يبدو منظور الشعرية الإنسانية ذا قيمة متحوّلة تنسجم طبيعيا مع متطلّبات كل عصر وكلّ بيئة، وقد نبّهت طبيعة هذا التحوّل الآليّ ذوي الحس النقدي الأدبي القارئ إلى ضرورة تبنّي التفكير المنهجي الملائم لما تتطلّبه حقيقة الشّعرية المتحوّلة بدلا من الركون الغائي إلى شعريّة التّكريس التي ساهمت بجمودها في تحجير النقد الأدبي واستجابة لدواعي المحافظة على المؤسسة الثقافية النموذجية، لذلك حصل الانفصام بين الإنسان والفنّ، والحقيقة أن الفنّ مطلقا والشعر تحديدا لا يستطيع التواجد خارج ذلك التلازم بين سياقي الشعرية ذات المرجعية الفطرية الإنسانية، وبين القراءة النقدية المستجيبة لتحمّل حقيقة الإبداع، ولقد تنبّه بعض البلاغيين العرب القدامى إلى طبيعة الاختراع الفنّي والابتداع الملازم لكل فعل حياتيّ حين ربطوا البديع الذي هو مطلق الجديد بعفوية التعبير اللغوي أو الفني مطلقا "وكان يُستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرا."[1]
تتّصف قيمة الندرة في كونها تتماشى في وظيفيتها مع كلّ الفنون، فالجديد النادر يقتضي السلوك الإبداعي المسوق على غير نموذج حتى ولو كان في شكله مستغربا مهيبا متبرما منه في أول وهلة، وحقيقة كلّ فنّ بديع أنه متلقّى بالاستغراب وتلك ميزة طبيعية موجودة في النادر وراسخة في حس التلقّي لأن قراءة النتاج الفني مقرونة بإيقاع الصدمة المفسرة لاغترابه عن المألوف، استطاع الجاحظ في نظرية البيان أن يحيل على الحس "وذلك أنّهم إنما يحيلون على الحسّ، ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس."[2]، وأن تحيل على الحسّ في اجتذاب القيم الإبداعية معنى ذلك أنك تستبق فطنة العقل فلا يقوى بذلك على اشتراط الانتظام المعقول للعناصر التشكيلية، وهذا يسري على جميع الفنون القولية أو التشكيلية حيث يأخذ الشكل طبيعة الارتجال الذي يحفظ للمادة الإبداعية قيمتها المفاجئة التي تبغت حسّ الإنسان فتهزّه وتدعوه إلى التجاوب مع إيقاع المادة الفنية الذي نسميه عادة الموضوع .
وإذا كان سلوك الانفعال بالإبداع قائما على إعمال قوى تحسس المعطيات الحسية والبيئية والاجتماعية بما هي مرجعية تساعد على توفير موضوع الإبداع فإن ثبات المرجعية لا ينفي تنوّع الكيفية والأدوات والرؤى، فالمعاني الشعرية التي يتفق القراء على سحر جاذبيتها وأهليتها لهزّ حسّ المتلقي تبدو كأنها منبثقة عن موضوع واحد؛ كأن يكون موضوع شعرية المرأة مثلا. فقد ظل وسيبقى مهيمنا على أحاسيس الفنانين والشاعر واحد منهم، ولقد أوحى بروز الموضوع الفني أو بؤرة الانفعال بالقين التعبيرية إلى دفع عبد القاهر الجرجاني إلى القول النقدي بما يوافق هذا النظر حين لاحظ هيمنة بؤر انفعالية بعينها على أحاسيس الفنانين "كأنّ جلّ محاسن الكلام، إن لم نقل كلها متفرعة عنها، وراجعة إليها، وكأنها تدور عليها المعاني في متصَرَّفاتها، وأقطار تحيط بها من كل جهاتها."[3]، فالقول بالإحالة على النفس وإعمال التقييم الحسي أو الذوق الفطري المهيّأ للتفاعل مع الإبداع هو المرجع النقدي أو التفهّمي الذي ينبغي اعتماده في تحرير الشعرية من سلطة المعيارية.
