في بنية رواية تقليدية يرحل بنا الروائي المصري متتبعا حياة عائلة في مدينة "السويس" بموقعها الحيوي مصوراً تفاصيل حياة يومية لأكثر من جيل راصدا تحولات المكان والبشر في المدينة العاجة بالأحداث العاصفة مما يتيح للقارئ الرؤية والعيش في أزمنتها المنسية.

رواية العدد

فضاءات مدينة (رواية)

رضـا صالـح

 

1

وليس أحكم من حكمة القائل: "دع الأمور للمقادير" ففيها معقد مقام السلام، ومستقر أحوال الناس جميعا فوق الأرض (من الطاو)

عندما يتحرك القطار؛ تراه يتلوى؛ ثعبان هائل؛ تنين ينفث النار والدخان من جسده الأسود الضخم، يهز المدينة ويشقها شقا؛ معلنا عن مجيئه بصفارته المميزة التي توقظ الأهالي، يتماوج دخانه الأسود فى دفعات متتالية متصاعدة إلى عنان السماء؛ يتحرك بطريقه لولبية متجنبا الاصطدام بتلك المنازل " البغدادلى" المتهالكة؛ التي تصطف على الجانبين، تاركا إياها محروسة بعناية الله وعينه الساهرة.

هنا تجد خطوط السكك الحديدية، التى تصل المدينة بالقاهرة، وقد تخللت الطرق؛ وأكملت سيرها وسط الشوارع والميادين،وقد فصلت المدينة الى نصفين؛ كانت بداية إنشائها إبان حكم اسماعيل باشا؛ وتم استكمالها فى أواخر القرن التاسع عشر، أثناء التواجد البريطانى فى مصر.

فى أوائل القرن العشرين انتشرت تلك الخطوط طولا وعرضا، يصل أحدها إلى ضاحية بور توفيق جنوبا حيث الميناء الشهير، أما الآخر فيقطع المدينة عرضا إلى شركات البترول والأسمدة لينقل البضائع ومنتجات البترول المختلفة إلى القاهرة ومنها إلى باقي المحافظات.

---***---

أيام الحرب العالمية الثانية؛ كانت مصر مسرحا ضمن مسارحها العديدة على خارطة العالم؛ هاجر البعض من مدن القناة إلى شتى أنحاء الإقليم، رحلت عائلة أبى اليسر إلى القاهرة؛ لم تعد عليهم أوقات الغربة بالخسارة؛ بالعكس؛ فقد فاز أبو اليسر بشقة فى منطقة رائعة بوسط البلد، بمنزل رحيب بشارع فاروق المطل

على ميدان العتبة؛ كانت واسعة الحجرات، تمتلك ناصية بحرية؛ كما تشرف على شارع فسيح من جهة ومن الجهة الأخرى الداخلية كانت تواجه شقة الجيران.. استقبلهم الأهالى ورحبوا بهم أفضل ما يكون الترحيب. تعرف أبو اليسر على عدد من أهل الحى، كان يتقابل معهم فى المقهى، عرض عليه أحدهم أن يشاركه فى محل مخبز وحلوانى بالشارع العمومى، شارع فاروق، بعدها - على عكس ما توقع أبو اليسر - انتعشت تجارته؛ وأشرقت الدنيا فى وجهه؛ وتبسم له الحظ؛ ومضت الأيام فى هناء.

وصل ابنه ماجد أبو اليسر إلى أوج الشباب،كان قد تخرج من كتاب الشبخ عبد الظاهر،حافظا لاجزاء من كتاب الله؛ محبا لتلاوة القرآن،وسماعه،كما كان محبا للفن، يهوى الأدب، و حفظ أبيات كثيرة من الشعر الصوفى،والأشعار الوطنية، له ذوق فنى؛ نشأ محبا لصوت أم كلثوم وعبد الوهاب، كما يذكر فيلم الوردة البيضاء وغيرها من أفلام زمان، ويحب ليالى السمر؛ بمضى الأيام والسنين؛ تعرف الابن ماجد على بنت الجيران؛ لم يمض وقت طويل حتى تزوجها..

 

مع انتهاء الحرب؛ عام 1945 عمت الفرحة قلوب النازحين؛ انطلقت الزغاريد مع بشائر العودة إلى البلاد.. عاد الحاج أبو اليسر وعائلته إلى المدينة؛ مع ابنه ماجد الذى اصطحب زوجته، تركوا ذكرياتهم فى القاهرة؛ اكتملت مسيرة الحياة بحلوها ومرها، وخيرها وشرها.

فى تلك المدينة الساحلية الهادئة؛ اشترى أبو اليسر مخبزا؛ قام الابن ماجد بإدارته خير قيام.

***

2

من رأى الأمور فى مرايا اليسر

 

باغته العسر فى أنكد خبايا المقادير

 

فلذلك؛ ينظر العاقل مليا فى وجه الصعاب..

 

ثارت خلافات بين ماجد وزوجته؛ لم يتوقع منها مارآه، تعجب أشد العجب، سرى فى اعتقاده أن الزوجة،سوف تكون بالطبع على شاكلة أمه، تكون فى البيت ظلا ودفئا وأنسا، يبعث على الحياة،ويمنح للوجود إشراقا وتفاؤلا.. لم يتفقا تقريبا فى معظم أمور الحياة، حملت؛ وعانت فى شهور حملها من الوحم الذى كان عنيفا؛ لم يمر عام على زواجهما، حتى دبت بينهما مشاجرات علت فيها الأصوات،كان يحتفظ بأموال الجمعية التى بينه وبين بعض جيرانه من تجار الحى، بحث عن أموال الجمعية فلم يجدها، قال ماجد لأبيه:

لسانها طويل.. ويدها أطول من لسانها

كيف يابنى؟

أهانتنى وكسرت قفل الدولاب

يا بنى.. ربما يكون هذا ظنا منك

لا يا والدى.. ليس ظنا.. لقد أخذت فلوس الجمعية..عندما وبختها، صرخت وعلا صوتها وطلبت الطلاق.

يا بنى ياما تدق على الرأس طبول..

ماذا تعنى يا أبى؟

أقصد إنها حامل الآن؛ وعلى وشك الولادة..هل تدرى ما معنى حامل؟

إثر هذه المشاجرة الأخيرة؛ غادرت الزوجة إلى منزل أهلها بالقاهرة، لم تطاوعه نفسه بالذهاب لمصالحتها بالرغم من إلحاح والده عليه، كانت سرقة أموال الجمعية؛ و تطاولها عليه بألفاظ جارحة ولسان بذىء، يمثلان له خطا احمر لا يمكن تجاوزه؛ مهما كانت الأسباب.. بعد شهور كان " نادر" هو الطفل الأول لماجد من زوجته التى انفصلت عنه؛ واستقرت مع أهلها بالقاهرة.

عاش ماجد فى مدينته الساحلية، واستمرت سفينة الحياة؛ تعرف قلبه على الأحزان، يومها حدثته نفسه بأن الشر ربما كان أصيلا فى هذا العالم.

مرت أعوام كئيبة أساء فيها ماجد أبو اليسر الظن بالزواج؛ بل أساء الظن بصنف الحريم كله؛ كما يقول؛ وخشى أن تتكرر معه نفس التجربة السابقة، ولكنه - مع الأيام، بعد ثورة يوليو تزوج مرة أخرى؛ - عقب وفاة والدته - من إحدى العرائس عن طريق سيدة مشهورة فى مدينته الساحلية؛ كانت تعمل خاطبة؛ وتفتخر بأنها زوجت أعيان البلد؛ عندما كانت الخاطبة تتكلم أو تبتسم تبدو أسنانهاالذهبية اللامعة التى تعتز بها، كما تعودت أن تحرك يديها- وسط الكلام- بين الحين والآخر؛ لكى تظهر أساورها العديدة؛ إشارة إلى علو مكانتها فى المجتمع.

اكتملت سعادة ماجد أبو اليسر عندما رزقه الله بصادق ومؤمن وليلى،وقد ولدوا جميعا فى تلك المدينة الساحلية الجميلة.

***

3

فإذا السر تجلى؛

لاح طريق لا يطرقه السائرون؛

طريق؛ غير الطريق..

رجوع إلى المبتدأ؛

فكل طريق واصل

وكل خطو عابر؛

وكل درب بالغ

قصد المنى

فى طفولتهم؛ تعود السيد ماجد أن يحكى لأبنائه عما يدور فى الدنيا من أحداث يعرفها، كما يحكى لهم الطرائف التى عاصرها أو سمع بها، قص عليهم قصة التهجير الذى كان مصاحبا لحرب هتلر، وحكى لهم عن تلك الشقة الرحيبة التى كان يقطنها مع أسرته بشارع الجيش، وعرفهم أن اسم الشارع كان يسمى شارع الأمير فاروق؛ استأجر جدهم الشقة بمبلغ جنيهين ونصف، وكان سعرها مرتفعا فى هذه الأيام، قال السيد ماجد:

أيامها؛ جدتكم خاصمت جدكم لمدة أسبوعبن أو شهر تقريبا؛ بسبب ايجار الشقة الغالى، وكانت دائما تقول لجدكم بعتاب:

ومصروف البيت والأولاد؟

يرد عليها جدكم بأريحية:

ربنا موجود يابهية؛ يدبرها الكريم؛ ويبتسم، ويقوم ليخرج الى عمله حتى لا تطول "المناقرات" بينهما.

---***---

حكى السيد ماجد لهم عن قصة الجنديين المحكوم عليهما بالحبس، كان ماجد أيامها مجندا، فى نوبتجيته وقف حارسا على السجن، كان ينظر الي الحبيسين، أحيانا يرى أحدهما وهو يخرج رأسه من فتحة التهوية التى تشبة الكوة الصغيرة، كان ينظر الى أعلى؛ ويتعلق بصره بالسماء؛ يتأمل جمالها، ويبتسم؛ يظل محدقا فى ذلك الاتساع الرهيب والنجوم اللامعة كل مساء، ويتابع تلك السحب الرائعة تتهادى فى صمت مهيب، ينتظر القمر ويتابع صحوه وأفوله كل ليلة، ويزداد قلبه بهجة وطمأنينة.كان يدندن أحيانا ويقول:

دع الأيام تفعل ما تشاء.. وطب نفسا إذا حكم القضاء

ولا تجزع لحادثة الليالي.. فما لحوادث الدنيا بقاء (من أشعار الامام الشافعي)

أما الآخر، كان يشعر بانهيار، عندما يخرج رأسه من الكوة، لا ينظر إلا إلى الأرض، يركز نظره على طينها وقاذوراتها، ولا يسأم من ذكر المطامع و الظلم والقسوة والسرقة، يسب كل من حوله، ويلعن هذا العالم البغيض.

فى نوبة الحراسة كان ماجد يتعجب من الاختلاف الشديد فى طبع الرجلين، كان معجبا بالأول وتفاؤله، وقال لأبنائه:

لقد تعلمت منهما الكثير، بالرغم من أننى لم أكن أتكلم معهما كثيرا أو قليلا.

---***---

أما تلك القصة الحقيقية؛ فقد حدثت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة؛ فى بداية تشغيل المخبز، كان جدهم الحاج أبو اليسر يحتاج إلى عمال؛ فضل أن يأتى بهم من بلدته بالشرقية، تصادف أن حضر ثلاثة من الفلاحين؛ قدموا من إحدى القرى التابعة لمركز منيا القمح - لأول مرة - الى المدينة؛ استقلوا أحد التاكسيات القديمة بصحبة أحد أقربائهم، كان السائق يتوقف بعد كل مسافة عند أقرب عمار، لكى يملأ القربة بالماء، استمر السير لساعات طوال؛ وعند اقترابهم من المدينة، دخل بهم من طريق الزيتيات، المؤدى إلى مصنع تكرير البترول الحكومى، وشركة شل المصرية الانجليزية ليمتد، والمدرسة البحرية؛ والقزق القديم، حيث صيانة وإنشاء اللانشات وقوارب الصيد واليخوت؛ بالقرب من كازينوالبوريفاج وشاطىء وكازينو ركس.

كلما اقتربت السيارة من العمران؛ اتجهت أنظارهم، وتدلت رؤوسهم وأجزاء من أكتافهم خارج نوافذ السيارة، كانوا يبحلقون؛ لم يسبق لهم التجول كثيرا على الطرق الإسفلتية؛ فما بالك بما يطالعهم من منطقة عامرة بالمصانع؟ وهم بالطواقى الصوف والجلابيب، و أعينهم تدور لمشاهدة ما حولهم ومتابعة المناظر التى يرونها للمرة الأولى فى حياتهم، كلما اقتربت السيارة التى تقلهم من مصنع تكرير البترول، ظهرت فى الأفق مداخن مرتفعة، و لم يكن السائق يعرف شيئا عن المدينة، اقتربت الشعلة الخاصة بالشركة من مرمى البصر، فجأة صاح أحدهم:

- وّقف هنا يا أسطى!!

اقترب السائق من بوابة حديدية ضخمة، نزل الرجال من السيارة مسرعين؛ خرج من حجرة البوابة رجل نوبى ضخم،وقد بانت على وجهه علامات الضجر؛ سألهم:

- أى خدمة؟

رد أحدهم متسائلا:

- هنا فرن الحاج أبو اليسر؟

تبسم الرجل مستنكرا وقال:

- فرن أبو اليسر؟

  • أيوه..

رد الخفير الأسمر متأففا:

  • لا موش هنا فرن أبو اليسر!

تساءل الرجل وهو ينظر الى المدخنة المرتفعة والتي يخرج منها اللهب النارى المستديم؛ الخاص بالشركة:

  • أمال دى مدخنة ايه؟
  • دى مدخنة الشركة
  • شركة.. شركة إيه؟
  • شركة البترول.. شركة شل..
  • أمال فين فرن الحاج أبو اليسر؟

حك الخفير الأسمر فى جبهته قليلا؛ وقدالتمعت بشرته مع انعكاس ضوء الشمس عليها، قال:

  • ياحبيبى أدخل المدينة الأول؛ واسأل هناك...

---***---

4

قيل قديما:

" طوبى لمن وجد مع الظلم انتصافا؛

وفى طى الاعوجاج مديد استقامة؛

ويا حظ من تجدد مع قديم الاهتراء".

دأب الحاج ماجد - منذ زمن- على زيارة ابنه نادر بالحلمية بمدينة القاهرة؛ بالرغم من عدم اهتمام أمه به كما يجب، كان ماجد يقول عنها:

ست مهملة سايبة ابنها فى الشارع طول النهار..

إلا أن العند يورث الكفر كما يقال، فى كل مرة كان يلقى رهقا، سكت أخيرا عن محاولاته، حتى تنتهى حضانة والدته له؛ ليشرع فى ضمه إليه فيما بعد؛ ووكل أمره إلى الله..

بعدها جرفه سيل الحياة؛ و انشغل بعائلته الجديدة؛ سعد قلبه بأبنائه، كما انشغل أيضا بعمله الذى ظل محافظا عليه - بالرغم من العنت الذى يصادفه من الجهات المختلفة - ليستمر فى نماء وازدهار.

السنوات التى نشأ فيها نادر ماجد أبو اليسر؛ بعيدا عن أبيه؛ وسط أقرانه فى حى الحلمية الجديدة بالسيدة زينب؛ فى بيت أمه؛ تلك السنوات بالرغم من كونها أصقلت الفتى، إلا أنها جعلته ينمو كنبات برى لم يلق من الرعاية سوى أدناها، تزوجت أمه من نجار كان يظل مشغولا حتى المساء فى ورشة الاخشاب التى يعمل بها، انجبت منه خمسة: ثلاثة أولاد وبنتين، انشغلت برعاية زوجها وأبناءها الجدد؛ عمل نادر كخادم لهذه العائلة، لم يشعر يوما أنه فرد منهم.

أحيانا يهجم عليه زوج أمه لينهره بغلظة على خطأ بسيط ارتكبه أو ربما لظنه أنه أخطأ، أو لمجرد الردع بدون أى خطأ؛ دأب على معاملته بعنف؛ وربما يخيفه بشاكوش أو أى قطعة من العدة التى فى يده،لأنه أخفق فى تعلم الصنعة، وكان يسميه:

الولد الفاشل..

كانت سلسلة الإحباطات اليومية كفيلة بأن تخلق منه شخصا أنانيا؛ لا مبال،لا يهمه سوى نوازعه الشخصية ولا يعبأ سوى بشهواته؛لا يشعر إلا بنفسه ولا يعطى أى التفات لشكوى ومعاناة وآلام الآخرين.

شب نادر وترعرع فى القاهرة، حصل على الشهادة الإعدادية بعد رسوب عدة سنوات؛ غادر المدرسة الصناعية التى التحق بها غير آسف عليها؛ مكث فترة متنقلا بين وظائف دنيا، لم يفز نادر إلا بقسط ضئيل من حنان الأمومة، فلم يكن زوجها يطيقه؛ خصوصا بعدما كبر ودخل فى مراحل الشباب.. قبيل حرب 1967

دفعته أمه للسفر الى مدينة السويس؛ قائلة له:

- روح اشتغل هناك، أبوك أولى بك..

لاقت هذه الرغبة موافقة من زوج أبيه الذى ساعده على السفر، وقال له:

هناك سوف تقابل الريس تهامى؛ صديق الطفولة؛ سيسافر معك ابن أخته؛ ليلحقه خاله بالعمل هناك.. ربما يجد عملا لك أنت ايضا؛ أنا أعرف إن البلد فيها شغل كثير وخير كثير.

وأعطاه العنوان.

كانت معه حقيبة صغيرة وضعت له أمه فيها بعض الملابس و الغيارات الداخلية، ولم تنس أن تجهز له بعض السندويتشات التى حشرتها وسط الملابس حشرا.؛غادر الفتيان إلى المدينة الساحلية فى قطار الفجر.

---***---

فى المدينة، توقف القطار بمحطة الأربعين، نصح زميله أن ينتظر للنزول فى محطة السويس؛ فى محطة السويس شاهدا موقف الحناطير؛ لوكاندة مارينا بالاس، مبنى التلغراف الانجليزى وفندق بلير العتيق؛ و شارع النمسا وقهوة رواش ومحلات ومطاعم سان جيمس وغيرها؛ وفنادق ولوكاندات كثيرة سمعوا عنها من ذويهم فى سنوات الهجرة مثل " لوكاندة مصر" وفندق " خليج السويس" وفندق" مكة" وغيرها.

استأجرا حجرة بأحد اللوكاندات الفقيرة؛ وقضيا فيها ليلة واحدة.

---***---

فى اليوم التالى اصطحبه زميله إلى فندق بلير، طلب نادر من موظف الاستقبال مقابلة الريس تهامى الذى سمع عنه حكايات كالأساطير، وجههما النادل لينتظرا فى البهو.

فى جلستهما، ألقى الشابان نظرات حولهما، لم يكن هناك سوى سيدة طاعنة فى السن تجلس على فوتيه خلفهما؛ بعد قليل شاهدا رجلا يهبط درج الفندق متجها اليهما، كان طويلا، يرتدى بنطالا أبيض وجاكت قصير الكم، يضع على عينيه نظارة شمسية يلتمع زجاجها ويعكس الصور عليه، خلعها عندما اقترب منهما.

رحب بهما الرجل، قدم نفسه لهما جلس الثلاثة على إحدى الموائد بصالة الطعام المجاورة لبهو الفندق، استغرقهم الحوار فى الشغل وفرص العمل المتاحة، نصحهما التهامى أن يعملا فى البحر وأن ينتهزا فرصة للعمل بالميناء

قال لهما:

ذهب..ياقوت..ألماظ.

قال نادر متحيرا:

- أين؟

- فى الميناء...

حضر النادل؛ طلب منه التهامى ان يجهز الغداء.

أخذ النادل يتردد على المائدة واضعا أمامهم مالذ وطاب...

كانت عينا نادر تلتمعان ببريق خاص كلما اعتمرت المائدة بطبق من السلاطة أو الثوبيا أو الجمبرى الذى كان يسمع عنه فى منزل زوج أمه..جرى ريقه وانفتحت شهيته؛ شعر فى هذه اللحظة؛ كأنما مر عليه دهر دون أن يتذوق الطعام أو يراه.

---***---

توجه الثلاثة الى ضاحية بور توفيق؛ حيث عرفهما التهامى بأحد أصدقائه الذى كان يعمل مستخلصا للبضائع بالميناء، انتابت نادر مشاعر جديدة وغريبة، أحس كأنما يولد من جديد؛ فى كل صباح تنفد الى أعماقه أحداث جديدة وتجارب جديدة، وكأنما خرج من سجن أو قمقم ظل حبيسا فيه سنوات، مع الأيام تأكد له هذا الإحساس، عندما يوجد بالعمل كان يلقى نظرة على البواخر الضخمة، وعلى الميناء والاتساع من حوله؛ يسرح بخياله مع هذا الجو الجديد بعجائبه؛ محاولا أن يصل الى ماوراء البحر؛ راوده سرور خفى لاكتشافه حياة أخرى غير التى تعود عليها؛ جعله ينقم على أيام عمره الضائعة، لم يكن يصدق أنه كان يعيش وسط تلك الأسرة - مع زوج أمه العنيف، وأمه التى انشغلت عنه تماما بحياتها الجديدة - كل تلك السنوات.

فكر أكثر من مرة أن يذهب لزيارة والده..كان دائما يتردد ولكن زميله شجعه على زيارة أبيه،احتفظ بالعنوان مكتوبا فى ورقة صغيرة استخرجها من محفظته التى يضع فيها بطاقته وفلوسه؛ وقد أضاف اليهما- فيما بعد- تصريحا بدخول الميناء.

انقضت أسابيع قليلة على تواجدهما بالمدينة؛ وفى أحدى أمسيات الربيع، قبيل الحرب، اصطحب نادر زميله وذهبا سويا؛ ليبحثا عن منزل والده الحاج ماجد أبو اليسر.

---***---

5

و اعلم أن من لطائف التدبير

أن تعانى فى مبتدأ الأمر؛ مشقة الأحوال..

حتى يصير زمام الأمور

وتكمل لك منازل الفائزين

فى ذلك اليوم الحزين؛ يوم النكسة؛ كان "صادق ماجد أبو اليسر " على عتبات البلوغ فى المرحلة الاعدادية؛؛ عندما شاهد تجمعا بشريا حول الاذاعة المحلية،التى انتشرت فى ذلك الوقت فى الميادين العامة؛ أمام مبنى الاطفاء وقف مع الواقفين، كانت شمس الظهيرة مبهرة؛ يتخلل ضوؤها جنبات المدينة واطرافها، سمع المذيع يقول: " اننا على عتبات تل أبيب ياعرب "؛ عاد مسرعا الى بيته ليخبر أهله، وهبط - ومعه أخوه مؤمن- ليكونا معا بالقرب من ميكروفون الاذاعة المحلية المعّلق بأعلى ناصية وحدة الاطفاء؛ هنا تجمهر الناس ليستمعوا ويستمتعوا بأنباء النصر، كلما نطق المذيع عبارة هلل الحاضرون وصفقوا وهم يتابعون بشغف أعداد الطائرات التى أسقطناها " ثمانون طائرة ".." اثنان وثمانون طائرة ياعرب ".

بعد قليل سمع البعض يقولون كلاما ويتهامسون، قبل أن يتفرقوا..

بعد يومين تقريبا، اتجهت أعداد من الناس الى ميدان المحطة؛ سار معهم صادق؛ كان مدفوعا بحب الاستطلاع.

فى محطة قطار المدينة؛ يبدو ذلك المبنى الكلاسيكى؛ بسقفه المائل؛ المغطى بالقرميد؛ يالقرب منه، وفوق شريط القطار يوجد كوبرى مشاة حديدى قديم؛ يصل جانبى المدينة؛ الشرقى والغربى، تتناثر على الجانبين محلات ومبان عريقة؛ معظمها من الخشب، تسمى المساكن البغدادلى، يرجع معظمها الى أوائل القرن التاسع عشر والبعض تم انشاؤه أيام الاحتلال الانجليزى

بالجانب الشرقى حيث شارع وميدان النمسا، وموقف سيارت الأجرة والحناطير،يتوسط الميدان مبنى مكتب الصحة العتيق؛ على الناصية – بالجانب الغربى من المدينة- يوجد بازار الهندى وبالقرب منه مطعم رواش؛ كما يوجد؛ بالشارع الموازى – شارع التحرير- فندق مصر بالاس؛ حيث يوجد بأسفله بنك مصر؛ وأمامه على الناصية المقابلة فندق بلير العتيق.

هناك؛ رأى بعض الجنود العائدين من الميدان بثياب رثة ممزقة، كانت أعداد كبيرة منهم تتوشح باللون الأبيض؛ الماثل فى قطع القطن والشاش التى كانت تكسو أجزاء من أجسادهم، ربما تميز به الجميع تقريبا، ظلت أشكالهم البائسة عالقة فى ذهنه وقتها كان يمرق من مراحل الصبا؛ ليطل على أوائل الشباب، كان ذلك اللون الأبيض الذى رآه على أجسادهم؛ مؤثرا بحق؛ وقد التف على ساق أو قدم فى شكل جبيرة،أو مكونا غلافا سميكا من الجبس؛ وقد ربط ذراعا أو ساقا مكسورة لأحد الجنود الفائزين بنعمة الحياة، بعد أن رأى الموت بعينيه، تمثل اللون الأبيض أيضا فى رباط تدلى من رقبة أحدهم ليحمل ذراعه المصابة، وقد أخذته الدهشة لوجوده هنا بهذه المدينة..رأى البعض فى موقف الحيرة يزحفون ويجرجرون أقدامهم المتورمة عند النواصى...كانوا يكثرون الوقوف والتردد... لم تكن لأحد منهم وجهة بعينها،على وجوههم إعياء شديد؛ اتسخت ملابسهم وبهت لونها؛ أصابهم نوع من الغيبوبة أو فقدان القدرة على الالتحام مع العالم الخارجى...أصيبت نفوس معظمهم بصدمات لا حد لها، صناديق متحركة ببطء تحوى قصصا من أغرب؛ بل وأشرس ما فى الحياة من مهازل.. فى العراء تحت شمس سيناء بمساحاتها الشاسعة المكشوفة المترامية بكثبانها الرملية ورمالها الصفراء،وجبالها المتعددة الألوان؛ فى وضح النهار؛ وأثناء الليل أيضا جرت أحداث تلك المأساة... لم يكن انتقام الجيش الاسرائيلى انتقاما رجوليا، ولم يكن أسلوب الحرب آدميا، كان سلوكا- كما عرف فيما بعد - بعيدا كل البعد عن قوانين البشر..بعيدا عن قوانبن الأمم المتحدة و المعاهدات الدولية أو أى منظمة إنسانية أخرى، كان الانتقام دمويا، ظهر ذلك جليا فى تلك النفوس المنكسرة التى عادت تحمل أثقالا، أثقال الرغبة فى الانتقام من تلك الطرق الهمجية التى أتبعت معهم،اقترب صادق من ثلاثة كانوا يتحدثون سويا، قال أحدهم بصوت ضعيف:

من الحفرة التى كنت فيها؛ رأيت مجموعة من الجنود والضباط المصريين الأسرى تخّفى بعض الضباط فى لبس الجنود، وبدأ الجنود الإسرائيليون بربط أيديهم، وألقوهم على وجوههم على الرمال فى عز الحر؛ اصطفوا أمام دبابة سانتوريون إسرائيلية،، بعدها اختفيت فى الحفرة التى كنت أراقبهم منها عن بعد، ولم أستطع ان أفتح عينى فقط سمعت أصوات صرخاتهم تدوى فى السماء وقد اختلطت بقرقعة عظامهم وهى تتفتت،؛ تحت جنازير وعجلات الدبابة.جسمى قشعر وفقدت الوعى ".

رد الآخر بصوت واهن:

ريقى ناشف..

فى الحال أسرع صادق إلى مقهى مجاور وأتى بزجاجات ماء، ليسقى الجنود.

---***---

كلما سمع أصوات انفجارات أو مدافع؛ تعود صادق أن يصعد خلسة إلى سطح المنزل ليشاهد مايحدث حوله فى الفضاء، كان يرفع وجهه الى السماء،ويتجه ببصره ناحية طائرة أو مجموعة طائرات، بالنهار يعرف وجود طائرات مغيرة من أصوات المدافع المضادة؛ والتى تصدر صوتا يشبه " الكركرة"؛ أو كما يقول الحاج ماجد " الزغاريد"؛ كان صوت الزغايد يستمر وراء الطائرة حتى تختفى؛ وأحيانا يسمع صوتا مفاجئا بوووم!!! مرة واحدة أو عدة مرات، فى المساء كان يصعد الى السطح ليرى الفضاء الشاسع وقد تحول فى لحظات الى بانوراما من الألوان المختلطة المفاجئة؛ والتى تترى نحو هدف واحد فى السماء محدثة خيطا متقطعا من النيران مع الأصوات المميزة للطلقات المضادة للطائرات.

كان يتعجب من الحرب؛ ولا يشعر مطلقا بالخوف، دائما يشعر أنه فى حماية الله؛ كان يوما مشهودا عندما أضاءت المدينة بالليل،من سطح منزله كان يوجه بصره تجاه ألسنة اللهب المتصاعدة من ناحية شركات البترول، سأل والده، تأكد له أن قذائف الغدر أصابت صهاريج الزيت فى عقر دارها.. يالله؟؟

وهل لا نستطيع أن ندافع عنها با أبى؟

ربنا موجود ياصادق؛ حاول أن تهتم بدروسك الآن.

لم يستطع النوم هذه الليلة،فى الصباح ارتدى ملابسه مسرعا وتوجه الى أبيه قائلا:

سوف أخرج يا أبى

إلى أين؟

أذهب مع مؤمن لنرى ما حدث..

لا تتأخرا

مشى الأخوان جوار نادى السويس الرياضى، بالقرب منه توجد مستشفى الأمراض الصدرية،على الجهة المقابلة، وعلى بعد خطوات توجد مستشفى السويس العام ومستشفى الحميات.

فى الطريق، بالقرب من أرض الملاحة، وجدا قطعة اسطوانية من الحديد؛ أثارت انتباههما، مد صادق يده ليلتقطها، انفجرت فجأة، لا إراديا انبطح الأخان أرضا، رأى مؤمن خيطا من الدم يفور من مكان الإصابة، كانت بأعلى الساق اليمنى؛ لم يشعر صادق بألم، فى الحال خلع مؤمن قميصه وضمد به الجرح ليوقف الدماء، ساند أخاه حتى وصلا إلى المستشفى التي كانت قريبة منهما.

فى المستشفى فرح الطبيب لوصول الحالة مبكرا..قال لهم منذرا:

الحمد لله جاء فى وقته؛ وإلا؟؟

وإلا ماذا؟ تساءل الحاج ماجد الذى حضر مهرولا..

والا كنا سنضطر إلى بتر هذه الساق

أشاح ماجد وجهه حزنا وكمدا، وهمس:

الحمد لله...الحمد لله...

---***---

إثر حرب الأيام الستة وقبيل أفول نجم الزعيم جمال عبد الناصر؛ فى هذا الوقت العصيب؛ كان التهجير هو الحل الأمثل الذى ارتأته القيادة السياسية حتى تفرغ المدن للحرب..

مرت الليالى والأيام متخاذلة؛ ومتباطئة؛ حتى تأكد لدي الأهالى أن جنود إسرائيل مستمرون فى تواجدهم هنا بالقرب منهم- على الضفة الشرقية للقناة – كما يبدو أنهم لن يتزحزحوا بسهولة؛ فى البداية أصر السيد ماجد أبو اليسر على عدم المغادرة، لم يتخيل أن يترك مدينته ومصالحه، ويذهب الى حيث يعلم الله، كادت المدينة تخلو من البشر، لم يعد هناك سوى أصوات القطط والكلاب وزقزقة الطيور الصباحية، كان ينظر بين حين وآخر من أعلى سطح المنزل؛ يتحسر وهو لا يرى سوى الخواء؛ على البعد لم ير سفينة واحدة تعبر كما كان من قبل؛ قال لابنه صادق؛ وهو ينظر فى الأفق البعيد:

إنهم يروننا ويراقبوننا ليل نهار، فهم بالقرب منا؛ لا أتصور كيف يحدث هذا؟ كانت سيناء محرمة علينا من قادتنا لا توجد بها قوات مصرية وخطوط دفاع كما يجب، الآن صارت محرمة علينا وعلى قادتنا أيضا.

---***---

بعد أقل من شهرين تماثل صادق للشفاء، الا أن الاصابة كانت فى عمق مفصل الفخذ؛ عندما يمشى؛ كان يستند الى ساقه السليمة، وقد بدا عليه عرج خفيف ظاهر، تميزت به مشيته. واستمر معه بعد ذلك طيلة حياته.

بعد هذا الحادث، قرر الحاج ماجد أن يغادر المدينة مسرعا، خاصة بعدما تأكد أنه لا أمل من انتهاء هذا الوضع العسكرى؛ وأن الحرب ربما تطول إلى أسابيع أوشهور عديدة لا يعلم مداها الا الله...، اصطحب معه والده الريس أبو اليسر،وهاجر الجميع بعد أن صارت المدينة شبه خالية،لا يسمع فى جنباتها الا نباح الكلاب الضالة، وصياح الغربان و زقزقة العصافيرالتى دأبت عليها كلما انبلج صبح أو هبط مساء. أحس بحزن جاثم على صدره، من الهزيمة والهجرة وإصابة ابنه؛ تلك الاصابة التى حمد الله أنه مازال بعدها يعيش وسطهم حيا يرزق.

---***---

6

لا يستوي للجليل عود أخضر، إلا كان الذل منبت جذوره.
ولا يرتفع للعالي ارتفاع،
إلا بانحطاط أسفله الخفيض..

أثناء وجوده بمدينة بنى سويف؛ داخل ساحة شباب المدينة، بمعسكر المهجرين، كان الحاج ماجد يشعر بالأسى والأسف، أحيانا يداهمه شعور بغيض بالذل والاضطراب؛ تم استدعاء ابنه نادر للخدمة العسكرية، لم يدر وقتئذ أنه سيمكث فيها أكثر من ست سنوات، لم يتردد خلالها نادر علي أهله سوى مرات تعد على أصابع اليد...

فى جلسته؛ كان الحاج ماجد يديم النظر فى المصحف الذى يحتفظ به إلى جواره، يقرأ أحيانا بصوت مسموع، كان محبا للأصوات الشجية، كما كان يداوم على سماع القرآن الكريم، أحيانا يردد – وهو جالس بدون عمل - مقاطع من أغانى أولاد الأرض، كانت تعجبه هذه الأشعار التى ظل يرددها كثيرا:

وعضم اخواتنا.. نلمه نلمه

نسنه نسنه، ونعمل منه..مدافع...وندافع..

ونجيب النصر...هدية لمصر..

قرأ من مجلة يحتفظ بها ويداوم على شرائها أبيات من أشعار أمل دنقل:
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دعيت للميدان
أنا الذي ما ذقت لحم الضان
أنا الذي لا حول لي أو شأن
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان
أدعي الي الموت ولم أدع الي المجالسة
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي تكلمي
فها أنا علي التراب سائل دمي
وهو ظمئ يطلب المزيدا
أسائل الصمت الذي يخنقني
ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلا يحملن أم حديدا!..

وأحيانا يدندن بأغانى فؤاد نجم، ضبطه ابنه صادق وهو يقول:

خدوا اليهود غزه وسينا..

وبكرة يبقوا وسطينا

والراديوهات بتغدينا

خطب؛ ونتعشى أشعار

---
الحمد الله خبطنا
تحت بطاطنا
يا محلا رجعة ظباطنا
من خط النار
يا أهل مصر المحمية
بالحراميه
الفول كتير والطعميه
والبر عمار
والعيشه معدن واهي ماشيه
آخر أشيا
مادام جنابه والحاشيه
بكروش وكتار
ح تقول لي سينا وما سيناشى
ماتدوشناشي
ما ستميت أوتوبيس ماشي
شاحنين أنفار
ايه يعني لما يموت مليون؟
أو كل الكون!
العمر أصلا مش مضمون
والناس أعمار..
ايه يعني في العقبه جرينا
ولا ف سينا
هي الهزيمه تنسينا
اننا أحرار؟!..

---***---

لم تكن الحياة داخل المعسكر مواتية، كان الكثير من المشاكل والقلاقل يحدث إثر الاحتكاكات اليومية التى يسببها الزحام، الزحام فى كل شىء،اختلط الحابل بالنابل كما كان الحاج ماجد يقول؛ لم تعد هناك أسرار للبيوت والعائلات، بل لم تعد هناك عائلات، اختلطت الأصوات الكل يعرف أسرار الكل، هانت أشياء كثيرة واهينت كرامات الناس، ترعرعت الوضاعة وانتشرت أخلاق الزحام كما كانوا يقولون، فقد الناس هدفهم، تدنت الأمانى والاحلام، صار الناس يتمنون قضاء يومهم بلا منازعات، وأقصى أمانيهم أن يحصلوا على وجبة عشاء بعد أن تسقط الشمس وراء الأفق، كان صعبا أو ربما كان مستحيلا على الزوج أن يقترب من زوجته؛ اللهم الا إذا تنازل عن مزيد من الاحساس وتخلى عن كثير من المبادىء،كان الناس يحيون كالهوام، كالدواب؛ أو هم أدنى، الكل يتمنى النجاة؛ فقط النجاة بالبدن.

أصيب الجد أبو اليسر بنوبات من الربو الشعبى، وتوفى فى أحدى الامسيات؛ فى اليوم التالى، مع الفجر أخذت العائلة والمشيعون باخرة نيلية، ركب فيها الجميع مع الجثة حيث توجهت بهم إلى الضفة الشرقية من النهر حيث تتوزع المنامات يشرف عليها قرص الشمس الذهبى البازغ كل صباح، على الأفق تنتشر مجموعة من الأكام الرملية تتخللها مروج توجد بها شجيرات الصبار، تم دفنه وعادوا فى نفس الباخرة.

***

لم يكن هناك وقت للحزن؛ تطلع الحاج ماجد إلى حياة آدمية؛ كان معه مبلغ؛ هو حصيلة ما ادخره؛ فى الحال بحث عن شقة بالمدينة، وجدها بشارع بياتريس لومومبا.. انتقلت اليها العائلة؛حيث وأعجب الحاج ماجد بذلك الحى الهادىء وبشجرة الليمون التى تتصدر مدخل البيت.

فى شقته الجديدة؛ استأنف الحاج ماجد جلساته الصباحية كالمعتاد؛ الى جواره الراديو الترانزستور، والمصحف؛ وكتاب آخر أو اثنين، بالإضافة الى بعض المجلات، وجريدة " الاهرام "اليومية التى تعود على شراءها.. يبدأ السيد ماجد بتلاوة القرآن، ويتصفح الجريدة، سعد بسماع ابنه صادق للشعر وتقبله له، فى هذا الصباح نادى عليه؛ قبل الافطار قال له:

اسمع القنبلة..

رد صادق باستغراب:

قنبلة؟

أيوه..اسمع عمك نزار بيقول إيه..

حيقول إيه ياوالدى؟

بيقول:

اذا خسرنا الحرب.. لا غرابة!!
لأننا ندخلها..

بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابه
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابه!
لأننا ندخلها..
بمنطق الطبلة والرباب
ة..

---***---

7

قد عصفت العواصف؛

فلم تلبث غير برهة؛

وأرعدت الرعود

فما سطعت إلا طرفة عين

أما عرفت أنها فطرة الوجود..

وطبع الموجودات فى أنحاء السماوات والارض

أما تجلت لناظريك منها شواهد العجز عن الثبات؟

مرت الأيام فى التهجير متباطئة، تخاذلت لحظاتها وانكسرت ساعاتها؛ حتى أصاب الناس سهام اليأس المرير، لم تفلح ثورة الطلبة ولم يجدوا فائدة أو تغيرا يذكر؛ ظلت الأوضاع راكدة كما هى، الكل هائم فى الضياع واللاجدوى؛ انقضى عام الضباب ولم يؤت ثماره المرجوة.

***

عقب وفاة الجد أبو اليسر عام 1972 التحق صادق بكلية الهندسة؛ كانت بهجة أبيه غامرة، أترع قلبه بالفرح؛ وفى العام التالى مباشرة؛ نشبت حرب اكتوبر؛ وتم العبور الذى لم يكن يتوقعه أحد؛ أحس ماجد أبو اليسر أنه ولد من جديد، رأى شكلا آخر للدنيا من حوله؛اكتسى البشر والطيور والحيوانات و الحوائط والماء والهواء بطعم ولون جديدين؛ تغيرت صور الناس وازداد حبه واقباله عليهم، خرج من قوقعته اليومية؛ غادر محبسه الاختيارى التى كان مغلفا باليأس والاحباط؛ على الجملة تغيرت صور المرئيات من حوله؛ صار كالمحب الذى عثر على حبيبته فجأة بعد طول يأس وعذاب؛؛كما احس بطعم مغاير للحياة، كانما انتهى الى غير رجعة ذلك الطعم المرير الذى كان يحس به فى حلقه ويسم بدنه ويجعله ينهى طعامه بمجرد ازدراده لقمتين فقط يسد بهما رمقه، أداء واجب ليس إلا..

خرج الحاج ماجد من حجرته وهو يحمل الراديو فى يده، وقد توّرد ثغره بابتسامة عريضة..

معقولة؟!عبرنا القنال؟

كانت كلمات الحاج ماجد تخرج من فمه ممزوجة بالسكر والعنبر، دار بالشقة قابضا بيده على الراديو الترانزيستور الذى تعود ألا يفارقه؛ ولج المطبخ حيث تقف أم صادق..

ياأم صادق...

نعم ياحاج؟

خلاص الفرج قّرّب..

***

أصابت شرارة اليأس أعدادا كبيرة من المهجرين، وساد الاعتقاد - عند البعض- أن كلمة عام الضباب التى قالها السادات تعنى أنه ينوى التنصل من الحرب، لم يتخيل معظم الأهالي أن عودتهم إلى بلادهم وممتلكاتهم وأماكن طفولتهم وذكريات الصبا والشباب ستكون- بتلك البساطة - أثناء حياتهم، تجسد الحلم عندما فوجئوا بالرجل؛ وقد اتخذ قرار حرب اكتوبر، تلاها بعد ذلك مشاكل الثغرة ومحادثات الكيلو 101، ثم وقع قرارا بعودة المهجرين، وفتح قناة السويس للملاحة.

