، فتلوّث النيل ليس فعلًا فيزيقيًّا فحسب، بل هو تعدٍ على مفهوم الوطن الملازم للنيل العظيم، والخّرافة لا تفهم إلّا عن طريق إهمال الشخصيات لمتطلبات العلم الحديث، فهانم ماتت سريعًا نتيجة هكذا موقف، وفاعلية عبد الوارث ضعفت مع ميله نحو التصوّف، كما أنّ سيميائيّة
مدير مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر بالإسكندرية