والفنون على اختلاف موادها التعبيرية ظلت ملازمة للنشاط الإنساني لم تغادره يوما ما، وكلما نأت عن سجلاتها الحياتية أصابها الارتباك والنّكوص، وذلك أن كل فنّ مكين القرار لا يجد له متسعا للنشاط والحيوية إلا في مساحة نشاط الإنسان، فالنفس البشرية وإن بدت لنا ضيّقة الحيّز المادي إلا أنها في حقيقتها الربانية واسعة الآماد قمينة باستيعاب كل النشاطات الفنية أفقيا وعموديا، فالتصرف الروحي المجبول عليه الإنسان يوفر له تلك الحركة السحرية الخارقة المتجاوزة لحدود الماديات، لذلك كان الفنانون العرب قد ساهموا في قراءة علاقة الفن بالنشاط الإبداعي، فقد تنبه أبو العلاء المعري لضرورة الاحتكام إلى الحس والغريزة في قراءة المنجزات الفنية حين قال بإعمال الغريزة في تقييم الكلام الشعريّ "الشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أم نقص أبان عنه الحسّ."[4]، فالإحالة على الحسّ تتوافق فلسفيا وإجرائيا مع القراءة النقدية الحرّة التي ظلّت تتواجد هلة هامش المتن البلاغي الذي هو في جوهره متن نقدي أدبي.
أن يقال على مسلم بن الوليد هو الذي أفسد الشعر يعني ذلك أنه لم يحترم قواعد الإبداع المكرَّسة، فمسلم بن الوليد جاوز بخرقه القاعدة والنموذج المقدس إلى إمساس الغايات الإبداعية التي ليس لها مثيل تُقرأ في ضوئه، ولذلك فالنقد المحافظ لم يجد في شعر مسلم ما يسقط عليه تجارب الشعراء المتبعين في الطريقة، فالحكم النقدي ينظر إليه انطلاقا من الوجهة التي ينخرط فيها لذلك فالإفساد المنعوت به شعر مسلم بن الوليد هو بمثابة المِدحة وفق رؤية الحداثة.
لا يصعب على قارئ تراث النقد الأدبي العربي أن يصادف عدّة دلالات على تحرر المتابعة الأدبية للشعر تتبنى مبدأ القراءة النقدية الحرّة، نعني بها تلك التي لا تتبع سياقا تنظيميا أو مدرسيا ثابتا وإنما تتحرى المتابعة الفطرية أو الطبيعية الواصفة، وإن نهج النقد الأدبي لهذا المنهج الجمالي وخاصة عندما يتعلّق الموضوع بمتابعة جماليات الشعر، فقد توخّى ابن سلام الجمحي في طبقاته هذا المنهج النقدي في عدّة مواقف نقدية قرائية نستوثق في الإلمام بها بالعينات التالية:
عفويّة الانطباع الشعريّ:
لا يستطيع قارئ المواقف النقدية الأدبية التي تضمنها كتاب (طبقات الشعراء) الوقوف على حداثة القديم إلا إذا أنفذ نظره إلى جوهر المقولات النقدية المزدان بها مؤلَّفُه المذكور فهو لدى كلامه على عفوية شعر الفرزدق ذكر خلافه مع ابن أبي إسحاق النحوي في مقامات لغوية كان الشاعر يتّبع فيها مبدأ الانفعال الفطري، بينما كان ابن أبي إسحاق يسلك سبيل المعيار والقياس. واللافت للانتباه في الموضوع هو ما استخلصه ابن سلام من جملة ما دار بين الشاعر واللغوي حيث اغتنم ابن سلام المناسبة ليسطر مقولة في أصول حداثة التراث حيث نحا الفرزدق في بعض أساليبه سبيل الخروج على القاعدة النحوية وذلك طبيعي لأنّ الحس قد تتراءى له بعض الاستعمالات التي لا يستوعبها العقل؛ وليس ذلك إلاّ لأن اللغة مركوزة في لاشعور الشاعر لا في وعيه، وأن الانفعال ببديعها يقتضي مخالفة المتحفّظ. فلذلك السبب وابتغاء جمالية تحراها حس الفرزدق اقتضت لغة الشعر أن تخالف القياس بما هو ألذّ من الخضوع للقاعدة، ولعلّ الذي زان مقولة ابن سلام في موضوع الخرق اللغوي في شعر الفرزدق قوله: "وقال يونس: والذي قال جائز حسن فلما ألحوا على الفرزدق قال: زَواحفَ تُزْجِيها مَحاسِيرُ، قال: ثمّ ترك الناس هذا ورجعوا إلى القول الأوّل."[5]