عقب انتهاء الحرب؛ لم تكن الأحول ممهدة تماما للعودة والاستقرار بمدن القناة، بالرغم من المخاطر المحيطة، فقد حدث ما كان الاهالى يتمنون؛ نشرت الصحف بيانات عن قرب عودة المهجرين، من يومها لم تغادر الابتسامة وجه الحاج ماجد؛كثر تبادل الزيارات، وامتلأ البيت بالضيوف؛ واستعد الناس للرحيل.. ذلك القرار القيادى جعل أعدادا كبيرة من الناس يهرولون من أجل العودة؛ حبا فى المدينة وفى التاريخ؛ فى الصورالعالقة بمرآة الروح للميادين والأشياء الصغيرة والذكريات، للشوارع والطرقات... لهذه البانوراما التى كانت تمثل الحياة، الحياة التى تم انتزاعهم منها انتزاعا..

***

تعطش الأهالى للعودة الى بلادهم باية وسيلة؛ سارعوا الى اعتلاء السيارات و القطارات واللوريات والشاحنات، لتعود بهم مرة ثانية إلى بلادهم، مثلما خرجت بهم من ديارهم من قبل.

أعداد كبيرة اشرأبت أعناقها لقرارالعودة، منهم من ترك خلفه ذكريات وأقارب وأحباب؛ كانت أرواحهم مترعة بالفرحة قلوبهم حبلى بأحلام وآمال رائعة لاسترجاع الماضي، واستلهام الكيان المفقود، والعودة إلى الاستقرار؛ والرغبة فى استرداد ذلك الإحساس الفطرى - عند الكثير- بالآدمية الضائعة. ومهما يكن من دمار رآه الناس بأعينهم و عاشوا لحظاته؛ إلا أنهم مازالوا يذكرون جهادهم فى تلك الأيام؛ كالتلميذ الذى لا ينس مثابرته على المذاكرة وتحصيل الدروس، يذكر ذلك بفرحة رغم التعب والمجهود الذى بذله من أجل الحصول على الشهادة التى نالها، وان لم يكن متفوقا فيها.

مع إطلالة البيوت والشوارع والحواري والأزقة؛ كانت تراودهم أحلام العودة إلى الصداقات والتجارة، والمكاسب والأنشطة القديمة؛ أعداد كبيرة من الصيادين اشتعل حنينهم إلى ذكريات العمل والغياب لأيام وأسابيع فى البحر.

قامت الدولة بتوفير خطوط مواصلات مجانية لعودة المهجرين؛ عاد معظمهم - حاملين معهم ما تيسر من العفش - إلى مدينتهم الغالية؛ فرحين مهللين، مما أزاح نهائيا موضوع الاستعانة ببيوت الخبرة الأجنبية عن كاهل الدولة.. آخرون ارتبطوا بأماكن هجرتهم بعد أن تزوجوا واستقروا فى أعمالهم؛ كما ارتبط أبناؤهم بأماكن الدراسة...

عادت عائلة أبو اليسر- ضمن من عادوا – كان الأب ماجد أبو اليسر دائما يحكى لأبنائه ليعرفوا؛ أن هذه الهجرة التى عادوا منها لم تكن هى الأولى، فقد سبق أن هاجروا من قبل، كانت المرة الأولى أيام حرب هتلر كما حكى لهم، أيام الشباب والفرحة كما يقول..

---***---

تقابل الحاج ماجد مع جاره الريس جمال بحي الأربعين، وقف الرجلان سويا؛ كانا يمزجان أحلام المستقبل، بذكريات التهجير المتضاربة؛ لعبت المعاناة فيها دورا أصيلا اختلفت درجاته باختلاف حظوظهم، البعض كان يعانى أشد المعاناه؛ معظمهم ممن لا يملكون وظيفة حكومية أو يعمل فى شركة من شركات القطاع العام، وقعت أعداد كبيرة فى بئر الإهمال ولم يسأل عنهم أحد،، قال ماجد أبو اليسر:

- شيء عجيب يا ريس جمال؛ أنا حتى الآن غير مصدق أننا رجعنا بلدنا بعد غيبة حوالى سبع سنين!

قال الريس جمال:

- سبع سنين عجاف ياحاج!

تنهد الحاج ماجد قائلا:

- ودين النبى؛ السادات رجل ممتاز.. أنا أحبه من زمان.. لله فى لله!

رد الريس جمال:

- ومن سمعك ياحاج... حرب 73 كانت مفاجأة للكل!

- كنا يأسنا من دخول حرب؛ ولكن بعد ما تأكدنا انها حقيقة، تغيرت أحوالنا، وبدأنا نتحرك..

قال الريس جمال بثقة:

- السنه دى 75؛ والجرايد بتتكلم عن الاستعانة ببيت من بيوت الخبرة الأجنبية فى تخطيط المدن وإعادة تعميرها، عشان مدن القناة.

- الريس تكلم عن الموضوع ده فى الخطبة، ودار الكلام عن الاستعانة ببيت الخبرة الإنجليزي، و بيت الخبرة الفرنساوى، ويا ترى نختار أى العروض إذا طرحت مصر مسألة الإعمار على شركات أوربية عملاقة!

- وطبعا بيوت الخبرة كانت حتمسح الخريطة القديمة بشوارعها الضيقة بالطول والعرض وتبنى مكانها مدينة جديدة على مستوى عال..لكن باين إننا كنا بنحلم.

قال الحاج ماجد:

- مالناش حظ فى الأحلام..

- الميزانية كانت تعبانة ياحاج بعد الحرب

- أحلام كتيرة وقفت محلك سر!

تساءل الريس جمال:

- كنت فى المدينة يا حاج أثناء التعمير؟

تغير وجه الحاج؛ كأنما لدغته حشرة وقال:

- طبعا، أسيب مالى لمين؟ البيت والفرن كانوا محتاجين للتعمير.

- وعملت إيه يا حاج ماجد؟

- أنا كنت هنا أثناء التعمير عشان البيت وكنت أجمع الصنايعية من على القهاوى، وأجيبهم معايا لأجل الترميم.

- العملية كانت سهله؟

- كنت ادفع للعمال عشان تقبل تيجى معايا، فترة التعمير كانت الناس كلها عاوزه تنهى مصالحها بأى وسيله؛ اللى عنده ترميم أو اللى عنده إزالة، لازم تأّكل الصنايعية والمقاولين، الكل لابد يأكل، يعنى لو لم تدفع لا أحد يسأل عنك!!

ابتسم الريس جمال قائلا:

- كان فيه بيزنس وقت التعمير يا حاج؟

- على أصوله يا جمال، خد عندك؛ الردم بتاع البيوت المضروبة؛التريللة تعمل عشر نقلات والمقاول يكتبهم عشرين،أنا كنت أصلى العشاء؛ وأرجع البيت أقفل الباب بالجنزير وأطلع آكل لقمة وأنام، بعد صلاة الفجر كنت أخرج اجمع العمال؛ استمريت وحدى على هذا الحال أكثر من شهرين اللى عايز طلبه يخلص لابد يدفع ويجرى وراه...وأوقات كثيرة كان النور والمياه مقطوعة، أحيانا أحس بالخوف والرهبة لكن المصحف دايما كان فى يدى؛ كنت أفتح الشباك وأقرأ القرآن بصوت عالى تحملت الكثير علشان أنهى المهمة.

  • البيت كان فيه إيه يا حاج؟
  • نزلت عليه دانة من السقف، والحمد لله السقف انفتحت فيه طاقة؛ والبلكونة وقعت، لكن الدانة نزلت الاودة بتاعة الحاجة..
  • حصل حاجة فى الأودة؟
  • تصدق بالله؛ ربك كريم، شماعة الهدوم انكسرت وخشب الدولاب اتفشخ، وطارت أبوابه، بصيت على الأرض لقيت يد الهون اتلوت زى الملبن.. ومع ذلك الدانة نزلت سليمة عالأرض.
  • وبعدين؟
  • ولا قبلين؛ بلغنا سلاح المهندسين أخدوا الدانة كما هى بعد ما بطلوا مفعولها.

8

إن صخب الحياة لغو سقيم

وكل شواغل الأيام؛

ترهات منثورة فى خضم فضاء من عدم

فدع زمام الأمور للمقادير؛

والزم ساحة الرضا والإذعان

امتد العمران ليشمل أجزاء من الصحراء الممتدة شمال غرب المدينة؛ زاد عدد المدن والمساكن الجديدة - رويدا رويدا- اكتظت تلك المنازل بشاغليها، بل وتناطحوا عليها، وأصبح لها سعر فى سوق السماسرة، بعد أن كانت تعد أماكن نائية لا يهواها الأهالي، ولم يدر بمخيلتهم أن يتركوا مدينتهم ويلجأوا إليها،أو يسكنوا فيها وخصوصا عندما علموا أن السكن فى تلك الأحياء الجديدة مثل حى فيصل أو الصباح أصبح ملاذهم الدائم، وربما يكون الأخير.

فى بداية التعمير؛ تم إنشاء مساكن الملك فيصل، - على نفقته - وسمى الحى باسمه، و كان من المفترض تقديمه هدية للمهجرين العائدين على أن تكون الوحدات كاملة التأثيث، وهو ما لم يتحقق؛ مما دعا الموطنين إلى التندر بتلك الأحلام والأوهام.

كان الأهالى فى البداية زاهدين فى الانتقال إلى تلك المدن الجديدة، ذلك أنهم لم يتعودوا على البعد عن مساكنهم القديمة والأماكن التى نشأوا وعاشوا فيها داخل المدينة وبالقرب من البحر.

وكذلك تم بعدها إنشاء حى الصباح- أمير الكويت – ولم تنس الدولة أن تنشىء المراكز الطبية والأسواق ومكاتب البريد وساحة للشباب؛ فى ذلك الحى الجديد.

---***---

عام 1977، تخرج صادق ماجد أبو اليسر؛ حصل على بكالوريوس الهندسة بتقدير جيد جدا...

بالرغم من ذلك الأثر البادى فى مشيته، فى هيئة عرج خفيف؛ إلا أن الصحة - خلال هذه الآونة- كانت تاجا رائعا؛ يمكّنه من الحركة، ويشعره بالسعادة والفخر، كان متفائلا- كمعظم الشباب- بمستقبل مشرق بهيج.

كانت إصابة ساقه سببا فى إعفائه من التجنيد؛ سافر من مدينته إلى القاهرة مصحوبا بدعاء الوالدين؛ طوال الطريق كان عقله سارحا فى المستقبل، سعيدا راضيا قانعا بكل ما يخبؤه له القدر...

داخل الحافلة؛ تجول ببصره خلال النافذة إلى تلك الصحراء المترامية الأطراف، أسعده اتساع هذه الأرضى وامتدادها؛ كان مسرورا برؤية ضوء الشمس المبهر، كأنما يراه للمرة الأولى، يمتد بصره الى جبل الجلالة و سلسلة جبال عتاقة المطلة على البعد، بألوانها المتعددة، وانعكاسات الضوء الجميلة التى تلقى بظلال رائعة، مع حركة الحافلة كان يتجه بنظره إلى تلك الأراضى الممتدة فى خشوع وصمت، لا يسمع سوى صوت الموتور؛ وقد اختلط بصوت نشيد رديء، تصاعد كالأزيز من خلال كاسيت السيارة، بين الحين والآخر؛ كان يهرب بنظره إلى تلك الصحراء، لمح بين وقت وآخر وحدات عسكرية متناثرة بالقرب من الطريق أو ممتدة فى عمق الصحراء.أسعده الاتساع، ذلك الاتساع الجميل، المحلى بالرهبة، وتلك الفضاءات الرائعة؛ هى بكل خيراتها مخبأة للأجيال القادمة؛ التى لم تولد بعد.

ذهب إلى نقابة المهندسين؛ وإلى الوزارة؛ ليعرف المكان الذى سيتم تكليفه بالعمل به.

توجه إلى ديوان الوزارة؛ لينظر إلى لوحة توزيع الخريجين، وقال لنفسه: أنت وحظك! اللهم إلا إذا كنت من أبناء المرموقين؛ فأنت بلا شك واصل إلى هدفك من أقرب طريق، و إلا فليس أمامك إلا الرضوخ لما كتبته لك الأقدار على أيدى أساطين الوزارة المبجلين، والرضا بما قسم لك.

كان الجو خريفيا، ومع ذلك عندما وصل إلى ديوان الوزارة أحس بالحر؛ تصببت قطرات العرق البارد على جسده، سأل ربه: ترى أين تريدنى أن أذهب؟ هنا تتحدد المصائر بناء على التوزيع الذى قام به السيدان المبجلان من أساطين الوزارة سمع أن كلمتهم تكاد تكون أمضى من كلمة الوزير، هكذا قيل له أيامها.

كانت مجموعة من العمال يجلسون أمام التليفزيون لمتابعة حدث هام..
بدت دور السينما بمدينة القاهرة شبه خاوية، علي الرغم من أنها كانت تعرض عدداً من الأفلام العربية التي تحتوي علي مشاهد مثيرة، فإن الجمهور انصرف عنها وراح يتابع بشغف مشهداً آخر لا يقل إثارة عن جميع الأفلام التي كانت السينما تعرضها في ذلك الوقت.
عاد الى العمال؛ ألقى نظرة معهم إلى التليفزيون؛ كان المشهد لطائرة مصرية تهبط بهدوء علي أرض مطار «بن جوريون» الإسرائيلي في الثامنة من مساء السبت الموافق ١٩ نوفمبر ١٩٧٧، المتفرجون في جميع أنحاء العالم يحبسون أنفاسهم ويضعون أياديهم علي قلوبهم، ثوان قليلة وينفتح باب الطائرة، الأضواء الباهرة تتركز علي أعلي السلم، قبل أن يخطفها الرئيس «أنور السادات» وهو ينزل بثقة إلي أرض المطار علي السجادة الحمراء الطويلة التي امتدت أمامه، وضع يده في يد «إفرايم كاتسير» رئيس الدولة الذي كان في طليعة مستقبليه؛ بينما تعزف الموسيقي أنغامها وتطلق المدافع ٢١ طلقة لتحية الزائر غيرالمتوقع.. اكتفى صادق بالنظر الى لوحات التوزيع المعلقة على الحوائط، عرف أن توزيعه جاء على مدينته، حمد الله، كان يعرف مسبقا أنه فى تلك الأيام؛ كان معظم الخريجين يزهدون فى الذهاب الى المدينة للعمل فيها..

---***---

9

أما من أدرك جوهر الطبائع..

فقد أعطى مفتاح الرضى

ومن رضى فقد عدل

ومن عدل فقد حكم..

بمبنى المديرية؛ بمدينته الساحلية، وضع ماهر – العامل - فنجانى قهوة على المكتب؛أمام المهندس صادق الذى كان قد تسلم العمل بالمديرية، بحجرته المتواضعة يوجد انتريه قديم ودولاب خشبى، فوقه وضع تليفزيون أبيض وأسود، التلفزيون مفتوح ولكن لا أحد يهتم بالنظر إليه، كان يجلس أمامه شاب يرتدى البنطلون الجينز وفانلة تى شيرت؛ يعمل إداريا؛ دخلت الحجرة احدى الموظفات؛ هيفاء ذات وجة صبوح، تحدثت الى المهندس صادق بصوت خفيض؛ أومأ لها بالموافقة؛ وقال:

  • دعيهم ينتظروا قليلا ياشروق...
  • حاضر ياباشمهندس...

نظرت الى ماهر متسائلة:

- أين ماؤك المثلج يا ماهر؟

انصرف ماهر لإحضار الماء؛ وجه الشاب نظره إلى الباشمهندس قائلا:

- هل تعلم يا باشمهندس صادق أن ماهر هو العامل المخصص للبوستة؟

- يبدو أنه ماهر حقا!!

أردف سامى:

- نعم؛ فهو يجمع ببراعة بين مهن مختلفة؛ ويستطيع – كما يقولون – أن يسلك أموره، تراه فى الصبح يوقع فى دفتر الحضور والانصراف، ثم ينشغل فى تجهيز الشاى و باقي المشروبات لطالبيها ويروج لبضاعته التى يسافر من آن لآخر لشرائها من بورسعيد أو القنطرة؛ ويبيعها بالقسط المريح لزميلات وزملاء العمل؛ فكثيرا ما تراهم ملتفين حول بضاعته كلما عاد من سفره محملا بألوان من المشتريات، و معظم زبائنه من السيدات، وغالبا ما يقبلن على شراء أطقم النوم والمفروشات، والملابس الداخلية وأطقم المطبخ من الأكواب والفناجين والكتشن ماشين وكذا أطقم العرائس، وكان يأتى لهم بالأجهزة الكهربائية بأنواعها؛ كل شىء حسب الطلب والاتفاق؛ وغالبا ما يختم أعماله بالخروج لتوصيل البوستة فلا يعود لعمله إلا فى اليوم التالي.

شهريا يقف ماهر بجوار طابور المرتبات لتحصيل الأقساط من زملائه المدينين، وبيده نوته صغيرة، و فى اليد الأخرى قلم كوبيا قصير يؤشر به على القسط المدفوع، ثم يدكه فوق أذنه، حتى تستقيم له الحسابات وتخلو الأمور من اللبس والاشتباه. كان ماهر قد وضع جهاز تليفزيون فى مكتب المهندس صادق، على أن يسدد الجميع ثمنه حين ميسرة.

بعد عودته إلى سكنه بمنطقة الهيشة، فى شقة استأجرها بالدور الثالث وحرص على إدخال تليفون اليها، ليستخدمه كتليفون تجارى، قام بعمل وصلة بالكشك الذى يتناوب العمل فيه مع زوجته، والذى نجح ماهر فى إقامته وعمل الترخيص له - على ناصية بيته - كما يقول هو بطلوع الروح!!

لم يكن ماهر يقصر نشاطه على البيع داخل مبنى المديرية بل تعدى الأمر، واتسع نشاطه ليشمل الجيران من السكان والمحيطين بالمنطقة..

استأنف سامى:

- ماهر هذا إفراز طبيعي لمجتمع لم يعرف هويته حتى الآن!!

أخذ صادق رشفة من فنجانه، وقال:

- كلمنى عن نفسك يا سامى..

تبسم قائلا:.

  • أنا موظف شئون العاملين بالمديرية..من الصعيد
  • أنت قِبَلى إذن، ممن يشجعون القبلية!
  • لا، لست من هواة القبلية...فى نظرى هى لون من ألوان الجهل..ولكنها على العموم تؤدى خدمات للناس
  • للناس؛ تقصد أهل الحى، أم أهل القبيلة؟
  • المفروض للأثنين معا..هل تعرف الأستاذ زكى واصل؟
  • لا..
  • يعمل معنا بالمديرية؛ من الصعيد الجوانى،وأعرف أن له نشاطا فى جمعية قبلية..

--- ***---

فى الحال دخل ماهر على الجليسين وهما يتحاوران؛ حاملا صينية عليها كوبان من الماء المثلج، وقد تكاثفت قطرات البخار مكونة غبشا يوحى باهتمام العامل، ويشير الى قيمة هذا الكوب المثلج فى تلك الآونة من أغسطس بحرارته المرتفعة، وقيظه الرهيب.

حكى ماهر حكاية قصيرة للجليسين؛ تسببت فى فزعهما، فعندما كان مستلقيا على سريره حتى ساعة متأخرة من الليل لم يداعب النوم جفوته، أشعل سيجارة، فى ظلام حجرته التى يتلصص إليها بصيص من النور المشع من أعمدة الإنارة بالطريق، كان الوقت قبيل الفجر عندما سمع أصواتا وخبطا قادما إليه من الخارج، تنبه جيدا؛ وفتح باب البلكونة بهدوء، ومد أذنيه إلى مصدر الصوت فتأكد من أنه يأتى من أسفل البيت، كان يسكن فى الدور الثالث، عرف أن أحد الدكاكين الكائنة أسفل البيت يتم سرقتها هذه اللحظات، سارع إلى التليفون ليتصل بالنجدة، قال له النوبتجى:

- من المتكلم؟

- أنا مواطن

- اسمك إيه؟

- ماهر ابو سريع

- عنوانك؟

- ساكن فى الهيشة

-اسم الشارع

- شارع صابر الصناديلى

- رقم كم؟

- من غير رقم

- ملك مين؟

- ملك الحاج رجب البمبوطى..

- فيه إيه يا سيدى؟

- عاوز أبلغ عن سرقة

- عندك؟

- لا...؛ عند الجيران

- أقول لك حاجة؛ أدخل نام أحسن لك

- والسرقة؟

- وأنت مالك؟

- أنا مالى أزاى؟ السرقة فى المحل تحت بيتى..

- مالك شأن

- يا خبر اسود!! مالى شأن؟!

- طالما بعيد عن ممتلكاتك؛ مالك شأن.

- ياه...ممكن الدور يجىء علي بعدها؛ أنا عندى كشك على الناصية!

- تم الاعتداء عليه؟

- أنا اتصلت عشان خايف عليه من السرقة

صاح مسئول النجدة بقرف وغلظة:

  • أدخل نام؛ و أمنع القلق عا لصبح!!!

وأغلق السماعة بعنف..

***

كان الجالسون منشغلين عن متابعة التليفزيون الذى كان يبث فى تلك اللحظات احتفالات اكتوبر 1981، كان السادات يرتدى بزته العسكرية، ويتطلع إلى السماء وقد وضع نظارة شمسية سوداء على عينيه، انتبهوا فقط عندما سمعوا جلبة وأصوات غريبة، وشاهد الجميع هرجا ومرجا؛ تعالت صيحاتهم؛ سكتت أنفاسهم؛ وفى ثوان انقطع البث، وكان مقتل الرئيس..

***

10

لو عرف الناس الجمال فى كل جميل؛

لتبينوا القبح جليا..

اعتاد نادر أن يسافر، ربما يكون حاملا رسالة من التهامى،أو مبلغا من الدولارات ليسلمه لزوجتة السيدة محاسن بمنزلها بالقاهرة؛ التى تعيش معها بنتاها جميلة وفضيلة، كان نادر يراهما أحيانا، تكررت زياراته لبيت التهامى؛ مع طى الايام؛ توطدت العلاقة بينه وبين أسرة التهامى، وتعودت السيدة محاسن أن تدعوه للدخول وتحتفى به..

كان نادر يبتسم فى وجه ابنته الكبرى جميلة حتى توثقت علاقته بها، كما دأب على شراء هدايا صغيرة كلما توجه الى منزل التهامى

اكتفت جميلة من التعليم بحصولها على دبلوم تجارى؛ كان يلقى ترحيبا بهداياه، سواء من البنت أو من أمها السيدة محاسن..

مع الأيام؛ اجترأ نادر وطلب الزواج من ابنة التهامى، رفض التهامى فى بداية الأمر، ولكنه فوجىء بمواجهة زوجته وإصرارها على قبول نادر عريسا لابنتها، وعلى إنجاح هذه الزيجة وإتمامها... وافق مرغما فى النهاية؛ لم يستطع أن يجابه الاثنتين ويقف لهما بالمرصاد،أخيرا قال التهامى لنفسه مطمئنا ومستسلما: الخيرة فيما اختاره الله...

***

فى ذلك الوقت كانت ابنته الصغرى- فضيلة التهامى - ماتزال مشغولة بدراستها الجامعية.

فتحت السيدة محاسن حوارا مع نادر عن أحوال فضيلة التى تهتم بالدراسة، قال لها نادر:

عندى لها عريس

ابتسمت المرأة،وتساءلت:

صحيح يا نادر؟

رد بثقة:

نعم

من هو؟

عريس لقطة...سوف يكون مفاجأة لكم.

قل لى من هو؟

صادق

صادق من؟

أخى..

أول مرة تتكلم عنه..

أصله أخ غير شقيق..

ما وظيفته؟

مهندس

مهندس؟ معاه بكالوريوس هندسة؟

نعم..

وهل فاتحته فى الموضوع؟

لا..ولكنى واثق من أنه سوف يعجب بفضيلة..

ارتاحت السيدة محاسن لزوج ابنتها نادر؛ الذى يمتلك حسا عمليا، كما يجيد اللعب على الأوتار؛ دائما - كما تقول محاسن- يعرف كيف يصطاد القرش، ولا يدخل بيته ويده خالية..

لم تكن محاسن تسأم من صوته المرتفع، وغلظة حواره، وخشونة معاملتة؛ بالإضافة إلى ضحكاته المصطنعة المدوية؛ ونكاته البذيئة التى يلقيها - كمن يتقيؤها - من آن لآخر.

---***---

11

والناس قلوب عامرة بالفرح،
وخطوات لاهية،
ترقص، تعبث،
تتدافع صوب مآدب عامرة،
تتسلق أدراج ليل ربيع ساحر،
فتلتمع أحداق مفتونة بمرأي مطالع النور الوضاء،
وتلتوي في طي الأعناق أعناق،

عندما رآه سامى؛ كان صادق قادما إلى مكتبه؛؛ تألق وجهه بالبشر والسرور، قال مبتهجا:

لقد وجدتها!

تساءل سامى:

ما هى؟

الرفيقة..الزوجة..

من هى سعيدة الحظ؟

لا تعرفها..

هل تعمل معنا هنا؟

لا..هى لا تعمل، ليست موظفة..

هل هى من العائلة؟

تعتبر من العائلة، فهى أخت زوجة أخى..

وهل لك أخ متزوج؟

نعم، نادر

ولكن قل لى...هل رأيتها؟

سافرت الى القاهرة ورأيتها؛ فى عينيها عمق وجمال، لها نظرة ذكية، تدرك ما أريد من أول نظرة..

وهل أعجبتك؟

نعم أعجبتنى! فهى تحمل مؤهلا جامعيا!

وهى..هل تحبك؟

طبعا.. لقد عرفت من نادر أن أمها مرحبة بى..

على العموم مبارك عليك ما انتويت..

---***---

بعد أن استقر صادق فى عمله، أراد أبوه الحاج ماجد أن يفرح به؛ تزوج صادق ماجد أبو اليسر من فضيلة التهامى؛ التى كانت قد انهت دراستها الجامعية، استأجرا شقة لدى الحاج أبو السعد فرحات فى عمارته الجديدة بملغ150 جنيه شهريا.

***

الحاج أبو السعد فرحات معروف لدى السوايسة؛ فهو رجل عصامي قام بتأسيس جمعية قبلية؛ وهى من أوائل الجمعيات العرقية؛ قدم إلى السويس ضمن الكثيرين، جاء من اقاصى الصعيد من مركز يتبع محافظة قنا، كان ذلك قبل عام 1967بسنوات عديدة، تميز الرجل بالذكاء الفطري والألمعية وحب المغامرة؛ بالإضافة إلى شخصيته الجريئة الحازمة، استطاع أن يختار المكان المناسب الذي يقضى فيه مستقبل أيامه على طريق القاهرة المسمى شارع الجيش، اختار الحاج أبو السعد أن يتمركز فى آخر حدود العمار بمنطقة المثلث، حيث الأرض لا سعر لها فى تلك الأيام، عشق العمل كما كانت له شخصية مؤثرة، تدرج فى أعمال مختلفة؛ اولها كان عمله على عربة كارو إلى أن بنى بيتا على قطعة أرض استطاع أن يحتكرها استمر يعمل فى دأب حتى أصبح من كبار المقاولين بالمدينة، كان يحب الناس ويحبونه، دائما ما يكون مجلسه فيما يمكن أن نسميه مكتبا أسفل بيته، مبنى صغير متهالك يمكنك أن تجد فيه مكتبا قديما وكرسيين، وفى الخارج وعلى قارعة الطريق تجد كنبة قديمة ثقيلة مبطنة بالخوص، ودائما تجد عنده براد الشاي وتلك الأكواب الدقيقة المتعددة والتى تحمل طابع الكرم الصعيدي الأصيل، حيث أن موقعه يمثل ملتقى للرائح والغادي بين كفر النجار والعرب وبين الطريق العمومي (شارع الجيش ) المؤدى إلى وسط المدينة أو شمالا إلى القاهرة.، ودائما ما تجد المكان عامرا بالصعايدة وأصحاب المصالح المختلفة، وفى مواسم الانتخابات يكون مكانا مهما لتأييد أحد المرشحين بعينه،إتباعا للأصول العرقية، بصرف النظر عن كفاءته واتجاهاته السياسية التي قلما يخوضون في الحديث عنها.

مع ثقته فى نفسه وسعيه الدءوب وحركته المستمرة وتعاطفه مع الآخرين استطاع أن يخرج إلى دائرة المال والشهرة وحب الناس، سعى حثيثا مع قيادات المدينة؛ وكان مدير المديرية صديقا له، دأب على الجلوس على تلك الكنبة القديمة الملقاة على قارعة الطريق؛ ليحتسى الشاى الداكن، قبل أن يصبح مديرا للمديرية.

---***---

فى المدينة المضيافة " بلد الغريب "؛ توجد مجموعات من البشر يقدسون انتماءاتهم العرقية هناك أهالي الصعيد؛ كما أن هناك البحاروة من أهالي الشمال، مازالت النزعة القبلية متأصلة عند أهالي الصعيد، تم إحياء هذه النزعة، عندما بدأ الترخيص بإنشاء تلك الجمعيات التى كان يشارك فيها كل من ينتمى الى تلك القرية أو المركز أو القبيلة التى تعبر عنها الجمعية، عدد كبير من أثرياء هذه القبائل والمراكز لم يبخلوا على تلك الجمعيات؛ بل ظلوا ينفقون عليها مبالغ طائلة من أموالهم الخاصة؛ حتى تنهض وتقف على قدميها؛ وصار بين الجمعيات مجال للحسد والتنافس فى كل شىء ابتداء من اختيار الموقع ومساحته، إلى هندسة بنائه وضخامته، وانتهاء بقيمة الخدمات التى تؤديها للمنتمين اليها؛ لم يكن هذا التنافس معلنا؛ ولكنه لم يخف عن أى عين مبصرة.

من أوائل هذه الجمعيات؛ جمعية البراهمة وجمعية المحاسنة ثم جمعية الأشراف، وكثرت فيما بعد تدريجيا، وتكونت جمعية الجرعان وأبناء قفط وأبنود،وأبناء طهطا، وأبناء موشى وجمعية الكلاحين وجمعية أسيوط وسوهاج و أسوان أيضا التى جاء أبناؤها من أقصى الجنوب، كما تأسست جمعيات أخرى عديدة شملت جميع الأعراق المتفرقة بأنحاء القطر المصرى تقريبا مثل جمعية أبناء الشرقية وجمعية أبناء الغربية وجمعية أبناء الواحات، ويتم التصريح بإنشائها جميعا عن طريق مديرية الشؤون الاجتماعية.

يحتوى مبنى الجمعية على فروع تمثل أوجه الأنشطة التى تقوم بها، ففى الغالب توجد قاعة للمناسبات ومصلى أو مسجد صغير ملحق بالجمعية، ومنضدة للبنج بونج وغالبا ما تستخدم قاعة المناسبات للعزاء فقط، ونادرا ما توجد مكتبة، وينفق أهالي القرية أو المركز التابع له الجمعية على أوجه النشاط المختلفة،- وخصوصا القادرون منهم – ينفقون ببذخ على هذه الجمعيات الخيرية كما يجتمع الكهول والشيوخ بدلا من جلوسهم على المقهى، يناقشون مشكلاتهم ويتجاذبون أطراف الأحاديث، وتكون هذه المجالس شتاء فى حديقة الجمعية حيث يعرضون أجسادهم لدفء الشمس، ويتناوبون الثرثرة فيما يعن لهم، وأحيانا ينتهي الكلام بينهم وتمر بهم لحظات صمت ربما يقطعها تنخم أحدهم؛ أو طرقعة أصابعه، وغالبا ما تستمر جلستهم فى حميمية وألفة؛ إلى أن يحل موعد الآذان فيقومون إلى صلاتهم فى دعة وهدوء.

---***---

كان الحاج أبو السعد جارا لهم؛ تقع عمارته على ناصية الشارع فى الطريق المؤدى الى شارع الجيش.

تعجب الحاج ماجد أبو اليسر من هذا المبلغ الباهظ- وقتها- وقال لابنه ذات يوم:

  • لم أكن أظن أن يأتى اليوم الذى تسكن فيه خارج بيتى
  • ولكن لا توجد شقق خالية بالبيت يا أبى...
  • أحيانا أندم على قرارات اتخذتها أيام الرخص
  • وما المشكلة يا أبى؟ هذا ليس ذنبك..
  • كيف تقول هذا يابنى وإيجار شقتك أعلى من إيجار عمارتنا كلها!! كان الأولى أن أقفل الشقق الخالية، حتى لا يسكن فيها مخلوق!
  • الأسعار لا ترتفع علينا وحدنا يا أبى!!

- اسمع..الأجهزة الكهربائية ستكون هدية منى لك، بما فيها النجف والأباليك!!

شكر صادق أباه؛ وقبل يده.

---***---

12

تصفو أحوال الناس، وتتكدر أيامي،
بيد أن مدار الأمر وقطب العلة،
يرد إلي غفلة غمرت مجامع أفهامي،
فالكل وقدة ذهن شرير ماكر..

فى تلك الفترة؛ لم يكن العمل بالمخبز مربحا؛ كانت المصروفات أحيانا تفوق الايرادات؛ دأب موظفو الحكومة- من المفتشين والمراجعين- على التردد على المتاجر والمخابز، هناك موظفو التموين والتأمينات وموظفو الضرائب، والصحة، وغيرهم، لكى يتأكدوا من سلامة المنتج، ومطابقته للمواصفات؛ لكن النتيجة الواضحة هى أن معظمهم لم تعد تهمه هذه الأمور؛ الأكثر أهمية هو الاجابة عن هذا السؤال: كيف يعود فى نهاية يومه وقد انتفخت جيوبه واتسعت ابتسامته وأشرق وجهه؟.

---***---

فى ذلك الصباح الحزين، بالمخبز، جلس مراقب التموين؛ ونظر الى الحاج ماجد:

الرغيف شكله لا يعجبنى!

نعمل له إيه؟ دقيق الحكومة لونه أسود. كيف نجعله أبيض؟

وكمان ناقص 2 جرام

2 جرام؟ يا سلام؟

أيوه..وضع الرغيف على الميزان وقال:

انظر!... أردف الحاج ماجد مبهوتا:

باقى العيش وزنه مضبوط..

أنا اتكلم عن هذا الرغيف!

أخذ الرغيف معه وضعه فى كيس صغير وتم تحريزه.

وجد الحاج ماجد نفسه متهما، ووقعت عليه غرامة بمبلغ 5آلاف جنبه؛ وحبس 3 شهور مع غلق المخبز

وتشميعه بالشمع الأحمر.

---***---

حزينا مجبرا؛ دفع الحاج ماجد مبلغا ضخما لأكبر محامى فى المدينة؛ الأستاذ فوزى الجرجاوى، الذى استطاع أن يلغى عقوبة الحبس، اكتفى القاضى بالغرامة، قال له المحامى أخيرا:

يا حاج ماجد

نعم يا أستاذ..

يبدو انك رجل طيب.

نعم؟

تبسم الأستاذ وقال:

عاوز أقول لك الناس كلها أملها تاكل عيش.

وماله؟ عندنا عيش كثير فى الفرن!

أقصد أى واحد منهم، حاول تخلص معاه قبل ماياخد اجراءات قانونية.

يعنى إيه؟

ادفع له يا حاج..عكّمه... اطعم الفم تستحى العين؛ وألا رأيك إيه؟

تفكر الحاج ماجد مليا وقال:

لكن والله العظيم أنا ماشى دوغرى!

ممكن يتلكك لك على أى حاجة..النظافة..المواعيد..طفايات الحريق..الشهادات الصحية..التأمينات الاجتماعية على العمال..أى حاجة.

ربنا يستر.

قالها الرجل وخرج من مكتب الأستاذ الجرجاوى كسير البال.

---***---

13

وتتنازل وتتراجع، فاهما، أمام هوى الطبائع

وقد استفاق لديك الوعى وانجلت البصائر؟

 

السيدة محاسن - أم العروس- سيدة بيضاء ممتلئة؛ تهوى المجتمعات والشلل؛ وتحب التسوق والمنتزهات؛ ولها أسلوب فى المعاملة كان يؤذى صادقا.

حضرت من القاهرة لزيارة ابنتها التى كانت تعانى من الوحم المصاحب لشهور الحمل الأولى؛عاد صادق من عمله فوجد حماته جالسة فى الصالون؛ ترتدى فستانا قصيرا محذقا يظهر ركبتيها الممتلئتين البيضاوين؛ وقد وضعت أمامها منضدة صغيرة؛ عليها طبق من الفاكهة و مطفأة كريستال؛ وبيدها اليسرى سيجارة "كنت"حريمى؛ ضايقه هذا المنظر ولكنه قال متجاهلا؛ وقد رسم على وجهه ابتسامة:

أهلا..أهلا يا حماتى..

ومد يده ليسلم عليها؛ وهى جالسة فى مكانها؛ مدت يدها إليه فى برود، ولم تشد على يده.

تجاهل صادق هذا التصرف الذى اعتبره غير لائق؛ وسألها عن حميه التهامى..

سحبت محاسن بعمق نفسا من سيجارتها؛ وكأنما تتعمد أن تنفثه فى وجه صادق؛ قائلة بصوت متهكم؛ واضح المخارج؛ عالى النبرات:

حماك فى البحر، زمانه بقى سمكة..

رسم صادق ابتسامة على وجهه مجاملا؛ وقال:

أعرف أنه يعمل على مركب" كارجو"*

فى آخر مكالمة يسلم عليك..

الله يسلمه..

 

* باخرة نقل بضائع

وأنت أخبارك إيه يا صادق؟

تلعثم صادق؛ أحس أن وراء السؤال مرمى آخر:

أنا..الحمد لله بخير..

رشفت محاسن من فنجان قهوتها رشفة؛وتساءلت وهى تحدق فى عينيه:

سمعت أنك تنوى شراء سيارة

نظر إلى زوجته قائلا:

مجرد حلم تحدثت به مع فضيلة..

سيارة إيه يا صادق؟!..أنت لازم تبطل أحلامك..خليك واقعى..

بختنا ونصيبنا، ومع ذلك فالأحلام مهمة يا حماتى.

ردت مستنكرة:

تريد أن تشترى سيارة من قوتك وقوت بيتك؟

اقتربت فضيلة ناحية المنضدة، لتضع المزيد من الفاكهة بالطبق، اشتركت فى الحوار؛ وقد بانت على وجهها إمارات الكآبة:

- أنا لا أومن بالبخت.

- وما الداعى لقولك هذا؟

- تذكرت وأنا صغيرة هذه السيدة العجوز؛ التى تربطنا بها مودة وصلة قربى؛ بعد أن فرغت من احتساء القهوة؛ نظرت إلى فنجانى وقد اكتسى باطنه باللون الداكن الذى لم يترك مكانا لبياض؛ حركت الفنجان بين أصابعها؛ واتجهت بعينيها ناحيتى قائلة:

- قلبك أسود!؛ ولم تكمل القراءة!!.

قال لها صادق ضاحكا:

- من أبلغها بذلك؟

اتجهت بنظرها إلى الفنجان؛ ظلت تحركه يمينا ويسارا، بدا عليها عدم الارتياح؛

وكالعادة أحس صادق أنها أوقعته فى الفخ، قالت وقد اكتسى وجهها بكآبة مباغتة:

- هل تعتقد فى هذه التخاريف؟

حافظ على ابتسامته؛ قائلا:

  • أحيانا!!

---***---

14

ليس علي الأرض رحمة.
فمكتوب علي الإنسان أن يلقي صنوف الهوان،
سواء أقام في أرض،
أو حلق في سماء.

 

حملت زوجته؛ فضيلة التهامى و أنجبت سلمى؛ شابهت أمها فى ملامحها؛ كان صادق بالمنزل؛ و بعد انتهاء السبوع قالت له حماته:

اسمع يا صادق.

نعم يا حماتى.

انت لازم تزود دخلك..

رجلى على رجلك يا حماتى..

ردت فضيلة من الحجرة المجاورة:

نفسنا فى شقة واسعة، يا سلام لو كانت على البحر!

نظرت حماته إليه مغتاظة وقالت:

يعنى إيه رجلى على رجلك؟

يعنى له فى ذلك حكم!

فضيلة كانت محتاجة واحد يقدرها ويستاهلها!

ياسلام!

ردت محاسن بحزم وغضب:

اسمع..أنت لازم تسافر الخارج..

---***---

انجبت فضيلة التهامى ابنتها سلمى، رزقها الله بعدها بولدين؛ مجدى وشكرى؛ كان صادق دائما ما يلهج بالحمد والثناء شكرا لله الذى من عليه بكرمه وواسع فضله.

كلما شب الأبناء عن الطوق؛ ازدادت متطلباتهم؛ لم يكن صادق يلقى بالا لتلك الجنيهات التى لا تتعدى المائة، وهى مرتبه الشهرى من عمله بالمديرية؛ عند تعيينه فى أوائل الثمانينات، كان يرى ويقابل فى حياته عشرات الناس ممن أحنى عليهم الدهر، كان يجود عليهم بقدر ما تسمح له جنيهاته القليلة. كان خدوما للأهالى محبا لهم وقد أتاح له عمله فرصة التعرف على نوعيات كثيرة من البشر، كان شفيقا عليهم، وخصوصا الذين لا حول لهم ولا قوة، لم تكن نظرته مادية إلى ما حوله، ولم يكن يعبأ كم دخل أو كم خرج من جيبه.

فى الحقيقة لم يكن يشعر بإحساس ذوى الحاجة بصورة فعلية، بالرغم من تعاطفه معهم، إلا بعد أن وضعته ظروفه المستجدة فى أكثر من مأزق، فأصبح إحساسه بهم حقيقيا وجارفا.

لم تمتنع فضيلة عن الشكوى؛ أصبحت خبزا يوميا فى تعاملاتها الزوجية، كانت تلح عليه أن يبحث عن مصدر آخر للرزق، حتى يلبى طلباتها ويلاحق الزمن..كانت تصر على الحاق أبنائها بالمدارس الخاصة، كما تعودت فضيلة على بذخ لم يسبق لهم ولا لأهلهم أن تعودوا على مثله.

كانت تصر أيضا على تلبية كل طلباتها، تبكى وتخاصم زوجها إذا مارفض لها طلبا؛أو حتى إذا لم يقدر على تلبيته، تعددت شكواها، وأصبح الوضع لا يسر كاد صادق أن يمد يديه للآخرين، فقد تم رفع الأسعار أكثر من مرة؛ عندما يتعجب الناس يكون الرد جاهزا: إن ارتفاع الدولار هو السبب.

---***---

أثناء توقيعه على البوسته، كان يحدث شروق.. يميل الى استشارتها والبوح لها بمكنون قلبه– دون أن تعرف هى من المقصود بكلامه، قال لها يوما:

لى صديق حماته لا تتركه فى حاله..ماذا يفعل ياشروق؟

تبتسم شروق ابتسامتها الصافية وتقول:

جوزها عايش وألا لأ؟

عايش وميت فى نفس الوقت!

