يصور القاص العراقي في قصته حدثاً يبدو مألوفاً للوهلة الأولى عن ركوب امرأة مع سائق باص لوحدها بعد أن أستوقفته بالطريق، لكن يغوص عميقاً مقلباً عالم الشهوة الذي تعصف بجسدها وهي تراقب السائق متنقلا بين تفاصيل الرغبة وخيالات المرأة والوصف الخارجي إلى حين مكاشفته فيكون الجنون.

دخان

علاء شاكر

 

الوقت ظهرا. السماء تبدو قريبة وأنا أرى البياض الكثيف والدخان. انتظرت طويلا. ليس في الشارع سوى باصٍ خشبي. لوّحت له. كانت مقدمته قد تجاوزتني قليلا، النافذة صارت امامي. اشار لي بالصعود والسيجارة بفمه. اخترت الخانة الأمامية. فتح لي الباب، صعدت جنبه يفصلني عنه "الكير" المنتصب برأسه المدور. تستر جسده النحيل، دشداشة بيضاء حائلة اللون، ملطخة بالدهون، شديد السمرة، طويلا يبان نحوله واضحا من خلال دشداشته الغائرة جهة البطن، والملمومة بين فخذيه مبرزة ذلك النتوء الغليظ ، مثل جرذ مختبئ. لحيته خفيفة ولطيفة رغم تبعثرها على مساحة خديه الغائرين، أحببتُ نحافته وذهوله وشعرات الذقن المتناثرة على خده، وجذوة سحرٍ في عينيه الناعستين.

لا أدري ان كانت ذاكرتي تخونني أم أن الايام تكرر نفسها، ان كان اليوم سبتا او جمعة، صوت المؤذن يهبط من المنارة المائلة، ميلان حاد كأنها ستسقط، ولكنها مائلة منذ قرون وكأن الملائكة تسندها. انتصف النهار والباص يبتلع الطريق بسرعة، ورائحة الهواء البارد المخلوطة برائحة البنزين تدوخني. نجتاز الشوارع التي تقودنا الى خارج المدينة. كان مشغولا بصمته وأنفاس الدخان، يدخن السيجارة تلو السيجارة، ولا يعرف ما يدور في راسي.

اشتهيته،لا ادري لِمَ، رغبتُ به هكذا، رغبةً ليس لها حد، توقدت تلك اللحظة في داخلي، وظلت تفور مثل قهوة. طفحت على جسدي، وجعلت كل جزء مني يتقلب على نار هادئة. تمنيتُ أن يذهب بي إلى مكان بعيد معزول، لا يرانا فيه أحدٌ. يطفئ السعير الذي كواني. نكون وحدنا في مكان مقفر، لا أحد يفسد علينا متعتنا، يطرحني أرضا، يرفع عني ملابسي بجنون، يلهب جسدي الأبيض الناعم بخشونة ذقنه، تختلط رائحة جسده المتعرق بي، يقاتل بوحشية رجل الصحراء، اشتمه والعنه. يوغل بي مثل وحش. يذبحني. وقتها سيكون كل شيء جميلاَ رغم الالم، شعور لذيذ وصارخ.

طلبت سيجارة . لم يلتفت إلي، أشار إلى علبة السجائر فوق لوحة قياس السرعة . سحبت سيجارة، أشعلتها ونفثت دخانها بقوة. ايضا هو فعلها. كل شيء في داخلي مستثار، صورة وجودي أسفله تضغط علي، تجعل كل جزء من جسدي يتهيأ لتلك اللحظة الرائعة المدوخة، تصرخ الرغبة في داخلي، شعوري باللذة يتصاعد والطريق يقطعه لا نهاية له. لا يعر بما يغلي في داخلي، عيناه على الطريق، مرة اخرى اشعل سيجارته، وأنا مخدرة بالرائحة، أتلصص عليه ، يدخن، لم يتحدث قط . أتخيل جسده فوقي صاعدا وهابطا. تستغرقني فكرة وجودنا معا في مكان بعيد، هذا الوجود الجميل معه، يسكرني. صور نارية تلح عليّ. اسمع فقط نداء شهوة الجسد، جسدي والروح المعذبة التي تسكنه.

انطفأ كل شيء حين ضرب على المنبه بقوة وعصبية. أخرج رأسه من النافذة وأطلق شتيمة فاضحة، ابن ال.... ) . ضحكت. انتبه لي وقتها وقال: وين تنزلين؟ قلت: لا ادري. نظر إلي متأففا. سحب السيجارة السادسة من العلبة، أشعلها وأعاد سؤاله: وين تريدين أنزلك؟. سحب سيجارة، أشعلها وقدمها لي. اخذت نفسا عميقا ونفثت الدخان صوب وجهه.

مستعجل؟ قلت له وعينيَّ بعينيه. ماذا ستفهم من حياتك إذا كنت دائما وراء المقود، تتعامل يوميا مع أشكال مملة، تركض وراء البنزين والخراء؟ . ضحك وكأنه لم يكن هو، كأنه آفاق من البنج. ضرب بكفه على فخذي. قلت: أأعجبتك كلمة الخراء، اجابني من دون ان يلتفت: حياتنا كلها خراء بخراء، ضحك هذه المرة بحزن، وعيناه تلمعان، التفت لي ورمقني بنظرة زلزلت كياني. "المرأة وحدها من تعرف أي رجل امامها". قلت وزدت "علي أن ارفع شهوته الى الفول، أعلمه ما سر الجسد حين يعطي بشهوة، حين يهتز مثلما تهتز الارض من الرعد، أمطرْني ايها الخبل". سألني : متزوجة؟ ما الفرق قلت له من خلل الدخان. أعاد سؤاله: وين تروحين؟ الى النهاية.

كان الباص يقطع الطريق الخارجي بأقصى سرعة، لا يظهر في الافق سوى تلال وأرض قفر. "اريدك ان تبتعد الى اقصى بقعة منعزلة، لا اريد ان يسمعني أحد، وانا تحتك"، قلت له وانا انفث الدخان في الهواء. لامست بكفي رأس "الكير"، انتبه لي ووضع كفه على كفي، عصرها، مد كفه الى صدري، فرك الحلمة. ارتخيت وسرى الخدر الى بقية جسدي، وشعرت ببرودة وطراوة.

ــ لا تستعجل، ستهصر جسدي كله.

ـــ أنت جنية؟.

ـــ على مهلك.

ـــ مجنونة؟

ـــ لا تستعجل قلت لك .

ـــ من وين طلعتي من أي شق.

ـــ أنت نهم .

مددت كفي الامس شيئه البارز تحت الدشداشة. انتفض. وهو يلهث. تعرق وجهه. عيناه احمرتا مثل جمرتين لامستهما الريح. عبر نحوي، طرحني، صار فوقي، اختلطنا معا، أرتفع صوت لهاثنا، كان يسعل وكأن لم يبق في صدره دخان. كان الباص يهتز. يعلو ويهبط ، ثم ارتفع وهو يتقلب مثل ورقة لاعبتها الريح ، وبلعنا الدخان.