فأن يتشجّع النقد الأدبي في تلك المرحلة المتقدمة من تاريخ الأدبية العربية ويتطوّع في إعلان مثل هذه المخالفات المتشجعة؛ فذلك الذي عنيناه بمقولة المناسبة بين الشعر وقراءة الاستجابة. حيث لم يخجل ابن سلام من توثيق مخالفة حرية الحسّ لنمطية قياس العقل. ومثل هذه المواقف متكررة في التراث النقدي يسهل استظهارها كذلك الذي قاله الجاحظ في نظرية البيان «وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول لطائف الأمور إلاّ عالم حكيم، ومعتدل الأخلاط عليم، وإلاّ القويّ المنة الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم والسواد الأكبر»[6]، ومثل هذا السياق يتسق واضحا مع مبدأ الانفعال العفوي بالشّعر؛ فالانتقاصات التي عادة ما كان النقد الأدبي يعتبرها مبطلة للإبداع. يُرى إليها هنا في هذا السياق النقدي القرائيّ المتفهّم على أنها سلوك عفوي للحسّ، به يكتمل مقام القول الشعريّ. لذلك السبب قال ابن سلام لدى تعليقه على خروقات الفرزدق: "إن الناس تركوا الصحيح المنقّح ورجعوا إلى القول الأوّل."[7] فالتناجز الظاهر بين النحو واللاّنحو، بين ابن أبي إسحاق والفرزدق، هو في حقيقته صراع بين العقل والحسّ، يريد الحس أن يتفلت من مضايقات القياس، فينعته العقل بكسر القاعدة ومخالفة المتحفّظ المعقول.
- سلك النابغة سبيل الفرزدق في مخالفة قواعد الكلام النحويّ بناء على ما يكون تحسسه مقلقا من تضييق القياس النحوي على حرية الانطباع اللساني العفوي. فالإقواء الذي وسم شعريته كان قد مازها بما يزينها في نظر النقاد القارئين للشعرية العربية، فما تنبه النابغة لخرقه إلاّ بعد أن صار شعره مغنّى على لسان قينة بالمدينة، وهو انتقال واضح من وظيفة فنية فردية إلى أداء جماعي يشترك فيه أكثر من حسّ في تقييم مادته اللغوية والإيقاعية. لهذه الأسباب الفطرية فُضِّل شعر النابغة الذبياني حيث غلبت عليه عفوية الانطباع، فجاء كل قوله مطبوعا على ذلك، يستأهل حرية القراءة النقدية. فتوافق لديه المبدآن حرية الانطباع الشعري المستدعية للاستجابة النقدية القرائية حتى تلخّص مُجمل هذا المؤدَّى في مقولة ابن سلام: "كأن شعره كلام، ليس فيه تكلّف، والمنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر."[8]، جدير بالنقد الأدبي أن يستجيب لمتطلبات تفهّم الخطاب الشعري بما يضمن لكل ذات قارئة أن يتوافر لها حيّز مكاشفة نفسها.
لقد نبّهت ثنائية استفاضة الإبداع وتأزم الرافد النقدي المجاري إلى ضرورة التلازم الوظيفي بين الشعرية وقراءة الاستجابة من حيث نقدر أن عملية إبداع الشعر قائمة في جوهرها على نشاط تبديلي متواصل باعتبارهما متّسقين متناجزين يغذّي كل طرف منهما سيرورة الثاني الآخر، فبغير تلك المسايرة بين الشعرية وقراءة الاستجابة المسعفة طبيعة تحولاتها اللازمة تنقطع الذات المبدعة عن بلوغ أسباب الحضور الزمني أو البيئي أو الاجتماعي الدال على حيوية الإبداع ومصداقيته. غير أننا حين نرتدّ بالنظر إلى مخلفات التلازم غير الطبيعي بين الشعريّ والسياسي، نستطيع تبيّن أن الشعر العربيّ في سيرورته السرمدية ظلّ مكرها على مغادرة الأسباب الانفعالية والإيقاعية والأسلوبية التي أوجدته أول مرة في نشاط التعبير الإنساني، بمعنى أن الشعرية كانت تتغذّى في صميم ابتداعها على الهوية الإنسانية والفطرية والطبيعية من جهة ثمّ تركن إلى التقييم السياسي الذي يقاطعها في كثير من الإنجازات الثورية، والنقد المؤسساتي كان في كل مناسبة ثقافية يعتذر عن القراءة النقدية المستجيبة طبيعيا لجوهر الفن الإنساني، ويسعى إلى ابتكار المبررات والمسوغات الملفقة التي تغفل جوانب الإبداع الحقيقية.