عايش وميت؟

نعم..لأنه غير موجود تقريبا؛ وإذا حضر فالكلمة كلمتها!

كنت سأنصحه بأن يبحث لها عن عريس!

استمر أثناء عمله يحمد الله أن وفقه ومنحه العافية ليكمل رسالته، عسى أن تكون له ذخرا فى آخرته، حاول أن يطرد يأسا كان يعاوده من آن لآخر.

---***---

بإيعاز من أمها؛ اعتادت فضيلة ان تعكر دماء زوجها؛ كانت تردد عليه طلب تغيير الشقة وأن تنفذ الحلم الذى رأته أمها فى منامها؛ وأن تكون الشقة الجديدة فى البرج الذى يقام فى وسط المدينة..قال لها:

- الظروف لا تسمح كما تعلمين

ردت بقرف:

- ومتى تسمح ان شاء الله؟

- ربنا يفرجها...

قالت بغضب:

- أنا زهقت... تصرف؛ اطلب مساعدة، أبوك غنى؛ والمفروض إنه يساعدك..

- طول عمرك ماشية ضدي؛ أنا يمين؛ أنتي شمال، لا فائدة، لازم القطط الفاطسة تطلع، لا يوجد عندك شيء غير العند فقط،..ما الذى تريدين؟

سكتت قليلا ثم قالت:

- انت تعرف... كما قلت لك؛ الشقة الجديدة.

بالرغم من تلك المضايقات التى تعرض لها؛ إلا أنه دأب على التواجد ومشاركة الناس سواء فى الأفراح أو واجبات العزاء التى تخص من يعرف؛ أو حتى من لا يعرف؛ مما كان له ابلغ الأثر؛ سرعان ما كان نجم محبته يتلألأ في سماء الحي، بل وفى جنبات المدينة الصغيرة بأكملها تقريبا.

---***---

15

فاعرف وتبصر؛ والزم حد الأشياء..

ففى لزوم الحد..

نجاة من الخطر!

تكررت المواقف التى أزعجت صادقا، وكأنها سوس ينخر فى عظامه، كاد يعصف بحياته الزوجية عصفا، لم يكن يحب الشكوى ولم يفكر يوما أن يلجأ إلى أحد ليشكو له، يكاد يشعر بالمذلة الشديدة والحرج لو أخرج سرا مما يدور داخل بيته.

كان تفكيره فى أبنائه يجعله يتناسى نفسه؛ ويضحى من أجل أن يخلق مناخا هادئا،بعيدا عن الآلام؛ سمائه ترفرف عليه الرحمة، تستقر فوق أعشاشه عصافير الجنة، فى جو بعيد عن الصغائر والمضايقات.. يتعجب ويحزن كثيرا من هذا السلوك الغريب لزوجته، بالرغم من أن قلبه لا يحوى سوى اللون الأبيض تجاه معظم الآخرين تقريبا.

لم يكد يضع رأسه على وسادته حتى تلاعبت برأسه الأفكار، تهاويم كثيرة وأشياء من الماضى السحيق ومباهج محدودة كان يحرص على تذكرها لتمنح حياته طعما ولوجوده مبررا، امتلك حبا وتفتحا عليها؛ انقلب بعد ذلك إلى نوع من الزهد والتقشف أو الانفصال البغيض الذى لم يكن يخطر له على بال، انفصال عن الحياة والأحياء. ربما شعر فى أحيان كثيرة بانفصاله النفسى الذى يصل حد الموت و فقدان المعنى لحياته هو، يحاول دائما أن ينجو بنفسه بالبعد عن الناس حتى تتحسن أحواله؛ ويخرج من تلك الدائرة الجهنمية التى احاطت به؛ كاد يفقد صلابته واتزانه امام الآخرين، من جراء تلك الأحداث المؤسفة التى صارت شبه يومية.أحس بأن شرخا ربما يكون مخلخلا لمدينة قلبه؛ مدينته التى يشعر فى أوقات متفرقة بخوائها، وبأنها صارت مدينة أشباح،لا لون لها ولاطعم ولا رائحة.. أقنع نفسه بموت العلاقة حينا حتى تصحو لديه رغبة الحياة، لم يرهق أعصابه فيما لا جدوى من ورائه؟ يعود مرة أخرى يفكر: كم تساوى تلك النظرة الجاحدة المتجاهلة مثلا بعد مثوله بأشياء و طلبات ثقيلة يحملها داخلا بها إلى المنزل؟، ظل منتظرا سنوات حتى يفوز يوما ما بنظرة امتنان حانية؛ تشعره بأنه قد زرع، وأن من حقه أن يحصد أن يحصد حبا ووفاء ودفئا؛ أشياء لا يدفع فيها صاحبها مالا ولا يقدر على منحها الا كائن سوى.

للأسف لم يجد شيئا فى النهاية، سراب، أحس بغصة فى حلقه وضيقا وألما فى صدره، عندما ينظر إلى أبنائه يتناسى الحقائق؛ ويتناسى نفسه يتجاهل كل تعاساته من أجل اسعادهم وادخال البهجة عليهم؛ أوعلى الأقل الظهور أمامهم بالمظهر اللائق؛ حاول أن يبحث عن الخطأ داخله، ربما يكون هو المخطىء فعلا.. ولم لا؟ ربما كان كلامه جارحا يقرر بينه وبين نفسه أن يغير لهجته وطريقة كلامه معها؛ وأن يضع نفسه فى قالب قد يثير إعجابها، ولكن هيهات!! مع الوقت ضاعت كل أحلامه سدى، فورا تصب على رأسه دشا باردا يوقظه من سباته؛ ويحاول ثانية أن ينسى ويقف على رجليه، ليواجه أعباء الحياة، قرر أن يعتبرها قد ماتت سأل نفسه: وهل هذا جزائى؟ بعد أن أكون قد أنفقت من عمرى ومالى وجهدى الكثير لا يمكننى أن أفوز حتى بنظرة ود أو امتنان؟ هل لأننى لا أستأهلها؟ كما تقول محاسن؟ أليس هذا ظلما؟!

***

16

تتساند الذرا والوهاد على متكأ واحد؛

وينسجم رنين الصوت في الصدى..

السفر للعمل خارج البلاد فكرة داعبت الشباب، بالفعل كان عدد كبير من الخريجين يسافر متى اتيحت له الفرصة، أراد أن يخوض التجربة بالرغم من ارتباطة بالأهل والناس، وحبه للشارع والبحر؛ وحبه للمدينة التى سكنت داخله، اضطر تحت إلحاح عائلي وضغط اقتصادي أن يبحث عن عقد عمل، كانت مشاعره تتأرجح بين حبه لوطنه؛ وبين الخوف من المجهول.

بالرغم من أنه كان يرى الكثيرين من زملائه لم يستقروا داخل بلادهم، وسارعوا بالبحث عن عقود عمل خارج الحدود المصرية، كان بعضهم يراسله من الخليج والمملكة السعودية، وكانوا أحيانا يصفون له أرقاما خيالية لمرتباتهم وبالرغم من ذلك لم يكن يسيل لها لعابه، لم يسارع فى البحث عن عقد عمل كما فعل العشرات من أقرانه فى نفس الدفعة، وظل يلقى بفكرة السفر خارج نطاق حياته، كانت المدينة تملك عليه شغاف قلبه وتأسره بكل مافيها؛ كان يحزن لرؤية القبح منتشرا فى دروبها، لم يظن ابدا أن هذا جزاء المهاجرين المجهدين؛ استفحلت أكوام القمامة؛ كثيرا ما يتجه ببصره الى السماء أو فوق الاشجار؛ وخصوصا عندما يقترب من ضاحية بورتوفيق يجد أسرابا من الغربان لم تكن المدينة تعهدها من قبل. ضاقت الطرق بالسيارات وعربات الكارو وانتشرت الضوضاء والذباب فى معظم الاماكن، ازدادت المطبات وطفح مياه الصرف بين الحين والآخر كان يتعثر فى بحيرة من جراء هذا الطفح برائحته البشعة المميزة.

لم تنس فضيلة – بين حين وآخر – أن تلح عليه،وأن تطلب منه البحث عن عقد عمل فى دولة خليجية مثل أقرانه الكثيرين؛ بالرغم من حبه للمدينة، وايمانه العميق ببلده، وبأن الخير الكثير متوفر لدينا، وبأن الأحوال سوف تتغير عن قريب، وخصوصا عندما تستقر أحوال والده المالية ويسدد ماعليه من ديون، أرهقت كاهله، كانت بسبب الغرامات المالية التى تحملها الحاج ماجد أبو اليسر فى صمت وصبر..

أمام الالحاح لم يجد بدا من أن يخوض التجربة..

***

فى مكتبه؛ قال صادق:

أريد أن أعيش داخل مدينتى دون أن ألجأ الى الحرام!!

القناعة كنز لا يفنى!

قالها سامى.

أعرف ذلك؛ ولكن..

ولكن أنا أعلم ظروفك، ولذلك قرأت لك عن فرصة جميلة.

فرصة ماذا؟

فرصة للسفر؛ أتعشم أن تكون من نصيبك!

سأله صادق:

- وما هى؟

- يوجد إعلان فى جريدة الأهرام عن فرص عمل للمهندسين بدولة قطر..

- ما شاء الله! ما الميزات؟

- طبعا؛ فالميزات كثيرة ومشجعة يا ليتنى كنت مهندسا!

- وما هى ياترى؟

- كثيرة بالإضافة إلى الحصول على سكن عائلي مؤثث، وتأمين صحى؛ وأجازة سنوية مدفوعة الأجر هناك تذاكر سفر مجانية وزيادة سنوية فى الراتب.

فرد سامى الجريدة على المكتب، وقال:

- انظر..

تمعن صادق فى الجريدة وقال:

- حاجة عظيمة، شىء مفرح!!

- أرجو ألا تترك الفرص تتسرب من بين يديك كما أضعت فرصا أخرى كثيرة

- خيرا إن شاء الله.

---***---

17

وحدى.. بساذج إخلاصى الطفلى..

أصخت آذان الصدق لدنيا من أكاذيب

ومددت الكف اللين ضراعة لقلوب قدت من حديد..

عندما حان يوم الاختبار الشخصي لم يكذب خبرا، ذهب تحت إلحاح الظروف، من باب العلم بالشيء أولا، فرحت زوجته فضيلة؛ وأصرت على الذهاب معه.. لم تكن فكرة السفر تداعبه، وافق كمن يتجرع مرا؛ لا يكاد يسيغه.

سافر الى القاهرة مصطحبا زوجته، بحى المهندسين؛ بحث عن العنوان؛ وجد شارعا رحيبا؛ فى المنتصف هناك جزيرة تفصل الطريق إلى اتجاهين،عندما وصل الى المكان المطلوب؛ رأى زحاما شديدا حول مبنى السفارة، عدد كبير من البشر تجمعوا فى تلك الجزيرة الضيقة الفاصلة بين طريق الذهاب والاياب؛ سأل أحد الواقفين:

- هل الاختبار بدأ؟ فأجابه - وهو ينظر إلى شخص آخر- بلا مبالاة:

- واضح انه لم يبدأ

- ألا توجد كراسى داخل السفارة ليجلس هؤلاء الناس؟

-...

- حضرتك من القاهرة

- لا أنا اسكندرانى

- ياه؛ جئت من الإسكندرية جريا وراء الإعلان؟

- طبعا! كما جئت أنت وكما جاء كل هؤلاء الواقفين!!

- ومكان عملك؟

- استشاري جودة فى وزارة الصناعة..

- ولكن الإعلان لم يطلب استشاريين؛ فهم يطلبون مهندسين عموم فقط!!

- أعلم ذلك

- أيضا لم يطلبوا جودة على ما أعتقد!

- معلوم، سأقبل بالعمل مهندس عام، وهل هذه بلد تصلح للبقاء فيها؟!!

---***---

ساعتها كانت جموع المهندسين تقف على الرصيف ولم يسمح لأحد بالدخول داخل أسوار السفارة إلا أن يؤذن لهم، بعد قليل جاء شرطي مادا ذراعه؛ ومشيرا لجموع الواقفين على الرصيف بأن ينتقلوا إلى الجهة الأخرى المقابلة لمبنى السفارة حتى يبتعدوا أكثر عن المبنى؛ قال أحد الحضور:

- هكذا!! لهذه الدرجة!

رد عليه العسكرى بلامبالاة:

- ليس لى دخل؛ أنا أنفذ التعليمات

قال أحدهم:

  • تبعدوننا بدلا من أن تعطونا كوبا من الماء!
  • عيني لك! ولكني أنفذ التعليمات

- هل تعرف أنى قادم الآن من أسيوط يا رجل؟!!.

صاح أحد الوقوف بصوت عال وهو يمسح عرقه بمنديل ورقى مكرمش:

  • قولوا لنا يا جماعة؛ إذا كانت العملية مطبوخة؛ نرجع بلادنا أحسن ونريحكم ونستريح،الانتظار صعب والشمس حامية يا اخواننا!!

بعد الوقوف أكثر من ساعتين، ازداد الزحام؛ على الرصيف، وفى الشارع،وفى بحر الطريق أيضا حركة المرور كادت تصبح معطلة!! البعض أفترش الرصيف من التعب والإعياء منهم من غطى رأسه بمنديل مبلول، وآخرون تقاسموا إحدى الجرائد ليتفادوا بها حر الشمس، لم يكن المنظر يسر عدوا أو حبيبا، قرر صادق لحظتها أن يحترم نفسه وأن يسافر عائدا إلى مدينته فورا.

قال لزوجته:

- لا أستطيع أن أستمر فى هذه المهزلة أكثر من ذلك!

  • وهؤلاء البشر؛ ألا ترى أنهم مازالوا موجودين؟هل نحن أحسن منهم؟ أم على رأسنا ريشة؟

سكت على مضض..

---***---

بعد فترة فتحت السفارة بابا جانبيا صغيرا مواربا، ولم يلبث عساكر الشرطة إلا أن هجموا على المدخل مرة أخرى بعد أقل من دقيقتين، كان قد نفد خلالهما أكثر من مائة أو مائتى فرد إلى داخل مبنى السفارة، مما جعلهم يوقفون ذلك المد البشرى، وخطر على بال صادق تعبير الصينى "الموظفون الحفاة "؛ ولكنه شعر أن المهندسين بهذا المنظر المخجل لم يكونوا حفاة فقط؛ بل حفاة عراة!!

---***---

لم يكن أمامه بعد أن بدأ الإرهاق والعرق الغزير يتفصد من جبينه؛ إلا أن يطلق لساقيه الريح بحثا عن أى مواصلات للعودة..

لحقت به زوجته- مضطرة – وقد استمر لسانها يلوك كلمات الاعتراض والرفض-؛ بعد أن عبرا الطريق إلى نهايته سيرا على الأقدام؛ تمكن من إيقاف أحد التاكسيات الذى أنقذهما من الضوضاء والزحام والغبار والحر الخانق، وأهم من ذلك أبعدهما عن قلة القيمة وصل التاكسى إلى بداية الطريق العمومي المطل على ميدان كبير؛ ففوجىء به مغلقا ووجد أعدادا كبيرة من العساكر تصطف على الجانبين؛ سأل صادق أحد الجنود المصطفين ممسكا بيد زميله اللاصق به، ووجوههم جميعا تجاه المارة وظهورهم لبحر الطريق:

- إيه الحكاية؟ قافلين الطريق ليه؟

رد العسكرى بقرف وقد تفصد منه العرق:

  • المعلم جاى!!
  • المعلم؟ الريس شخصيا؟
  • اسأل واحد تانى... الكلام ممنوع يا أستاذ..

بعدها بقليل ازداد الحر والعرق وازدحام السيارات والناس؛ سأل صادق أحد المشاة:

- معاه ضيف؟

- بيقولوا ضيف من الجماعة السود بتوع أفريكيا

  • جماعة غلابة لا يحلّوا ولا يربطوا

اغتاظ؛ ولكنه كان قد دفع اليأس جانبا؛ فقد تعود على المزيد من الاحباطات؛ لم يكن يتوقع إهانة أكبر من التى رآها بعينه أمام مبنى السفارة تلك الإهانة التى لحقت هذه الفئة التى تحاول أن تبحث عن لقمة عيش نظيفة، بصرف النظر عن الثمن!!

انتظر هو وزوجته قرابة نصف ساعة داخل التاكسى وسط أفواج من المركبات المختلفة، حتى عبر الموكب ثم تحركت القافلة أخيرا بعد ان جاء الفرج تململ صادق فى جلسته وسمع السائق وهو يقول بحزن ظاهر: " آه يا بلد"..

---***---

18

الحرب نذير شؤم،

رعب نافذ فى قلب الحى بسكين؛

فما كان لعاقل أن يسلك إليها سبيلا..

لم تكن السيدة محاسن تركن الى السكون، كانت تحب بطبعها أن يكون هناك شيئ مشتعلا، من الممكن أن يكون هذا الشىء حوارا ساخنا أو فكرة تلتمع وتتوقد فى الذهن ليس لغرض محدد؛ ولكن لمجرد التغيير، ذلك التغيير الذى صاحب حياة السيدة محاسن؛ فهى تنفق مال زوجها وببذخ؛ على مظاهر الثراء فى شقتها الرحيبة بمصر الجديدة؛ ودائما ماترتاد محلات ومعارض الأزياء والجاليرى؛ كانت تهوى التبضع، لم يكن زوجها يتواجد بمصر إلا اسبوع واحد؛ ويغيب فى البحر ثلاثة شهور، فكان يأتى اليها كالضيف؛ وفى كل مرة يضع فى يدها مبلغا من الدولارات يسيل له اللعاب، كانت تأخذه منه دون أدنى علامة للإمتنان، أو حتى نظرة ود؛ كانت تتلقى المال والهدايا؛ وتتفحصها وتقلبها كأنما تنظر الى بضاعة راكدة، ببرود شديد؛ يصل الى حد الصفاقة، أحيانا يحمد الله أنها لم تحاسبه.

بقدوم الصيف، صارت محاسن تكثر من الزيارات الى تلك المدينة الساحلية؛ وتثقل على زوج ابنتها الذى ظل صامدا متذرعا بالصبر والصمت.

جاء يوم، سافرت فيه الى ابنتها؛ التف الجميع حول مائدة الغداء؛ كانت عامرة بسمك البورى المشوى، والسبيط والجمبرى والجلمبو الذى طلبته حماته بالاسم؛ بالإضافة الى السلاطات؛ بعد انتهاء الغداء جاء الحلو. بعد أن انتهوا من الطعام؛ أمسكت بالسيجارة كعادتها وانتظرت حتى أشعلها لها صادق؛ أمسكت بخشبة الخلة تلوكها فى فمها وتتخلل بها أسنانها؛ كانت سحب الدخان تتصاعد وتتماوج حتى تصل الى سقف الحجرة.

قالت له؛ وهى تصوب نظرة ثابتة الى عينيه:

أنا ملاحظة أنكم لا تأكلون السلاطة

كيف؟

لم أجد سلاطة على الترابيزة!

اعتقد انها ليست فرضا كل يوم

ربما تنسى شراء الخيار؛ لم لا تشترى الخيار يا صادق؟

لقد لاحظت ياحماتى أنك تقصدى شيئا آخر؟ هل هذا صحيح؟

لا؛ ولكن فضيلة هى التى تقول إنك لا تشترى الخيار والجرجير.

سأشتريهم المرة الجاية...

أخرجت سيجارة أخرى من علبتها الأنيقة، وسارع صادق إلى إمساك الولاعة الذهبية والضغط عليها، وقربها الى محاسن لتشعل سيجارتها، سحبت نفسا عميقا وقالت:

المهم...ما أخبار أسرتك؟

بخير والحمد لله

ماذا فعل والدك؟

بخصوص ماذا؟

بخصوص مساعدتك..

وعدنى بمبلغ؛ عندما تتحسن الأحوال؛ سنضعه مقدما لشراء سيارة..

ردت محاسن باستغراب وضيق:

تانى!!

ماذا تقصدين ياحماتى؟

سحبت نفسا من سيجارتها وقالت:

أقصد إذا لم تكن تقدر تغير شقتك؛ فعلى الأقل تدهنها!!

أدهنها؟!

نعم..البويات يرتفع ثمنها مع الوقت!

ولكن..ليس هذا وقته ياحماتى..ثم ان الشقة مدهونة من أقل من عامين وهى مازالت بحالة جيدة..

اسمع الكلام، وبطل تخاريف... طول عمرك مخالفنى؛لا أدرى على أى أساس! خالف تعرف؟

لا يا حماتى ولكنها زادت وطفحت؛ لا يمكننى أن أكون منقادا لك..

ونظر الى زوجته رافعا صوته الغاضب قائلا:

سامعة أمك؟ سامعة ياست هانم؟ مالك تسكتين؟

لم ترد فضيلة..أكمل مغتاظا:

إذن أنت موافقة على على كل هذه الترهات؟!

***

19

آفاق شطآنى فوق المدى،

لكن الأعاصير لفح نزق ثائر طى الأبد؛

الكل جانى صيد..

ووحدى؛ ساحتى خلاء..

 

تكررت على فضيلة التهامى نوبات من الألم تصيب موقعا محددا بالساق اليسرى، يصاحبه جروج متكررة وتقيحات بالجلد،وبثور صديدية بأسفل الركبة..

فى مساء أحد أيام أغسطس الحارة؛ سافرت الأم لزيارة ابنتها بالمدينة الساحلية الجميلة؛ جلست السيدة محاسن بالروب، وفى يدها سيجارتها كالمعتاد، وقد وضعت أمامها فنجانا مترعا بالقهوة؛ يتضوع منه رائحة البن المحوج؛ كان صادق قد جهزه لها؛ عقب تناولها الكباب الذى كانت قد طلبته واشتراه بنفس راضية؛ بالرغم من الضائقة المالية التى يمر بها.

قالت السيدة محاسن لزوج ابنتها:

اسمع..لازم تهتم بزوجتك أكتر من هذا..

يعنى إيه ياحماتى؟

يعنى ما قلته لك..

أنا لا أقصر في حقها، وقد عملنا أكثر من تحليل وأشعة، ولم نجد فيها شيئا حتى الآن..

قالت له:

قلبى غير مستريح،اسمع سوف آخذها معى الى القاهرة ونعرضها على كبار الاطباء..

ليس لدى مانع؛ ربما تكون الأتعاب هى المانع الوحيد..

سوف ادفع لك؛ ويكون على سبيل القرض.

وافق صادق ممتنا؛ بالرغم من احساسه بالمرارة من تلك الطريقة التى تحدثه بها حماته من أنفها وزاد على ذلك بخلها الشديد، الذى يتنافى مع انفاقها ببذخ – فى حياتها الخاصة- على توافه الأمور، كيف تبخل على ابنتها؟ وكيف يطاوعها قلبها؟ ربما قبلت الانفاق مرغمة – مؤقتا – لتطلب منه بعدها ما طلبه شيلوك فى تاجر البندقيه!! تطلب قطعة لحم من جسد المدين؛ وفاء بالدين الذى أيقن صادق أنه لمجرد النكاية به شخصيا؛لأنه فى كل مناسبة؛ كان يرفض الانصياع لأوامرها وتوجيهاتها، التى كانت تحب أن تلوكها وتسوقها ليل نهار!.

***

20

الزم حد الصمت والسكينة

تتقدس خصالك،

فتسلك مسلك الطبيعة الدهرية

كان الوضع مؤسفا وخصوصا إثر اجتياز محاولة السفر؛ التي أحس بعدها بالجزع والمرارة؛ مواقف كثيرة تركت أثارا سيئة فى نفسه شغفه بتحليل سلوك البشر؛ كان يدفعه أحيانا لتحمل صدمات كان يمكنه إيقافها والرد عليها بالمثل..دون الاكتفاء بالتفكير والتحليل..

كان يسأل نفسه: هل هو نتيجة لتراكم ثقافة الانفتاح؟ وما تلاها من ثقافة غثة لا يمكنها أن تطور من حياتنا أو تأخذ بيدنا الى الأمام؟ أحيانا يجىء شخص ما ويسألك هذا السؤال الذى يجعلك إما أن تفكر فيه جيدا حتى لا يكون شكلك

"وِحِش" أمام الرجل وخصوصا أنه يبتسم فى وجهك ولا يعنيه سوى مشكلته الشخصية، ولا يعترف بأن الوقت لا يسمح بإطالة الحوار، ثم يقول:

- ياه يا باشمهندس.. لحقت تنساني!!

يرد مجاملا:

- كيف أنساك؟، شكلك ليس غريبا عنى!!

فيقول متشجعا:

- أنا زكريا..زكريا العبودى، فاكر عملت لى قرار الترميم من مدة، أكيد فاكر!!

يرد صادق:

- أكيد طبعا

- الكلام ده من مدة..

- متى يا عبودى؟

- من حوالى 6شهور كده أو سنتين، بعد تعيينك فى المديرية بحاجة بسيطة

- تعيينى كان من 6 سنين..

- آه تقريبا كده..

- يا سلام!!

- فاكر الموضوع يا باشمهندس؟

- لا أظن

- ياه... لحقت تنساه؟ مطلوب قرار إزالة بيت كفر النجار...

- مبنى من كم سنة؟

- حوالى63

- حاضر سوف نراه

- فيه دانة دخلت من السقف،أيام العدوان

- عملت محضر؟

- أسألنى فطرت ايه يا باشمهندس... أنا فاكر؟!...

- أين القرار؟

- طبعا ضاع!

- وأنت عامل إيه؟

- الحمد لله؛ هذه الأيام ألاحظ تغيير فى لون البوية؛ أحيانا لا أشعر به وأحيانا يهيؤ لى إن المبنى فى حالة خطيرة..

ينظر صادق اليه متأملا هذه الدماغ العبقرية!؛ التى تعبر عن نفسها بوضوح مطلق!، متشبسا ببقايا عقل وارادة.. لذا حاول أن يخرج من الموقف بلا خسائر، قال:

- حاول تنساه

- ممكن أسأل سؤال؟

- تفضل

- الولد ابن أختى عنده قطعة أرض محتاج يبنيها

- مبروك مقدما

- أعمل له إيه؟

انتزع المهندس ابتسامة سخرية قائلا:

- هات له مقاول!!

***

قامت المحافظة بحملة للمرور على المحلات والغاء المخالفات؛ لإعادة الأحوال إلى وضعها الطبيعى حتى يتمكن الناس من السير فى الطرقات كباقى خلق الله فى الدنيا..

فى المديرية، جاءت سيدة مسنة - كانت تتردد لتبيع السجاير والحلوى للموظفين – طلبت أن تقابل المهندس، قالت له:

- نسيت أقولك يا باشمهندس!

- ماذا؟

- ابنى سوف يأتى اليك غدا، أرجو أن تهتم به، فهو صاحب كوم لحم

رد قائلا:

  • حاضر، ما اسمه؟
  • رجب..خدامك رجب..

***

صباح اليوم التالى عندما كان صادق يرتدى ملابسه مستعدا للذهاب إلى عمله، رن تليفون منزله فجأة وتناول السماعة:

- آلو.. من حضرتك؟

- أنا رجب،

- أهلا وسهلا...رجب من؟

- رجب ابن الحاجة...

- نعم؟ الحاجة من؟

- أنت نسيت يا باشمهندس!

- لا أتذكر!

- الحاجة قالت إنها كلمتك عنى

- نعم..نعم

- سوف أجىء لك فى المديرية؛ ربع ساعة وأكون عند سيادتك

- أهلا وسهلا

- مع السلامة

تعجب من تلك المكالمة ووضع السماعة

***

- المخالفة كبيرة ياباشمهندس

- مخالفة إيه؟

- البروزات وإشغال الرصيف والتندة..

- ماذا تعمل يا رجب؟

- صاحب ورشة خشب بمساكن الحرفيين..

- أهلا وسهلا..

بعد أن انهى رجب كلامه؛ وضع مظروفا منتفخا على حرف المكتب، تعجب صادق وأحس بما ينويه الرجل.

نظر صادق شذرا إلى المظروف؛ قائلا بلهجة حاسمة:

- خذ هذا..خذ يا بنى آدم..

ارتبك رجب و حمل مظروفه وغادر المكان؛قال وهو يحدق فى صادق؛ مستنكرا:

- غريبة..غريبة والله... يظهر فيه حاجة فى دماغه

 

21

كادت خطوة الواثق تتعثر

ثم كادت وثبة اللهفان تتقهقر؛

وأوشك دعى الجاه أن ينخسف

..فى حضيض المذلة.

ظلت فضيلة التهامى تتردد زمنا على أطباء القاهرة، كان صادق يغادر عمله و يسافر لكى يلاحق نتائج التحاليل والأشعات المطلوبة؛ لم يعارض حماته التى ارتفع صوتها فى الآونة الأخيرة بفضل إحساسها بأنها صاحبة اليد العليا؛ كانت تنقلاتهم بالقاهرة موزعة بين ميدان الفلكى والتحرير ومدينة نصر، زادت قائمة الديون على صادق؛ تعرف على عيادات لأطباء لم يكن قد رأى هذه العيادات بأذواقها وأشكالها المتباينة من قبل؛ منهم من يطلق الموسيقى الهادئة،ومنهم من تشقى عيادته بالبشر وينحشرون حشرا فى مكان ضيق ونصفهم واقفون على السلم فى انتظار أدوارهم؛ تعجب من الأرقام الفلكية التى يطلبونها؛ والتى تعدل أضعاف أضعاف ما يطلبه الأطباء فى مدينته الساكنة الهادئة..

***

ذات يوم قال أحد الأطباء؛ وكان يجلس منتفخ الأوداج خلف مكتبه الضخم المرتفع – وقد اكتسى حلة الناصح الأمين – للسيدة محاسن عقب فحص بعض التحاليل والأشعة:

ابنتك يا مدام لا تصلح للزواج.

قالت الأم متعجبة:

يعنى إيه يا دكتور؟

قال لها الطبيب:

يعنى لن تستطيع القيام بالأعباء الزوجية

والحل..؟

دعيها ترتاح..تبعد عن زوجها..

وكأنما جاءها ما كانت تنتظر؛ لم تكّذب السيدة محاسن خبرا.

***

بعد شهرين أو ثلاثة من الطواف بعيادات الأطباء؛ لم يرسخ فى ذهن السيدة محاسن أى كلام سوى أن تبعد ابنتها فضيلة عن زوجها حتى لا تتدهور صحتها، فبالرغم من أن بعض الأطباء لم يخبرها بهذا الأمر؛ إلا أن هذا الطبيب – منتفخ الأوداج هو الوحيد الذى أفتى بهذا الاحتمال؛ وكأن هذا هو ما كانت السيدة محاسن تنتظره؛ فقد ظلت على اعتقادها فى كلماته التى ظلت تتردد فى أذنيها وقتا طويلا.

***

22

ثم إن الدنيا تنقاد لمن زهد فى تصريف أحوالها

فأما من نازع الطبائع

فسيرى منها وجه العناد،

ويقف له كل شىء منها بالمرصاد.

تلاطمت فى رأسه أحداث الليل والنهار، أحس بعرق غزير وقشعريرة مفاجئة، كان يحدث نفسه: تعلم كيف تخلد الى الراحة بعد التعب. تعلم الهدوء والسكينة فهما غاليتان؛ يمكنك من خلالها أن تستشف أجمل معانى الحياة، وأن تنفذ الى سر من أسرارها، وهذا ليس سهلا ولا رخيصا.

تعود ألا تكون ضعيفا أمام صعاب الحياة؛ وألا تهتز بسهولة وأن يكون عودك صلبا لا نبتة ضعيفة يسهل استئصالها.. أعرف أن قوتك فى مواقف كثيرة هى: ألا تنفعل!!

كيف يحس للحياة طعما دون أن يكون منتجا؟ هذه الفكرة كانت تؤرقه..

فى هذه اللحظات أحس كأن مدينة جسده آخذة فى التردى والانهيار، كأنما يغوص ويهبط الى واد سحيق، أو كأنما يسقط فى اعماق بئر ليس له قرار، شعر بالابتعاد رويدا رويدا عن أسباب الحياة كأنه يغادر مدينة الجسد المنهار... ترددت فى ذهنه أقاويل النهار وأحداثه العجيبة...سمع شكاوى تتردد فى أذنه، ومواقف لا يجد لها حلولا..:

دلال السمان؛ عجوز تتبختر..

كانت ياما كانت...

***

الفلوس والرخصة...الفلوس مقابل الرخصة

عاوزه أرفع دورين ياباشا، 20 ألف فى الشنطة..

خذ فلوسك يابنى آدم..الله الغنى.

الذى مايستحى يفعل ما يشتهى...

***

يسأل: اسمك ايه؟

فلان

يعود بعد قليل ويكرر السؤال..

ما المطلوب؟

ألغى المحضر..

فى القسم يا بنى آدم..

***

الريس سأل عليك

ماذا يريد؟

يقول إنك طالب نقلك

إلى أين؟

الجراج

أنا؟ ربما يقصد أحدا غيرى..أنا لم أطلب النقل..

***

أين عم ماهر؟

خرج يشترى 2 كيس شيبشى للريس!

***

شعر بصداع شديد..ارتفعت حرارته، استدعت زوجته طبيبا بعد أن أحست بالخطر لهذيانه وحرارته التى لا تريد الهبوط، قال لها الطبيب انه مصاب بالحمى على الفور قام بعمل الكمادات وتركيب المحاليل وحقن المضادات الحيوية ومخفضات الحرارة، مر الوقت بطيئا، بعد قليل تحركت شفتا صادق وهمس:

الحمد لله..الحمد لله...إيه الحكاية؟....

نظر الطبيب فى وجهه مطمئنا، التمعت جبهته بقطرات من العرق؛ احس بقشعريرة وبرودة، طلب بطانية ثقيلة وانكمش فى سريره حتى هبطت الحرارة تدريجيا، أمرهم الطبيب أن يطفئوا الأنوار؛ غادر بعد أن تماثل صادق للشفاء؛ وانقشعت عنه نوبة الهذيان.

***

23

أما صاحب الخلق الدنيء؛

ففى أسر مظاهر الزهو والخيلاء..

ومن ثم؛ يبرأ منه الخلق الكريم.

الساعى لكسب حظوظ النفس.

فعاله محو وفناء..

ظلت كلمات الطبيب بخصوص ابعاد ابنتها عن زوجها تدوى فى أذنها، ومما زاد الوضع تأزما؛ ذلك الموقف الأخير الذى عادت بعده السيدة محاسن إلى القاهرة؛ وقد اتخذت فى سرها قرارا بأن تنتقم لنفسها؛ أرادت أن ترد ما اعتبرته إهانة لشخصها، بالرغم من أن صادقا طاوعها وقرر ان يبدأ فى البحث عن عقد عمل بالخارج، وبالرغم من تدخلها السافر فى حياتهما الخاصة، لم يستطع أن يأخذ قرارا حازما فى فصل حياته الزوجية عن حماته التى كان رد فعلها مغايرا على طول الخط.

تمثل الإنتقام فى محاولة عقاب صادق؛ بإبعاد زوجته وأولاده عنه، كانت تقول لابنتها:

كيف يجروء زوجك ويرد على؟ هذا الجربان الفاضى؟

لقد أحس بالإهانة يا أمى!

سألقنه درسا لن ينساه

ردت الابنة:

هدئى نفسك يا أمى

ما الذى سيحدث؟ سوف تعيشين معى أحسن عيشة؛ وتبعدين عن هذا الفقر ولو مؤقتا...

لم تتعود فضيلة أن ترفض لأمها طلبا..

***

تصادف أن سافر صادق لحضور دورة تدريبية لمدة ثلاثة أيام بناء على إشارة وصلت المديرية؛ كانت الدورة فى أحد المبانى التابعة لوزارة الاسكان والتعمير بالقاهرة، فى نفس الوقت الذى كان والده السيد ماجد أبو اليسر مسافرا إلى بورسعيد ليشترى بعض قطع غيار للسيارة المستعملة التى اشتراها لإنجاز أعماله، وصار لا يمكنه الاستغناء عنها.

***

فى تلك الأثناء؛ اتفقت السيدة محاسن سرا مع مكتب لنقل البضائع عبر المحافظات أن ينقل كل محتويات شقة ابنتها الى شقة أخرى استأجرتها بالقاهرة لهذا الغرض، وقد أبلغت زوجها؛ فقط أبلغته؛ بما يتم وهو فى عرض البحر. لم يأخذ الرجل خطا مغايرا، فهو لم يتعود على ذلك، فقد قرر التهامى منذ زمن عدم الاحتكاك بزوجته الجبارة، ورفع الراية البيضاء؛ وآثر أن يقضى أجازاته فى هدوء، حتى لا تهينه وتمسح كرامته بلسانها السليط..كان يرد فى مواقف كثيرة:

الحكاية لاتستأهل؛ أنا موافق.. ليس عندى مانع.

استمر العمال فى صعود وهبوط على درج عمارة الحاج أبو السعد، يصعدون خالين ويهبطون محملين؛ أحضرت السيدة محاسن اثنين من النجارين لفك العفش؛ كما طلبت كهربائيا لخلع النجف والابليكات من الأسقف والحوائط .. تعجب الجيران وخرجوا من شققهم للفرجة على ما يجرى؛ وليعرفوا ما الموضوع، حاول البعض أن يستوضح الأمور، ولكنه لم يجد من يتحدث معه؛ لم تكن هناك أذن صاغية.

ظل الجميع فى مهمتهم حتى أوشكت الشمس على المغيب.

تأسف الناس عندما علموا الموضوع؛ وأن كل شىء قد تم من وراء المهندس صادق ودون علمه؛ كان النجار- لإنهاء الحوار - يقول للمتسائلين عما يحدث:

سمعنا ان صاحب الشقة سيغير العفش.

***

24

.. لذلك؛ لا يطيش قلب العاقل؛

فلا يفشل سعيه؛

ثم إنه لا يقيد مراد النفس؛

بما لا ينبغى له؛

فلا يحزنه فقد

ولا يصيبه خسران.

فى مساء اليوم الثالث؛ بعد انتهاء الدورة التدريبية عاد إلى مدينته، كانت السماء ملبدة بالغيوم وقد سرت نسمة باردة فى الفضاء؛ تعجل صادق الذهاب إلى منزله كى ينعم بالدفء والراحة بعد ثلاثة أيام مرهقة قضاها فى القاهرة؛ كان يحمل معه حقيبة بها بعض المخبوزات والحلوى التى يحبها أولاده، عند اقترابه من باب الشقة؛ ضغط على زر الباب؛ لم يفتح أحد .. أطلق من بين شفتيه صفيره المعتاد؛ وانتظر. بحث فى جيبه، أخرج المفتاح وفتح الباب؛ صعقته المفاجأة؛ ألقى نظرة داخل الشقة؛ انتابه الرعب، لم يصدق عينيه .. شعر بفراغ غريب. ساورته الظنون فى نفسه وفى عقله، ربما أخطأ فى الشقة؛ خرج؛ وأعاد النظر إلى رقم الشقة على الباب الخارجى،هى هى! شاهد يافطته الزنكوغراف المكتوب عليها اسمه "مهندس صادق ماجد أبو اليسر"!

ضغط على زر الكهرباء فلم تضىء الكوريدور؛ نظر الى السقف، لم يجد مصباح الكهرباء حدق فى كل شىء؛ تقريبا لم يجد شيئا سوى رسومات وشخبطة ابنه على الحائط و أسفل الباب، لم يكن ثملا ولا مخطئا، جالت عيناه داخل الصالة، وجدها خالية؛ لم يجد الكنبة التى تعود الاستلقاء عليها عند عودته من الخارج، دخل إلى المطبخ وجده خاليا،أسرع ملتاعا الى حجرة النوم، لم يجد شيئا سوى كومة ملقاة على الأرض .. دقق النظر فيها وقد شعر بدوار؛ رأى ملابسه بما فيها ملابسه الداخلية وسراويله وقمصانه وبدلة الزفاف التى كان محتفظا بها، الكل ملقى على الأرض فى جانب من الحجرة ... مناشفه وبيجاماته تناثرت على الأرض ... بعض الأحذية والشباشب الخاصة به متناثرة هنا وهناك.

أجال نظره على الأسقف والحوائط، لم يجد النجف والاباليك التى كان والده قد قدمها هدية له،حزن كثيرا عندما رأى الأسلاك مقطوعة بحذاء السقف مباشرة، لم يتركوا حتى قطعة من السلك.

لم يكن هناك مصباح واحد يمكن اضاءته كان الليل قد طغى وساد الظلام داخل الشقة،أخيرا خرج مذهولا؛ وهو يجر ساقيه؛ لا يدرى أين يذهب؟ أول مكان خطر على ذهنه هو منزل أبيه؛ ولكن ماذا يقول لأبويه؟ لماذا أتى فى هذه الساعة مباشرة بعد عودته من القاهرة؟ من المؤكد أن والديه سوف يلاحقانه بالأسئلة؛ فكر أن يقضى ليلته فى أحد الفنادق ولكن! ماذا يفعل بعد الليلة الأولى؟ وكيف يستمر الوضع؟

لم يفكر كثيرا ولكنه جر ساقيه وقرر أن يستمر فى سيره متوجها الى منزل أبيه.

---***---

كان خبر إفراغ الشقة من العفش؛ واختفاؤه بهذه الصورة مفاجئا وعجيبا؛ لم يسترح صادق فى البداية لإشراك والديه فيما حدث؛ إزاء اصرارهما، اصطحب صادق أباه ليطلعه على ما حدث بالشقة.

بالقرب من المنزل سلم صادق على أحد العابرين؛ قدمه إلى والده قائلا:

الأستاذ أحمد .. جارى

أهلا وسهلا يابنى.

نظر أحمد الى صادق قائلا:

ماذا فعلت؟

لا شىء

وهل ستسكت على هذه الفعلة؟

رد صادق بحيرة شديدة:

لا لا..

نظر الحاج ماجد إلى الأستاذ أحمد متسائلا:

هل رأيت ما حدث؟

زوجتى قالت لى إن العفش تم تحميله على سيارة لورى كبيرة، وغادرت

---***---

بعد أن شاهد الأب الفراغ اليائس داخل ردهات الشقة؛ قال لصادق هامسا:

هل ضايقتهم فى شىء؟

لا

هل شتمت فضيلة أو ضربتها مثلا؟

لا يا أبى.

غريبة! إيه الحكاية؟ ماالذى حدث للناس؟

---***---

25

تعس من ابتغى امتلاك الدنيا،

بمجمع قبضته..

ضل من تصور أنه مسيرها؛

وفق هوى قلبه..

الدنيا ملكوت قاهر يتأبى عن أن يذعن لعبث الأهواء!