والجاحظ الذي يعدّ من أكبر الممجدين لمعيارية العقل نلفيه يرضخ لمتطلبات الشعرية ويتنازل عن صرامة الشروط النقدية ويسهب في مجاذبة شروط الانفعال بإيقاع بلاغة الشعر". لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع."[9] يتجلى لنا واضحا أن شعرية اللغة مرتبطة في جوهر إيقاعها بمدى التأثيرات الانفعالية التي تحدثها في حسّ السامع، وقد تطوّع الجاحظ معدّدا أبعادا تشويقية كل بعد منها يترجم عن حال اغتباط بالأساليب الشعرية نستطيع تحديدها في المصطلحات التالية: الإغراب، الإيهام، الإطراف، التعجيب، ثمّ الإبداع، كل مستوى تشعيري يهدي إلى الذي يكمله في طبقات النفس القارئة للشعرية .
إنّ ثمة إشكالا ينبغي إثارة موضوعه ألا وهو هل الشعرية محتاجة إلى المقابل النقدي الأدبي الذي يحركها نحو بلوغ الجديد أم إن الشعرية في غنى عن مرآة النقد الأدبي الذي يلاحقها عبر أبرز محطات تاريخ الشعرية، وأنها إنما تضيق ذرعا بمناكفات النقد الأدبيّ التي تعطلها عن المغامرة والتجريب، وتبقيها رهينة المكرّس المتحفّظ، فلا يتبقى لها فرص الانقذاف خارج المألوف والمتحفّظ، وعلى الرافد النقدي أن يبدّل من منهجه المتابع والواصف، إلى مرافقة إبداعية هي التي تسمى القراءة النقدية. فيكون النقد وابتداع الفن قد تسايرا في ريادة مسارح الحياة، وتكاشفا بالكيفيات التي تجعل كلا منهما يتغذّى على الآخر، حين تتعلق بالرافد النقدي الأدبي تعطل سيرورتها وتبطل مشاريعها عوض الارتماء في مشاريع الاستطراف. وهل في حيّز الوظيفة الشعرية هامشا وظيفيا يحتضن التوجيه النقدي؟ قد يكون من غير اللائق بالأدب ذاته أن نقول: ينبغي للإبداع أن يبقى عاريا من المتابعات النقدية الأدبية فإن تحرره من ذلك التلازم حريّ بالحس الإبداعي، بأن لا يرى سوى إلى الأمام، فلا يلتفت للمنغصات النقدية التي تتلبّسها في كثير من الأحيان عواطف المتناقدين والمبدعين بما يعيق سبل الانخراط في تعاطي حرية الإبداع.
من المنهجيّ، في سياق بحث الروابط التفاعلية بين الشعرية ونقدها، أن يرتدّ النقد الأدبي العربيّ الحديث إلى الاستعانة بالاجراء الإصطلاحي المنظّم والممنهج لعملية المتابعة النقدية الحداثية التي صارت أكثر تعلّقا بمتطلّبات الفكر الفلسفي الحديث، فالثنائية الجدلية بين توالي الإبداع مع النقد الأدبي هو المجال الذي يسير فيه إشكال تدبيج هذا المقال، فالذي لا يخفى على المتمعّن اللّبيب أنّ التّفكير الأدبي في جهتيه الإبداعي والنقدي ما يزال يشغف كثيرا بالاحتكاك بالمناهج العلمية خاصّة منها المناهج السياسية والاجتمعاية والنفسية التي صارت المناط الأقوى لإخراج الممارسة الأدبية إبداعا وتفكيرا من مضاميرها الانشائية التقليدية إلى حيّز الممارسة التطبيقية التي تحيل الأفكار الأدبية والفنية والجمالية أكثر واقعية ووظيفية.