حب التسلط والدونية أعميا محاسن التى أصرت على طلاق ابنتها،عندما عاد زوجها التهامى من البحر ليقضى اجازته،أخبرته بحزم؛ بمهمته التى رسمتها، طلبت منه أن يسافر الى صادق ماجد أبو اليسر، ويطلب منه أن يطلق سراح ابنته، لأنها لن تعود إليه ثانية، وطلبت أن يكون ذلك فى أقرب وقت.

بالرغم من رفضه فى قرارة نفسه لهذا المطلب الشاذ،وخصوصا وأن ابنته فضيله لديها ذرية منه، مما يزيد الموقف صعوبة؛حاول فى البداية أن يثنيها عن طلبها الغريب، ولكنها أصرت قائلة:

اسمع ياتهامى..أنت عارف إن لم تنفذ سأريك النجوم فى عز الظهر!!

قال لها بصوت خفيض:

حاضر؛ كله على دماغك..وأردف:

ودماغى أنا أيضا...

***

سافر السيد ماجد للتفاهم مع زوجة ابنه؛ كانت أمها دائما هى التى تظهر على شاشة الأحداث، قالت له بوجه عابس واقتضاب شديد:

بنتنا لازم تهتم بصحتها... ياحاج! ابنك لا يقدر الموقف؛ الكلام منتهى فى هذا الموضوع..

ماذا تعنين بالضبط؟

أعنى الذى قلته..

وهل هذا رأى فضيلة؟

أزاحت فضيلة ستارة على باب الحجرة قائلة من وراءها:

ما تقوله أمى مضبوط ياحاج..لا تتعبوا أنفسكم!!

---***---

26

ويتبادل اليسر والعسر المواقع؛

ويحل الطول محل القصر.

بعد وصوله الى عمله بالمديرية؛ جلس الى مكتبه، أحس بالارهاق، بالرغم من أنه لم يبذل جهدا، لم يغمض له جفن طوال الليل تقريبا، قابلته الآنسة شروق بابتسامة؛ أصابت سهما داخله؛ وضعت أمامه كومة من الأوراق، قالت:

صباح الخير

رد باقتضاب:

صباح النور

مالك يا باشمهندس؟!

بدت على وجهه امارات الشرود والاجهاد، قال لها:

أبدا مافيش..

أردفت وهى مازالت محتفظة بابتسامتها:

واحد عربى سأل عليك.

بالرغم من إحساسه بالتعاسة التى سببتها له مشاكله العائلية، بالاضافة الى المشاكل المجتمعية، التى جعلت وجهه مغلفا بالصرامة، الا انه تصنع ابتسامة؛ قائلا لها:

عربى وألا انجليزى؟

رجل لابس جلابية بيضاء كالحليب، ومغطى رأسه بفوطة حمراء وعقال

تنسم صادق من قولها، وقال:

فوطة حمراء.. قصدك غترة

لا أدرى، المهم إنه من دولة عربية طلب منى أن أسلمك هذا الكارت

نظر صادق فى الكارت، وجد:

"حمدان الثبيتى"

رجل أعمال

أرجو الاتصال بى على التليفون رقم......"

---***---

27

العاقل من تنقى خاطره عن نوازع الأنانية؛

فهو يطلب حيث تطلب الناس، ويريد بمراد نفوسهم

ثم إنه كريم مع الكرام،

وكريم أيضا مع اللئام؛

فهو على ذلك حتى يطوف به الاثر الجميل بين الناس

تعجب للأقدار التى تعيد ترتيب أمورنا؛ فى كثير من الأحيان لابد لنا من أن نرضخ للمشيئة؛ وأن نكيف أنفسنا؛ حسب ما أرتأته لنا.

رأى أنه من الحكمة أن يتوافق مع تيار الحياة؛ وتأكد له أن المصادفة ليست إلا وليدة قدر معلوم، وأن كلمة صدفة ليست فى قاموس العالم، هذا العالم المحكم الذى نجرى لاهثين كل لحظة؛ لنفك شفرة من أسراره ورموزه..

***

فى مبنى المديرية؛ كان عليه أن ينهى مجموعة إجراءات طويلة وسخيفة، من الممكن أن يتوقف السفر وتلغى الفكرة برمتها إجباريا عند إحدى محطات الروتين التي نصادفها أخبره أحد الموظفين بأنه يلزم إنهاء الإجراءات بشئون العاملين؛ سأله:

- ما المطلوب؟

- أولا عقد العمل ويكون موثقا من القنصلية السعودية والخارجية المصرية.

- وثانيا

- عندما تعود سوف أبلغك بباقي الإجراءات

- يبدو إنها طويلة!!

- ليست طويلة جدا ولكن كل إجراء له حل عند الكاتب المنوط؛ أو الكاتبة المنوطة.

ضحكا ضحكا رائقا على المنوط والمنوطة!!

---***---

سافر إلى القاهرة لإتمام الإجراءات وأخذ معه مبلغا من المال لصاحب مكتب السفريات وهو باقي ما تم الاتفاق عليه عند استلام العقد وذهبا معا إلى سفارة باكستان.

تساءل صادق:

- أنا مسافر المملكة وليس باكستان

ابتسم صاحب المكتب قائلا:

- مفهوم؛ ولكن يبدو أنك لا تغوى السياسة

- ولم؟. أجاب الرجل:

- يوجد حاليا قسم رعاية المصالح السعودية داخل سفارة باكستان لان العلاقات السياسية متوترة بيننا وبين المملكة وخصوصا بعد اتفاقية كامب ديفيد.

كامب ديفيد كانت سنة 78؛ ونحن الآن فى 86

على فكرة؛ خذ بالك؛ هناك بند بالعقد "ممنوع الكلام فى السياسة!"

أجاب صادق متعجبا:

- معقول؟

---***---

28

ليس على الأرض رحمة

فمكتوب على الإنسان أن يلقى صنوف الهوان،

سواء أقام فى الأرض

أو حلق فى السماء..

بالرغم من إنهاء كتابة العقد وتوثيقه، إلا ان صادقا شعر بغصة وجفاف فى حلقه،لم يعد يشعر بطعم للأفعال والاشياء، كان يائسا إلى حد كبير، حاول أن يخرج من دائرة الإكتئاب التى عانى منها لفترة،كانت صداقته لسامى وانشغاله بعمله ينسيانه كثيرا من همومه التى طغت عليه.. كما كانت الابتسامة الحانية للآنسة شروق بلسما واقيا من احباطات يومية معتادة.

عندما رجع إلى الأستاذ نزيه الموظف بشؤون العاملين لإنهاء باقي الإجراءات وجهه لعمل إخلاء طرف فقال:

- بسيطة؛ ضحك من تحت كمه و أعطاه النموذج المطبوع،نظر صادق إليه في عجالة وقال:

- يا دين النبي!! ما كل هذا يا رجل؟؟؟

فأجاب بخبث ظاهر:

- بسيطة ياباشا.

عرف أنه يجب أن يقوم بعمل إخلاء طرف من الوحدة التي يعمل بها- وهذه فى يده -، ثم يقوم بعمل إخلاء طرف من جميع أقسام المديرية مثل المخازن والجزاءات والمكتبة وهلم جرا...

قابل أحد الزملاء القدامى،عندما رآه متحيرا قال له:

  • ولم لا تعطى هذه الورقة لنزيه يخلصها لك؟ رد قائلا:
  • اعتقدت أنها بسيطة..

عاد الى مكتبه مهموما، لم يكن يظن أن هناك عجزا عن اختراع نظام أفضل لتعاملات الموظفين وتيسير إجراءاتهم، وهل حقا تقف الدولة بكل أجهزتها مهيضة الجناح لا يمكنها أن تخترع نظاما ميسرا لعباد الله من المواطنين الذين يضيعون معظم أوقاتهم لهثا وراء المصالح الحكومية... لم يقتنع لحظة بعدم قدرة الأجهزة الإدارية على حل هذه المعضلة، ربما كان الشك فى المواطن هو الأصل فى طريقة اختراع الجهابذة للقوانين والنظم التى تكفل الحيطة وربط الحبال جيدا وتحزيمها على وسط الموظفين حتى لا يستطيعون إلا أن يتمايلوا يسرة ويمنة مسبحين بآلاء كبرائهم وحمدهم والثناء عليهم... تراجع مرة أخرى عن أفكاره، وقال لنفسه: ولكن الأرجح هو أن الأستاذ نزيه عبد العاطى مازال يهيمن على رقاب العباد، بل ويتلذذ تلذذا ساديا غريبا؛ ولا يشعر بوجوده إلا عند إحساسه بأن طالب الخدمة أصبح مطيعا مستسلما؛ كالخرقة بين يديه.

---***---

قدمت شروق إلى مكتب المهندس صادق؛ كانت تحمل كتابا فى يدها؛؛ نظر إليها صادق متسائلا:

كتاب عن ماذا؟

أحببت الشعر من صغرى، وأقرأ لصلاح عبد الصبور هذه المسرحية.

ولمن تقرئين أيضا؟

أحب قراءة المتنبى والبحترى؛ وشوقى وأحمد عبد المعطى ونزار قبانى.

ياسلام! أنت مثقفة إذن ياشروق!

بعض مما عندكم!

لا.. بعض مما عند والدى

عند والدك؟

نعم

ماذا يعمل والدك يا باشمهندس؟

والدى؟ ممكن أن تقولى رجل أعمال .. أعمال حرة، صاحب مخابز

عظيم .. بدونه لا نستطيع العيش!

إذن أنت شاعرة ..الشاعرة تطفو على السطح

تبسمت شروق وتساءلت:

عندما دخلت عليك أحسست أنك مهموم .. هل هذا الاحساس مطابق للواقع؟

سكت قليلا وسرح بعينه وهو يقول:

صدقت

هل يمكننى أن أسألك .. ماالذى يشغل بالك؟

أبدا .. كنت أفكر فى كيفية إنهاء الأوراق الخاصة بالسفر

نظرت فى عينيه كأنما لتستطلع الحقيقة وتساءلت:

وهل تنوى السفر حقا ياباشمهندس؟

لإسكات الشياطين، ولملأ البطون.

الشياطين؟

نعم .. شياطين الانس .. وتبسم مردفا بسرعة:

هل سمعت الشعر الذى يحبذ السفر؟

ما هو؟

سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش فى النصَب!

إني رأيـت وقـوف المـاء يفسـده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطـب *

سمعت والدى يلقيه عندما يكون أحدنا على سفر.

.بالمناسبة .. أعود لسؤالى .. ماالذى يضايقك؟

وهل يهمك ذلك؟

اتجهت بعينيها إلى عينيه؛ كأنما تبحث داخلهما عن معنى.

أعتقد لأننا على الأقل زملاء فى مكان واحد..

رد صادق بيأس:

* الامام الشافعى

المواطن ممكن يضيع بسبب الاجراءات والروتين .. يعنى هل لنا قيمة هنا؟

المهم ياباشمهندس، ماحكاية أوراقك؟

أوراقى عند نزيه أفندى، يبدو أن الموضوع سيطول.

أجابته شروق:

- لحلحه!!

خبطت هذه الكلمة فى دماغ صادق؛ واتخذت لها موقعا هادئا داخل تلافيف مخه.

***

في اليوم التالي عمل بالنصيحة؛ دس مبلغا فى جيب نزيه أفندى الذى قال له - مشيرا بإصبعه الى عينيه- وهو يودعه خارج الحجرة:

- من عيني الاثنين ... أنا تحت الأمر.

رد بصوت خفيض:

- متشكر قوى

وهو سارح بفكره؛ فلم يكن يدرى أن الأمر هكذا.

لاحظ صادق أن أعداد الموظفين ربما يفوق عدد الجمهور فى بعض المصالح؛ تذكر المشاجرة التى رآها عندما ذهب يوما إلى المديرية؛ سمع أصواتا عالية، ولما صعد الدرج إلى المكاتب سمع تراشقا بالسباب بألفاظ جارحة وإشارات فاضحة، وعرف أخيرا أن الخناقة كانت بين اثنين من الموظفين بسبب كرسي؛ فلا يوجد سوى كرسي واحد للاثنين!!!

---***---

فى حجرة جانبية كانت الموظفات يضعن البراد فوق السخان الكهربائي الموصل بسلك سميك إلى مدخل الكهرباء بأسفل الحائط؛ وفوق مكتب متهالك فرشت أوراق جرائد وضعت عليها أقراص الطعمية وقطع الباذنجان المقلي وشرائح البطاطس المحمرة؛ وفى المنتصف طبق هائل من الطرشى، وجوارها وقفت إحدى الموظفات تقضم بأسنانها عودا من البصل الأخضر محدثة صوتا مميزا، وقد التف حول المكتب ثلاثة أو أربعة من الموظفين المحظوظين بالوجبة الطازجة انسحب تحرجا من هذا المنظر وخصوصا بعد أن قال له احدهم بفم محشو بالطعام:

- تفضل.

  • شكرا.

قالها؛ وانصرف فى الحال من الحجرة بعد أن شد المنظر انتباهه.

---***---

29

الفوز لمن نال حظوة.
والخزي لمن تردي في حمأة الهوان.. لا ظل ولا اثر
والعاقبة، سواء بالفوز اوالخسران، مكمن خوف مقيم..
كالمصير.. كالقدر

بعد سلسلة من المشاوير واللف والدوران على المكاتب المختلفة؛ أنهى نزيه المهمة؛ فرح صادق بهذا الانجاز، أحس أن الله قد وفقه لإنهاء هذه الإجراءات التى لم يكن يطيق القيام بها بنفسه؛ لم ينس أن يرسل الأوراق الى مكتب السيد سكرتير المحافظ لكى تمهر هناك بباقى الأختام الرفيعة حتى تزداد مشاويره القليلة مشوارا؛ فلا بأس من مشوار آخر!!

سافر صادق الى القاهرة ليعرض الأوراق على صاحب مكتب السفريات، طلب منه الأخير أن يحضر شهادة أخرى.

تساءل صادق:

وما هى؟

شهادة خلو من الأمراض!

عاد صادق الى مدينته؛ ليحصل على الشهادة؛ فوجىء بزميل له يقول:

- رجعت لتستخرج الشهادة؟

- نعم

- لا تنفع من هنا .. كان عليك استخراجها من مصر..

- قلت هنا أسهل

- ولكن المملكة لا تعترف إلا بمجموعة من المستشفيات داخل القاهرة

- هل سأسافر مرة أخرى لأستخرج الشهادة؟

- أهم شيء تاخد معاك فلوس كفاية .. أنت تعرف إن هذه مستشفيات خاصة يا سيدى.

- ولم تقتصر على المستشفيات الخاصة؟

نظر اليه زميله باستخفاف قائلا:

- الله أعلم ياحبيبى؛ مدينتك مازالت قرية صغيرة، لم تكتمل فيها الخدمات

- يعنى فى كل حاجة لازم نسافر مصر؟

- يجوز ثقة فى مصر، ويجوز لغرض فى نفس يعقوب!!

---***---

 

30

 

الكون، بسمائه وأرضه،
موجود أزلا،
لأنه لم يوجد لذاته،
فهو خالد الوجود،
كذلك الحكماء، يتبوأون مكانتهم السامية،
بما يروضون أنفسهم من تواضع.
يحيون دهورا تحت ستر العيش.
برغم ان الدنيا لم تكن قصاري أمانيهم.
ألا تري أن الإيثار والزهد
يبلغ بالمرء مقاما أرفع مما تبلغه مقاصد الأنانية!

قال له صاحب مكتب التشغيل قبيل سفره:

معك ثلاثة آخرون على نفس الرحلة ذاهبين إلى نفس الكفيل، وهناك في مطار الملك عبد العزيز بجدة سيكون فى استقبالكم سائق خاص بصاحب العمل سترونه ممسكا بعلم أبيض صغير، حتى يمكنكم التعرف عليه.

امتلأ قلبه بحماسة لم تسبق أن صادفته من قبل، تشجع على السفر وأصبح حبه للمدينة مضاعفا؛ رغبة جارفة لزيارة المدينة، التى عشقها؛ كما عاوده حنين إلى طفولته، وذكرياته التى شكلت كل حياته، وتلك الأماكن التى ترعرع فيها، وعاش فيها طفولته؛ مدينة العشق والحب، بالرغم من تلك الأحداث التى لوثت- فى الكبر- مرآة قلبه، بل وجعلته يكاد يزهد فى الحياة. .. لم يصدق يوما أنه كان معترضا أو معارضا لتلك الفكرة - فكرة السفر- حقا لقد صدق القائل ان فى السفر سبع فوائد، كيف كانت هذه الفكرة غائبة عنه؟ " على الأقل سوف يجد فرصة لاعادة تنظيم الأوراق، ويبتعد قليلا حتى يظهر له وجه الحقيقة جليا واضحا " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " حدث نفسه: لقد كنت أكره السفر ومفارقة الديار، ولكن ما عساى أن أستفيد؟ لابد أن أقابل نصيبى وأن أستعد له، شاء الله ومشيئته نافذة، لا استطيع أن أفكر واقدر، لا يمكننى ذلك، ترددت فى ذهنه الآية الكريمة: " انه فكر وقدر فقتل كيف قدر " صدق الله العظيم.. قيل له: هناك سوف تجد بلادا نظيفة؛ ليس كما كنت تقرأ أو تسمع عنها فى طفولتك؛ لم تعد رمالا صفراء شاسعة تلسعها شمس حارقة، لا تترك لها فرصة إلا لعشب أو كلأ، مجرد صحراء لا تمدن فيها، يضرب أهلها الخيام هنا وهناك، يرعون الاغنام؛ و يغادرون الى حيث البئر والكلأ والغمام..لا تغيرت الدنيا يا صادق..تقدم العرب والسر فى دعوة سيدنا إبراهيم؛ وصار الكل ينجذب ناحية البترول، هل نالت تلك البلاد به الحظوة؟

بعد أن كان فى البداية رافضا للسفر؛ هام به ووجد نفسه يسعى اليه سعيا حثيثا؛ سأسافر وأرى مكة والمدينة، تذكر صبره على الناس، ولوعته من ظلمهم له؛ وكراهيتهم للحق، سأرى أنوار حبيبى، عسى أن يمنحنى منحة أو يسقينى بيده الشريفة شربة لا أظمأ بعدها أبدا..تذكر الحديث الشريف:نا مدينة العلم وعلى بابها" تعجب تماما من هذا الحديث؛ أثار خياله، هل يمكنه يوما أن يجول فى تلك المدينة الشاسعة المقدسة، التى يكون سيدنا على بكل علوه وما وصل اليه من الكمال والشموخ؛ مجرد باب فقط لها؟؟

خطرت بذهنه خاطرة؛ فالرجل يقول ستذهبون إلى نفس الكفيل وليس إلى جهة عمل واحده؛ فهل لذلك دلالة؟

لم يعرف الإجابة إلا بعد حين.

---***--

31

ولتكن كمجرى نهير فى أدنى سفح جبال مشيدة؛

تتقدس خصالك أبدا مؤبدا

وترد الى ديمومة صفاء ميلادك الطاهر،

فيشهد شاهد قلبك، قلب طفل وليد..

فى الصباح الباكر بدأت لحظات مغادرته؛ تموج بمشاعر عارمة...

طلب زيارة سيدى الغريب..تجسد احساسه بالرهبة كلما تذكر أنه سوف يغادر تلك المدينة بعد لحظات، تلك المدينة التى اختلط بها دمه،واحبها حتى النخاع، وأدمنها حتى الثمالة...

لم تكن المدينة قبل حرب الأيام الستة قد اتسعت بهذا الحجم الذى نراه اليوم، تذكر سيدي الغريب البطل والمنارة؛ وقد منح المدينة السمة التى اشتهرت بها - وهى بلد الغريب -،الذى يفقد غربته بمجرد وصوله إليها، يقولون أن هذا الولى استمر يدافع عن المدينة حتى أن المياه تفجرت بإرادة إلهية قرب مقامه من بئر - كانت قد أغلقت منذ زمن بعيد - ليرتوي بها المجاهدون أثناء حصار المدينة بعد حرب 1973

***

فى مدخل المسجد واجه لوحة رخامية يرجع تاريخها إلى عام 320 هجريه قرأ:

"إبراهيم بن محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن عمار وقد أرسله عبد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية فى بلاد المغرب إلى القلزم لفتح طريق الحج بعد أن أغلقه القرامطة الذين استولوا على الحجر الأسود من الكعبة المشرفة والتقى بهم فى معركة شرسة عند السويس واستشهد فيها، وبعدها تم فتح الطريق..

وفى المدينة تجد أن معظم العائلات العريقة بها تحمل أسماء تدل على أنها قادمة من خارج البلاد؛ غرباء مثل سيدى الغريب، عائلة الجداوى من جدة، وعقدة من المغرب وزهران الجزائرية الأصل؛ والعسكري من تركيا ... استوطنت بها وكانت الطريق للحجاج القادمين من أرجاء مصر، وبلاد شمال أفريقيا والمغرب، فهى بذلك تعتبر محورا لالتقاء الشرق الافريقى بالغرب الآسيوي."

.. غادر مدينته قبل طلوع الشمس؛ حتى يلحق الطائرة، أصر والده وأخته على الذهاب لتوصيله فى سيارة كان يقودها أخوه الأصغر مؤمن.

فى الطريق تداعت إلى ذهنه نتفا من حياته وذكريات طفولته قبل حرب 1967. فى ومضات استرجع تلك المعالم التى قد لا يقدر له أن يراها مرة ثانية..

تذكر شوارع المدينة الواسعة.. شارع الجيش المؤدى- فى نهايته - إلى ضاحية بور توفيق حيث المدخل الجنوبي للقناة والميناء الشهير بها، وغربا وشمالا الطريق إلى القاهرة، و شارع الجلاء الذى يسير موازيا للبحر، ويطل عليه ميدان وحديقة النافورة و مبنى المحافظة، وعلى بعد أمتار -على اليسار- تذكر كازينو ركس، وذلك الشاطئ الممتد وراءه والمسمى باسم الكازينو- شاطىء ركس-، تذكر المرح الطفولى عندما كان يتسابق مع أقرانه على جمع أكبر عدد من القواقع "الجندوفلى" التى اشتهر بها هذا الشاطىء؛ كادت صور معظم أصدقاء الطفولة تتبخر من مخيلته وقد فرقتهم ظروف الحياة والهجرة وانتشروا فى أصقاع البلاد،لا يصله عن بعضهم إلا النذر اليسير من الأخبار..

***

بعد شاطىء ركس يأخذ سطح المياه فى الاختفاء عن السائر فى الطريق تدريجيا كلما اقتربنا من السلخانة القديمة؛ والمدرسة البحرية والقزق؛ الخاص ببناء السفن وإصلاحها.

يقطع شارع صلاح نسيم المدينة بحذاء البحر؛ تظهر مساكن شل القديمة؛ التى يلتصق سورها بذلك المصنع العريق - شركة شل -التى تحول اسمها إلى شركة النصر للبترول بعد التأميم، ثم الجمعية التعاونية للبترول، يليها شركة السويس لتصنيع البترول، بعدها يطالعك فى اتجاه الشاطىء كلية البترول والتعدين وفيلات معمل تكرير البترول الحكومى، ثم يبدو سطح المياه الخلاب عند رؤية كبائن الكبانون القديمة، التي كانت المصيف العائلي الهادىء للسوايسه أيام زمان، بقع الزيت العائمة على سطح المياه بالشاطىء الذى كان، صنعت فى قلبه شرخا؛ لم يصدق يوما أننا نسير نحو الهاوية، أين ليالي الصفاء على ذلك البلاج العائلى الرقيق- بلاج الكبانون -؟ عندما تجول هناك - بعد الحرب -؛ كان المكان هادئا كئيبا؛ لا تتوفر فيه الخدمات، عائلتان فقط أو ثلاثة كانوا يقيمون فى الكبانون بعد العودة من التهجير...كاد حذاؤه يلتصق بالأرض ملوثا بكتل من الطين المخلوط بالزيت الاسود اللزج ونفايات السفن التى تلقى بها الامواج على الشاطىء.

تساءل: لماذا كانت المصانع قريبة جدا وتحتل الشريط البحرى الرائع الممتد على حافة الخليج حتى نهاية المدينة؟ ألم يكن فى الحسبان النظر الى مائتى سنة قادمة أو حتى مائة ترى هل من الممكن أن يتم هذا الآن؟

---***---

رأى؛ على يمين السائر - بطريق صلاح نسيم – منطقة "الزراير"؛ قبل حرب يونيو، كانت تحوى مصنعا للزراير؛ بالقرب من هذا المصنع أنشئت أيام عبد الناصر بيوت للشباب، مازالت قائمة حتى الآن؛ بعدها بقليل نادى النصر للبترول بعظمة هندسته البنائية، والسور الحديدي بلونه الأخضر الجميل، وقد ظهر من فتحاته مدخل النادى بدرجه المؤدى إلى ذلك الباب الزجاجى البراق؛ وقد انعكست عليه الأضواء، ولفحة الهواء البارد المنعشة الخارجة من فتحاته و التى كان فى الصغر؛ يتعمد الوقوف أمامها لحظات، مع صديقه عارف؛ الذى كان أبوه يعمل فى شركة شل، طالما تعلق قلبه بتلك الحدائق رائعة الخضرة والتنسيق، متطلعا الى الأزهار بألوانها المتباينة وروائحها العبقة التى تتضوع فى الفضاء الرائع، تنتشى بها الروح وتنعم العين برؤيتها؛ ألوان مختلفة من النخيل؛ القصير منه والطويل، صنوان وغير صنوان؛ متراصة فى أشكال هندسية فى الحدائق المنتثرة، وتخلل بينها النجيل بلونه الأخضر الجميل ورائحته المميزة؛ لا يهدأ البستانى ولا يمل من تسويتة وتهذيبه بماكينته التى تصدر صوتها المميز طوال النهار.

هناك على الجانب الأيسر تتوزع الملاعب، وقد أحاطت بها الحدائق، على جانب الممر يوجد المسجد وعمارات كبار العاملين بالشركة من مديرين ومهندسين من أصحاب الرتب الرفيعة..

فى الطريق وعلى امتداد البصر؛ بعد انتهاء سور النادى؛ تظهر فى نفس الاتجاه على اليمين شركة مصر للبترول ثم أنابيب البترول، يليها المساكن الخاصة بعمال المصانع.. بعدها بقليل تجد مصنع الثلج ثم محطة السويس للقوى الحرارية وبعدها تبدو فى نفس الاتجاه الغربي قلعة صناعية أخرى أنشئت على يد عبود باشا هى شركة السويس للأسمدة، وشركة كرا فت للورق، بفكر مؤسس الاقتصاد المصرى طلعت حرب، ثم نرى بعد ذلك صرحا حديثا وهو محطة كهرباء عتاقة. يستمر الطريق ممتدا حتى يصل إلى الأتكة والأدبية، ثم إلى العين السخنة.

أحس بأن بالمدينة كنوزا..لا يدرى هل مازالت مغلقة على ما فيها؟ أم تم اغلاقها بعد نهب ما فيها؟

---***---

آه.. من ذلك الحى العتيق! حى الأربعين؛ بمسجده العريق؛ "مسجد سيدى الاربعين" الذى يعتبر معلما من معالم المدينة الرئيسية، والذى يطل مباشرة على شارع الجيش المؤدى إلى القاهرة، الموازى تماما لشريط السكة الحديد القادم من ميناء بورتوفيق قاطعا المدينة طولا؛ مخترقا بعدها طريقه فى تلك الصحراء مترامية الأطراف؛ ليصل إلى القاهرة

مازال هذا الحى - حى الأربعين- عامرا بأهله من السكان الأصليين؛ بالإضافة إلى الوافدين من شتى المحافظات؛ كما هو الحال قبل حرب 1967جريا وراء لقمة العيش، وربما هربا أيضا من التخلف أو البؤس الشديد وخاصة فى أقاصي الصعيد، كما أن جو الصعيد بلهيبه وقيظه الشديد مع قلة فرص التشغيل؛ دفع الكثيرين إلى الهجرة نحو الشمال؛ والأهم من ذلك الهرب من الثأر الذى كان الى عهد ليس ببعيد منتشرا؛ كالنار فى الهشيم.

كان أجداده قد قدموا من الصعيد، قال له والده: ان الجد قد نزح مع عائلته هو مازال طفلا يحبو، واقاموا فى المدينة واستقروا فيها بعد أن اطمأنوا على لقمة عيشهم فيها، يساعد على الاستقرار قلة تكاليف المعيشة، ورخص الأسعار، والأجمل من ذلك- على عكس الصعيد - اعتدال الجو طوال العام تقريبا، ويستمر النازح إلى المدينة فى عيشة الكفاف من اجل أن يرسل معظم أجره الذى تقاضاه إلى أهله بالصعيد لكى يشترى بها قراريط أو يدخرها لبناء بيت له فى مستقره الجديد، وعادة ما كان يقوم الواحد منهم عندما يألف المدينة ويرغب فى الاستقرار بها بوضع يده على قطعة ارض من المسماة "ملك الدولة"وعلى الفور يشرع فى البناء عليها كيفما أتفق، يبدأ بعد ذلك فى إجراء مصالحة مع الجهات المسئولة، و تبقى الأمور على حالها؛ عليه فقط دفع مبالغ زهيدة مقابل الانتفاع بالأرض التى يتم تمليكها له بعد سنوات؛ وهى كما هى بهذا التخطيط المزري. كل هذا يتم فقط عندما تستيقظ الدولة من سباتها العميق ... استمرت هذه الطريقة البدائية - فى الاستحواذ على الأرض والبناء عليها- تتكرر مئات بل وآلاف المرات، مما شوه المنظر العام من الداخل؛ وخلق صعوبات فى توصيل المرافق إلي تلك الأماكن العشوائية.

---***---

تخيل أن سلمى ابنته تصحو من نومها، وتطل عليه بعينيها النعساوين؛ وتحس أن أباها سوف يغادر، ولم تكن آنذاك قد أكملت عامها السادس؛ كما تخيل أن ولديه يستيقظان ليسلم عليهما ويأخذهما فى حضنه، ويلقى على الجميع نظرة وداع، قد يستمر زمنا الله أعلم به.

كان فى قرارة نفسه يتمنى أن يراهم،وأن يرعاهم، وألا يتركهم فريسة لأفكار حماته؛ التى عصفت بحياته الزوجية، وحياة ابنتها؛ التى تظن ظنا خائبا أنها تحررها من الفقر؛ أو من زوجها العنيد.

تعجب وحبس دمعة كادت تفر من عينه كلما فكر أنه سيغادر أهله و أصدقاءه وأولاده؛ الذين يعيشون مع والدتهم بالقاهرة.

سيترك مدينته بكل المعالم التى يعشقها، وتلك الرائحة، التى اختلطت بروائح البحر، وغازات المصانع، وسيغادر شوارعها وأزقتها وحواريها وميادينها التى اختلطت بلحمه ودمه وعظامه، وامتزجت معالمها بشغاف روحه.

***

بالمطار؛ استمر صادق واقفا مع مودعيه أطول فترة ممكنة، ترقرقت عيناه بدمع ساخن؛ لم يسقط إلا بعدما ودعهم، واستدار مبتعدا؛ ملوّحا بيديه، بين الفينة والأخرى؛ كان يلتفت وراءه؛ وهو يدفع أمامه عربة العفش التي وضع عليها حقيبته، لم ينس تلك اللوحة الجميلة المرسومة بألوان الماء التى أهدتها له شروق؛ التى استمرت تحمل تجاهه مشاعر دافئة؛ لم يجد مثل تلك اللمسة أبدا فى حياته؛ عندما عبر بوابة المطار نظر خلفه؛ لم يستطع أن يميز أحدا من أقاربه، فقد اختفوا جميعا وسط الزحام.

---***---

32

وأعلم أن من لطائف التدبير

أن تعانى - فى مبتدا الأمر – مشقة الاحوال

حتى يصير زمام الأمور،

ويكمل لك منال الفائزين.

فى غربته كانت الدقائق تمر ببطء شديد؛ كان يفزع من أوقات الفراغ والملل؛ وأحيانا يشعر بالاستعباد؛ مما دفعه الى أن يفكر أكثر من مرة فى إنهاء تعاقده والعودة إلى بلده حتى ولو بخفى حنين كما يقولون، تعود أن يراجع نفسه لآخر لحظة، ويتحايل على الوقت ... أحيانا يجمع السباك والسائق ويجلس معهما، قال له الأسطى رجب السباك:

امس كنت فى مهمة بالمركز التجارى بجدة

أى مركز تجارى؟

رد:

مركز تابع للكفيل .. سافرت بالسيارة مع السواق تنج الفليبينى، خلصت شغل السباكة ورجعت.

عرف أن الارتباط بالكفيل وليس بمكان عمل واحد..

فى المساء؛ حاول أن ينهمك فى القراءة؛ لم يكن يركز جيدا فيها؛ اللهم إلا فى أوقات قليلة. كان يتواجد كثيرا وسط الناس أو يهم بالخروج؛ وعمل أى نشاط مثل الفرجة على الشوارع والأسواق، ومحاولة اكتشاف أماكن جديدة لم يسبق له أن رآها؛ كل ذلك لكى يقتل الوقت ولا يمنح نفسه فرصة الانفراد؛ حتى لا يفترسه شيطان الكآبة والفكر.

يذهب الى الأسواق؛ كان يهوى تأمل وجوه البشر، وسبر أغوارها – بينه وبين نفسه – كان أيضا يحاول أن يحصى عدد الجنسيات الموجودة حوله، فى الطرقات والأسواق ... وجوه متنوعة من أجناس مختلفة..

بمرور الوقت؛ كان يحاول أن يحدد نسب تواجد هذه الجنسيات بالمملكة، كان يجد ميلا إلى مصافحة الواجهات، والتعرف على أماكن جديدة؛ كما كان سعيدا بروائح تلك العطور الشرقية، التى كانت تتهادى إلى أنفه من محلات العود كما يسمونها، ولكن فرحته الكبرى كان يقضيها مركزا عينيه فى سطور رسالة تأتى إليه، وخصوصا تلك الرسائل التى أوصى صديقه الشيخ حسام أن يكتبها إليه، وأن يشرح له فيها أخبار مدينته حتى لا يزداد شعوره بالغربة والقهر.

---***---

بعد انتهاء الدوام جلس إلى مكتبه يخط رسالة إلى صديقه الشيخ سامى:

"تحية من الأعماق...

ويصح أيضا أن تكون من أعماق البعد السحيق أو الصحراء التى عبرنا فوقها، كنت مصّرا على أن أنظر الى الفضاء الشاسع، ولحسن حظى جاء مقعدى جوار النافذة، أخذت مكانى وتطلعت الى الخارج، وقد جذبنى البحر بلونه الفيروزى من علو شاهق، كنت مشدودا طوال الرحلة - التى لم تأخذ سوى ساعتين - بالنظر إلى الفضاء خارج الطائرة، بهرتنى تلك التنويعات العجيبة التى تأخذها السحب وتتشكل بها، وعندما أنظر إلى الشريط الساحلى للبحر ينتابنى ضيق وحزن؛ لم يعد لنا وجود فى بلدنا، لم يعد هذا الشريط الساحلى ملك لنا كما كان أيام زمان؛ هل تذكر عندما كنا نذهب إلى العين السخنة، ندق الشماسي فى أى مكان نختاره، أيامها لا تجد أحدا يمنعك، ولا تجد أحدا يعترضك أو يقول لك كلمة "ممنوع "، كان الشاطىء مباحا للجميع، كان هناك إحساس بالقيمة- قيمة المواطنة -، كما أن هناك إحساس بالانتماء،أين هو الآن؟ أين الانتماء الذى يجعلنى أناضل وأضحى من أجل البلد؟ لايوجد سوى نضال من أجل الله، فقط حتى لانظل هناك بعيدا فى القاع، لانريد سوى أن نحدد معالم المواطن وأن نعرف ماله وما عليه الآن! هل يكره أحد الانتفاع بالبلد والمشاركة أيضا فى حبها؟ ولكن هؤلاء الناس" الكلاس " أصحاب الياقات البيضاء كما كانوا يسمونهم زمان لايرضون بهذا. يبعدون عن الغلابة حتى لا تتأذى أنوفهم وعيونهم،وليستمتعوا وحدهم، كأن الله لم يخلق غيرهم الا لخدمتهم..

لا أريد أن أطيل عليك أثار ذلك المنظر فى نفسى إحساسا هائلا بالضآلة وتفاهة الإنسان فى هذا الكون الفسيح، تعلقت عيناى بهذا الفضاء الرائع؛ وقد اكتسى باللون الأزرق، شعرت بالرهبة واستشعرت الجمال والجلال، وقد استمرت الطائرة فى الصعود إلى أن صارت فوق السحاب، عندما أوجه نظرى إلي هذه البانوراما كنت أتعجب واشعر بالحيرة والدهشة من هذا الاتساع الهائل؛ ويزداد إعجابى وحيرتى إزاء نعم الله وخلقه!".

---***---

33

إن نسمة هادئة

تذيب جبالا من الجليد؛

وجلسة هادئة تكتم لفح القيظ..

الرسائل التى يتسلمها صادق؛ كانت تمثل له أملا وسط موجات إحباط ويأس تتراكم على قلبه وفكره، استلقى على سريره وفتح الرسالة التى سلمها اليه العامل السيريلانكى زهار:

"هل قرأت لى الفاتحة كما طلبت منك؟ عندما تذهب الى الكعبة؛ أرجو ألا تنسى ... ففى القلب شوق لزيارة الكعبة والحبيب وهذه فرصة عظيمة كتبها الله لك، فهنيئا لك باغتنامها، أنت فى نعمة كبرى لن تعرف قدرها الا حين عودتك، هذه الاماكن مباركة وقد اختارها الرب وأقسم بها، لاتدرى لعل الله قد كتب لك هذه الفرصة لتقوم من عثرتك وقد جعل الله البيت الحرام قياما للناس.

بالأمس كنت مع الأولاد بالزاوية، وحكيت لهم رائحة من تاريخ المدينة؛ قرأتها فى إحدى الجرائد المحلية، وقد مرت ولم يشعر بها أحد تقريبا، ترى هل يهتم الناس بهذا التاريخ؟ ربما نكون نحن غرباء إذا تكلمنا فى هذا الموضوع. .. أم ما الذى حدث؟ تقول المقالة:

"جاء أحمد عرابى ورفاقه إلى السويس وبات فيها عدة ليالى فى سجن الأوردى الذى تحول فيما بعد الى ورش ومخازن ترسانة السويس البحرية الموجودة بمنطقة الأنصاري، وقد رفض الإنجليز اقامتهم فى قصر محمد على باشا الذي كان مبنى للمحافظة وكانت تسمى "مديرية السويس"، و رحب بهم أهالي السويس وتجمهروا وسهروا فوق الطابية وحولها ليكونوا جوار عرابي ورفاقه. وكان ذلك بعد انتهاء ثورة عرابي بميدان عابدين ودخول قوات الاحتلال البريطاني إلى مصر بعد هزيمة التل الكبير، وذلك بسبب خيانة قام بها ديليسبس؛ مهندس مشروع قناة السويس؛ لعدم الوفاء بوعده واستعمال القناة فى أغراض عسكرية.

وقد ودعت السويس الزعيم سعد زغلول وهو ذاهب إلى منفاه عن طريق البحر، ولم يستطع الاهالى عمل شيء سوى كظم غيظهم والنظر إلى هذا المشهد الحزين، وزعيم الأمة يغادر الوطن إلى جزيرة سيلان واستقبلت السويس أيضا سعد زغلول ورفاقه عند عودتهم من المنفى"

أعرفك أننا جميعا بخير ولا ينقصنا سوى رؤياك والجلوس معك - أتذكر لقاءاتنا بكل اشتياق - كما كنت أقابلك فى المديرية؛ للعلم فقد خرج المهندس منهى الى المعاش وجاء مكانه عبد العليم الأسمر، وهو رجل قبلى أيضا، للأسف حدثت سرقة لبعض الأجهزة؛ وتم التحقيق مع عدد كبير من العاملين بالمديرية، تعرض معظمهم للإهانات فى النيابة الادارية وداخل قسم الشرطة، وكان موقفى حرجا بصفتى مديرا لشئون العاملين، لكن الله سلم وخرجت من هناك بعد أن أودعونى فى غرفة الحجز ليلة كاملة؛ وفى النهاية؛ حتى لا أطيل عليك اتضح أن المتهم هو "أمين المخزن"، وقال فى اعترافاته إن المدير هو الذى طلب منه ذلك؛ ولكن المدير نفى التهمة عن نفسه، واكتفى وكيل النيابة بذلك. وتم القبض علي أمين المخازن وأودع الحبس على ذمة القضية .. حتى الآن لم تقرر النيابة أى شىء، الحمد لله أن هذه الجريمة المؤسفة لم تحدث فى وجودك.

أرجو أن نطمئن عليك." سامى

---***---

34

ثم إن صرف الخاطر عن التدبير؛

يقيم الإنسان سيدا

فوق ملكوت الدنيا باسرها

فى المساء أحضر صادق ورقا وقلما؛ وكتب الى سامى:

تحية وأشواقا ... بعد أن تسلمت عملى منذ أكثر من شهرين؛ لم أسمع خبرا آلمنى أكثر من هذا الخبر؛ كيف يحدث هذا فى مكان العمل الحكومى؟...وآلمنى أكثر أن تصاب أنت بتلك السهام الطائشة، وأن تقضى ليلتك فى هذا المكان البغيض، ولكن الحمد لله على نجاتك... من المفترض أن يكون الموظف الحكومى مرآه للدولة وعنوانا لها..ألا توافقنى الرأى؟

المحلات هنا مكدسة بأصناف البضائع من شتى أنحاء المعمورة، وكذلك المطاعم الشرقية والغربية، ولكن الغالبية مطاعم شرقية؛ منتشرة فى كل مكان ويعمل بها أفراد من نفس البلاد، والحقيقة بقدر ماكنت مسرورا لهذا الرواج وذلك التنوع الجميل الذى يتيح فرص الاختيار و التسوق، إلا أننى دهشت عندما راجعت معظم هذه البضائع فوجدتها مستوردة! فهل نحن مستهلكون فقط؟ ومتى نبدأ جديا فى الإنتاج؟

تنازعتنى مشاعر مضطربة حتى أنى فكرت فى أن أترك العمل وأعود إلى مصر، فى المساء حادثت أحد الزملاء – وكان يعمل محاسبا – سألته ان كان يمكننى العودة إلى مصر، ابتسم قائلا:

- كلنا مرّينا بهذه المرحلة، تجلد وستتعود على المعيشة هنا..

قلت:

  • لا أستطيع

قال مبتسما:

  • يهيأ لك هذا..!