وعلى الرغم من أن الحضارة الأدبية العربية عميقة الجذور بعيدتها فإن لها من الأواصر والمشارب ما يملأ الدنيا ويشغل الناس. وذلك الذي ارتقى بها إلى مصاف التجارب الأدبية العالمية فتناولها المستشرقون، وأثرى الفلاسفة الجماليون من معين مرجعياتها الروحية إلا أن الأدبية العربية وعلى الرغم من ارتكازها على شعريتها ذات السمعة الإنسانية العالية، إلاّ أنها ظلت تفتقر إلى التأطير النقدي الأدبي الواعي الذي يمنحها فرصة لبلوغ المستويات الإنسانية المرموقة، وليس ذلك إلا لأن النقد الأدبي العربي ظل مترددا بين سياقين متلازمين هما التراث والمعاصرة. هذه الأخيرة التي صعب التعاطي معها بحلول فلسفة الحداثة حيث صار كل معطى أدبي أو نقدي يحتاج إلى النقلة الحضارية ومعها النقلة الفلسفية التي تمنحه شروط التوافق مع روح العصر لأن الشعر في كل مبدأ «نوع من السعي إلى إدراك كلية التجربة أو نهاية الاحتمال.»[10]
لقد صار الخطاب الشعريّ مكتنفا بجملة تفاعلات حياتية، وتبعا لذلك استفاضت القيمة الشعرية، لتصير مقرونة بمعطيات الحياة، والشعر الذي هو الميدان الإبداعي المفضل في تاريخ الأدبية العربية قد ملك من أسباب الكمال التراثي ما يجعل كل انزياح عن شروطه الإبداعية التراثية أمرا يستحيل القبول به والشعر ذاته بتماهيه وانزياحه إلى ما يكمّله من أساليب التعبير الفني الأخرى صار يتقبل القراءات الفلسفية التي أغنت ثقافته، لذلك فإن الشعر مهما حاولوا مَأْسَسَتَهُ[11] فإنه يعيد التجذر في كل مرة. فلا يكاد يخالف كونه ينزع من الداخل إلى الخارج، فلا تتغلب آليات الواقع عليه، مهما أغرق في الوطنية مثلا[12]، وربما لخص المعجم الوسيط هذا التجاذب المعرفي بين مختلف التأثيرات عندما وقف لدى هذا الإشكال قائلا: (النظرية قضية تثبت بالبرهان. نظرية المعرفة البحث في المشكلات القائمة على العلاقة بين الشخص والموضوع وبين العارف والمعروف.)[13] وقد تنبه الجاحظ في كتاب الحيوان إلى طبيعة راسخة في أدب الأعراب من حيث نبه إلى أنهم كانوا يستحبون ترك حيّز لتفاعل القارئ مع الخطاب لذلك "كانوا يستحبون أن يتركوا للقول متنفسا، وأن يتركوا فيه فضلا."[14] والذي نقدره على أنه هامش لحضور القارئ المكمّل لمقروئية الخطاب.
ويبدو أن ابن سلام باستيعابه معطيات البيئة الشعرية العربية تجرأ إلى الانطباع بالنقد القرائي المستجيب لخصوصية فنّ الشعر، لذلك المبرّر المنهجي استطاع أن يرود مسألة الفصل بين الشعر وبين القصيدة من حيث وافق ما تعتمده الحداثة قائلة بكون القصيدة هي مجرد محطّة في سيرورة التحولات الشعرية، وأن الشعر أكثر حرية من القصيدة. وإن نقده مقتض تحررا مماثلا في إحصاء ظواهر البديع وتفسيرها وفق التخريجات المستجيبة لقراءة الاستجداد، لذلك الغرض تطوّع ابن سلام قائلا: «لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف.»[15] معنى هذا أن الشعر قديم قدم الإنسانية والقصيدة تالية لمبدئه فهي لذلك جزء منه ولا تستطيع مهما عزّزها النقد المدرسي أن تحتويه وتشمله.