تحقق حلمى بزيارة الكعبة المشرفة، اتفقت أنا و زملائى و تطهرنا ونوينا من المنزل الذى نقيم فيه وقد استأجره الكفيل الذى نتبعه، وسمعتهم يقولون هنا للكفيل يا عمى، وفى إحدى المرات جاءت سيرته مع أحد السعوديين كنت أشكو له من سوء معاملة الكفيل، تبسم قائلا:

يا سيدى ... هذا عمك؛ لابد أن يمص دمك

قلت: يعنى هذه هى الحقيقة.

أكمل ابتسامته قائلا:

حاول أن تتماشى معه؛ ولا تكن ظالما لنفسك..

بعد أن حلقت شعر الإبط والعانة وأخذت دشا؛ كان ممتعا حقا، نويت العمرة واكتسيت بملابس الاحرام، بعد أن صليت ركعتين؛ توجهت مع بعض الزملاء بالعمل إلى ميدان رحيب؛ يسمى ميدان النزهة؛ هنا وجدت عددا من سيارات الأجرة يغلب عليها اللون الأصفر، ومعظمها سيارات حديثة، كانت منتظمة فى أماكنها، جوار مبنى إدارة الموقف يوجد مقهى، على الرصيف المتسع جدا وعلى باب المقهى تناثرت بعض الكراسى والكنبات البلدى كانت مرتفعة عن الارض رأيت البعض- أغلبهم من السائقين – يجلسون وهم متربعون، ويتناوبون تدخين النرجيلة،التى تنتشر بكثرة هناك.

لا أصوات مزعجة كالتى نسمعها تخرق آذاننا فى مواقف سياراتنا، ولا بلطجة، الكل يعرف تقريبا ما له وما عليه لا أدرى عندما وصلت إلى هذه النقطة من حديثى أو خطابى معك تذكرت أغنية أحمد عدوية: زحمة يا دنيا زحمة، زحمة وما عادش رحمة؟؟!!! فى مصر ترى العجائب مكومة كلها أمامك على الأرصفة وفى الطرقات، تشعر كما لو أن الناس جميعا فى انتظار قيام دولة، أو قيام الساعة. بعد أن ركبنا التاكسى؛ طلب السائق منا بطاقات الإقامة أو الجوازات، ذهب إلى كشك مجاور للموقف لكى يقوم بتسجيل أسماء المسافرين و فى الحال عاد إلينا حاملا البطاقات، وأسرع بمغادرة المحطة فى السيارة وزع علينا البطاقات، وجدت أحد الركاب يمد يده ليتسلم جواز سفر تعجبت، ولم لا يحمل بطاقة إقامة مثلنا؟ ولم لم يتسلم كفيله جواز سفره ويضعه فى خزانته ويسافر إلى أقاصى الدنيا غير مهموم بمكفوليه؟

علمت بعد قليل أنه مواطن يمنى، وان اليمنى يتمتع بميزة حرية الاقامة والتنقل من عمل إلى آخر داخل المملكة دون موافقة الكفيل على ذلك، قلت بينى وبين نفسى:

ياليتنى كنت يمنيا!.

عند وصولنا إلى مشارف مكة اقتربنا من الحرم غادرنا السيارة، ومشينا فى الساحة التى تمتعنا فيها برؤية حمام الحمى الذى يطوف محلقا حول الكعبة؛ ولا يخشى ضررا من أحد، فهذا المكان آمن والفتيات والسيدات الافريكان يبيعون الحبوب فى أكياس وتقول الواحدة منهم وهى تقدم لك الكيس بيدها: دو ريال – تقصد ريالين.

تنازعتنى مشاعر عجيبة، و تملكنى هدوء لم أعهده أو أحس به من قبل وجاشت فى صدرى روحانية جعلتنى أتبسم ذرفت منى الدموع عندما طالعت مشهد الكعبة المكرمة، كان جارى يقرأ من كتيب صغير فى يده: "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا؛ وزد من حجه أو اعتمره تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا" نعم هذه هى الكعبة التى تكتحل برؤيتها العيون؛ ويأتيها الناس من كل فج...هأناذا أراها أمامى وأتملى منها، فقد سمعت أن النظر الى الكعبة له أجره عند الله، هذه هى الكعبة التى لا تمر لحظة من الدهر إلا وكان حولها طائف أو راكع وساجد، تنتشى بها الروح وتخشع الجوارح وتتجه اليها الأفئدة، وهى الرمز الخالد أحسست بالتجرد والهيام وانتشت روحى من هذا الموقف العظيم.

احببت أن انتظر فى هذه الساحة لأتملى منها ولكن زملائى تعجلوا الدخول الى الحرم؛ دخلنا من باب العمرة وتعلقت عيوننا بكل مايحيطنا، أحسست بجلال الموقف وهيبته وصليت ركعتين، واقتربت للطواف حول الكعبة وكلما اقتربت كأنما يتفتح داخلى شلال يهدر بالمعانى العلوية،كان الدمع ينساب مترقرقا على وجنتى؛ بين الفينة والأخرى أمسح وجهى بيدى، وأقف قليلا أنظر فى الناحية الأخرى أحاول أن أبتعد بوجهى عن زملائى؛أحسست أننى كنت مخطئا عندما أتيت الى هنا معهم، تمنيت أن اكون حرا وحيدا لأبكى كما أشاء واجلس كما أشاء وأصلى كما أشاء.. باختصار أردت أن أنطلق بمشاعرى؛ وأن أتحرر من تلك الأحمال التى تثقل كاهلى؛ وأتمتع بالصفاء والبهجة؛ تلك البهجة الطفولية التى تكمن فى أعماقنا؛ والتى قد تطمرها أدران الزمن.. أحسست رقيا وسموا عجيبا؛ تمنيت أن يلازمنى هذا الاحساس طول العمر... كأنما تسربلت بشرنقة الحب والوداعة؛ ونسيت كل هموم الدنيا أو بمعنى أدق: هانت على هموم الدنيا ومشاكلها.

بعد أن انتهيت من الطواف سبعة أشواط، توجهت الى بئر زمزم هبطت الدرج المؤدى إلى البئر؛ تحت الأرض- فى أتجاه مقام إبراهيم- على اليمين زمزم حريم وعلى اليسار زمزم رجال.. وجدت أحواض كثيرة فى ممر طويل،عليها زحام؛ أعداد كبيرة من البشر يقصدون هذا المكان الآمن؛ أحسست بانتعاش ونسمة رطبة تتخلل روحى..

أكملنا العمرة بالسعى بين الصفا والمروة؛ وحلقنا رؤسنا ومنا الذى اكتفى بالتقصير.

لم أنس قراءة الفاتحة...

بالرغم من برودة الجو إلا أننا لم نشعر بها حقا؛ فالأمن متوافر كما عرفنا(ومن دخله كان آمنا) ... سبحان الله!!

صادق

***

35

فما بال المختال يزهو بغير تيجان

وما بال المغتر يتشامخ بغير صولجان؟

فدونك قسطاس الطريق والهداية

فما ربحت للضالين كفة ميزان..

ولا قام لهم فى أعين الناس مقام صدق

أثناء غياب صادق، نشأ لون من الألفة بين الأخ الأكبر نادر وأبيه، فى الحقيقة أن هذه الألفة كان الأب يتشوق إليها و يتمناها مع تقدم العمر وطى السنين، مرت سنوات مجحفة، تعود الحاج ماجد خلالها على دفع مرتبات شهرية لبعض موظفى الحكومة؛ التموين والتأمينات والضرائب وموظفى الحى وغيرهم... أعقبها توسع فى أعمال الأب وتجارته فى الدقيق والمخابز، ولم يعد قادرا على إدارتها وحده، أخيرا قرر أن يشرك ابنه الأول، لينسيه الماضى ويفتح معه صفحة جديدة بيضاء ليشعر معه بأبوته، ولكى يشحذ فى قلب نادر شعورا طيبا تجاه أبيه...

... هل كانت ابتسامة نادر ومثوله أمام أبيه- فى البيت - كافية لمحو كل ما كان؟ تحدث ماجد أبو اليسر – بأريحيته- مع زوجته فى هذا الأمر، كالعادة تأكل قلبها غيرة على أولادها، ولم تكن تعلم أن الزمن سوف يمر وتعاود الأيام دورتها، لترى ابن زوجها الذى تربى فى القاهرة مع أمه، منذ زمن بعيد، يقترب من ثلاثة عقود، فوجئت هذه الأيام برجل لم تحس تجاهه بأى مشاعر، ولم تكن تدرى ماذا تقول لزوجها، فقد ارتبكت وانعقد لسانها؛ وقد أكل قلبها خوف دفين على مصلحة أبنائها الذين هم من رحمها، ولكن حبها لزوجها ووفائها لعشرته لم يمنعاها من أن توافق أخيرا على ما يراه زوجها الحاج ماجد أبو اليسر، وما يتخذه من قرارات لصالح الأبناء جميعا.

قال الحاج ماجد لزوجته:

لقد كبرت يا فريدة؛ ولم أعد قادرا على العمل...

ماذا ترى ياحاج؟

أرى أن أشرك ابنى الكبير نادر فى أعمالى، فهذه الأعمال تناسبه جدا ولم أعد قادرا على إدارة المخابز الثلاثة والمرور عليها يوميا فى أحياء فيصل والمستقبل، وفرن شارع الجيش

لا أعرف ماذا أقول لك؛ المدة التى لم تر فيها ابنك هذا؛ سنوات طويلة..

ماذا تقصدين يا فريدة؟

تلعثمت المرأة، وقالت له:

الحقيقة أن هذا موقف محير، افعل ما تراه مناسبا، فالكل أولادك..

ارتاح ماجد أبو اليسر إلى كلام زوجته، كانت راحته فى مشاركتها هذا الرأى الذى انتواه، أكبر من اقتناعه الحقيقى به؛ فقد كان يريد أن يجد من يؤيده، حتى يكون مقتنعا بأنه قد أتخذ قرارا صائبا.

---***---

عندما فاتح الأب ابنه فى هذا الموضوع، تعجب الابن، ولم يتوقع نادر هذا، كان يعتقد أن أباه قد نسيه واعتبره فى عداد الموتى؛ فى داخله؛ كان يشعر بالخسة والوضاعة؛ لم يحمل لأبيه أو اخوته أى مشاعر ود، تعجب كثيرا عندما دعاه أبوه إلى منزله، وازداد تعجبه عندما علم برغبة أبيه فى إشراكه فى إدارة أعماله

كانت نفسه تحدثه: ماذا فعلت لكى يدعونى أبى إلى منزله ويسأل عنى؟

أثناء وجوده بالقاهرة، تعود أن يقيس الناس بالقرش، كان تقييمه لهم بمدى تأثيره عليه ومصلحته معه، لم تكن هناك مشاعر ايجابية بالحب أو المودة بينه وبين زملاءه، كان شعاره:

" بفلوسك أنا خدامك...من غير فلوسك وفر كلامك.."

انطبعت هذه العبارة فى قلبه منذ أن قرأها فى مدخل أحد المحلات الجزارة منذ سنوات طوال، كان يعمل به فى طفولته مارس مهن أخرى، وأصبح هدفه الذى لم يعرف له هدفا غيره هو جمع المال والبحث عن الثروة، كان ميكيافيلى الطباع، فلم يهتم بالوسيلة التى يمكنها أن تحقق له هدفه.

صارت فرحته غامرة بقرار أبيه بإشراكه فى إدارة المخابز وتجارة الدقيق التى كانت قد توسعت، وأوشكت أن تغطى احتياجات المدينة.. ولكنه بدهائه الفطرى الذى اكتسبه فى وحدته لم يبد أى مشاعر بالفرح؛ فقط أجاد التظاهر بالإستعداد لحمل المسئولية، كان تفكيره مغايرا تماما...كان يبعد كل البعد عن هذه الخزعبلات، كان ما يدور فى ذهنه أبعد من هذا وذاك.

---***---

36

فلأجل هذا يقيم القديسون بحال من الزهد؛

يعظون بغير تراتيل؛

يرضون والعالم سخط؛

يقنعون والناهب ينتهب!

عزيزى.."فى جريدة وفد السويس عدد ابريل 1987

مطاردة مشددة للحاج حافظ سلامة وخصوصا تنقلاته أثناء الحملات الانتخابية! رابطت عربة أمن مجهزة باللاسلكى أثناء تواجده فى مكتبه، ودليل التليفون الجديد صدر بدون أرقام الأطباء؛ الأطباء آخر زعل!! المدينة تغلى فى أعنف معركة انتخابية منذ50 سنة"

"هناك حكاية كتبها مجدى رضوان* من ألف ليلة وليلة فى شئون العيلة؛ يقول فيها: "بلغنى أيها الملك السعيد ذو الرأى الرشيد، أن الفتى حرباية وقف فى ذهول شاردا مهموما؛ هاذيا محموما؛ فقد أذاع المذيع قوله المريع: أيها المواطنون حتى لا تكثر الظنون، نحيطكم أن المجلس الموقر قد طارت سطوته وتبخر، وبناء عليه فقد ذهب الهيلمان، واختفت السلطة والأعيان "وهرول حرباية صوب المراية؛ مكفهر الوجه مرتعد البدن ينظر باهتمام مغمغما بكلام عن شئون العوام صار يقول ماذا أفعل والكرسى قد طار؛ وبينى وبينه بحار وأنا بعد لم أصل لما أريد ولم أكمل القصر الجديد؛ وصار العامة ينادوننى بالأفاق، ووصفنى الخاصة بعديم الأخلاق، وبأنى لم أسلك المسلك الحميد؛ ولم أرع العرف ولا التقليد، ولم أوف بوعيد .. فليكن ما يكون سوف أمحو الظنون بشوية بوليتيكا وشوية مزيكا؛ ووقت اللزوم كلمتين أنتيكا.. وانتصب حرباية صارخا .. أيها الناس سآتيكم بما لم تحلموا وسأعلمكم مالم تفهموا .. سآتيكم بلبن العصفور وسأكشف لكم المستور لا تصدقوا ما يقولون ولا تؤمنوا بما يزعمون.

أخوانى الأحباب اسمعونى .. وأصواتكم أعطونى "

* صحفى وكاتب

هل سمعت عن جزيرة أم الغيلان؟ جزيرة قديمة كانت تعرف بهذا الاسم منذ القرن الرابع الميلادى؛ وكانوا يدفنون بها الموتى، وكان الحجاج يتخذونها للراحة بعد مرورهم بدرب الحاج ثم ينطلق الحجيج بعدها الى منطقة الشط ثم نخل ووادى التيه بسيناء منذ أن جلب الرعامسة اليهود للعمل – سخرة – فى منطقة الجزيرة وكانوا يصنعون التوابيت والسفن وكذلك عملوا فى تجارة العبيد، فى كتاب (المسالك والممالك) يقول المؤلف: يسافرون من الشرق الى الغرب ومن الغرب الى المشرق برا وبحرا، يجلبون من المغرب الخدم والجوارى والغلمان والديباج والجلود الفراء والسمور والسيوف، ويركبون من فرنجة فى البحر الغربى فيخرجون بالفرقاء؛ ويحملون تجارتهم على الظهر الى القلزم، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا ثم يركبون البحر الشرقى من القلزم الى (ميناء المدينة القديم) وحده ثم يمضون الى الهند والسند والصين؛ ويحملون من الصين المسك والعود والكافور و... وغير ذلك مما يحمل من تلك النواحى؛ حتى يرجعوا الى القلزم ثم يحملونه الى الفرما ثم يركبون البحر الغربى؛ فربما عادوا بتجارتهم الى القسطنطينية فباعوها للروم؛ وربما وصلوا الى ملك فرنجة فيبيعونها هناك.."

سامى

---***---

37

يترقي في مدارج المجد،
وهو في ذيل التواضع،
يترفع عن الخوض في ساحة اللجاج والجدل،
فيتناءي عنه مبغضه،
وقد دار القول في المثل السائر:
'
الدوام لمن استنام'

قبيل سفره الى الخارج؛ تعود صادق أن يزور أبناءه باتفاق مسبق؛ لم تكن المودة والعلاقة الطيبة ممدودة؛ خصوصا بينه وبين حماته، على العكس من ذلك كان التهامى قريبا منه، فى قرارة نفسه لم يكن مقتنعا بما يجرى، كان يشعر أن الرباط القائم والمودة،لا يأخذان حظهما فى الواقع، ومع ذلك لم يستطع أن يفعل شيئا؛ تحت ضغط هذه السيدة وجبروتها.

بعد سفر صادق الى الخارج، وعودته؛ تغيرت معاملتها معه، بعد أن كانت زيارته لابنائه لا تستمر أكثر من ساعة أو ساعتين على أحسن تقدير، صار يبيت معهم، فى القاهرة وخصصوا له حجرة ليقيم فيها ان شاء، ولكنه مع ذلك لم يكن يستسيغ هذا الود المصطنع، الذى خلقه المال..

فى البداية كانت فضيلة تنظر اليه بوجه شاحب علاه الأمل والترقب والفضول، تطلب منه أن تطول فترة بقائه معهم،لحاجتهم اليه؛ كان يقول لها:

لا يجوز، نحن منفصلان

كان قد طلب من أبنائه أن يختاروا بين الوجود مع أمهم وجدتهم، أوالعودة معه، فكانوا يفضلون التواجد مع أمهم وجدتهم؛ وقالوا له: لا يمنع ذلك من سفرنا إليك فى المدينة..لم يمانع صادق فى هذا الاختيار؛ كما أنه سوف لا يستطيع التفرغ لهم كما يفعل التهامى وزوجته؛ رأى أيضا وجود الاولاد معه سوف يكون قيدا على حركته وعمله؛ بل على حياته باكملها.

عندما يعود إلى المملكة،لا تنقطع مراسلاته مع سامى.

 

38

لا زوال لما استقر منبت جذوره،
ولا انفلات لما عانقته السواعد،
هي أشياء تتوارثها الأجيال،
ويسير بها موكب الأحفاد في إثر الأجداد،
ميسرة دهرية لا تتبدل،
مسلك خُلُق فاضل..

"فى الجريدة المحلية تحقيق عن محلات عصير القصب وأسباب انتشارها بكثرة فى البلد؛ وارتفاع أسعار الدكاكين بسببها..

الناس تهنىء المحافظ بشفائه وعودته من مستشفى المعادى التى كان محجوزا بها؛ بعد أن تعرضت سيارته لحادث فى طريق القاهرة وتوجد صورة بالصفحة الأولى للمحافظ وهو يقص الشريط لافتتاح دار مناسبات عتاقة؛ ويضع حجر الاساس لقرية الحجاج ومدينتى العرائس والفيروز.

كما ان السعودية تهدى المدينة 5000 مصحف هدية بمناسبة شهر رمضان؛ والشيخ حسان يكتب عن تغيير المنكر باليد والقلب واللسان."..سامى

---***---

كتب إلى صديقه سامى؛ وقد تنازعته أفكار حزينة، سيطرت عليه الرغبة فى مغادرة البلاد والعودة الى وطنه نهائيا؛ مهما كلفه ذلك؛ أحس بينه وبين نفسه أن خسارة واحدة قد تكون فادحة..

عزيزى سامى

أحيانا اتسرى بالأخبار الموجعة؛ فمازلت أحسن حالا من الكثير جدا من الناس، سمعت عن الرجل الذى طلق زوجته لخيانتها له فى الغربة، وكانت تعطى أموال زوجها لحبيب القلب حتى اذا مارجع الزوج من غربته عاندته وطلبت الانفصال..

الأستاذ حامد جارى المدرس الذى يسكن على ناصية الشارع، كنت أقابله كثيرا فى السوبر ماركت وقد وضع نظارة داكنة على عينيه سألته يوما عن سر النظارة السوداء، قال لى الأستاذ وقد تغيرت سحنته وشابها لون من الكآبة: "أحزانى كثيرة عندما حضرت الى المملكة منذ عامين تقريبا كنت واقعا تحت ضغوط نفسية رهيبة،أصبت بعدها بنوبات من الدوخة وجفاف الحلق، عنما ذهبت للعلاج بعد هذه النوبات التى تكررت معى، أكتشف الأطباء أن معدل السكر مرتفع جدا بالدم بعدها بشهور شعرت بمشاكل فى النظر، عرضت نفسى على مستشفى الملك؛ قرر الاطباء أننى أعانى من انفصال فى الشبكية، وأحتاج الى عملية جراحية وربما أحتاج الى الليزر، ولكنهم يقولون لى هنا انه مكلف جدا؛ ولم ينتشر استعماله حتى الآن."

---***---

39

هو الطريق الفاتح أبواب السر المعمى؛

فتتجلى دفائن ألغاز كانت فى حجب الإستتار

جاءه الرد على تلك الرسالة سريعا أحس صادق بأن البوستة هنا بها اهتمام أكثر بكثير، مما رآه فى بلده..

قرأ رسالة صديقه التى كانت تأتيه غيثا لملهوف...

"لا أخفى عليك –كما تعلم- أن هناك ضريبة لكل شىء، أجل؛ فأنت الآن تقوم بخدمة أهلك وبلدك وأنت لا تدرى، وقد تفتح لهم أبوابا من الرزق عند عودتك؛ أو بمجرد تحويل أموالك إلى بنوك مصرية، هذا ما يقوله العقل والواقع، فأنت مثلا عندما تقوم ببناء منزل لك ولأسرتك، فسوف يعود هذا بالخير الوفير على أعداد كثيرة تمثل مهن مختلفة تقوم بعملية البناء.لا أحب أن أقرأ أو أشعر أن ذرة من يأس داخلتك، تأكد أن أسرتك بخير وأبناءك بخير، وما تفعله أنت حاليا سوف يعود عليهم وعلى الجميع بالخير أيضا.

سأظل محتفظا بذكراك عذبة فى قلبى إلى ما شاء الله، وطالما اعترفت لى بأنها الحياة، حب الحياة هو الذى يشجعنى على التفاعل معها وليس مجرد النظر اليها من بعيد، فهاأنذا أتشجع مع كل خطاب وألقى عليك هذا السيل من أخبار المدينة التى كانت " باسلة " وهى أخبار ربما تكون موجعة؛ لأنى أعرف انك تحيا بتفاعلك مع المدينة واهتمامك بالبشر، ولكنى اليوم قررت أن أرحمك من تلك الأخبار، أو تلك الأوجاع، نعم انها أوجاع ولكنها تشبه كما يقال" حقن التطعيم"، بالرغم من الالم؛ فهى مفيدة لأنها تثير وتنبه مدينة الجسد ليتولد بعدها أجسام المناعة؛ التى تنتشر بالجسد وتحصنه وتدافع عنه، وهذا الوجع عل وعسى أن يكون مسليا لك فى غربتك؛ و المثل يقول من يرى بلوى الناس تهون عليه بلواه!!"..سامى.

فى الصباح فوجىء صادق بالعامل السريلانكى مبتسما، وقال:

- خطاب من مصر.. باشمهندس

- شكرا زهار..

ألقى نظره على الخطاب؛ تأمل الخط؛ لم يعرف من المرسل، حاول أن يتفحصه جيدا ليتكهن صاحبه أو صاحبته، لم يتعرف عليه؛ فتح الخطاب متلهفا؛ قلقا فى ذات الوقت، تعجب عندما ألقى نظرة الى ذيل الخطاب فى عجالة سريعة؛ وجد توقيع " شروق "..وضع الخطاب فى جيبه، وقد سمع لقلبه وجيبا... قرر أن يقرأه وحيدا؛ وعلى مهل.

---***---

40

للدنيا سرمد طبع سائر؛ لا يتبدل:

إقبالها إدبار؛

الهمس فى كهف أسرارها..

دوى عاصف ملء الأقطار!

مكمن قدرتها عين بلاء أقدارها

وافر كثرتها نقصان..

لذلك

ينبغى على العاقل أن يلزم مقام الاعتدال..

دون شطط او إفراط.

"عزيزى باشمهندس صادق..

من قلب ملىء لك بالمودة والتقدير.. من قلب ملىء لك بالحب والاخلاص، من قلب يدعو لك بالسعادة والتوفيق؛ أبعث لك هذا الخطاب متمنية أن يصلك وأنت فى أتم سعادة .. ستقول انها جرأة منى أن أكتب اليك ولكنى فى الحقيقة لم أستطع السكوت وخصوصا أنك لا تعلم .. ولكنى متأكدة تماما من انك تشعر؛ أن قلبى متعلق بك من زمان، وأنت لا علاقة لك بأى شىء .. المهم..

تحب تسمع أى أخبار خاصة بالمديرية .. وأخبار عنى.

أما عن المديرية؛ الجميع يهدونك السلام؛ حدثت بعض أحداث تدخلت فيها النيابة الادارية، والنيابة العامة .. حمدت الله أنك لم تكن موجودا ولا علاقة لك بهذه المهزلة .. اكتشفنا سرقة أجهزة ومعدات، كان أمين المخزن قد استلمها، وهى أجهزة قياس حديثة؛ ومساطر هندسية، وأدوات كتابة ورسم هندسى.

شجعنى هذا الخبر على الكتابة اليك، لكى أبوح وأعترف لك، طوال المدة التى كنت فيها بالمديرية؛ لم أجرؤ أن أحدثك عن أى حاجة؛ ولكنى لم أستطع أن أسكت أكثر من هذا، طوال هذه المدة التى عملنا خلالها سويا لم أستطع أن أعبر لك عن مشاعرى، لم أرد أن أزعجك بشىء، خصوصا أنك متزوج، وأنا.. مجرد سكرتيرة لا رحت ولا جيت .. عندما أكتب اليك أشعر كأنما أتحدث الى نفسى ... أحب أن أقول لك وأنا حزينة جدا أن أحد العرسان تقدم لخطبتى، وهو يعمل معنا فى المديرية. هل تعرف من؟ زكى.. زكى واصل. ولكنى لم أتخذ أى قرار.. فأنا فى حيرة.. حيرة شديدة.

أنت تعرف أن والدى متوفى، وأعيش مع أمى وأخوتى الثلاثة الأصغر منى... شروق".

---***---

وضع الخطاب جانبا وقد أحس بالدم يتدفق فى عروقه؛ تسارعت دقات قلبه بصورة غريبة و مفاجئة،كأنما دارت الدنيا به، سأل نفسه: هل هناك حقا من تحمل لى حبا بعد أمى؟ مد يده إلى جيبه وأخرج منديلا ليمسح عرقا غزيرا ابتلت به جميع أجزاء جسده، بانت قطرات لامعة على وجهه وجبهته، تحيّر وتسمر مكانه، سأل نفسه: "ترى كيف يسير هذا العالم؟ كان يسأل نفسه لا أدرى.. لا أدرى.. الآن وبعد أن غادرت المدينة؟ بعد أن غادرتها منذ وقت طويل؟! لماذا لم تفصحى عن مكنون قلبك يا عزيزتى منذ زمن؟.. تعملين معى منذ سنوات .. حقا لم أر منك سوى إخلاص لى وانتظام واخلاص أيضا في العمل؛ لم أر منك سوى المحبة الخالصة؛ والوجه المتبسم الحنون .. لقد كنت حقا يدى اليمنى فى العمل، بل ربما لا أبالغ إن قلت إنك كنت الدافع الخفى لى لاستمرارى فى العمل ورضاى بالتواجد فى بلدى، ربما كانت المدينة التى أحبها ممثلة فيك، بل والأهم هو نصائحك لحل مشاكلى الخاصة .. ربما دون أن تكون لديك أية تجربة عن هذا. ولكن بإحساسك المرهف كنت تدركين أى تغير يطرأ على، أريد أن أسألك: لما تأخر البوح لديك؟ لم تتكلمى ولم تذكرى شيئا طوال أعوام قضيناها سويا .. أبعد أن غادرت المدينة وغادرت مصر كلها؛ أفاجأ بهذا الحب الجارف؟ ياالله!!.. أنا ايضا كنت أعيش هذا الحب؛ بل ومازلت أتمتع بذكرى مشاهد هذه العاطفة الجياشة فى صمت، كنت أراه فى كل لمسة حانية دون أن أتكلم عنها، ربما كان زواجى هو سبب صمتى؛ هل كان هذا هو حقا الحب الخالص؟ لا أدرى! كان هذا الحب يملأ كيانى؛ بل ويعوضنى عن احباطات عديدة، كانت نفسى مترعة بخدر لذيذ عندما أصل الى عملى، لم أكن أحب أن أغادر المكان، يهيؤ لى أن الحب حياة.. حياة سعيدة ولو امتلأت بالآلام.. كان هذا الحب يمنحنى حافزا؛ بل ويمنحنى البهجة؛ ويهب لحياتى لونا وطعما، حقا كنت أعيش لحظات الهناء دون أن أتكلم عنها!.

***

انقلب كيانه بعد تلك المفاجأة التى كأنما نزلت على روحه لتجدد خلاياه، وتجعله يشعر بإحساس طفلى وليد؛ كانت مصارحتها له كطعم الشهد الذى يسرى فى عروقه؛ تراوحت مشاعره بين رغبته فى الاعترف بحبه لها ومحاولة الارتباط بها، وبين المفاجأة التى ستهبط على أفراد عائلته، آثر فى البداية ألا يخبرها بشىء أو يتفق معها على شىء، إلا بعد أن يفكر جيدا فى المشروع؛ كان يعلم تماما انه سيواجه بنظرات استهجان وكلمات عتاب قاسية- من عائلته- إذا ما استقر تفكيره على الزواج من شروق، استبد به التردد لفشل زواجه الماثل له صباح مساء، كتم مشاعره الدافقة فى قلبه، وقرر أخيرا ان يتمهل وأن يفوز بمباركة أبيه أولا؛ قبل أن يقدم على مفاتحتها فى الزواج.

إحساسه بالبهجة لأن هناك متنفسا وأملا؛ وأن هناك شعاعا مازال قادرا على اضاءة جنبات روحه، جعله مقبلا على الحياة، بل وانتشله من يأس دفين.

لم تدم فرحته بالخطاب أياما؛ حتى تبعه القدر بخطاب آخر؛ يخبره بمرض والده.

بعد انتهاء الدوام؛ أسرع الى الهاتف الدولى، ليتأكد من الخبر،عندما عرف أنه صحيح، قرر أن يعود إلى مصر فى أجازة طويلة.

---***---

41

فمن لم يعاين طبائع الاشياء

ورد موارد الهلاك..

أما من أدرك جوهر الطبائع؛ فقد أعطى مفاتح الرضا..

ومن رضى فقد عدل

ومن عدل فقد حكم..

طلب من المدير الفنى للمؤسسة الموافقة على السفر؛ نظر اليه المهندس نبيل السورى؛ مقطب الجبين؛ بسحنته البيضاء المجعدة، وشعره الطويل الناعم الأهوج؛ وتلك الرائحة النتنة التى تفوح من إبطيه؛ قائلا:

والله أنا ماعندى مانع. نسأل الأستاذ سعيد..

صعد الى المدير الادارى فى مكتبه:

أريد تاشيرة السفر للأهمية يا أستاذ سعيد

ابتسم سعيد قائلا:

هل تعلم أن عمك فى أجازة؟

وماله؟

وماله يعنى إيه؟ مفاتيح الخزنة معه .. الجوازات كلها فى الخزنة!!

أين ذهب ياترى؟

الفليبين وبنجلاديش.

ياسلام!

لا تتعجب مشوار عادى من مشاويره!

فسحة؟

لا.. سافر للإتفاق على توريد سائقين وعمال من جنوب شرق آسيا .. العمالة هناك رخيصة جدا

عندنا عمال كفاية

فيه مشروع ثالث فى الجنوب

فى الجنوب؟

نعم .. فى العزيزية؛ تحت التجهيز..

ومتى يعود إن شاء الله؟

الله أعلم .. ممكن أسبوع ... أكثر.. أقل.

غادر صادق المكتب وهو يشعر بغصة فى حلقه؛ ورغبة عميقة فى البكاء؛ ولكن ظاهره كان طبيعيا تماما.

---***---

يعد أكثر من ثلاثة أسابيع؛ بالضبط بعد اربعة وعشرين يوما؛ عاد صاحب العمل من رحلته الميمونة..

فى مكتبه جلس يضبط غترته فوق رأسه؛ قائلا:

إيش المطلوب ياباشمهندس؟

أسافر مصر ضرورى..

"إيش تسوّى" فى مصر يا باشمهندس؟

أطمئن على والدى..

ربك موجود ياشيخ .. إيش نقدر نعمل؟ نحن لا نملك أى شىء.

تقصد إيه؟..

الله موجود يا شيخ .. أنت لك أخوة؟

نعم

تاهت ولقيناها كما تقولون..

يعنى إيه؟

يعنى يا حبيبى اخوتك يهتموا بأبيهم؛ وهذه الأيام صعبة، ولدينا بعض المنشآت لابد من إنهاءها وتسليمها.

رد صادق متحيرا:

والمطلوب

تؤجل سفرك.

أطلب السفر؛ ولو بالخصم من الراتب.

ماعندى مانع .. سوف نعطيك أجازة مفتوحة .. حياك الله!

---***---

42

أما رأيت أنا نتحرر من قبضة خوف "تصاريف القدر"

كلما تخطينا عتبات الذات الفردية.

خلال رحلة العودة؛ لم يكن للركاب كلام سوى الحديث عن احتلال العراق للكويت؛ ظل غارقا فى فكره؛ لم يدر كيف يبدو للآخرين؛ كان متخوفا على صحة والده، كما كان متشوقا لرؤيته ورؤية والدته وأبنائه، فى نفس الوقت الذى تنازعته نفسه واستعد قلبه للمثول بين يدى حبيبته التى أفصحت عن مودتها فى ذلك الخطاب الذى سيظل محتفظا به بين جوانبه؛ فى مكان أمين.

عندما وصلت الطائرة الى المطار؛ كان قلبه مفعما بخليط من الألم والبهجة، الألم لمرض والده وبعد أولاده عنه وتفكك أسرته، فى نفس الوقت الذى بدأ فيه شعاع الأمل والبهجة يتسرب خفيا بين حنايا صدره ليجدد إقباله على الحياة وحبه لها ورغبتة في التمسك بها..

---***---

دخل على والده؛ هاله المنظر وقد وجده طريح الفراش؛ اقترب من السرير وانحنى مادا يديه ليحتضنه، أخذ يقبله فى رأسه ووجهه، انفرطت الدموع رغما عنه؛ وقد لاحظ اللون الفضى الأبيض وقد تصاعد على الوجنتين ليصل الى قمة الرأس .. إنه بالضبط قد اشتعل شيبا، بالرغم من أنه كان يرى والده فى إجازاته السابقة، إلا أنه قد داخله شعور بأنه يراه للمرة الاولى؛ فقد بدأ يدقق ويطيل النظر الى ملامحه، هذه المرة كأنما يرى شخصا مغايرا؛ فهذه السنوات؛ سنوات الغربة صبغت رأس أبيه بلون الثلج وجعلت جسده أخف وزنا؛ كما ازداد شحوبا وبرزت تجاعيد وجهه وتغضنت قسماته، أثر هذا المنظر فى صادق تأثيرا بالغا..

---***---

43

أيمكن أن تحنى رأسك أمام عاصفة عاتية؟

أيمكن أن تنصاع لسطوة الطبيعة؟

في اليوم التالى ارتدى ملابسه وأسرع بالخروج بدافع من الأمل الخفى؛ عندما نزل الى الطريق باغته احساس بالركود والاستكانة، تطفح فى الطرقات والميادين؛ كما راودته مشاعر حب دفين يحملها لتلك المدينة فى قلبه، تلك المشاعر التى اختلطت بالسخط والأسى الذى جد عليه؛ أشاح بوجهه عندما تفكر قليلا، أراد أن يظل محتفظا بمنطق الطفولة، وأن يتناسى ماحدث ومايحدث وما قد يحدث مستقبلا .. أحس بالخواء، وجد مدينته ماتزال ناعسة.

أثناء تواجده بالمديرية، راح يتأمل ماكان؛ ويحاول أن يستبطن ما سيكون، بقدر ما حمل بين جنبيه هما لمرض والده، كانت تراوده سعادة خفية مع اقتراب رؤية هذا الوجه المخلص الحبيب الذى زرع فى قلبه أملا وسط أشواك الحياة .. كان يحدث نفسه: لماذا قبلت السفر؟ هائنذا أعود الى بلدى وأهلى وأولادى ثانية، أعود الى مدينتى التى أفتقدتها فى غربتى.

مرت سحابة حزن بقلبه؛ عاد ليحدث نفسه:

هل افتقدت الانتماء الحقيقى؟ الانتماء الحقيقى يكون للأهل .. للبشر؛ للشوارع والأحياء والطرقات، يمتد ايضا ليشمل كل الأشياء والكائنات.

أثناء صعود الدرج، رآى صادق العاملة أم نسمة تحمل صندوقا من المثلجات، وتوزعه على الموظفين، وهى ترفع يدها الى وجهها وتطلق زغروتة بين حين وآخر، صعد ناحية الادارة رأى مجموعة من الموظفين والموظفات يتناولون الحلوى والمثلجات، كما لمح بأحد الاركان بعض الزهور، عمّ الصخب واشتمّ رائحة جميلة تسرى فى المكان، والكل يبدو متبسما.

مبروك يا باشمهندس .. عقبال أولادك.

قالت أم صابرين.

نظر إليها ساهما؛ وقال:

نعم؟! .. الله يبارك فيك...

قالت له عنايات الكاتبة:

شروق ستوحشنا..

أين ذهبت؟

ألا تدرى؟ سمعنا إن حضرتك جئت لتبارك لها على الزواج؟

نطق بطريقة آلية:

أكيد أكيد..

أردفت المرأة:

ألا تعرف يا باشمهندش؟ لقد تزوجت الأستاذ زكى واصل؛ مدير المشروع الامريكى بالمديرية! يقولون إنه من الصعيد، وسوف تسافر شروق معه الى الاسكندرية لقضاء شهر العسل؛ بعدها تسافر الى الصعيد لتزور أهله هناك!

كأنما مادت به الدنيا، وهبط من سابع سماء الى سابع أرض ... أحس بقشعريرة وبرودة فى أطرافه، تهاوى إلى المكتب؛ وهو يغمغم:

طبعا طبعا..

---***---

44

فلذلك... لن تجد فى العالمين أحدا

يصلح لإدارة شئون مملكة مترامية الأطراف،

مثل الباذل نفسه،

الخارج من أسر أناه الذاتية

بمجرد عودته إلى بلده، اعتاد صادق على السفر مكوكيا بين مدينته، والقاهرة حيث يعيش ويتعلم أبناؤه، لم يستطع بأى حال أن يترك مدينته ليعيش معهم فى القاهرة، كان مرتبطا بعمله؛ ورعاية والديه؛ فى الوقت ذاته؛ لم تكن حماته لم تفكر فى الجلاء عن القاهرة والتخلى عن حياتها بكل مافيها، وأن تستبدل بها العيش فى تلك المدينة الساحلية النائمة كما كانت تقول. تعود الأبناء على المعيشة فى القاهرة مع والدتهم وجدتهم وجدهم التهامى الذى تفرغ لهم بعد إحالته إلى المعاش، أحب الأولاد، كان ارتباطه بهم شديدا؛ كما أحبوه وكانوا ينادونه "بابا تهامى".

---***---

فى مبنى ديوان المديرية، بجوار حجرة السكرتارية، حضر لتوقيع بعض الأوراق من مكتب السيد المدير العام، وإنهاء بعض الإجراءات.

فى جلسته - بقاعة الانتظار - لمح وجها يعرفه جيدا، لم يتذكر اسمه إلا بعد لحظات انه صديقه القديم "عارف وردة"، حدق الاثنان فى بعضهما وتبادلا النظرات والفكر، لقد مضت سنوات طويلة منذ أن كانا يجلسان سويا على مقعد واحد بالمدرسة "الإعدادية القديمة للبنين" كما كان مكتوبا على لافتتها النحاسية بمدخل البوابة المرتفعة؛ وكان ذلك قبيل حرب 1967.

تعجب كل مهما من تلك المصادفة تبادلا الأحضان والقبلات. قال صادق متذكرا:

- عارف..عارف وردة

- نعم ... الاسم..

- صادق؛ نسيت صادق.

تبادلا الأحضان مرة أخرى؛ قال عارف:

- أنا عارف .. بس المفاجأة

- قول إن الزمن يا عارف خلى الواحد مش عارف

تضاحكا. وهما يجولان بالنظر فى بعضيهما؛ استغرقا لحظات فى صمت؛ تأمل فيها كل منهما الشكل والصوت والحركات والسكنات أيضا؛ وكل منهما يستدعى من الذاكرة صورة صاحبه القديمة كى يعرف أين يضع قدميه من رياح السنين، راقب كل منهما اللون الأبيض المتصاعد على الوجنتين إلى خلف الرأس، وحدق فى الخطوط والحفر التى صنعتها أيادي الليل والنهار فى وجهيهما، امتدت ذكرياتهما على مدى يناهز عقدين، يالها من سنوات حبلى بالمرارة والألم كما أنها لم تخل من لحظات السعادة والرجاء. تحدث صادق - بكل أريحية عن سفره - قائلا لزميله القديم:

  • مصر أم الدنيا كما يقولون؛ ولكن أحيانا أشعر أننا لا نستاهل شرف المواطنة..

قال صديقه:

  • - لم تتحدث هكذا؟ تشاؤم؟
  • لأننا نترك بلدنا... الجو هنا ممتاز والمياه متوفرة، ورخيصة والأراضي ممتدة فى الصحراء الشرقية والغربية؛ ومع ذلك يشكو الناس من قلة الموارد!

حدق فيه وردة متسائلا:

  • من الذى يشكو؟ الناس أم الحكام؟!

***

جاءت لحظة الوداع مسرعة؛ وذلك عندما خرج أحد الموظفين من مكتب السيد المدير العام، ابتسم وهو يرحب بعارف؛ سلم عليه الأخير بحرارة قائلا:

  • أهلا يا أستاذ كمال..

رد كمال:

  • أنتم عارفين بعض؟

قال صادق:

- طبعا صداقة قديمة

ظهرت على عارف إمارات التعجل والقلق، واستأذن من صديقه القديم قائلا:

- سوف أذهب فى مشوار ضرورى مع الأستاذ كمال عزب.

جذبه كمال من يده إلى الممر الخارجي؛ ولم ينس صادق أن يتفق مع عارف على موعد بلقاء آخر؛ للتمتع برحيق الذكرى وتنسم عبق السنين..

---***---

45

كلما ازداد الناس فطنة وذكاء،

تعددت ألاعيب الدهاء والغش والحيل الشيطانية

وكلما صارت اللوائح القانونية أكثر صرامة، وتغليظا للعقوبات،

استفحلت الجريمة وتعددت وقائع الجنايات؛

كان كمال عزب موظفا بقسم المشتريات بديوان عام المديرية، تعين فى وظيفته بعد حصوله على مؤهل تجارى متوسط؛ بمرور الوقت استطاع أن تكون له خبرة فى كيفية تمرير الإجراءات الحكومية، والتعامل مع المقاولين، وطرق عمل المناقصات والعطاءات وكيفية رسوها على أحدهم ومتى تباع المناقصة، وكيفية حساب التكاليف، والاهم من ذلك تعلم طرق التربيطات ودراسة الشخصيات المحيطة، وعرف من أين تؤكل الكتف. باختصار فقد تعلم كل الطرق والوسائل الملوثة السارية فى دماء المجتمع كالنار فى الهشيم، من آن لآخر كان كمال عزب يفاجأ بخطاب قادم إليه من النيابة الإدارية أو النيابة العامة أو المحكمة التأديبية، لا تجدي كل المحاولات اليائسة التى تطفو – على هيئة شكاوى - على صفحات الجرائد أو فى ردهات الشؤون القانونية بالمديرية، حيث أن المشكو فى حقه كان قد سارع منذ زمن وأصبح حبيبا لكل الجهات المعنية، وكان دائما ما يقول لمن يستجوبه مصطنعا النزاهة والاستقامة؛ بعد أن يسبل عينيه وينظر إلى الأرض كما لو كان طفلا بريئا أو ضحية:

- هذه ضريبة النجاح يا باشا،لازم يضربونا بالطوب، احنا زى النخل ياباشا،الأنبياء كلهم تعذبوا وأهينوا حتى من أهاليهم!.

بعد مقتل الرئيس السادات، تم تعيينه بمرتب شهرى 86 جنيها وبضعة قروش بالرغم من ذلك؛ استطاع - خلال سنوات قليلة- أن تكون له ثروة هائلة؛ صار يمتلك ثلاث سيارات، وسوبر ماركت؛ وزورق سياحي بشرم الشيخ، وشاليه فى قرية تيوليب السياحية على خليج السويس وفيلا بالساحل الشمالى، بالإضافة إلى برج من إحدى عشر طابقا، قام ببنائه مع أحد أقاربه فى كفر الشيخ مدينته الأصلية التى نزح منها، هذا بالإضافة إلى مجموعة مجوهرات - أتت إليه فى صورة هدايا- إلى زوجته من بعض تلك العمليات الملوثة التى يطلق عليها اسم البزنس.

فى البداية كان نشاط قسم المشتريات محدودا فهو لا يتجاوز شراء أدوات النظافة وبعض النواقص الأساسية من مستهلكات مثل الأحبار والأوراق وأنابيب الغاز، أما باقى المستلزمات فكانت تأتى عن طريق الوزارة، بعدها ترقى بأسلوبه الملتوي ودأبه على ممالأة الرؤساء وتملقهم، حتى أصبح مديرا لقسم التخطيط بالمديرية، فجلس- بطريقته الخاصة – على مقعد واحد مع المدير العام، وأصبح الاثنان لا يفترقان تقريبا، زادت المودة بينهما مع زيادة الموارد والإمدادات الوزارية المحلية والأمريكية؛ وازداد أيضا عدد المساكن المزمع إنشاؤها فى صحراء المدينة الممتدة، كانا معا دائما ليل نهار.

كان كمال عزب هو مفتاح المدير العام لكل أصحاب المصالح بالمديرية..

---***---

لم يكن صادق قد رآه منذ سنوات، كان يزهد فى الذهاب إلى الديوان العام؛ اللهم إلا إذا ظهرت مسألة ملحة أو اجتماع، عدا ذلك فقد كان يشعر بالغثيان والقرف عندما يشاهد كمال هذا، لمحه فقط بعد خروجه من مكتب المدير العام- بعد عودته من الخارج - لاستلام عمله، رآه وقد انتفخت أوداجه، وازداد وجهه اسمرارا، وازدادت تقاطيعه غلظة، ولكن أنفه الأفطس مازال على هيئته القديمة، وأصبح يرتدى البذلة الكاملة، بعد أن كان لا يرى إلا بالقميص المكرمش والمداس المغبر فى قدمه، ظهرت عليه آثار النعمة بطريقة يأسف عليها من لديه بقية من حس انسانى سوي.

رآه صادق مصادفة؛ عند عودته إلى مكتب المدير العام، أراد أن يشيح بوجهه إلى الناحية الأخرى، شعر بالنفور والغثيان تجاهه، ولكن الموقف لم يسمح بهذا؛ فقد كانا محشورين فى المصعد الذى شملهما مع آخرين؛ فتح كمال حوارا:

- لم أرك منذ فترة طويلة

- نعم كنت خارج البلاد

- حمدا لله على السلامة، هل لك طلب فى المديرية ... "أى خدمة؟"

- كنت أريد مقابلة المدير العام ولكن يبدو أنه مشغول ورفض أن يقابل أحدا.

عند وصولهما الى الدور الأرضى؛ وأمام باب المصعد أخرج كمال كارتا صغيرا من الجيب الداخلى للجاكت وأعطاه لصادق قائلا:

- الكارت فيه رقم تليفونى، إذا احتجت أى شىء اتصل بى. "أى خدمة"؟

رد صادق محاولا إنهاء الحوار:

- شكرا.

---***---

46

مقام القعود والخذلان أفضل من حال السعى الدائب

لأجل نفس لا تشبع

إن كأسا مترعة،

خليقة بأن تنسكب لكن كوبا فارغا؛

يستقر ثابتا فلا يضطرب

ظل عارف وردة زمنا طويلا عاطلا بعد أن تخرج من كلية الزراعة، وقد ضاع حلمه القديم فى إمكانية استصلاح قطعة أرض بعدما حصل عليها بالفعل من جمعيه الشباب القومي، ولكنه ظل سنوات مناضلا فى محاولة استصلاحها، لم تصل المياه إليها عدة سنوات.. رأى بعض جيرانه فى الأرض يقومون بحفر حوض للمياه؛ ثم يقومون ببنائه بالطوب ودهانه بطبقة سميكة من المحارة، حتى يكون مانعا لرشح المياه، ويملأون هذا الحوض بالمياه التى يشترونها بالاتفاق مع عامل الجرار الخاص بالجمعية، ويسحب المياه بواسطة خراطيم رفيعة توزع المياه بطريقة التنقيط على الجورات التى تحوى بذورا..

كان متفتحا على الحياة، يدفعه أمل كبير، ولكن خاب ظنه فى مديري المشروع الذين لا هم لهم إلا أنفسهم،وقد أكلت الغيرة العمياء وحب التقليد والشراهة والطمع قلوبهم فأصبحوا لا يرون إلا منافعهم الشخصية وكان مدير المشروع يقوم بمنح قطع جيدة من الأرض إلى أصحاب الرأي والقرار فى البلد طمعا فى تجاوزهم عن أخطائه ومساوئه، ولكى يكون حرا طليقا، فكان يتصرف فى أموال الجمعية كأنها ملك خاص له، و كلما جاءت شكوى فى حقه خرج منها سليما معافا؛ بل و كأنما منحته صلابة وزادته قوة و منعة

بمرور الأيام تضاعفت علي عارف وردة الأعباء، وطالبه كل من صاحب الجرار وتاجر الخراطيم بديونه المتراكمة، كما طالبته الجمعية بدفع أقساط سنوية لم يكن يعلم عنها شيئا، تكاثرت عليه الهموم، وفوجىء ذات يوم بسحب قطعة الأرض المخصصة له لعدم التزامه بالديون، وذلك بعد أن استمرت بورا - كما هى- منذ زمن.

***

عمل عارف وردة بعدها سائقا للسيارة البيجو التى كان يمتلكها كمال، ولذا كان يتردد عليه من حين لآخر فى عمله بالمديرية،عندما ازدادت الثقة بينهما أضاف إليه كمال عزب إدارة السوبر ماركت التى أنشأها فى الشهور الاخيرة، كانت ضمن ممتلكاته العديدة...

اتسع نشاط عارف، وعمل فى تجارة الأراضي والعقارات، ظل كمال عزب مثله الأعلى، الذى يحرص على اقتفاء خطواته فى الحياة.

---***---

كان مصرا فى قرارة نفسه على تحقيق طموحاته وأحلامه، لم يكن يهتم كثيرا بمشروعية الوسائل التى يتبعها، فقد كان مكيافيللى التفكير فالغاية عنده تبرر الوسيلة، حجبه الشر والأنانية عن رؤية ماحوله؛ ظل يسارع ويصارع حتى أنتهت به الدنيا الى عكس ما تمنى.

استثمر معرفته بالسيد كمال عزب فى الوصول الى أكبر شخصية فى المديرية؛ كان على درجة وكيل وزارة؛ وقد تعرف وردة عن طريقه على شخصيات تمتلك مفاتيح الثراء والهيمنة فى المدينة الهادئة، استطاع أن يحصل عن طريقه على ثمانية قطع مميزة من الأرض، منها ثلاثة فى حي السلام بالقرب من مبنى الكليات الجامعية، وهذه الأراضى يتضاعف سعرها عن باقى القطع البعيدة نظرا لقربها من الجامعة وأيضا قربها من المدينة، وحكى له صديقه كمال أنه دفع للسيد وكيل الوزارة عن طريق سكرتيره مبلغ خمسين ألفا من الجنيهات بغرض اختيار قطعتى أرض مميزة فى المكان المجاور لمبنى موقف السيارات الجديد، كانت الدولة قد استأمنه على توزيعها؛ بدلا من قطع أخرى تم سحبها؛ وذلك نظرا لوقوعها فى مجال رادار قوات الدفاع. وتمكن أيضا من الحصول على قطعتين من الأراضى - بعد أن أسدى خدمة كبيرة للسيد وكيل الوزارة – من القطع المخصصة للخريجين الجدد كهدية "كادو"...

وتمكن عارف وردة بمعونة نفس الرجل أن يشترى قطعة أرض فى منطقة حوض الدرس من رجل انغرست قدماه فى دين وشيكات لم يستطع الوفاء بها، وكان الرجل البائس قد كتبها على سبيل الهدية أو" القهوة " للسيد وكيل الوزارة، ولكنه لم يتمكن من الوفاء بها، فاستطاع السيد الوكيل أن يحكم حوله الخناق، مما دفع الرجل إلى بيع أرض أولاده للوفاء بقيمة شيك الرشوة حتى لا يسجن، وكان المشترى هو عارف الذى كان ظامئا متلمظا ودائما ما تسمعه يقول ويؤمن بأن:" القرش صياد"، وقد دفع مقابلا ماديا يعادل ثلث ثمن الأرض على سبيل السمسرة للسيد وكيل الوزارة المحترم..

***

47

كل ما لم تبصره العين وهم مكنون

كل ما لم يدركه السمع؛ زيغ زائل

كل ما لم تبلغه مدركات الحس؛ هباء معدوم

 

اتفق عارف وصادق على اللقاء فى مقهى بورصة التلغراف بوسط المدينة...

قبيل الميعاد المضروب، جلس صادق على كرسى خارج المقهى يحتسى ببطء كوبا من الليمون كان قد طلبه لحين وصول صديقه القديم عارف وردة. نظر إلى المعالم حوله، فوجد محل ألبان بارنا سوس، كان الخواجة برناسوس ضمن الجالية اليونانية التى كانت تذخر بها مصر، غادر الرجل المدينة أثناء موجة إخراج الأجانب التى تمت أيام الحكم الناصري، وقد أصبح المحل ألبان بدون بارنا سوس... وبالقرب منها شاهد محلات راتب لمنتجات الألبان والجيلاتى كما هو، ووجد- فى مواجهته - على الناحية الأخرى من الرصيف متجر ملابس أبو العينين!!

---***---

كانت السيارة الشيروكى 4x4 التى يقودها كمال عزب؛ تتبختر فى شوارع المدينة؛، وقد جلس الى جواره عارف وردة، سارت على طريق الكورنيش، حتى وصلت الى شاطىء القناة ببورتوفيق؛ تهادت السيارة ببطء، وقد استند كمال عزب بذراعيه على المقود، شعر بخدر شديد ولذة تسرى فى أوصاله، نظر الى عارف قائلا:

هل وراءك شىء الآن؟

آه تذكرت ورائى ميعاد مع المهندس العائد من الخارج

صادق؟

نعم..هل تذكرته؟

الذى قابلته فى المديرية، بعد سنوات الهجرة الطويلة.

يبدو أنه صديق قديم؟!

نعم..كان زميل دراسة..أيام زمان! قبل الهجرة كنا نجلس على تختة واحدة فى المدرسة!

حاول أن تضمه الينا

نعم..حاولت، ولكن..

وماذا حدث؟

يبدو أنه قفل

تبسم كمال عزب ونظر الى عارف وردة قائلا:

حاول أن تشده، يبدو أنه عجنهم!

ضحك وردة حتى اهتز جسده، وقال لكمال:

انت صياد شاطر، لقد تعلمت منك الكثير...

---***---

لم تمض لحظات حتى تحركت السيارة، فى طريق تحفّه الأشجار من الجانين؛ تمتد أغصانها وترتفع الى أعلى لتتشابك وتتعانق أوارقها وزهورها فى منتصف الطريق ملقية بظلالها على البشر والسيارات وأسفلت الطريق الذى ينتهى عند مدخل الترسانة البحرية، حيث انعطفت السيارة ليبدو شاطىء البحر والقناة، يفصل البر عن مياه القناة نوادى الضباط و التجديف؛ ونادى الأسرة، وقبيل نهاية الطريق هناك نادى الشاطىء الذى كان يسمى فيما مضى نادى الموظفين لتمييزه عن نادى العمال الذى تغير اسمه إلى نادى الأسرة.

وصلت السيارة الى داخل المدينة مغادرة ضاحية بورتوفيق الهادئة، وقفت أمام مقهى وبار سان جيمس بشارع الجيش؛ بالقرب من مقهى التلغراف.

***

هبط عارف وردة مغادرا السيارة.. وقف صادق مرحبا به بالأحضان. حياه كمال من داخل السيارة،وانطلق بها؛ قال عارف:

  • بقى لك كتير..
  • حوالى تلت ساعة
  • آسف على التأخير
  • خلى البساط أحمدى..تشرب قهوة؟

- مضبوطة لو سمحت

ونادى صادق النادل وطلب منه اثنين قهوة مضبوط

دار حوار سلس شيق بين الاثنين؛ بين الفينة والأخرى لا تسمع سوى رشفات الفنجان قاطعة حديثهما لكى تصله مرة أخرى.تذكرا معا أسماء

بعض زملاء الدراسة، بصعوبة يتذكر أحدهما اسما فيكمل له الآخر وبعدها قال صادق:

- أذكر زمان كان موقف الحناطير هنا عند مزلاقان شارع النمسا، وكنت أجيء قبل طلوع الشمس يوم الجمعة أركب الحنطور وأرجع لبيت جدتي علشان زيارة القبور سوا، ركوب الحنطور كان بشلن وكنت فرحان جدا لانى أحب الركوب جنب الحنطورجى.

  • كانت أيام..
  • ويا سلام لما تشوف جدتي وعمتي وهما بالبرقع والملاية اللف... أيام زمان، الست كانت تهتم بالعروسة الذهب وتفتخر بها أمام الناس

تساءل عارف:

  • عروسة إيه؟
  • عروسة البرقع الدهب
  • نعم..نعم تذكرت
  • تقريبا كل السيدات السوايسة زمان كان عندهم برقع وفيه عروسة ذهب؛ ممكن تكون عيار 24 توضع بإحكام على الأنف بين العينتين وأي سيدة كانت تتباهى بها

صمت عارف قليلا، فأكمل صادق:

  • أحيانا كنا نقضى الليل كله فى الروض (المقابر)؛ وسط الموتى..
  • حاجة غريبة كل ما اتذكر هذه الأحداث أقول حاجة تجنن، كيف كنا نجرؤ على البيات وسط المقابر؟
  • كان هذا فى ليالى وأيام العيد...

- فكرتنى بأيام زمان... ياه

  • كان سوق العيد موجودا جوار المقابر يكاد يكون وسط المدافن؛ الحزن والفرح جنب بعض، يمكن الموتى يحسوا بنا؟
  • طبعا أكيد، إحساسهم صافى ورائق بعد ما اتنزعت الغشاوة من على عيونهم
  • وهل كانت مجرد صدفة..الحياة جوار الموت، والفرح جنب الحزن! يبدو أننا لم نتغير كثيرا من أيام الفراعنة!
  • أعتقد أنهم كانوا أكثر منا ذكاء وأعظم ثقافة وأدبا
  • لابد فيه مغزى

قال صادق متنهدا:

  • أين ذهبت تلك الأيام؟

---***---

48

كابدت عناء مجاهدة النفس،

فحفظت نقاء جوانحي،

وأرخيت لروحي ستر السكينة،

ونظرت فإذا الناس فيض حياة لا تفنى

بناء على طلب عارف؛ اتفق الصديقان القديمان أن يقضيا وقتا فى الشاليه الذى يملكه وردة بشاطىء السخنة..

فى الميعاد المتفق عليه؛ أخذ صادق التاكسى وأسرع ممتنا لتلبية دعوة صديقه، عند اقترابه من مدخل القرية وجد أفرادا متناثرين فى كل مكان، بالقرب من المدخل طلب منه مسئول الأمن بطاقة الهوية،أخذها منه وحفظها لديه بالبوابة، ترك صادق السيارة بعد أن حاسب السائق؛ وأدار نظره فى ذلك الابهار الرائع، تعجب وسأل نفسه: هل هذا المكان يتبع مدينتنا؟ أين كنت عندما أقيمت هذه الصروح على الشاطىء الممتد...؟ حدق فى الأشجار المحيطة وتعجب من كم النخيل الهائل المتراص على الجانبين، استراح الى النظام الدقيق والهدوء الذى يشمل المكان؛ أدار رأسه ليرى ويتفحص أحواض الزهور المرسومة بدقة واهتمام بالغين، تهادت الى أنفه روائح شتى لزهور الياسمين المختلطة بأنواع أخرى من الزهور، شاهد عباد الشمس والاقحوان وحنك السبع والقرنفل وألوان عجيبة من زهور الورد؛ ألوان أخرى من الزهور والأشجار الصغيرة والمتوسطة الحجم والكبيرة أيضا لم يستطع أن يميز لها اسما.. رفع رأسه ليرى سماء صافية اللهم الا من ندف بيضاء من السحب البيضاء والرمادية، سارحة من الجانب الغربى؛ تنبثق من تحتها خيوط طويلة من الأشعة وقد تماوجت بألوانها الزاهيةالمختلفة ممهدة لقوس قزح؛ وقد تناهت فى الجمال والعجب!

على شاطىء القرية السياحية، جلس صادق تحت الشمسية متطلعا إلى الأفق مستمتعا بهذا اللون الأزرق البديع لصفحة السماء، ومجموعة من سحابات بيضاء ثلجية تبدو ناحية الشرق..

أيقظت تلك اللوحة الربانية - وقد صارت مكتملة البهاء- ذكريات لا حد لجمالها، نظر إلى الفضاء الممتد أمامه؛ كان مستمتعا بهذا الرذاذ الذي يداعب جبينه،بين حين وآخر يفيق على صوت طفل يلهو مندفعا وراءه أ طفال آخرون غير عابئين بشىء من هموم الحياة؛ تشملهم السعادة بالبراءة والمسرة، كان متشوقا إلى الاستمتاع بهذا الجو البهيج منذ زمن. ركز نظره على تلك الأمواج الفيروزية التي تتهادى أمامه فى تدفق غريب مبدع؛ باعثة تلك الأصوات الهادئة التى تصل الى أذنيه فى جمال وعذوبة، كانت فرصة للتأمل وراحة الأعصاب؛ لم يقطع حبل تفكيره سوى صوت سيدة تنادى:

- رامى..رامى

تلفت حوله فوجد طفلين يلهوان بدلو بلاستيكي وجاروف كانا يقيمان بنايات عجيبة الشكل من الطين المصنوع من الرمال الصفراء الناعمة الرائعة، أرخى نظارته وتطلع الى الطفلين بابتسامة هادئة؛ جذبه منظرهما..

  • أيوه يامامى
  • تعالى ياحبيبى خد السندويتش
  • ماليش نفس يامامى

---***---

بعد قليل ظهر عارف وردة خارجا من باب الشاليه الجانبي مرتديا شورت البحر و" التى شيرت"، ويضع الكاسكيت فوق رأسه والنظارة الريبان الشمسية على عينيه، ذلك البريق المنعكس على زجاجها،جعله لا يرى محدثه أى اتجاة ينظر. كان صادق قد حكى له عن أسراره،حاول عارف أن يخرجه من أشجانه بدعوته حيث الشمس والهواء، أمضي معه صادق وجه النهار ضيفا فى الشاليه الخاص به.

استقلا السيارة للعودة إلى المدينة؛ قبل أن يهبط المساء

بادر صادق بقوله:

- لم أكن أتخيل أن القرية بهذا الجمال والروعة!!

- كل سنة نحضر هنا نمضى الأجازة السنوية تقريبا من أربع سنين من ساعة شراءنا للشاليه أنت تتذكر عندما عرضت عليك الفكرة؛ الوسيط يومها قال لنا إن صاحبه رجل كبير فى البلد..

- ولكن من هذا الوسيط؟

- أنت تعرفه جيدا؛ بدرجة وكيل وزارة

- من هو يا ترى؟

- حضرة المدير العام..مديركم!

- مدير المديرية؟

أومأ وردة مؤكدا:

- نعم!

- يبيع بالتوكيل ويأخذ نصيبه .. الربع تقريبا..

تعجب صادق وقال منزعجا:

- ربع إيه؟

- ربع تمن الشاليه

- حوالى كم؟

- لا تفكر حتى لا تتعب!!

- ولكن أنت تعلم أنى لم أكن أفكر فى امتلاك شاليه، لأنه بصراحة غير عملي بالنسبة لظروفي، أنا الآن أبحث عن شقة؛ فى موقع هادىء.

- أنا تحت الأمر

رد صادق ممتنا:

- أشكرك، وسوف أعطيك مبلغا تحت الحساب.

---***---

49

إذا رأيت الرهبة سقطت،

من أعين الناس؛

وقد استمرأت بطش جلاديها،

فاعرف أن مزيدا من التنكيل واقع بها لا محالة،

ولسوف يتنغص عيشها،

ويضيق بها المقام فى رحب أوطانها،

وينزع وارد الحياة عنها كف العطاء؛

ثم إن النفوس لا تتجرع مرارة الذل،

إلا بغلبة سطوة القهر

امتلأت الشوارع بأكوام الزبالة، وتناثرت أوراق كثيرة هنا وهناك، معظمها أوراق الدعاية الانتخابية، كانت تطير مع هبات الهواء الخريفيه؛ أفواج عديدة من طيور الغربان كانت تحوم فى الفضاء محلقة حول مراتع المدينة، تكاثرت بصورة غير مسبوقة، يتعالى نعيقها الفظ وتتدافع أسرابها فى الهواء فوق سماء المدينة، أصبح الجو مكهربا؛ كان الاقتراب من مراكز الانتخابات يمثل خطرا ملحوظا. لم يهتم عارف وردة كثيرا بالسياسة؛ بالرغم من رجاحة عقله وتفتحه؛ إلا أنه لا يحب أن يشارك فى اى انتخابات ولا يفكر فى ترشيح نفسه، وليس له علاقة بالعمل العام،من قريب أو من بعيد، أصبح تفكيره كما يقول هو" عمليا " لا يفكر حتى- مثل الكثيرين- فى إبداء رأيه فى اختيار من يمثل الشعب فى المواقع المختلفة..

توالت أحداث سياسية جعلت الكثير من الناس يعرضون عن المساهمات العامة إيثارا للسلامة، وتحسبا لم يمكن أن ينطوى عليه غضب أصحاب المقامات العالية و الكراسي الرفيعة، عندما قابل صاحبه على مقهى بورصة نعناعة أمام حلقة السمك القديمة بحى الغريب، كان الرجلان يجلسان على الناصية البحرية، مما أتاح لهما التمتع بنسمة المساء، التي انسابت صافية خلابة تشجع على استمرار الجلسة وإطالة الحديث..

بادر صادق صاحبه بقوله:

- انتخبت من اليوم؟

  • لم انتخب أحدا
  • تركت الورقة فاضية؟
  • لا
  • لا أفهم
  • لم أذهب من الأصل..
  • ياه...لم أكن أتوقع منك هذا الموقف... لم تذهب بالفعل؟
  • نعم، آثرت السلامة!!
  • ما الداعى إلى هذا الموقف؟

اعتدل عارف فى جلسته وارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة وسرح بعينيه قائلا:

- ذكرتنى بالذى مضى، هذه القصة قديمة... أيام الكلية، كان لنا زميل مشهور؛ يهوى السياسة وكان شابا ذكيا، الذى حدث معه أبغضني فى الانتماء..

أجاب صادق باهتمام ملحوظ:

- إيه حكايته؟

- أقول لك هذا بالضبط ما حصل، أثناء ذهابنا إلى الجامعة، كان الجو السياسي مغبرا، ومظاهرات الطلبة على أشدها فى أوائل السبعينيات، وكلنا يحمل كشاكيل المحاضرات فى يده، وبالطو المعمل على ذراعه، وعندما أقتربنا من باب الكلية، فوجئنا بسيارة عادية تقف بجوارنا ويخرج منها شخصان مفتولا العضلات، وبسرعة أمسكا زميلنا الحملاوى من كتفه؛ ودون أى كلمة؛ أخذاه إلى السيارة و دفعاه داخلها دفعا من الشباك، ولم انس منظر رجليه البارزة من شباك السيارة، وهو يرفص بهما معترضا، كان هذا وسط ذهولنا وحيرتنا.. تعجبنا من الذى يدور حولنا.. وأحسسنا بالخوف والمهانة..هل هذا تصرف سليم؟ هل الدولة عندها حق؟

- لا-.مبتسما- ليس لديها حق!

- هل تدرى ماذا حدث بعد ذلك؟

- احكي لى..

- بحركة امريكانى؛ انطلقت به السيارة وسط ذهولنا واستغرابنا، بدون كلام ولا سلام، وبعدها سمعنا أنهم ألقوه فى المعتقل ولم يعرف أحد عنه شيئا، حتى أهله بالكاد عرفوا اسم المعتقل بعدما داخوا السبع دوخات والثعلب فات فات..

- وماذا حدث؟

- شىء غريب؛ قبل الامتحانات بوقت قليل فوجئنا بالحملاوى وقد خرج من المعتقل، وسمحوا له بدخول الامتحان وسمعنا شيئا غريبا..

- ما هو؟

- سمعنا أنهم أرسلوا توجيهات سرية إلى إدارة الكلية بأن ينجح فى الامتحان.

- وهل نجح فعلا؟

- تصور انه نجح بتقدير جيد جدا..

قال صادق متعجبا:

- نحن فى بلد عجيبة..

- لم أكمل لك الحكاية

- فيه إيه تانى؟

أجاب عارف:

- مرت الأيام وحدث موضوع آخر كان صاحبنا الحملاوى طرفا فيه

- متى كان ذلك؟

- فى الجيش أيام التجنيد!!

- أين كنتم؟

- كنا فى معسكر التدريب الأساسى، وأثناء الطابور الصباح، تركنا الصول واقفين فى حرارة الشمس، العرق بلل ملابسنا، وجلس هو فى ظل شجرة يراقبنا من بعيد؛ تململ الطابور وحدث هرج ومرج، جلس البعض القرفصاء، لولا أن قام الصول وأطلق صفارته المزعجة، وسمعت أحد المجندين يعترض على تركنا هكذا فى الحر كالبهائم، ردّ عليه الصول قائلا:

- ما لكش دعوة أنت يا حملاوى!! تعجبت ولم أكن أعلم أنه معنا فى هذه السرية ونظرت إلى مصدر الصوت فتأكدت من المعلومة.

- ياه..أكيد شهرته كانت سابقاه فى الجيش!!

---***---

50

أما تجلت لناظريك منها شواهد العجز عن الثبات؟

أما لاحت لك منها نعوت التقلب المستدام؟

فى المنزل؛ تجمع أفراد العائلة،حضر الاخ الاكبر نادر؛ كما حضر صادق ومؤمن الذى فاز بعقد عمل فى الخليج، وجاء الى مصر فى إجازة،كما صارت ليلى مثقلة بحملها.

كان الأب راقدا فى السرير، متمتعا بكامل وعيه حدث أثناء خروجه أن تزلقت قدمه على الدرج فانبطح على ظهره على سلم البيت، أصيب بكسر فى عظمة الفخذ، ذهبوا به الى المستشفى بسيارة الاسعاف، فى المستشفى أجريت له بعض الفحوصات والأشعات؛ التى أظهرت فى النهاية أنه كان مصابا بمرض فى العظام ادى الى هشاشتها، منعه الأطباء من المجهود الزائد، وتجنب الحركات المفاجئة، فى الجلسة كان الحوار دائرا فى البحث عمن يمكنه القيام بدور الأب فى ادارة المخابز الثلاثة؛ بالإضافة الى معرض السيارات و شونة الدقيق التى صار يمتلكها فى المدينة الجديدة، قالت الأم:

ادعوا جميعا لابيكم بالشفاء

قال صادق:

أتم الله شفاءك يا أبى

قالت ليلى:

وعكة بسيطة ياأبى؛ وتبسمت قائلة:

ستعافى، وتصبح كالحصان!!

اغتصب الأب ابتسامة قائلا:

بشرط ألا يركب أحد على ظهرى، فهو لا يحتمل الآن!!

بالمناسبة؛ سامعين الأرض تقول إيه يا أولاد؟

ردت ليلى:

تقول إيه يابابا؟

تقول:
يابن آدم ... تمشى على ظهرى؛ ومصيرك فى بطنى.
يابن آدم ... تضحك على ظهرى؛ وأخشى أن تبكى فى بطنى.
يابن آدم ... تأكل الالوان على ظهرى؛ وسوف تأكلك الديدان فى بطنى.
يابن آدم ... تذنب على ظهرى؛ فاحذر أن تعذب فى بطنى.

***

تحدث صادق واخوته مادحين أباهم لحفظه والقائه الأشعار والحكم السائرة عليهم؛ بينما كان الأبن الأكبر نادر يكتفى بالملاحظة والسماع والترقب.

قال الأب:

لابد من تشغيل المخابز ومراعاتها؛ حتى لا تتعطل..

رد نادر بهدوء:

نحن تحت أمرك يا والدى..

نظر الأب ماجد اليه بإهتمام وجدية قائلا له:

ما قولك يانادر فى هذا الكلام؟

رد نادر باقتضاب:

طبعا لا يراعى المال غير أصحابه

عفارم عليك! هذا ما كنت أطلبه منك

نظر الى أبنائه جميعا وقال:

أخوكم نادر كما عرفتم؛ سيقوم بإدارة أعمالى حتى يأخذ الله بيدى، فالصحة – كما تعلمون - لم تعد كما كانت.

نظر الابناء الى بعضهم ومرت لحظة صمت كأنها دهر، ثم تبادلوا الإبتسامات، قالت الابنة:

أهم شىء صحتك با أبى لا تهتم بغير صحتك

قالت الأم:

الباشمهندس صادق والدكتور مؤمن لن يجدوا وقتا لتلك الأمور، نتعشم أن يرفع نادر رأسنا ويطيل رقبتنا!

---***---

51

والقاصد طريق الحكمة واصل الى مقصده

والساعى الى الخسران بالغ مبتغاه

القاصد الى الحكمة تتوافد إليه مراتب الحكمة

فى متكأ جليل

والساعى إلى الخسران تتوارد عليه موارد الخسران؛

تجرى إليه جريان مشتاق..

إنه لا يحيق المكر إلا بقلب واجس بالظنون..

 

بانطواء الأيام والليالى،اتضح أن سلوك نادر كان شاذا ومستهجنا، كما كان متسما بالأنانية والغرابة الى حد الذهول – فقد ظل مصرا على التمادى في حب الذات الذى أعماه عن الحق، لم يحس بحياء تجاه أى فرد من العائلة.. أدعى يوما حدوث خسائر جسيمة اثر الزلزال الذى وقع بمصر عام اثنين وتسعين؛ وأحدث شرخا كبيرا فى حائط أحد المخابز التى يمتلكها والده.

استطاع أن بنفرد بأبيه؛ أثناء مرضه؛ ويحصل منه سرا؛ على توكيل فى حضور أحد المحامين، بحجة المثول امام الجهات الرسمية؛ وسرعة تخليص الأعمال..

كان توقيت الزلزال بمصر مواكبا لأحزان كتمها صادق ولم يحدث عنها والده؛ فقد أبلغه المحاسب أن أكثر من لورى ملىء بأجولة الدقيق كان يضاف ثمنه سرا لحساب السيد نادر فى البنك؛ وذلك بأمر منه؛ ولا يذهب الى حساب الحاج، عندما حدثه المحاسب فى هذا قال له:

هذه عمولتى،أنا الذى أشقى وحدى دون عن اخوتى، كما ترى!!

---***---

فى إحدى الأمسيات؛أثناء تواجده فى المخبز؛ زعق نادر وارتفع صراخه مدويا؛كان يوجه كلامه وشتائمه الى الخباز والعجان،لم يسلم المحاسب من لسانه البذىء،ارتفع صوته أخيرا؛ مكيلا شتائمه وكلامه الفظ للجميع داخل المخبز قائلا:

انتم مع مين بالظبط؟ انتم معايا وألا عليا؟ قسما بالله العظيم لأسرحكم،والصبح يكون عندى غيركم!!

أحس بعدها بدوخة وعرق غزير، وتخاذلت قدماه وهبط مستندا إلى الحائط ليجلس الى مكتبه؛ لاحظه المحاسب ورأسه تقع على المكتب، قدم ليه مناديا:

أستاذ نادر..أستاذ نادر..

لم يرد الأستاذ نادر

قام الفران برش الماء فى وجهه،ولكنه لم يفق،حاول أن يهز جسده مرات بعنف، وظل الحال على ما هو عليه..

استدعى عربة الاسعاف، على الفور تم نقله الى المستشفى التخصصى،اتصل المحاسب بالمهندس صادق الذى ترك عمله، وكان على رأس الحضور فى الحال؛ تناقش ملهوفا مع الأطباء فى حالته، سحبت الممرضة عينة من الدم؛ عادت بعد قليل لتقول:

السكر مرتفع جدا..

قالت لها زوجته:

لم يسبق أن اشتكى من السكر!

عنده غيبوبة سكرية يا مدام!..

قال الطبيب:

نحن ننسى أنفسنا فى زحمة الحياة...كثير من الناس لا يدرون أنهم مصابون بالسكر إلا عند حدوث مضاعفات..

قام بتركيب زجاجات المحاليل؛ ولم يترك صادق أخاه إلا بعد أن أفاق من غيبوبته.

اتجه صادق الى زوجة أخيه نادر؛ سألها عن أولاده وعن صحة أختها فضيلة- زوجته السابقة-؛ قالت له:

ان حالتها تسوء يوما بعد يوم...

---***---

كان المرض فرصة لإستجلاء المشاعر الدفينة التى تكمن فى قلب صادق تجاه أخيه، وجد صادق أن هذه التجربة كانت مؤثرة بالإيجاب على مشاعره؛ فقد تناسى - ولو مؤقتا - ما جنته تلك اليد الآثمة؛النادرة.. تجاه باقى أفراد الأسرة جميعا.

مر أسبوعان أو ثلاثة؛ قابل صادق بعدها صديقه سامى وتحدث معه فى أمر أخيه؛ مبديا استياءه من أفعاله؛ فقرأ سامى " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" وقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم؛ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" وقرأ عليه " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم " صدق الله العظيم.

ارتاح صادق الى هذا الرد وهدأت ثورته،وقد دب اليقين فى قلبه بأن لا شىء يضيع فى هذا العالم؛ وتأكد أكثر بأنه ماتسقط من ورقة إلا يعلمها؛ ولا حبة فى ظلمات البر والبحر إلا ويعلمها الخالق،اذن فليفعل هذا الأخ ما يشاء وليغترف كما يحلو له،فكما تدين تدان، والديان لا يموت.

---***---

 

52

 

في حين أن الأردية الملكية الفاخرة،
تنسدل فوق أعطاف الجلال الأفخم،
في أروع طرز، وأثمن يواقيت:
بسيوفها الذهبية المدلاة،
فوق أبدان متنعمة ببهجة الأيام،
ورغد العيش،
فأولئك هم كبار رؤوس النهب:
شيوخ المناسر، وزعماء اللصوصية،
فدربهم حيد مائل عن هدي الطريق..

 

انشغل الدكتور مؤمن بعمله طبيبا بإحدى شركات البترول بالخليج؛ و ظل عازفا عن الزواج لسنوات طويلة، لم تكن فكرته عن الزواج حقا مبهجة، أخيرا؛ و فى إجازته السنوية؛ قرر أن يتزوج من إحدى بنات الريس جمال، صديق والده، كان خبرا سعيدا باركته العائلة؛ بالرغم من فرحة الأم بسعادة ابنها، الا أن قلبها كان حزينا وخصوصا بعد أن عرفت أنه سيسافر- بعد انتهاء إجازته بمصر- ويأخذ زوجته معه.

 

اتفق صادق مع أخيه مؤمن والشيخ سامى؛ على الذهاب الى نادر، لمحاولة التفاهم معه بأسلوب لين؛ وخصوصا أن المحامى أخبرهم أنه حصل على توكيل من المرحوم؛ لم تمهلهم الايام لعمل محاولة الغاءه؛ فقد انشغلوا بمرض أبيهم وبأعمالهم وأولادهم،كما اتفقوا على ألا يفاتحوا أباهم أو يحدثونه بالخلافات القائمة بينهم؛ حتى لا تزداد حالته سوءا؛ كما أنهم أيضا لم يتعودوا على الدخول فى مهاترات. لم تستطع ليلى حضور هذه الجلسة، فقد كانت هذا التوقيت فى انتظار الولادة خلال أيام كما أبلغها الطبيب...

---

عند اقترابهم من مقر أخيهم الأكبر نادر؛ طالعتهم فيللا هائلة، من ثلاثة أدوار؛ تزينت باللون الأبيض الرائع، يتخللها زخارف باللون الأزرق؛ تحوطها حديقة غناء؛ يحدو الحديقة سور مرتفع، محلى بألوان من الرخام المصقول، يعلوه صف من أسياخ حديد الكريتال المدبب،وألوان من الثريات الدقيقة الصنع المحلاة بألوان وزخارف متباينة تنم عن رغد وثراء.. فى الوسط وجدوا بابا حديديا ضخما مغلقا من الخارج؛ كان لزاما على القادم أن يمد يده للداخل من فتحة صغيرة بالباب؛ لا يكتشفها بسهولة من يأت للمرة الاولى، كان حنقهم يفوق دهشتهم، لم كل هذا الحديد الذى يحيط به نفسه؟ قال صادق لمؤمن:

لا يشعر بأمان..

قال سامى:

ليس هذا مهما؛المهم أن نصل معه الى حل.

وافقه صادق قائلا:

نعم؛ المهم أن نصل معه الى حل، لكى نخلص من مشاكله.

وجدوا الباب وقد فتح؛ بعد أن رد عليهم بالدكتافون، طلب منهم أن يتفضلوا.

***

فى المدخل؛ حديقة رائعة، ازدانت بأصناف عديدة من الزهور والرياحين، وقد تراصت الأصص على الجانبين، فاحت فى الجو نسمة لها أريج سحرى خلاب،أراد صادق أن يبقى لحظات فى الحديقة لتتنعم عيناه وأنفه وأذناه وروحه بتلك البهجة الماثلة هنا..

صعد الجميع الى الدور العلوى، وأدخلتهم الخادمة الى الريسبشن، بعد برهة من الانتظار؛

خرج عليهم نادر مرتديا روبا فاقع اللون.

أهلا.

أخذهم بأحضان زائفة، مرت فترة صمت أدارت العقول، ردد مرات:

أهلا..أهلا..وأكمل متسائلا:

زيارة سعيدة..

رد صادق:

جئنا فى موضوع مهم؛لا يحتمل التأخير، وخصوصا أننا نسافر أنا ومؤمن إلى الخارج

ماهو ياترى؟

الموضوع باختصار كل واحد لازم يعرف حقوقه..

رد نادر وهو يعبث فى المطفأة التى أمامه:

طبعا طبعا..وأين حقوقى أنا؟

قال سامى على استحياء:

لو سمحت لى يا أستاذ نادر،أنا مجرد واسطة خير

رد نادر:

خيرا إن شاء الله.

طبعا انتم اخوة وأنا لا أريد التدخل بينكم، كلنا سنترك الدنيا ان آجلا أو عاجلا

هات من الآخر..رد نادر بقرف

تعجب سامى؛ ولكنه لم يبد شيئا واستأنف كلامه:

ربنا سبحانه وتعالى قال: " ولا تبخسوا الناس أشياءهم؛ وقال سبحانه: وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان "

رد نادر متأففا:

صَدَق.. تقصد إيه؟

أقصد كما قال الباشمهندس؛الحق أحق أن ُيتّبع

سحب نادر سيجارة من علبة مرصعة بالعاج كانت ملقاة على الطاولة أمامه، وضعها بين شفتيه وهم بإشعالها:

حق إيه انت وهو وهو.. أنتم عاملين علىّ " رباطّية"؟!...

قال مؤمن مندفعا:

وحقوقنا!... حقوقنا الضائعة والمستولى عليها...

رد نادر بهدؤ وهو يمسك بعود الكبريت ويقذفه بعيدا بضجر:

حقوق إيه التى تتكلم عنها؟ ألا يكفيكم " المرمطة" التى عانيتها من أجلكم؟

رد صادق:

المهم نحن الآن نريد أن نتعرف على حسابات المخابز ومعرض السيارات..

أجاب نادر بصلف واستياء شديد:

ليس لكم حسابات عندى

تساءل مؤمن مندفعا:

من قال لك هذا؟

أنا الذى أقول.

رد صادق غاضبا:

إذا كان الأمر كذلك؛ فالوالد مازال حيا؛ وكما كتب لك التوكيل –كما تقول- ممكن يلغيه..

قال نادر متصنعا التأثر:

هو الآن مريض؛ والمريض يحتاج إلى الراحة.. استأنف كلامه وهو يحدج مؤمن بنظرة خبيثة:

وألا إيه رأيك يادكتور؟

قالها نادر بهدوء؛ وهو يضغط بإصابعه على السيجارة التى دسها بالمطفأة.

***

استمر الحوار إلى مابعد منتصف الليل، كانت أصواتهم خافتة حينا؛ ولكنها كانت زاعقة فى معظم الأحايين؛ فى النهاية أصر الأخ الأكبر على موقفه؛ وقال لهم؛ وقد شمل حديثه باقى أفراد العائلة:

أصنعوا ما بدا لكم؛ أركبوا جميعا أعلى ما فى خيلكم، المحاكم موجودة، وأنا فى انتظاركم...