يبدو واضحا أن مدونات النقد الأدبي العربية كانت تعي جيّدا الفارق بين الإبداع الحرّ وبين الشعر الملتزم بقواعد قوله أو كتابته، إذ يبدو أن الشعرية العربية الأعرابية كانت أكثر تحررا من سلطة خطاب القصيدة فقد هيمنت على الشعر شروط شكلية خارجية ربما يكون النقد المدرسي هو المتسبب في إنتاجها وذلك خوفا من انفلات بلاغة الشعر وكسرها للممنوعات والمحظورات التي تقلق السلطة السياسية ولا يعدم القارئ للتراث النقدي أن يقف على عينات نقدية أدبية حرة توافق روح التحرر في ابتداع الخطاب الشعريّ الحرّ في أساليبه ومضامينه، وتبعا لحضور هذا المنحى التحرري صادفنا مواقف نقدية أدبية تنسجم الانسجام التام مع هذا التوجه تدعمه وتوضحه وتشرحه. من ذلك ما ورد في (عمدة) ابن رشيق تعليقا على معلقة عبيد بن الأبرص الذاهبة في الخلخلة والاضطراب حين قال عنها : «إنها خطبة ارتجَلها فاتّزن له أكثرها»[16]، إذا فليس إيراد مصطلح الارتجال اعتباطا هنا، وإنما الارتجال يفسر طبيعة إبداعية تشكل جوهر فن الشعر ومادته النفسية والانفعالية التي لا تزول ولا تتغيّر على مرّ التجارب.
ولكي نستوفي الكلام على المادية الشعرية وشروط نقدها لا ينبغي لنا إغفال ما للشعر الشاعر من صلة وطيدة بالأصول البيئية والاجتماعية التي أطلعته إلى الوجود أوّل خطرة، ففي مقال لنا وسمناه بتناجز الأسلوبية مع الشعرية [17] والتقائهما في كثير من أوجه الصياغة والإيقاع وتوثيقا، لآصرة التناجز بين الشعرية والأسلوبية من حيث حرية الانفعال بقيمهما الإبداعية: «يقال للسطر من النخيل وكل طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب الطريق والوجه والمذهب ...والأسلوب الفنّ يقال : أخذ فلان في أساليب من القول أي في أفانين منه»[18]، ونظرا لتوافق انبناء كل من الشعر والأسلوب على فاعلية التجدد قال جورج بوفون[19] في تقريره التكريمي أمام الأكاديمية الفرنسية بمقولته الشهيرة :le style est l’homme meme
لا يمكننا الكلام على التلازم الوظيفي بين حرية الشعر واستجابة القراءة الناقدة له، دون الإحالة على جهود حازم القرطاجني في منهاج البلغاء وسراج الأدباء من حيث تصوّرناه داخل الموضوع قائلا: «وكانت تحصل للنفس بالاستمرار على تلك الجهات والنقلة من بعض إلى بعض وبكيفية الاطراد في المعاني صورة وهيأة تسمى الأسلوب، وجب أن تكون نسبة الأسلوب نسبة النظم إلى الألفاظ، لأن الأسلوب يحصل عن كيفية الاستمرار في أوصاف جهة من جهات غرض القول.»[20] فلا يمكن عزل مهارة الإبداع عن مهارة الحياة على اعتبار أنهما طرفان متناجزان يغدي أحدهما فطن الآخر، وللبرهان على ضرورة التجاوب الثقافي والمعرفي بين الشعر ونقده حرصنا على تفاوت النقاد البلاغيين المعياريين في تفهّم الشعر القائل:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسّح بالأركان من هو ماسح
وشُدَّت على هدب المهارى رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطيِّ الأباطح[21]
- حيث ظل المعياريون يقفون منه موقفا سلبيا لم يراعوا فيه موسوعية القراءة والتأويل وإنما رأوا إليه وقدروه خاليا من فائدة المعنى بما يسمى في البلاغة العربية الإخلاء، وكان ذلك انتقاص من شعرية هذا الشعر الذي قرأه عبد القاهر الجرجاني في كتاب أسرار البلاغة قراءة استجابة، والذي يتفهم الفنون يستطيع أن يرى أن كلّ إبداع ليس بالضرورة مقرونا بالقراءة المعيارية لمكونات فنّه، وإنما فعل العناصر البانية للخطاب الفني أن تنجح في استنهاض الدلالات والمعاني الكامنة في نفوس القراءة على اختلاف تجاربهم الحياتية وذلك الذي نرى الحاجة إلى تسليطه لدى كل قراءة ناقدة.