كان الأسى والأسف من هذه المقابلة الرزيلة؛ التى انتهت نهاية مفجعة، كانت قد رسمت خط القطيعة التام بين هذا الاخ واخوته، فقد تملّكه الجشع والطمع؛ وسيطرت على نفسه كل دواعى الأنانية؛ والشعور الدائم بالظمأ والجوع والعرى.عندما علمت بماحدث؛ حزنت ليلى وقالت لأخويها:

الله موجود.. يمهل ولا يهمل، سبحانه وتعالى!

---***---

 

53

 

فما حصدت المناجل،
سوى أزهي وأنضج الثمر،
وما وقع صريعا،
سوى أعلي أغصان الشجر.
 

مازال الأب ماجد أبو اليسر فى سريره لم يبرحه، يتناوب عليه الأبناء بالرعاية، بذل صادق فى علاج أبيه جهدا طائلا، كان يسهر معه كل ليلة تقريبا حتى مطلع الفجر، فى بعض الليالى يظل ساهرا جواره حتى بزوغ شمس الصباح، سافر به مرات عديدة للفحص لدى مشاهير الاطباء بالعاصمة؛لم يشأ أن يحكى لأبيه شيئا من أفعال أخيه نادر؛ حتى لا تزداد صحته سوءا.

اضطر صادق الى تأجيل عودته الى عمله بالمملكة ليراعى والده بعد أن طال مرضه. كانت صحته تتدهور يوما بعد يوم، كما بدأت ذاكرته تسوء مع قلة الحركة وتمكن المرض من جسده الذى نحل حتى صار جلدا على عظم.

 

تطلب الأمر نقله الى القاهرة لاجراء عملية جراحية فى عظام الحوض؛ قام بها أستاذ كبير فى جراحة العظام بمستشفى استثمارى، بعدها عاد الى المدينة لم تتحسن صحته كما كان متوقعا، بل على العكس كان تزداد سوءا يوما بعد يوم، نحل الرجل وخفت صوته، وصار هيكلا عظميا

فى المستشفى؛ بقاعة الاستراحة المقابلة لحجرة الحاج ماجد، تحدث مؤمن مع أخيه حديثا هامسا:

هل عرف الوالد شيئا بخصوص مقابلتنا مع نادر؟

لا طبعا لم أخبره

أحسن، ولا عن التوكيل؟

لا..لم أتحدث معه فى شىء؛ الظروف ليست مواتية كما ترى..

أنا موافقك على هذا، عندما تتحسن صحته إن شاء الله يمكننا إبلاغه بكل شىء..

قال صادق.. أولا وقبل كل شىء؛نتمنى من الله الشفاء..

لم يكن صادق فى تلك الظروف يذكر أى شىء يتعلق بالماديات أمام والده، أو حتى بعيدا عنه، عندما ينظر إلى والده ويرى نحوله وشحوب بشرته، يتذكر الأيام الخوالى حينما كان أبوه بكامل صحته؛لا ينال منه التعب بعد عمل شاق طوال النهار، يتذكر بأسى حبه للناس، والمدينة، وحبه للعمل،تذكر روحه الجميلة، واحساسه الرهيف، وحبه للأشعار، والقاؤها وترديدها بين حين وآخر، كانت هذا المقارنة تمثل له رسالة بليغة عن الدنيا، عن هذا السراب الذى يلهث الكل وراءه،عن الخواء الذى نتمسك به؛ ونعض عليه النواجذ كما يقولون؛ ونخبئه فى أعماق قلوبنا.

بعد شهور من المعاناة والالم؛ كان الحاج ماجد يتحدث مع زوجته وهو متكىء على السرير؛ فجأة أراح رأسه على السرير، حاولت زوجته أن توقظه، ولكنها كانت الرقدة الاخيرة؛ توفى فى هدوء، وأقامت الأسرة عزاء فى دار المدينة للمناسبات.

---***---

 

54

تصفو أحوال الناس وتتكدر أيامى

بيد أن مدار الأمر وقطب العلة؛

يرد الى غفلة غمرت مجامع افهامى،

فالكل وقدة ذهن شرير ماكر...

 

بوفاة الأب اتسعت الهوة التى نشأت بين نادر و اخوته، وأطلق صادق لحيته، لم تفارق المسبحة يده، دائما يراه الناس وقد شملته مسحة حزن، فى عمله تعود أن يفتح المصحف المتربع فوق المكتب أمامه، كان يرتل القرآن بصوت مسموع؛ بالليل يكثر من التردد على أماكن الخير، تعودت قدماه الخطو إلى المساجد؛ شمله هدوء واطمئنان؛ لم يعد هناك جزع وولع، وخصوصا بعد أن فارقه أبوه وحبيبه..

أقام مشروعا لتلاوة القرآن الكريم، وآخر لتحفيظ الأطفال والكبار بالمسجد المجاور، ظل يبحث عن الأسر التى أحنى عليها الدهر، خصص لها المساعدات الشهرية، وفى شهر رمضان كانت له صولات وجولات، كما ساهم فى إقامة مستوصف ملحق بالمسجد الذى يتردد عليه..

... مع سقوط أوراق الأيام؛ عضت له الدنيا عن نواجذها، ظهر له وجه أخيه القبيح، وجه يتسم بالأنانية المفرطة؛ لا يرى أبعد من أرنبة أنفه،لايعرف سوف كلمة" انتهاز الفرص "سواء كانت الفرصة من حقه أو اعتداء على حقوق الآخرين، هذا الظلم المزدوج كان شديد الوطأة، هذا الأخ الذى اختار له الزوجة التى لم يفلح معها، كما استولى على ميراث الوالد بوضاعة متناهية..

نبتت فى قلب صادق مخاوف عديدة؛ اختلطت بالأحزان، نازعه يأس دفين، كما اعتراه شك فيما ظل طوال عمره موقنا أنه من الثوابت، طاله الشك فى أقرب الأقربين، فيمن حوله، بل تطرق الشك الى نفسه والى مبادئه، بل وإلى وأسلوبه فى الحياة، الحياة التى لا يستطيع أن يعيشها إلا فى هدوء، وأمن وطمأنبنة، أطارت تقلبات الأيام النوم من عينيه، هل يمكن لمن يظهر لك الود ويبادلك الضحكات أن يطعنك فجأة ويستولى على مالك؟!؛ دون سبب واضح أو جرم بيّن؟ هل من الممكن أن يقوم أخوك؛ وليس عدوك؛ بمماطلتك والسطو على حقوقك؟ مخاوف لم يجربها من قبل نمت وترعرعت فى أعماقه؛ غيرت نظرته إلى الآخرين بل وإلى الحياة، ولو إلى حين..

 

كان يساءل نفسه: هذا الانسان الذى يلعب معك؛ ويحكى لك النكات؛ كيف يمكنه أن ينقلب عليك مائة وثمانين درجة؛ ليصبح على النقيض تماما؟؟، هذا الانسان؛ أى انسان؛ تمثل له كأنه حجر أو سكين، اذا استخدمته بشكل سليم أفادك، ربما يبطحك أو يجرحك وتنزف دماؤك اذا أسأت معاملته، ولكن هل يمكنك التحكم فى السكين التى فى أيادى الآخرين؟ هل يمكنك أن توقف الباغى عن بغيه وأن تكبح جماح الظالم؟ تبدلت نظرته للناس من حوله، عندما كان يقابل أحدا أصبح يتشكك فى نيته تجاهه، بدأ يتحاشى النظر فى وجوه الناس؛ كان أحيانا ينظر الى ناحية أخرى، حتى لا تتلاقى الأعين،أصبح يخشى أعين البشر ويشك فى ابتساماتهم؛ لما قد يكون مختبئا تحتها من زيف ولؤم.

أصبحت نظرته الى البشر حزينة، مفعمة بالأسى والتوجس بعد أن كانت مليئة بالحب والشفقة؛ استمر مطلقا لحيته؛ مكثرا من قراءة القرآن، ومترددا على المساجد.

ظلت الأحزان مخيمة علي الأسرة زمنا طويلا، فكر صادق؛ بعد أن صادفه أكثر من موقف، فكر فى رفع راية الاستسلام؛ وأن ينأى بنفسه بعيدا عن هذا الجو الكئيب، لم يحاول، ولم يجد لديه الاستعداد ان يدخل فى مهاترات ومحاكم مع أخيه الأكبر الذى استحوذ على المخابز ومعرض السيارات وشون الدقيق، فقد كان يتفنن فى اختلاق المتاعب والأعذار؛ ما أسهل التزوير لدى هذا الأخ الذى لم يرع عهدا ولا دينا ولا رحما؛ فهو يتلاعب بالأوراق؛ كان يضاعف المصروفات بأساليب ملتوية، ويدعى أنها فاقت المكاسب، ازداد احتقار صادق له. انسان أنانى دنىء؛ لا يرع ذمة ولا يمتلك ضميرا حيا؛ بل ويكاد لا يعرف له دينا ولا ملة اللهم الا دين الجشع والحقد والأنانية والشراهة التى نشأ وتربى عليها، يكفى أنه تلاعب بالتوكيل الذى حرره له والده؛ و طرد المحاسب الأصيل الذى كان محل ثقة المرحوم والدهم لزمن طويل، حاول الاستيلاء والسيطرة على كل شىء؛ كثرت مشاجراته مع العمال؛ بين الحين والحين كان يقوم بتغيير العجان أو الفران أو البائع، تعود أن يتهم الجميع بالخيانة ولا يثق فى أحد.

مرة أخرى عاد يفكر فى السفر؛ ليحطم حاجز الحزن والملل الذى بدأ يتسرب الى نفسه، لم يكن يتوقع؛ أن يأخذ هذا القرار؛ خاصة بعد الظروف التى مرت به..

وكأنما كان هذا القرار هروبا من المواجهة؛ مواجهة أفعال أخيه ومساوىء حياته العائلية؛ ولم يكن ضعفا، بل سموا عن الصغائر، وهربا من الشيطان؛ذلك الشيطان الذى كاد يجعله ذات يوم يدبر للتخلص من أخيه؛ فلم تكن المواجهة تفلح مع مراوغ أفاق حاول صادق أن يتجنب شماتة الناس حتى ولو كلفه ذلك التخلى عن بضع آلاف من الجنيهات، ثمثل بالنسبة له ولابنائه مبلغا لا يستهان به.. آثر أن يعوضه الله عنها بالثمن الذى يدفعه فى غربته؛ حتى يضمن لأبنائه عيشا مستورا.

---***---

 

55

 

مريد الإحسان، متبريء من هوي النفس،

لكن السالك بالعدل، مدفوع بغلبة إرادة ذاتية

الساعي إلي العدل،
مدفوع بغرائز التكفير عن الإثم
فقيه المراسم والشرائع،
هو الفصيح المفوه، المتكلم بالحسني..

 

أمضى الأيام والليالى ملتاعا بين ضياع حبه، ومرض أبيه الطويل الذى انتهى بوفاته؛ وتلك الألاعيب الدنيئة التى يقوم بها من أحسن هو اليه، إضافة الى ذلك الضياع بين غربته – التى استأنفها - خارج البلاد؛ وغربته الأهم داخل البلاد؛ كان شعوره بالغربة داخل الوطن عنيفا؛ عندما يفكر فى أمر نفسه وأبنائه؛ كانت الدموع تطفر من عينيه، لم يكن يتحمل شتاته المزدوج؛ داخل مصر وخارجها؛ داخل مصر كان مشتتا بين مدينته والقاهرة لزيارة أبنائه والاطمئنان عليهم؛ حيث شاءت الأقدار أن يترعرعوا فى حضن جدتهم وجدهم، ووالدتهم المريضة...

***

من المدينة المنورة كتب إلى سامى:

تحية وسلاما..

أنت تعلم أننى تركت مدينتى مرغما؛ ربما تتعجب فى البداية من هذا الكلام، ولكن لا تتعجب فأنت تعرف قيمة الثروة التى تركها لنا الوالد عليه رحمة الله، هذه الثروة التى احتال – ومازال – يحتال عليها هذا الأخ الأكبر الذى نزعت من قلبه كل معانى الأخوة والشهامة والمروءة؛ فبدلا من أن يعطف على أخوته؛ تراه يأكل حقوقهم وينهبها نهبا بلا هوادة، لقد ماعت نفسى من مجرد ذكر اسمه، فوضت أمرى الى الله، وتخيلت أن الوالد لم يترك لنا شيئا..ما الواجب المفروض أن اقوم به؟ ماذا كنت أفعل؟ لا شىء مطلقا..أحمد الله أننى لم أشكوه فى المحكمة..الحمد لله على كل حال..لم يستمر بقائى فى مدينتنا حتى لا تتعقد الأمور وأجد نفسى يوما ما فى مواجهة فاضحة معه، أو ربما يدفعنى الشيطان الى لون آخر من الانتقام.. غصبا عنى أيضا اتخذت قرار السفر، ففى السفر - كما يقولون – فوائد عديدة؛ أهمها ألا أزج بنفسى فى هذا العفن المتراكم يوما بعد يوم؛ فليشبع به وليفرح به..أتدرى أنه لا يشبع؟؟ حقا لا يشبع!!

---***---

أحيانا يكون الشيخ سامى محلقا فى فضاءات قد يظن من يراه؛ أنه يهرب من واقع سخيف، أو قد يفسرها آخرون بأنها شطحات صوفية، ربما.. ولكن المؤكد أنها تجلى روحه تماما وتجعله صافى الذهن رائق القريحة كما ولدته أمه..

كتب الى صادق ليؤنس وحدته؛ و يبعد تفكيره نهائيا عن لدغة الثعبان التى آلمته كثيرا؛ والتى وعده أنه سيشفى منها- بإذن الله - بفعل الزمن، كتب يقول:

"وللعلم فهناك خبر فى نوفمبر1996 يقول إن مياه الصرف تهدد خليج السويس، وتقول الجريدة إن السياحة تهرب والأسماك تئن و الإنسان فى خطر ".

كان قلب صادق مليئا بالشجن؛ متوترا، لم تكن فكرة سامى صائبة هذه المرة فقد زادت من أحزانه، فى كراسة صغيرة كان يكتب ما يعن له من خواطر؛ أحب أن يطلع صديقه سامى على بعضها، وقال له اننى انقل اليك أسرارى لكى أشعر انك تعيش معى كما تفعل أنت، ولكن على طريقتى التى أرجو ألا تصيبك بالإحباط، تعجبت أول الامر من المصريين الذين يملأون الأسواق هاهنا،أعتقد أنهم أكثر الناس شراءا هنا، وتعجبت أكثر عندما سمعت عن قيمة الجمارك التى تفرض على هذه البضائع ونحن عائدون الى بلدنا، تخيلت أن البلد كالأم سترحب بأبنائها أثناء عودتهم وتفتح لهم ذراعيها وتأخذهم فى أحضانها، وترحب بهذه الخيرات التى أحضروها معهم؛ بل وربما تشكرهم على ذلك. ولكن الواقع عكس ذلك، قوانين ولوائح تجعلك تفكر أكثر من مرة فبل شراء أى شىء تريد أن تحضره معك؛ وتفكر أيضا فى كيفية التهرب أو التخلص من هذه القيم العاليه من الجباية التى تفرض علينا... يا أخى هل نحن مواطنون؟ أم ماذا؟ عند عودتى فى المرة السابقة كان هناك شرط فى دفع قيمة التأمين والمعاشات، وهو أن تدفع بالدولار،الغريب إن احتقار الجنيه؛ جاء من الدولة نفسها! قمت بالدفع بالدولار، الحكومة تحاسب عليه يقيمة بخسة؛ أقل من محلات الصرافة الخاصة بكثير.."

---***---

 

56

 

فلئن عرفت مدارج سطوة القوة..

فى غليظ قسوتها؛

فالزم مواطن الخذلان..إذعانا وتسليما..

ولتكن كمجرى نهير فى أدنى سفح جبال مشيدة

تتقدس خصالك أبدا مؤبدا..

 

ظلت خطابات الشيخ سامى الى صديقه تمثل له الهدوء النفسى، بالرغم من سوء معظم الأخبار إلا أنه قد تعود عليها، صارت كالمخدر الذى تعود المدمن على تعاطيه حتى لا تنهزم نفسه "..

خبر آخر يقول ان هناك خمسة آلاف حدث يعتبرون قنابل بشرية من أطفال الشوارع تهدد المدينة، وتقدم 512 طلب للحصول على التليفون المحمول فى سنترال القبة ونحن فى عام سبعة وتسعين، وقد ظهر المحمول فى جيوب عدد من رجال الأعمال وقرأت فى نفس العدد تحقيقا عن البطل أحمد الهوان الذى خدع مخابرات إسرائيل أحد عشر عاما، حصل فيها على معلومات بالغة الأهمية، و كان اسمه جمعة الشوان فى المسلسل الشهير رأفت الهجان.

1000 حكم يصدر أسبوعيا من محاكم السويس

فندق بلير فى ذمة التاريخ.. بعد 85 عاما تقرر هدمه لإنشاء برج مكانه".

" تحولت الحدائق العامة إلى كافيتريات بقرار سيادى،أجرها مستثمرون وقاموا بتحويلها إلى أماكن خاصة بعدها تمت أحاطتها بأسوار فأصبح الدخول إليها مرتبطا بالطلبات المتنوعة من المشروبات والمأكولات أو الشيشة بأنواعها المختلفة الروائح والمحتويات؛ والتي لا يهواها أو قد لا يقدر عليها كل الفئات، وصار عدد كبير من المواطنين عندما يقترب من الحديقة ينظر إليها بحسرة، ويستمر فى سيره باحثا هو ومن معه عن مكان آخر يجلس فيه دون طلبات أو إزعاج، ولهذا السبب تقرر إزالة الكافيتريات من حدائق النافورة وسى سايد والفيروز والسويس والياسمين والشجرة والسندباد والتشريفة وحديقة أصدقاء الطلبة وغيرها...

***

" فى الجريدة؛ المانشيت الرئيسى بعنوان اليوبيل الفضى لانتصار المدينة! وأيضا خبر يقول 4 كليات جديدة بالسويس، وخبر آخر يقول انه قد تم تركيب أبراج المحمول على عدة عمارات والمحمول فى المدينة فى أكتوبر الحالى 1998.

اسمع هذا الخبر العجيب:

زغروتة من سيدة هزت أرجاء المحكمة، بعد الحكم عليها بعشر سنوات فقط!!!

كانت قد قتلت زوجها بساطور ودفنته أسفل غرفة النوم!!

قالت: " الحكم عشر سنين أهون من العيشة معاه ".

7 سنوات أشغال شاقة للأخ الذى اغتال براءة شقيقته؛ السبب: الحبوب المخدرة!

العثور على قتيل أمام مدرسة ".

---***---

كان رد صادق سريعا هذه المرة بعد أن شفى تماما من تلك الافكار المتعلقة بالمال لم يعد يهمه كثيرا، لم يهتم سوى بانسجامه النفسى الضرورى لقضاء حوائجه والقيام بعمله فى اتزان وطمأنينة، كان يهتم بالسلام والبعد عما يحجبه عن طريقه، كتب خطابا الى صديقه؛ قال فيه:

رأيت فى منامى بناء شامخا؛ على شاكلة البرج؛ ولكنه يعلو ويعلو علوا شاهقا، وكلما ارتفع قلت مساحته؛ وقد وقفت على سطحه الأملس، فوق أعلى قمة فيه؛ وقد صارت دائرة لا يتجاوز قطرها ثلاثة أو أربعة أمتار، لا يوجد بحوافها سور؛ انتابنى رعب شديد كلما اتجه نظرى إلى أسفل، لا أرى سوى علامات ضبابية؛ لا توجد معالم واضحة لشىء ما...

..الارتفاع شاهق جدا، والفراغ المحيط كثيف؛ شاسع، لا يستطيع أن يحدد أى معالم لأى شىء؛ حتى الطرق الواسعة اختفت معالمها تماما، لم يتبق منها سوى خيوط رفيعة سوداء؛ لا تكاد تَرُى...

إلى جوارى ظهرت سيدة جميلة؛ بدأت فى التلطف معى؛ حاورتنى؛ تعجبت من ظهورها المفاجىء، فى قرارة نفسى فرحت بها؛ بالرغم من المخاوف التى أحاطت بى، أمسكت يدى وهى تحدق فى عينى؛ قبضت عليها، تحركت كمن تحاول أن تراقصنى؛ تماسكت مدعيا الثبات...

انتابتنى قشعريرة؛ لو زلت قدمى سأسقط إلى مثواى الأخير؛ ربما يضيع جسدى فى الفراغ ويتلاشى؛ وتختفى معالمه نهائيا ولا يبقى منه أثر؛ الأكيد أنه سوف يهبط من حالق؛ ويرتطم هذا الجسد ارتطاما عنيفا؛ ربما على سطح معدنى أو أسفلت الطريق، أو ربما كان الجسد محظوظا ويسقط فى المياه؛ أى مياه؛لا يهم، ولكن المهم ألا أشعر بالألم؛ تمنيت من الله ألا أتعرض للمعاناة الشديدة التى أكاد أفقد الوعى لمجرد التفكير فيها، على البعد الشاهق تناوبتنى الهواجس، تقريبا شل تفكيرى، نظرت إلي بابتسامة مشجعة حانية وقالت:

مالك؟

حاولت أن ألملم شتاتى وقلت:

" لا شىء..".

صحوت بعدها من نومى..

"هل تعرف يا سامى أنك قد أسديت لى جميلا لن انساه لك، لا تتعجب، عندما افكر فى اخلاصك وعلو همتك،علاقاتك الحميمية بالآخرين، أجد بصيصا من الأمل قد تسرب الى روحى؛ وخصوصا أن قلبى يزداد أنسا كما يزداد صدرى انشراحا كلما زرت الكعبة، صرت هائما كالمدمن، وكذا زيارة المدينة المنورة؛أحسست أن ثقتى فى الصنف كله- صنف البشر - قد عادت لى؛ بل ثقتى بالحياة ذاتها؟ آسف على استعمال كلمة الصنف هذه، ولكن عندما تقارن هذا الصنف بأصناف أخرى من المخلوقات؛ نجد فوارق عجيبة؛ تجدنا بالرغم من أننا- فى الصغر- نكون على الفطرة؛ الا أننا ما تلبث أن نتلون ونتشكل كما تعلم؛ حتى نصبح خليطا من أشياء ربما تكون متناقضة، القليل جدا من يقومون بالمطلوب منهم ويجاهدون أنفسهم لتهذيبها..لتحافظ على فطرتها.. هل تذكر كلمة" السجن اصلاح وتهذيب" كنا نراها فى الأفلام على واجهات السجون، حقا المفروض أن تكون حياتنا امتدادا للتهذيب؛ ونحاول أن نسجن نفوسنا الشريرة، ولا نبدى سوى الجانب الايجابى الخير أليس هذا منطقيا؟ ربما كانت حياتنا كلها محاولات للعودة الى أصل الفطرة التى تستلهم كل حياتها من معين السماء... أقول لك أنك أعدت لى الثقة فى الصنف – صنف البشر - دون أن تدرى؛ فأنت بشمائلك وبما جبلت عليه؛ أبديت لى الوجه الجميل من العملة؛ عملة البشر..

أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبى ولكن حب من سكن الديارا *

يا سلام!! ما أروع الحب فى هذا الشعر؛ إذا وجدت مشاعر بهذه القوة، فلا خوف على البشر!!"

أخوك صادق

---***---

 

-------------------------------

* قيس بن الملوح ( مجنون ليلى)

 

57

 

سأدع الأمور تجري وشأنها
فالفوز دائما في مطاوعة المقادير،
والعبرة دائما فيما تخطه يد الزمان،
وليس فيما ينطق به الفم واللسان،
ألا إن القليل جدا من الناس،

هم الذين يبصرون باطن أسرار تلك الإشارات..

 

" قالت التلميذة " ان الأستاذ تصرف معى بعض التصرفات المخلة بالآداب " وكلما حاولت الفرار منه كان يمسك يدها بالقوة ويمنعها من الفرار

وفى رسالة الى الجريدة يقول صاحبها ان مدينة المستقبل اسم على غير مسمى؛ تم بناؤها منذ أكثر من عشر سنوات وينقصها الكثير من الخدمات، فلا يكفى رصف الطرق وزرع أعمدة الإنارة،التى لا يضاء أغلبها فالمدينة ليس بها سوى فرن عيش بلدى واحد،ولا تكفى لأبنائها، والمدينة خالية من حديقة، وليس بها نقطة اسعاف للحالات الحرجة فى الأوقات المتأخرة من الليل؛ كما لا توجد بها نقطة اطفاء أو نقطة شرطة لفض المنازعات، المشاكل ياسادة كثيرة وفى حاجة الى نظرة المسئولين "..

وهل سمعت عن حلاق المشاهير كمال رشاد الذى هاجر الى القاهرة بعد 1967ليبدأ رحلة طويلة عمرها اكثر من30 سنة بدأت فى محل مشهور فى وسط البلد،الى أن عمل فى أشهر محلات الدقى وأصبح ملتقى للمشاهير مثل محمود الخطيب وحسام حسن وحكيم وخالد عجاج وأحمد برادة وغيرهم...ورغم ذلك يحرص على حضوره الى السويس ليلتهم وجبة افطار رواش الشهيرة من الفول والفلافل،وكتبت عنه جريدة الراية القطرية:كيمو حلاق الرؤساء: شعرت بالرهبة وأنا أحلق لعبد الناصر.

وهناك خبر عن ذئب يبحث عن الحنان بعد سجنه بالقاهرة جاء للسويس يستدرج الأطفال للاعتداء عليهم حتى تورط فى قتل واحد منهم ووضع جثته فى شنطة بلاستك ورماها

عندما دافع عن نفسه قال انه (محروم من الحنان )

قرأت تحذيرا فحواه: أن مكالمة التليفون ستكون ست دقائق فقط من أول يوليو 1999 بعد أن كانت فقط بعشرة قروش والمدة غير محددة!!كذلك فان اللالى لاعب السويس الشهير أيام الستينات توفى بعد أن فقد بصره وعاش فقيرا. و سيارة اوبل عملت حادثا شهيرا على أحد الكباري بالقاهرة،السيارة كان يقودها ابن نائب سويسى فى البرلمان، شاطىء الخور الذى صرفت المحافظة ملايين الجنيهات فى عملية تكريكه بكراكات هينة القناة ليكون بلاجا شعبيا، تم اغلاقه والحمد لله بعد حدوث 14 حالة غرق فيه، يقولون إن شاطىء ركس سيعود للعمل بعد أن أبعدوا مياه الصرف عنه....

واسمع هذا الخبر: زوج يتصالح مع زوجته اللعوب بعد أن تأكد من خيانتها له، خوفا على مستقبل أبنائه...

أخيرا لك منى التحية ياعزيزى...بالرغم من أن معظم الأخبار كانت موجعة، إلا إنها الحياة، الحياة بما تزخر من متناقضات،أفراح وأتراح، صواب وخطأ، خير وشر...الا أنها لابد أن تمضى؛ ويبدو انه ليس لنا من الأمر بد...

المخلص سامى."

بعد أن قرأ الرسالة وضعها إلى جانبه؛ وراح فى نوم عميق.

***

أثناء الدوام الصباحى؛ أحضر صادق ورقا وقلما، كان الوقت يمضى بطيئا مملا، جرى القلم يكتب الى صديقه:

" هناك طلب أرجو أن تهتم به؛ منذ سنوات؛ أعطيت عارف وردة مبلغا من المال بغرض حجز شقة فى البرج الجديد؛.. فقد عرفنى أن كل أصحاب البرج أصدقائه وأحبابه.. وسافرت قبل أن أحجز لأن الحجز لم يكن قد بدأ، أرجو أن تطمئننى، وتخبرنى بما تم لأن عارف لم يتصل بى أو يرسل لى أى خطاب حتى هذه اللحظة..

قلة من الناس من يتجشم الدخول إلى عش الدنابير ويصارعون من أجل حل مشاكل هذه المدينة الجميلة البائسة،الغالبية كما تعلم من الأغراب؛ ليس لديهم انتماء إليها، حتى وان تسابقوا على مناصب قيادية فيها فمن أجل مصالح قبلية أو شخصية،أو على الأقل حبا فى الشهرة، اصرارنا على حب الوطن واصرارنا على التمسك بكرامتنا ليس له حدود فى الغالب فان النقاء يخرج من المقاعد الرسمية مهزوما... هل تدرى لماذا؟ أقول لك لأنه وحيد و فى الغالب لا يجد قوة تناصره أوتشد أزره "..صادق

---***---

 

60

 

كادت الكفاية تشبه النقصان،
غير أن عطاءها موصول أبدا.
وأوشك الاكتمال أن يضاهي امتحاء الحال،
لكنه موفور المنال للطالبين،

 

فى رسالته التالية؛ كتب سامى:

"عزيزى..بعد التحية

أردت أن أتحدث معك فى أمور السياسة ولكنى لم أشأ أن أوجع دماغك بها، وهل يستطيع انسان أن يبعد نفسه عن السياسة؟ هى- فى نظرى - كالماء والهواء،لأنها تتدخل فى كل صغيرة وكبيرة..

المهم؛ أحب أن أقول لك اننى لم أتمكن حتى الآن من مقابلة صاحبك عارف، فقد ذهبت إليه 3 أو 4 مرات،وفى كل مرة لا أجده؛ كانت زوجته ترد على من شراعة الباب وتقول إنه غير موجود. ولكن أتعشم أن اقابله إن شاء الله فى القريب. الجريدة المحلية فى أكتوبر 1999كتبت عن رصد 18 مليون جنيه لرصف الطرق بعد انتهاء شركة ABB من عملية إحلال خطوط الصرف الصحي بالمدينة.

وهناك دراسة شيقة عن المدينة أيام أسرة محمد على باشا كتبها محمد عطا؛ يقول فيها عندما قامت الحركة الوهابية 1810 حملت السفن مفككة على ظهور الجمال من القاهرة، وتم تجميعها فى السويس بالقرب من مقام الشيخ الأنصارى حيث يوجد ميناء السويس القديم، قال الأب جيرامب "بدأت رحلتى من باب النصر بالقاهرة إلى السويس ووجدت تلك المدينة فى حالة من الفقر والكآبة فى وسط التراب والحجارة. ديار مهدمة سكانها نصف عراة وغالبية السكان مصابون بأمراض العيون، ووجوههم مغطاة بالذباب ولا يحملون أنفسهم مشقة إبعاده عن وجوههم؛ رؤسهم محنية وبطونهم منتفخة!!!."

---***---

" أنشأ الملازم الانجليزى واجهورن الطريق بين السويس والقاهرة وعرف باسم overland road، وكان لواجهورن تمثال نصفى على القناة فى بور توفيق تم إزالته أثناء العدوان الثلاثى على مصر..

هل تعلم أن عباس باشا بنى قصرا بين القاهرة والسويس بالقرب من الرست القديم؛ وأن سعيد باشا صاحب أحسن شهية وكان يسمى (العملاق الطيب ) كان يحضر للسويس فى القطار الملكي ليتناول طبق المكرونة الاسباجتى من طباخ الفندق الايطالى؛ وقيل إن وزنه بلغ ثلاثة قناطير؛ وقد منح امتياز حفر القناة لصديقه ديليسبس، كما انه تم قيام شركة المساجيرى بإعداد المبنى لإرشاد السفن بالميناء، ليساعد فى القيام بالأعمال البحرية كما أنشأ حوضا لإصلاح السفن ببورتوفيق

أما فى عهد إسماعيل باشا فقد بدأت نهضة حقيقية؛ وتم مد خط حديد مصر السويس؛ كما تم افتتاح قناة السويس فى عهده. وصلت السفينة النسر وعلى ظهرها الإمبراطورة أوجينى إلى السويس؛ ثم زارت البيت الذى أقام فيه نابليون بالسويس؛ وشاهدت كنيسة السبع بنات بمنطقة السلمانية والخور، بعدها صارت مدن القناة عامرة بالناس والحضارة.أكمل إسماعيل باشا ما بدأه سعيد باشا، وقام بإنشاء الميناء الجديد والحوض العائم والمستشفى الأميري والمستشفى الأوربى، الذى يسمى الآن مستشفى الهلال...

تكفى هذه الإطلالة على التاريخ والسلام &"

---***---

 

61

 

كابدت عناء مجاهدة النفس،

فحفظت نقاء جوانحي،

وأرخيت لروحي ستر السكينة،

ونظرت فإذا الناس فيض حياة لا تفنى

 

عزيزى سامى

لابد أن يكون لنا اتجاه فى الحياه؛ نحن نقف ونتفرج فى معظم الأحيان؛ إلى متى تظل أفعالنا مجرد ردود أفعال؟ وهل انتهت الأحلام من حياتنا؟ عادة تكون حركة الانسان اما لدفع الألم؛ أو لتحقيق هدف أو حلم؛ أو لحل مشكلة نتناولها بالبحث؛أو إعجاب فرض نفسه علينا ولم نستطع أن نكتمه ثم لجأنا الى الكلام عنه أو الكتابة تعبيرا عن فرحتنا أو آلامنا التى لا يخفف من وطأتها سوى البوح؛ بدلا من الكبت أو الجنون..قل لى: هل نحن فعلا" شكمان"العالم؟!

وجدتها عبارة جديرة بالاهتمام؛ قرأتها فى احدى المقالات...العالم اليوم غالبا ما يجرب أسلحته أو أدويته الحديثة فينا ولا يصرف بضائعه الراكدة إلا هنا؛ ولا تكون ساحة نزاله إلا عندنا.

رسائلك تجعلنى أعيش داخل مدينتى ولو للحظات؛ لا أدرى ما أخبار عاطف وردة؟ عموما لابد أن نعطيه عذره ولا نتسرع فى الحكم عليه؛ بل نصبر عليه، وقد وكلتك فى متابعة هذا الموضوع...

قبل النكسة؛ كنا - ونحن صغار – نذهب أحيانا لنمضى وقتا مع زملاء المدرسة فى العين السخنة،البحر أمامنا والجبل واقف بشموخه خلفنا، ننصب خيمة أو شمسية فى أى مكان نختاره، ونتسارع للغطس فى مياه البحر الرائقة، أحيانا كنا نسبح أنا وعارف فى حمام بوجية بالهويس؛ تذكرت سيرنا سويا فى مساءات الصيف على كورنيش الخور؛ وفى بورتوفيق..، كنا نتسابق جريا فى طريق بورتوفيق حتى نصل إلى التمثالين (وكلاهماعلى شكل نمر بنغالى، كما هو مكتوب )؛ يطلان برأسيهما على مدخل القناة الجنوبى، وكنت أقف إلى جوارهما؛ مبهورا بالتطلع الى منظرهما الرائع؛ وتلك المسلة الرخامية الهائلة التى ترتفع وراءهما؛ المحفور عليها أسماء بعض شهداء الحرب؛ لم أعرف ذلك وقتها..

كان قرص الشمس يبدو قبيل الغروب وقد هدأت حمأته، واتخد لونه الذهبى الرائع؛ رويدا رويدا يهبط إلى سطح المياه؛ من وراء قرص الشمس وفى الأفق؛ تبدو جبال عتاقة التى تشرف على المدينة وتحتضنها فى حنو منذ آلاف السنين.

---***---

أتذكر جولاتنا فى شارع شميس خلف سيدى الأربعين؛ طبعا لا ينسى أحد تلك المعالم المحفورة فى الذاكرة، والتى تمثل" حياة " أو تعتبر جزءا من حياة كل منا؛ قبيل دخولنا الى ذلك الشارع – أو الحارة الضيقة – حارة شميس؛ كنا نرى على مدخلها بائعة الجبن القديمة و(المش) التى تضع آنيتها على قفص، وتجلس على كرسى منخفض وتضع الميزان إلى جوارها؛ تفوح رائحة الجبن لتغرى المارة بالشراء، وعلى مدخل شارع شميس تنتشر عربات الخردوات وأدوات الزينة وأيضا عربات باعة الخبز والسميط؛ وعلى اليمين توجد المعصرة؛ كأنما وجدت هنا خصيصا لاستقبال رواد المنطقة من العطاشى قبيل دخولهم؛ أو بعد خروجهم من ذلك الشارع الضيق؛ هل تذكر مطعم الفول والفلافل - على اليسار – فى مواجهة المعصرة، كنا نستمتع فى ليالى رمضان بالسير فى هذه المنطقة المبهجة بحيويتها ودفئها، وانوارها الكثيفة التى تشع من مصابيح ملونة مختلفة الأشكال والأحجام؛ تتناثر هنا وهناك فوق أبواب المحلات وعلى الحوائط وأيضا أسلاك الاضاءة والزينة التى تحمل المصابيح و تعبر الطريق معلقة فى الهواء توزع أضواء متباينة تبهر عيون المارة والمتفرجين؛ تصل الى ميدان الأسعاف القديم، كانت البهجة تشع من عيون الناس؛ وهم يتنقلون متمهلين بين عربات اليد التى يبيع عليها أصحابها شتى أنواع المنتجات..هنا تجد باعة من كل صنف؛ باعة الملابس الداخلية والحريمى والقمصان والبطلونات الجينز، ولوازم العرائس، وأنواع كثيرة من اللعب البلاستيكية والكهربائية؛ وهناك رجل ينحنى إلى الأرض ممسكا بيده قطارا صغيرا؛ قد أحدث جلبة وضوضاء وشد الناس اليه.. القطار يسير؛ وقد فرش له قضبانا دائرية على الأرض؛ ينادى بصوت عال يتجمهر الأطفال وأسرهم للفرجة والشراء، كانت الأسعار هنا معتدلة.

عندما يكون شهر رمضان على الأبواب كنا نذهب للفرجة والشراء، هنا يكون المهرجان السنوى للعرض، تجد النقل بأنواعه مثل اللوز والجوز والبندق وعين الجمل والقراصيا والمشمشية والزبيب والخروب بقرونه السوداء اللامعة...يفترش واجهات المحلات ومداخلها فى عرض مغر بالشراء مع سباق سنوى فى الاسعار...حقا أصبحت بالنسبة لى مجرد ذكريات؛ لست أدرى ان كانت ستعود بالنسبة لى أم أن هذه هى النهاية؟

تغيرت أحوال الدنيا وفوجئت هنا فى المملكة بالكثير من المظاهر الحضارة التى لم أكن أتوقع وصولهم اليها.

قال لى مرة المهندس تيفال الفليبينى إثر مشادة حدثت بينه وبين صاحب العمل - وقد رفع صاحب العمل صوته عليه وكال له الشتائم-، قال" انهم لا يستطيعون أن يتقدموا بدوننا،انهم مجرد ناس معهم المال سوف نستنزف أموالهم حتى الثمالة." المخلص

---***---

 

62

 

وحدى؛ بصادق إخلاصي الطفلى

أصيخ آذان الصدق لدنيا من الاكاذيب؛

وأمد الكف اللين ضراعة..

لقلوب قدت من حديد.

 

"وما تشاؤن الا أن يشاء الله"

أخيرا قابلت السيد عارف، صدفة أثناء خروجه من منزله، وحدثته فى الموضوع، ولكنه ذكر اسم مدير المديرية، سألته إن كان مدير المديرية له علاقة بالبرج؟

أجاب:

طبعا..هو من أهم الاعضاء المؤسسين..

قلت ما الذى تم؟

أجابنى عارف:

لقد أعطيت المبلغ للمدير منذ شهور؛ وقال انه سوف يعمل اللازم..

أما عن أخبار المدينة، فلم يكن الاهالى يتوقعون ذلك الخبر من زمان؛ فى أبريل 2000 طالعتنا الجريدة المحلية بأنه تم توصيل المياه لمدينة السلام..

وهناك خبر عن مهندس ديكور اغتصب طفلة فى منطقة الزهراء..

قبلها قام سائق شاحنة باغتصاب طفل عمره 6 سنوات داخل جراج مهجور فى بورتوفيق!!

---***---

عزيزى صادق

تعجبت من هذا الرجل؛ حكم عليه بالسجن خمس سنوات لأنه أكل أذن جاره وتزوج امرأته بعد مشادة حامية..

أيضا انقلب أتوبيس رحلات للعمرة قادم من إسكندرية، وهو فى طريقه إلى السويس عند فتحة الطريق الدائري أمام المدافن الجديدة عند محاولة تخطى سيارة نقل أدى إلى وفاة 9 معتمرين.

كما تمكن فريق من الجراحين في مدينة شنجن بجنوبي الصين من زرع قرنية سمكة في عين رجل يبلغ من العمر 19 عاما لتمكينه من الإبصار.
اسمع هذا الخبر:

نحن الآن فى عام ألفين وقد تقرر هدم مساكن مدينة السحاب التى ظلت أكثر من ثمانية أعوام تنتظر قرارا جريئا بهدمها؛ وإقامة مساكن جديدة مكانها..

وأخيرا فان المحافظ يقول:

نقطة ضعفى الفول المدمس!!

والسلام..سامى

 

---***---

كتب إلى سامى رسالة طويلة جاء فيها:

" لا يسعنى إلا أن أشكرك على تجشمك عناء الكتابة، أليس غريبا أن يعمل معنا مديرا للمديرية، ولا نعرف عنه شيئا؟ لم يجل بخاطرى هذا الاعتقاد لأن الرجل – كما نعرف جميعا - وأنت معنا ترى وتشاهد – لم تظهر عليه آثار النعمة بحال من الاحوال؛ أم هل لك رأى آخر؟

" بالرغم من أن الأخبار معظمها موجعة إلا أن توصيل المياه الى مدينة السلام خبر مفرح، هل لى أن أقول اننى متفائل..متفائل حقا بمستقبل مدينتى؟...

أعرفك اننى سوف أعود قريبا؛ بعد أن أنهى عملى هنا، لأبقى مع أبنائى، يراودنى حنين جارف اليهم وإلى الوقوف بجانبهم؛ وتتبع مسيرتهم فى الحياة...

تعجبت من مساكن السحاب؛ التي تبخرت فلوسها فى جيوب حفنة من المقاولين هذه المساكن لم يمر على بنائها أكثر من خمسة عشر عاما، ربما نكون قد أصابتنا عين الحسود!!

شىء مؤلم أن ترى أنماطا غريبة تنهب البلد؛ وتعب منها عبا ومع ذلك فهذه النفوس تزداد جوعا و عطشا؛ و لا يرويها أعمق المحيطات"!!

---***---

 

63

 

ومن تجلد أمام كارثة بكل أهوالها:
فهو ملك ملوك الأرض جميعا'،

 

فى خضم العمل؛ أثناء الدوام المسائى، رن التليفون فى مكتبه؛ رفع صادق السماعة؛ فوجىء بالتهامى يحدثه من مصر؛ بلهجة حزينة؛ سمع نحيبه يأتى عبر آلاف الكيلومترات، رد عليه:

- مالك؟ فيه إيه؟

- أم أولادك فضيلة..