ومن الأخطاء التي وقع فيها النقد اللامستجيب لدواعي تفهّم الإبداع استقراره على معيارية حادثة ما كان ينبغي للنقاد ترسيمها في تشكيل الخطاب الفني، واستجابة لذلك قال ابن خلدون معرفا الأسلوب: «الأسلوب عند أهل الصناعة عبارة عن المنوال الذي ينسج فيه التركيب، أو القالب الذي يفرغ فيه، ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى في الذهن الذي هو وظيفة الإعراب ولا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التركيب المعنى الذي هو وظيفة، ولا باعتبار الوزن ... وإنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انظباعها على تركيب خاصّ وتلك الصورة التي ينتزعها الذين من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب والمنوال.»[22]، وكان ينبغي للنقاد أن يتفهّموا أن كل إبداع مقتض منوالا بعينه هو الذي ينتجه نشاط العناصر الفنية، ليتعدّد المنوال الواحد في شكل مناويل تفرزها كل تجربة إبداعية على حدة لا تشاركها بالضرورة في أيقونته التجارب الإبداعية الأخرى.
والحس لوحده كفيل بأن ينتج متطلبات لحظة الإبداع، ولذلك فالنشاط الحسي متجدد ومتعدّد قابل للتنويع والمغايرة، وتلك حقيقة نفسية أقرها النقد البلاغي الجمالي في التراث العربي، قال عبد القاهر في طبيعة الملاءمة التي يتوافر عليها الحس «وذلك أن طريق الحس موضع تتلاقى عليه طباع البشر.»[23] فما كان ينبغي للنقد المعياري أن يفرّط في المؤهلات النفسية والانفعالية التي يتمتع بها الحسّ الإنسان ويتصوّر أن الإبداع هو «إنتاج نصوص حسب قواعد فنّ معيّن.»[24] .
جامعة الشلف الجزائر
[1] : ابن المعتزّ، كتاب البديع، ط: 2، دار المسيرة، 1979، ص:1
[2] : ابن جنّي، الخصائص، ج:1، تحقيق : محمد علي النجار ط:3 عالم الكتب بيروت لبنان، 1983، ص:48
[3][3] : عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة في علم البيان، دار المعرفة بيروت لبنان، ص:20
[4] :أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، ط:1، دار الشروق العربي بيروت لبنان، 2005، ص:119
[5] : ابن سلام، طبقات الشعراء، دار النهضة العربية بيروت لبنان، ص:7
[6] : الجاحظ، البيان والتبيين، ج:1، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، ص: 48
[7] : ابن سلام طبقات الشعراء، ص: 7
[8] : ابن سلام، طبقات الشعراء، ص:17
[9] : الجاحظ، البيان والتبيين، المجلد الأول، ج:1، ص:65
[10] :إيليا حاوي، خليل حاوي في سطور من سيرته وشعره، ط:1، دار الثقافة، 1980، ص:20
[11] : نسبة إلى المؤسسسة الثقافية.
[12] : ينظر، إيليا حاوي، خليل حاوي في سطرو من سيرته وشعره،ص:23
[13] :المعجم الوسيط، نظر، مكتبة الشروق الدولية 2004، ص:932
[14] : ينظر، الجاحظ، كتاب الحيوان، المجلد الأول، تحقيق يحيى الشامي،ط:3 منشورات دار ومكتبة الهلال 1990، ص:486
[15] : ابن سلام، طبقات الشعراء دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت لبنان،ص:11
[16] : ابن رشيق، العمدة في محاسن الشع وآدابه وتقده، ج: 1، تحقيق:محمد محي الدين عبد الحميد، ط:4 دار الجيل بيروت 1981، ص:140
[17]: ينظر، مجلة نزوى،سلطة عمان، العدد : 86 /2016
[18] : ابن منظور، لسان العرب، س ل ب .
[19] :Discoure de style p28
[20] : حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء تحقيق: محم الحبيب بن الخوجة، ط:2 دار الغرب الإسلامي بيروت لبنان 1981، ص:363
[21] : ينظر، عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة في علم اللبيان دار المعرفة بيروت لبنان، ص:16
كذا: عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، دار المعرفة بيروت لبنان، 59
[22] : ابن خلدون المقدمة ط:1 دار الفكر بيروت، 2004 ص:647
[23] : ابن جني، الخصائص،ج:1، تحقيق محمد علي النجاز، ط:3عالم الكتب بيروت 1983،ص: 90
[24] : هنريش بليث، البلاغة والأسلوبية، نحو نموذج سيميائي لتحليل النصوص ترجمة:محمد العمري، غفريقيا الشرق الدار البيضاء المغرب، ص:23