- مالها؟

رد بلهجة تقطر أسى:

- لكل أجل كتاب

- لا اله إلا الله..

- أول أمس حدث لها هبوط مفاجىء، أستدعينا الطبيب، تماثلت للشفاء، وبينما كانت تتحدث معنا أمس فى كامل صحتها، وضعت رأسها على السرير، وقالت: عطشانة..

عنما أحضرت لها كوب الماء؛ لم ترد علىّ؛ كان السر الالهى قد صعد.

- شد حيلك ياعمى...ليس لنا سوى الإيمان؛ كل ماحولنا خيالات..الكل قبض الريح..

وضع السماعة؛ كانت مشاعره خليطا من الحزن والألم على نفسه وعلى أبنائه الذين صاروا عائشين فى يتم شبه مزدوج..

اغرورقت عيناه بقطرات دموع، كان فيما مضى من أيام يقضى الليل والنهار مشغولا بعمله الذى يبدو كأنما لا يترك له وقتا للفكر والحزن، لكنه بالرغم من ذلك أرغم على معاودة التفكير،ومعاودة النظر؛بعد هذا الخبر الذى نزل عليه كالصاعقة..كان هناك ألم دفين راقد فى أعماق القلب من تلك الظروف والمحن التى تعتريه؛ والتى كانت تتفاقم يوما بعد يوم.

فى الصغر كان يحس طعم الأشياء، مع الكبر؛ و بمرور السنين، أحس بالإفتقاد،فى تلك اللحظات بالذات تعاظم شعوره بالوحدة والفقد...فقد الحضن والبراءة والتوحد، وافتقاد الثوابت..يجرى لاهثا يبحث عن التوحد المجهول الذى لايعرفه، مع الإنغماس فى الصراعات والمشاغل، زرعت الحيرة مكانا لها فى القلب، احتلت لب الفؤاد؛ فقد الشعور بالنشوى.فى الكبر تتبعثر الكيانات؛ تحتاج الى مجهودات للم شعثها،لا تقف حائرا تضرب رأسك فى الحائط، كان يحدث نفسه..حاول أن تجمع ما تسطيع من الخيوط؛لا تقلل من قيمة أى شىء.. لا تحقر أحدا..لا تبتئس، لا تتخاذل.. ومع ذلك اعلم أنك ستبذل من عمرك الكثير وستلهث للوصول الى الإيمان والعثور على ركن شديد تأوى إليه...

---***---

 

64

 

لازوال لما استقر منبت جذوره،
ولا انفلات لما عانقته السواعد،
هي أشياء تتوارثها الأجيال،
ويسير بها موكب الأحفاد في إثر الأجداد،
مسيرة دهرية لاتتبدل،
مسلك خلق فاضل

 

بعد أن عاد من السفر؛ توجه صادق الى مقابر الامام الشافعى لزيارة أم أولاده وقراءة الفاتحة على روحها..

تحدث اليه التهامى بشأن الأولاد قال له من حقك أن تأخذ أولادك، ولا نستطيع أن نمنعك من هذا، ولكن..

ولكن ماذا؟ الاولاد كما تعلم؛استقروا هنا فى القاهرة ونشأوا بينى وبين جدتهم، كما أن مدارسهم وأصدقاؤهم هنا أيضا..

ستكون هذه طعنة فى قلب محاسن...

كيف؟

لقد ارتبطت بالأولاد كما تعلم، كما ارتبطت بهم أنا أيضا؛ وأعتقد انها لن تستطيع الاستغناء عنهم.

سكت صادق وقد أخذته الحيرة وتلعثم لسانه، ولم يحر جوابا.

لطف الله هو الذى زرع المحبة فى قلب الجد والجدة محاسن التى أحبت الأولاد ورفضت الاستغناء عنهم؛ وخصوصا سلمى التى كانت ترى فيها ابنتها الراحلة فضيلة؛ وكأنها صورة طبق الأصل منها.

---***---

 

65

 

فلئن كنت الأسبق؛

فالمثابرة دأبك،

فإذا ثابرت؛ تذلل كل صعب؛

فإذا انمحقت الصعاب؛

اتقد باطن قدرتك اتقادة.

فقد ملكت زمام أمرك،

وانعقد بك رجاء مملكتك..

 

وفاة فضيلة التهامى كانت صدمة قاسية زلزلت أمها محاسن، وشقلبت كيانها رأسا على عقب،ظلت فترة طويلة تعانى من صمت واكتئاب؛ تعلمت الصبر وبدأت فى الاقتراب من الله؛،بدأ ركام الجليد الذى يقف حائلا فى العلاقة بينها وبين صادق فى الذوبان؛ كما صارت الطريق مفتوحة له لزيارة أبنائه دون إزعاج، وتحولت الاشارة الى اللون الأخضر طوال الوقت تقريبا..

لم يرد صادق – تحت هذا الظرف – أن يلوى ذراع محاسن، وتحدث مع التهامى فى أمر أبنائه، فكر فى أخذهم معه – بعد وفاة والدتهم- ليعيشوا معه فى مدينته الساحلية؛ وتعجب عندما تأكد له أنهم قد ارتبطوا بجدتهم ارتباطا وثيقا؛ وكذلك هى، بل إن محبتها لأحفادها وارتباطها بهم كانت أقوى وأعتى، كانت على استعداد للتضحية بأى شىء فى سبيل استبقائهم لديها.

***

دخل أبناؤه مراحل المراهقة والشباب؛ لم يفارقه الاحساس بالفقد؛ فقد الأب والزوجة كما أن عدم وجود أبنائه معه بصفة دائمة مثل له نوعا من الفقد، افتقد الاخلاص؛ إخلاص الأخ.. كان إيمانه بالله؛ ومحبة سامى وصداقته ونصائحه كنزا رائعا جميلا، كأنما يستمد منه ترياقا لاشجانه؛ كما كانت كلماته الحانية بلسما له

 

عندما كان صادق مع أولاده بشقة جدهم وجدتهم بالقاهرة؛ مرت الأيام بطيئة متكاسلة؛ مفعمة بالحزن وتقبل العزاء، ولكنها كانت لصادق سلاحا ذا حدين؛ بالرغم من الظاهر البغيض، كان تواجده وسط أبنائه نعمة كان قد افتقدها منذ زمن؛ لم يكن يمكث معهم سوى لحظات؛ هذه المرة مكث معهم نحو ثلاثة أسابيع، لم يدر ما هى الخطوة القادمة، كأنما ضاع من ذهنه أى تفكير فى أيامه القادمة؛ بل لم يقو على التفكير، صار ذهنه مشتتا؛لم يدر ما يجب عليه أن يفعل؟ كان التحامه بأولاده هو غاية أمله فى تلك الأيام واللحظات المتباطئة الثقيلة؛ التى قد تكون مرت به هو شخصيا مسرعة...صارت سلمى فى أول أعوامها الجامعية، كما وصل أبناه إلى المرحلة الثانوية، انقسمت مشاعره بين الرغبة فى البقاء معهم والرغبة فى أخذهم معه،والسفر بهم ليستقروا جميعا فى مدينته، عرض على حماته أن تحضر للسكنى معهم، ولكنها ذكرته بأن ابناءه مازلوا يدرسون فى مدارسهم الأجنبية، كما أن الكلية التى التحقت بها سلمى قريبة من السكن بالقاهرة،أخيرا رضخ صادق للأمر بعدما تاكد من راحة أولاده واستقرارهم مع جدهم وجدتهم، كما اضطر الى السفر ليعود لعمله فى مدينته الساحليه..

---***---

 

66

 

أما من أدرك جوهر الطبائع،
فقد أعطي مفاتيح الرضا،
ومن رضي فقد عدل،
ومن عدل فقد حكم،
ومن حكم فقد اهتدي هدى الطبيعة،

 

فى أجازاته تعود التهامى أن يصطحب احفاده بغرض الفسحة وتغيير الجو؛ ولتوسيع مداركهم، وليتعرفوا على العالم الواسع الجميل الذى نعيش فيه كقطرات فى بحر لجى هائل يكتنفه السحر والغموض...

بعد وفاة فضيلة تغير الحال، توقفت النزهات والارتحالات، وخيم الحزن على البيت وقتا طويلا،ولكن التهامى قال يوما لزوجته:

ما ذنب هؤلاء الأولاد وهم فى عمر الزهور،ماذنبهم أن يكون العقاب مرتين، يكفى فقد أمهم؛ ولا داعى أن نحجر عليهم بالحزن حتى الآن بعد أن مضى أكثر من خمسة شهور على وفاة فضيلة..

---***---

لم تمر سوى أيام حتى اتصل التهامى بصادق تليفونيا وأبلغه أن يحضر فورا

لم؟ رد التهامى بلهجة الفرح:

هناك عريس تقدم إلى ابنتك سلمى..

تعجب صادق، واهتز قلبه، فمازالت سلمى صغيرة، ولكن من يراها يعتقد أنها فى العشرينات، احتار كثيرا؛ وتعجب لتصاريف القدر...أفى هذا التوقيت بالذات؟ هل يوافق أم لا..

نعم..عريس...سبحان الله؛ أهلا وسهلا...

كان كلامه خليطا من الفرح والحزن،من القبول والرفض،من الدهشة والالم... أخيرا لم يشأ أن يتخذ قرارا إلا بعد أن يقابل العريس وأهله ويتعرف عليهم،ويأخذ رأى العروس؛ حينئذ يستطيع أن يحدد ما يمكن عمله.

---***--

67

 

تري ما الفرق بين رفض وقبول،
بين الخير والشر.. ما الفرق؟
والخوف الذي تفزع منه الصدور،
كيف لي أن أهرب منه،
تلك أفكار تراود النفس منذ الأزل.
أفكار قديمة، طريقها ممدود بلا أمد،
 

توجه صادق الى المديرية لإنهاء بعض الأوراق، كان جالسا مع بعض زملائه فى مكتبه؛ عندما دخل عليه سامى؛ تعانقا بحرارة واشتياق..

تساءل صادق:

أين كنت؟

فى النيابة الادارية

لم؟

طلبوا شهادتى فى موضوع سرقة المرتبات

سرقة المرتبات؟!

نعم

كيف وأين؟

أثناء وجود مدام فاطمة بالبنك؛ تركت حقيبتها- وبها المرتبات- على الكرسى، بعد انتهاء حوارها مع أحد الموظفين،التفتت لتلتقط الحقيبة، فلم تجدها.

استأذن سامى للدخول الى المدير وإعلامه بما جرى..

عندما أنهى مهمته، خرجا سويا وأستقلا السيارة إلى الموقع.

***

فى الطريق كان الشيخ فى ملكوت آخر، سأله صادق مداعبا:

- إلى أين وصلت يا شيخ؟

- وصلت إلى تأكدى من ضآلة الإنسان؛ آماله وأطماعه الهائلة- لا تنتهى - وهى أكبر بكثير من احتياجاته، قد تفقده إحساسه بالنعم السارية فى الوجود، دائما اقول لنفسى: تعلم كيف تخلد إلى الراحة بعد التعب كما تعرف الجرى وراء الأعمال. من المهم أن نتعلم الهدوء والسكينة؛ فهما غاليتان؛ يمكنك من خلالهما أن تستشف أجمل معانى الحياة؛ وربما تنفذ إلى سر من أسرارها.

أجاب صادق:

  • لديك إحساس مرهف.
  • أتمنى أن يحب الغريب هذه المدينة لا من أجل حفنة جنيهات؛ للأسف الكثير يتدافعون من أجل الحصول على أى منصب، دون أن يكون لديهم انتماء حقيقى، كيف يكون انتماؤهم هنا؛ وأهلهم وعشيرتهم ومصالحهم وممتلكاتهم كلها خارج المدينة؟!

رد صادق مغيرا الحديث:

  • اسمع
  • نعم
  • أردت أن أعزمك على فرح ابنتى..
  • سلمى؟
  • نعم..
  • مبروك مقدما!
  • سوف يكون خطبة، ونؤجل الفرح الكبير الى حين تخرجها
  • وهل العريس موافق على ذلك؟
  • نعم... بل أهله هم الذين قدموا ذلك العرض...

- ألف مبروك...

  • سيكون إن شاء الله يوم الخميس؛ فى قاعة أفراح نادى الشاطىء..

---***---

68

 

فلذلك يولد الوجود والعدم ضدين متقابلين،
ويتبادل اليسر والعسْر المواقع،
ويحل الطول محَل القصر،
تتساند الذٌرا والوهاد على متكأ واحد،
وينسجم رنين الصوت في الصدى
فيسعي اللاحق في إثر من مضي،

 

استمر التوسع العمراني فى الامتداد أفقيا حتى كادت الأحياء الجديدة تزيد فى مساحتها على مساحة المدينة الأصلية القديمة

فى تلك المنطقة الصحراوية، التى تتمتع بجوها الجاف وطقسها المعتدل، وذلك الاتساع الرائع أمامها، فى اتجاه الشمال والغرب والجنوب الغربى، حيث الطبيعة رائعة الجمال؛ تمتد مساحات من الاراضى لتعانق سلسلة جبال عتاقة؛ تكتسب أشكالا مميزة؛ وتكتسى بألوان متباينة على مدار العام، بل و يتنوع بهاؤها فى ساعات اليوم الواحد..

تم بناء أحياء الإيمان والعبور والصباح وفيصل؛ والمستقبل؛ بعدها فى نفس الناحية الشرقية – على طريق مصر القديم- يوجد حى السلام رقم 1

فى نفس الناحية الشرقية؛ وعلى طريق القاهرة الجديد تم إنشاء أحياء 24 أكتوبر والأمل و مدينة مبارك؛ أما فى الناحية الغربية من الطريق فيوجد حى السلام رقم2 كما تم بناء مدن التوفيق والفردوس؛ التى تقع بالقرب من مبنى مستشفى السويس الجديد، الذى مازال منذ سنوات طوال تحت الانشاء؛ يمكن للمسافر رؤيته مجاورا للطريق.. بتلك الكتل من الصبات الخرسانية الجوفاء وقد انتصبت دون أن تكتمل؛ مازالت رابضة على تلك الأرض التى كانت - حتى زمن قريب -؛ رمالا صفراء.

يبدو فى الأفق جبل عتاقة الذى يلتحف السماء، فى الليل تصفر الريح ويلف الظلام تلك الصحراء بغلالة من الغموض والرهبة والوحدة والتحدى، ربما كى يحمى المدينة ويكون رادعا لأى مخلوق يقترب بمفرده منها.

بأطراف المدينة - على طريق القاهرة الجديد - يوجد موقف السيارات الجديد؛ يستطيع الذاهب إلى هناك أن يشاهد – فى الطريق- بعض المدن الجديدة التى تم بناؤها - على الجانبين- وأخرى مازالت تحت التشييد. أخذت حركة التعمير فى السنوات الأخيرة طابع الاستمرارية والدأب؛ ذلك أن إقبال الناس على تأجير أو امتلاك الوحدات السكنية والمحلات فى ازدياد مستمر، مما حدا بالمسئولين إلى تغيير شروط الحصول على الوحدات السكنية بما يلائم ظروف الوقت وسعر التكلفة الذى لا يستقر على حال!

***

تجاوز صادق محنته، وأكملت دنياه مسيرتها، اتفق على عمل حفل خطوبة ابنته فى إحدى صالات النوادى التى تطل على مياه الخليج..

ذهب ليكون فى انتظار حميه التهامى وحماته السيدة محاسن؛ واولاده سلمى ومجدى ويسرى؛ عندما وصل إلى الموقف الجديدة؛ مد بصره إلى الصحراء تفاعلت داخله مشاعر عديدة، للمرة الأولى يشاهد الموقف الجديدة، وجده مكونا من ساحتين واسعتين؛ الأولى تشمل مواقف للتاكسي والميكروباس أوسع من الساحة الأخرى المخصصة لأتوبيس شرق الدلتا.. اتجه إلى ساحة الأتوبيسات؛ انبهر بروعة المباني، اتضح أنه لا وجه المقارنة بين الموقف الجديد وتلك المحطة القديمة؛ تراءت أمام مخيلته تلك الصورة الباهتة للموقف القديم؛ الذي كان مغروسا في بطن المدينة، وقتها كان الأتوبيس الخارج من المحطة أو الداخل إليها يخترقها بصعوبة بالغة، لضيق مساحتها وضيق الشوارع المحيطة بها وكثرة منحنياتها...

وجد الساحة الجديدة مقسمة طوليا إلى مظلتين كبيرتين على الجانبين، مخصصتين للأوتوبيسات، وبينهما يوجد- فى المنتصف- صفان طويلان من المحلات ودورات المياه ومكاتب للاستعلامات والخدمة، كما يوجد فى النهاية مصلى صغير، وعلى الطرف الآخر يوجد مبنى بيضاوى مخصص للإدارة؛ وحجز التذاكر.

تنقل بعينيه مشاهدا؛ فلمح أسماء المحلات؛ سنترال الشريف تسالي البرنس، ألبان التوحيد وغيرها.

انتهى موقف السيارات القديم الذى كان منغرسا فى وسط المدينة؛ كان الزحام والتكدس والعادم المخلوط بالأتربة، وصياح الباعة الجائلين وحيرة المسافرين هى جميعا عناوين لذلك المكان الرهيب، شيئا فشيئا تم انتزاع هذا التكدس من أحشاء المدينة؛ مع ذلك لم تتغير الشوارع القديمة منذ عودة المهجرين إليها، فى الوقت الذى تهدمت فيه معظم العمائر والبنايات بفعل الحرب والخراب والزمن وأقيم مكانها أبراج سكنية وبنايات جديدة..

---***---

 

69

 

تتكثر كثرة كل شيء:
ففي الأشياء جميعا،
اثنان متقابلان... الذكر والأنثي

ثم إنهما يستدمجان،
فيلتئم منهما كيان واحد.

 

هنا؛ فى ميناء بورتوفيق، نهضت منتديات جديدة وانتشرت بها صالات الأفراح والحدائق والمطاعم والملاعب؛ ومجالس لقضاء الأمسيات على شاطئ القناة؛ مازال نادى التجديف والنادى الاجتماعى ونادى الشاطىء ونادى الضباط أكثرها شهرة؛ لم يعد الطريق الى بورتوفيق محاطا بالماء من على الجانبين كما كان فى الماضى؛ كان القطار يخترق الطريق الى الميناء الشهير محملا بالبضائع والركاب،سواء فى رحلة الذهاب أو فى طريق العودة.

***

فى ذلك المساء الناعم،ازدانت الدنيا بالأطايب والرياحين، فى جلسته كان صادق يشاهد البواخر الرقدة فى الميناء، وتلك التى تنتظر الدخول بالغاطس، بأضوائها المبهرة، المنعكسة على سطح المياه، تشع وسط ظلام البحر الدامس، لتخلق سيمفونية من السحر والغموض والجمال؛ تجعلنا نشعر بالرهبة؛ وبأن هناك مزيدا من الاسرار الخبيئة فى هذا الكون الواسع البهيج..

هذا الميناء الجميل؛ المرصع على امتداده باللون الأخضر، بالأشجار المتناثرة فى الحدائق وعلى الساحل، مثل الحديقة الفرنساوى، والحدائق الممتدة أمام شاطىء القناة، من بداية مدخلها عند تماثيل الفهدين والمسلة الرخامية، حتى انفرادها بمنطقة حوض الدرس، والحدائق البهيجة فى مواجهة استراحة السادات؛ مازالت تلك المناظر الجميلة بالهدوء الذى يكتنفها؛ يمثل لصادق - منذ نعومة أظافره - نوعا من الزخم والحلم الجميل؛ متى سنحت له الفرصة؛ دائما ما يذهب الى هناك؛ ليجلس على حافة القناة يتجه بكل حواسه الى السفن؛ يظل يتابعها حتى تختفى فى الأفق إلى حيث مدن الأحلام.

ارتقى خياله حتى صار يعشق السفر والمغامرة؛ ويسرح بفكره إلى ما وراء البحار، كان ينظر بإعجاب إلى منظر البواخر العابرة؛ والى الأمواج المتراقصة بلون زرقتها الداكنة أو الفيروزية التى كان يعشقها بجميع درجاتها!! يركز نظره فى الصورة على تلك السماء المتسعة واللانهائية بلونها الرائع تتخللها ندف من السحب ذات ألوان تتراوح بين الأبيض الشاهق البياض إلى اللون الرمادى الداكن، كان اللون الأبيض يتفاوت فى درجاته حسب انعكاس ضوء الشمس وموقعه من النهار، يمثل ذلك لوحات بهيجة من الفن المثير لخيالات؛ وصورا لا تنتهى عند هذا الصبى الصغير... تلك الطيور البيضاء التى كان يراها مرسومة تحوم حول الباخرة أحيانا، أو عائمة على سطح الماء أو فى هبوط مفاجىء لتقتنص فرائسها من لحم السمك الشهى القريب من سطح الماء، أحيانا تكون راقدة فوق سطح الماء فى هدوء وأنس عجيبين.

---***---

تمتد القناة الآن وتواصل سيرها وسط حراسة مشددة، نسى الأهالى ذلك الطريق الاسفلتى الملاصق للقناة، شعرت الغالبية بالغربة عن الوطن، فى هذا الزمن، زمن الارهاب والمفرقعات!فى الزمن الماضى كانت سيارات الأهالى والرحلات تفضل السير بحرية فى طريق القناة، حيث الخضرة والهدوء والتمتع برؤية السفن العابرة،وأمواج المياه المتراقصة تحركها نسمات الهواء المنعشة، كما تطل على الطريق أشجار السرو والكافور والجزورينا، وجنائن الخضروات، والفاكهة...المانجو العنب، والموز، وألوان من الاعشاب العطرية.. من مكان الى آخر كانت تبدو أسراب الغنم التى يسرح بها بنات البدو...

---***---

مع هبوط الليل، بدأت أعداد كبيرة من الأقارب والمحبين تتهادى الى القاعة الصيفية، قام صادق من مكانه ليرحب بالضيوف، لم يتخيل أن الحفل سيكون على هذه الدرجة الهائلة من البهجة والجمال، بدأت زفة العروسين بالموسيقى من فرقة التى ترتدى الرادنجوت، بلونه الأبيض اللامع، وقد انتظم أعضاؤها على جانبى المدخل، يحمل البعض منهم الآلات النحاسية، وانطلقت الموسيقى فور نزول العروسين من سيارتهما،تجمع حاملو المشاعل السمراء المتوهجة ليصطفوا على جانبى المدخل، ليعبر موكب العروسين من خلالهما،وامتدت باقات الورود؛ التف الأطفال حول العروسين، الفتيات الصغيرات قدمن ليحملن ذيل الفستان الأبيض، توجت الارض سجادة قرمزية طويلة امتدت من مكان نزول العروسين من السيارة حتى تصل الى مكان جلوسهما فى القاعة المفتوحة.

انتظم المدعوون فى أماكنهم حول حمام السباحة الذى أعطى للمكان مذاقا خاصا؛ وقد تناثر عدد من البالونات فى حوض المياه؛ مضفيا ألوانا بهيجة وأشكال متباينة، مما زاد المكان سحرا وبهاء. سمع صوت المطرب يأتى محشرجا فى حفل عرس ابنته؛على نغمات الدى جى:

العنب... العنب...العنب!

أحمر ولونه ظريف... العنب!

اخضر وشكله لطيف...العنب!؟

أصفر.. اصفر؟

أصفر ودمه خفيف؟

العنب!!!

أحس كأنه ضيف؛ وليس صاحب الفرح أو أنه أبو العروس؛ارتفعت أنغام موسيقى جميلة؛ صدحت بعدها نانسى عجرم:

إيه؟.. قول تانى كده

مين؟

تقصدنى انا؟ حبنا عشقنا هوه انت بتتكلم عننا؟

ياناسى هواك وواخد معاك ليالى وسنين عمرنا..

قول تانى كدة؟

إيه إيه؟

ارتجت القاعة بالتصفيق؛ ثم علا صوت خالد عجاج ليغنى

وحدانى..

أملى.. عمرى.. زعلان ليه؟ مالك أمرى تهرب ليه

موش دارى بى يا حبيبى ولا إيه؟

روح قول له ياليل...

***

ظل صادق يتحرك يمينا ويسارا، أماما وخلفا؛ ذهابا وآيابا؛ يسلم على المدعوين ويرحب بهم، ويسير معهم لتوصيلهم الى أماكن جلوسهم، لا يتركهم الا وقد اطمأن على راحتهم، يتوقف قليلا ليتحدث مع البعض، لم يجد الفرصة للجلوس؛كانت عيناه معلقتين بالعروس التى فقدت أمها فى سن مبكرة...أحس أنه الأب والام،كما احس بوخز الضمير لتركه أبنائه - بعيدا عنه - فترات طوال، كأنما استشعر الآن أن سفره للخارج لم يكن إلا نوعا من الإنتقام أو محاولة لرد الإهانة التى قدمتها له حماته، ونفذتها زوجته – منذ زمن- عندما دأبت على معايرته بأنه لم يفز بعقد للعمل فى الخارج مثل العديد من أقرانه الذين عبروا الحدود؛ وجمعوا ثروات لابأس بها.

---***---

 

70

 

كم من وليمة دسمة؛عمرت بها الموائد

ولم تشبع منها البطون

كم للصيد من لذة

وللافتراس من هوى جامح؛

ولكن بقلب الصياد خوفا مقيما

وبين جوانح المفترس أشباح رعب جاثم.

لم يتحرك وردة من على سريره هذه الليلة، لم يحضر حفل الزفاف الذى دعى اليه، ظل فاردا جسده على السرير، يرتدى ملابس الخروج...تسمرت عيناه على السقف محدقا فى اللاشيء، تعجبت زوجته وأرادت أن تعرف السر فى سهره إلى وقت السحر، لم تتعود المرأة هذا السلوك من زوجها الذى صار يسرح كثيرا؛ كما أصبح مشتت الذهن، يكاد لا يشارك فى المنزل أو يعرف شيئا عن مشاكل بنتيه اللتين صارتا فى عمر الزهور، فقد أصبحت الكبرى فى السنة الثانية بمعهد الحاسب الآلى، أما الصغرى فما زالت فى الدبلوم الثانوي الصناعي، قالت له الزوجة بقلق:

  • فيه إيه يا عارف؟ مالك؟ أنا حاسة أنك غير طبيعى

- لا؛ كل شيء طبيعي..

- الأمر واضح؛ وأنا عارفاك، فيه حاجة جديدة عليك

كانت تخشى أن يكون زوجها قد أنخرط فى علاقة عاطفية أو شيء من هذا القبيل، لكن عاطفا لم يكن يدري أن تفكيرها بهذه الصورة، فوضع أمامها الحقائق كاملة حتى يستريح وتتخلص زوجته من مشاعر الغيرة الخاطئة القائمة على الظنون والشكوك والأوهام،التى كادت تتسبب لهما فى مشاكل لا نهاية لها.

فجأة قال لها:

دخلت فى مشروع بملايين وأريد أن أسوى أموري

قالت زوجته متسائلة:

أى مشروع؟

مشروع عن طريق صاحبي كمال، ونقترض فلوس من البنك باسم الموظفين..

الموظفين مالهم والقرض؟

إنهم لا يدرون كمال يحضر لى بياناتهم من شئون العاملين بالمديرية، وهذه البيانات يحتاجها البنك، وهى موجودة بقسم الأرشيف، وكمال قال لى أقلد توقيعاتهم، و أتسلم الفوس من البنك بالنيابة عنهم، الموضوع كما ترين بسيط..

لا أفهم، هل هذا سبب سرحانك؟

نعم!

أنت دائما تقول أنك من رجال الأعمال؛ وهل رجال الأعمال يخافون من الأعمال؟

انتى لا تفهمي الموضوع، المهم؛ ما علينا، أطمئنى واعملي لنا كوبين من الشاي

حاضر

فرحت ببراءة زوجها من تهمة الانشغال عنها بأخرى، وانصرفت متوجهة إلى المطبخ غير عابئة بشيء.

---***---

 

71

 

الكل ابن شقاء وهناء عيش،

سوى أنى غدوت غير مكترث بحال

كطفل بليد تعانده ابتسامة،

كغريب،ابن خلاء وطريق،لا مقام ولا مسعى

 

عندما يخرج صادق من بيته كان يصادف بأصناف عديدة من البشر؛ يفرح بهم، ويحزن أحيانا لأحوالهم، ويصاب بغصة من جراء عيون تتبسم له، يلقى عليهم التحية ويردونها يوميا؛ مازالوا مناضلين فى جلوسهم اليومى وترددهم الدائم على المقاهى، تعود على رؤيتهم، بل صاروا مثل المقرر اليومى الذى لابد منه،عند خروجه من باب المنزل مباشرة، دائما يجد العيون تتجه إليه بطريقة تلقائية، كما تتجه إلى كل عابر سبيل تلك العيون الجالس أصحابها على المقهى المقابل للمنزل،لابد أن يلقى بالتحيات على الجميع حتى لا يتهمه أحد بالكبر أو التقصير،أصبح هذا واجبا مملا؛ ما يحزنه هو الفراغ، ذلك الفراغ الذى نعيشه جميعا، صارت طريقتنا فى استهلاك الحياة عجيبة، يهيؤ له أن شعوره بالغربة يتفاقم يوما بعد يوم، بالرغم من أنه دائما وسطهم؛ يود أن يسعدوا وتتبدل أفكارهم ويصبحوا أكثر قدرة على العمل؛ على الجد والثورية، ولكن هذه المشاعر مازالت مدفونة فى قلوبهم مختبئة بين جوانحهم؛ وستظل كذلك الى أن يأتى سوبرمان يستطيع أن يستخرجها؛ أو إلى أن تدق الساعة، ساعة الانفراج والأمل، ساعة الحياة..

أراد أن يبتعد قليلا حتى تتضح له الصورة على مسرح الحياة؛ أراد أن يمسك يوما بخصوصيته؛ و أن يحس بكيانه الفرد الذى يمكن أن يعطى الإنسان المشارك بصورة جيدة، كان يرفض فى قرارة نفسه أن يعيش تلك الحياة ذائبا ليل نهار،لا مجال فيه لالتقاط الأنفاس والتمتع بالانفراد التى يمكن أن يكون مهيئا للإبداع والإجادة والتجديد، شعر أن إلغاء الفروق والعلامات المميزة لكل منا؛ أدى إلى ظهور قطعان، أو مجموعات من كائنات هلامية؛ ربما تكون أحيانا غير آدمية، تعيش بصور متكررة وشبه متطابقة؛ لا جديد فيها، ولا أمل من ورائها.

---***---

لم يتمكن من الحصول على شقة فى البرج الجديد؛ قرر أن يطلب المبلغ الذى سبق وسلمه لعارف، حاول الأخير أن يتهرب منه قائلا:

سوف أحاول استرجاعها من المدير، أرجوك أن تنتظر حتى انتهاء التحقيقات..

لم يتسلم صادق أمواله، رفض أن يبلغ النيابة أو يشكو صديقه حتى لا يتعرض للأذى،استعوض الله، وشرع فى البحث عن شقة أخرى..

تعاقبت الأيام و الليالي؛علم أن هناك آخرين قد دفعوا أموالا للسيد المدير العام؛كان يجمع سلطات كثيرة فى يده، له أذناب يوقعون بالفرائس من ذوى الحاجة، كان يملك سلطة منح الأراضى وشقق المدن الجديدة، وتغيير قطع الأراضي بقطع أكثر امتيازا، وغيرها كثير، كل هذا بالإضافة الى طبيعة عمله بالمديرية على درجة وكيل وزارة.

أخيرا انتقل صادق الى شقة رحيبة بوسط المدينة؛فى برج أقيم على كورنيش الخور القديم، المواجه للبحر والقناة؛ جاءته عن طريق أحد السماسرة؛ حدثته نفسه بأن رغبة زوجته المرحومة فضيلة التهامى قد تحققت بعد زمن من وفاتها، تحسر؛ ثم تعجب من تلك الأقدار التى تلعب بنا وتنتشلنا أحيانا من سباتنا!..

---***---

 

72

 

إنه لا جريمة أبشع من الجشع والفساد؛

ولا كارثة أفجع من الطمع الجائر؛

ولا مصيبة أنكد من نهمة لا تشبع؛

فلذلك كانت العفة عين القناعة..

وكانت القناعة مددا من الرضا إلى آباد الابد.

 

إثر شكوى تقدم بها أحد المواطنين إلى أمن الدولة، تم عمل كمين بالصوت والصورة للسيد مدير المديرية؛ قبض عليه إثرها؛ وأقتيد الى ردهات السجون؛ نشرت الجرائد تحقيقات مطولة عن الموضوع؛ كشفت واقعة القبض عليه عن سلسلة من الجرائم المتلاحقة..

صار هذا الحدث مضغة فى أفواه الناس؛ انتشر بينهم كالنار فى الهشيم؛ ترددت أصداؤه فى جنبات المدينة الهادئة؛ تحدث صادق مع الشيخ سامى، أطلق الأخير ضحكة قصيرة تغيرت بعدها ملامح وجهه عندما قال:

- ليس هو المتهم الوحيد..

- وهل معه شركاء؟

- كمال عزب مدير المشتروات..والسكرتير..وآخرين

رد مستنكرا:

- كمال عزب..." أى خدمة"؟

- قاموا بعمل تسجيلات بالصوت والصورة للمدير؛ الذى قبض عليه عن طريق النيابة العامة تم ضبط آلاف الجنيهات داخل مكتبه بالاضافة إلى عدد من المشغولات الذهبية، من بينها جنيهات ذهبية للملك جورج، وانسيال حريمى مرصع بفصوص بيضاء، انتشرت أخبار القضية فى المدينة كالنار فى الهشيم، نجح الكمين؛ وقبضوا عليه وهو متلبس بالرشوة..وأصبحت حكاية على كل لسان.

رد صادق متعجبا:

الواحد يكلمك ويضحك لك، ولا تعرف فى قلبه إيه!!

---***---

 

73

 

من نازعها بالغلبة،

ناوأته بالخذلان،

ذلك بأن غالبها مغلوب،

وآخذها مأخوذ بضياع مسعاه

 

فشل البوليس فى القبض على كمال عزب الذى هرب إلى مكان مجهول؛ كما تم عمل كمين لعارف الذى ظل خادما مطيعا لسيده، فما من طلب كان يطلبه منه كمال إلا وقام به، مائه بالمائه، فكان كما يقال يجيد توصيل الطلبات إلى المنازل. عندما كان يجلس فى إحدى أمسيات الصيف، فوجىء بعربة البوكس تقف أمام الشاليه، وخرج منها أحد الضباط ومعه ثلاثة جنود مسلحين، وآخر ينتظر بالسيارة كان يرتدى الملابس المدنية، حاول عارف أن يبتسم ليدارى إحساسا عارما بالضياع والخوف سقط قلبه فى قدميه، بمنتهى السهولة خرج معهم دون أدنى اعتراض أو شوشرة.

بعد أن أودع وردة السجن،احتار صادق فى جهله الشديد؛ وعدم قدرته على فهم حقيقة التغيير الذى أصاب ذلك الصديق القديم عارف وردة. لام نفسه على أنه ظل مخدوعا فيه طوال هذه السنوات التى فاقت عقدا من الزمان منذ أن قابله فى مبنى المديرية؛ بعد فراق طويل كان سببه حرب الأيام الستة وما تبعها من الهجرة وإخلاء مدن القناة، حقا لم يعد صديقه القديم الذى كان يجاوره فى مقعد واحد ويتقاسمان معا السندويتش، ويقضيان النهار بين الدراسة واللعب، تعجب من التغيير الرهيب الذى حدث لشخصية صاحبه؛ الذى امتلك تلك المقدرة الهائلة على إخفاء شخصيته الحقيقية طوال هذه السنوات، تعجب صادق كثيرا من عدم اكتشافه لهذا الأمر، سأل نفسه: كيف استمر يضع فيه ثقة عمياء، عندما كان يراه أو يحادثه تليفونيا؛ يتذكر دائما ذلك الصديق عارف الذي كان، لم يدر بخلده أبدا أن يتحول هكذا إلى النقيض، وأن يسقط بسهولة فى براثن الشيطان، فقد هيأ له الطمع سبلا يسلكها غير آبه بعواقب أفعاله، كان فى كل خطواته متأسيا بمعارفه من" أصحاب المصالح " كما كان يطلق عليهم، جر عليه هذا التقليد الأعمى مرارة ليس بعدها شىء، لم يبق له إلا أن يجتر بؤس الحسرة والألم..

تبوأت تلك الفرقة غرف الحجز فى أقسام الشرطة؛، بعد أن شاب أفرادها الاعوجاج وأصبح الطمع والطغيان والفجور عناوين لسلوكهم، وقد فتحت لهم الشياطين أبوابا من الإثم الذى لم يلبث أن اغتالهم جميعا بعد أن فاحت روائحهم النتنة؛ وانتشرت سيرتهم فى أرجاء المدينة الهادئة.

نقلوا بعدها الى غياهب سجن الزقازيق، بينما؛ وعلى الجانب الآخر؛ فى ردهات المديرية، لا ينتهى الكلام عن تلك الأحداث الجسام التى هزت أصداؤها أرجاء المدينة، وانتشرت على صفحات الجرائد القومية؛ ليتعرف عليها القاصى والدانى... لم يلبث الموت أن اغتال السيد مدير المديرية؛ تعددت الأقاويل فى سبب موته، البعض ادعى أنه مات مقتولا،وآخرون قالوا إن الرجل قد انتحر؛ أما الأخبار الرسمية فتقول إنه أصيب بانسداد بالشريان التاجى أدى إلى إحتشاء بعضلة القلب إثر ذبحة صدرية حادة؛ أودت بحياته خلال أيام من اقتياده فى حراسة مشددة إلى ردهات المستشفى العام.

---***---

74

العاقل من يسلك مسلك حياته،

كمسيل نهر جار،

فهو كالماء مطواع؛

لا يتحرش ولا يأبه،

يقصد القاصد خيرا أو شرا

فيلبث راكدا بأدنى الجداول

للمدن الجديدة عبق يحتل مكانة راسخة فى القلوب، ذلك أننا نتخلص بها من أوجاعنا القديمة؛ تلك الأوجاع التى تترسب فى قاع النفس السحيقة دونما سبب واضح. ربما لعوامل عدة متراكمة، قد تكون بسبب هذه المساحات الضيقة والشوارع المزدحمة والحواري الضيقة أيضا... ذلك الزحام والضجيج الذى تراه وتعيشه فى المدينة القديمة وأحيائها المختلفة، ربما إحساسك بضياع ذاتك ونقائها لتذوب كالسائمات فى ذوات الآخرين، فوق بقعة محدودة تحت الشمس؛ تلك اللحظات التى يتمناها أى آدمي ويجاهد – دونما شعور – من أجل الحصول عليها، هى لحظات الهدوء والانفراد، حتى يتمكن من النظر والرجوع مرة أخرى من تلك الخلوة طاهرا مفعما بالنقاء والأمل والقدرة على الشعور بالحياة لحظات السكون المفتقد فى تلك الأماكن الضيقة الموبوءة بكل أصناف الضجيج والألم، راحت تنخر فى عظام البشر وتسبب لهم المزيد من الاحتكاكات السيئة التى ولدت عنها مشاكل متراكمة، تمخضت عن ضيق فى مصادر كسب العيش، أدى تلوث متعدد الدرجات فى أجواء الحياة كلها.

***

سبق أن تقدم سامى بطلب للحصول على شقة؛ تحت بند الزواج الحديث - منذ حوالى ستة أعوام- فى إحدى المدن الجديدة؛ التى تتاخم المدينة وتطل على الصحراء الواسعة، ويحتضنها من الغرب جبال عتاقة.، جاءته الشقة هذه الأيام فى مدينة الفردوس، بعد أن صار لديه ثلاثة

أبناء، وثقلت زوجته لحملها فى الرابع.

حكى لصادق عن ملابسات مرت به...

- منذ حوالى 5 سنوات.. قابلت كمال عزب، عندما عرف أننى تقدمت بطلب للحصول على شقة؛ أبلغنى يومها أنه من الممكن أن أحصل عليها بسرعة؛ ولكنى فضلت أن أكون فى دورى حتى لا أتخطى الآخرين.

رد صادق:

- أكيد لأنك تعمل فى المديرية، والسيد المدير من الممكن أن يخدمك.

ضحك سامى وقال:

- أبدا.. الموضوع ليس هكذا بالضبط، ولكن الرجل طلب منى 4 آلاف جنيه...

- ياه...4آلاف جنيه مرة واحدة؟ لمن؟!

- لشخصية غير معروفة..يقال إنه شخص له ثقل فى المحافظة...الشىء المضحك أن هذه الشقة سرقت قبل أ ن أسكنها.

ضحك صادق قائلا:

- يارجل قل كلاما غير هذا!!

  • هذا ما حدث!
  • ما الذى حدث؟
  • نزعوا مستلزمات السباكة من المطبخ والحمام!!
  • وماذا فعلت؟
  • أبلغت الشرطة وقال لى أمين الشرطة بعد أن ترددت عليهم كثيرا لأسأل عن المسروقات والحرامى قال لى:
  • هات تاكسى وتعال...
  • أحضرت التاكسى؟
  • طبعا
  • لم؟
  • لكى نذهب أنا وضابط المباحث وأمين الشرطة إلى مكان ما...
  • و بعدها؟

- وبعدها توجه سائق التاكسى حسب تعليمات الضابط إلى أن وصلنا الى ساحة واسعة بالقرب من حى السحاب، تعجبت مما رأيت أثاثات منزلية وغرف نوم وصالون وانتريهات، وجميع أدوات السباكة موجودة مفروشة على الأرض.

تحدث الأمين مع البائع على انفراد، بعدها عرف الأمين الضابط بمواصفات آخر حرامى باع مسروقات للرجل، تذكره الضابط فورا من أوصافه

تساءل صادق:

  • وهل وجدت أشياءك؟

- الضابط قال ببساطة: خذ أى حوض؛ و أى حنفيات تعجبك يا شيخ، تكون شبيهة بالمسروقات..

- وهل فعلت؟

- طبعا هذا البياع معروف انه يبيع المسروقات؛ وهو يتعاون مع الحكومة للقبض على اللصوص

  • سبحان الله!

---***---

 

75

إن الأخيار للأشرار مناهل علم وهداي
وإن الفجار للأخيار ساحة موعظة.

فإياك واحتقار أقطاب الهداية،
ثم إياك وإياك من امتهان قداسة السالكين،
فإنه لافضل مع احتقار سبيل الرشاد،
ولاهداية مع استصغار شأن الضالين،
إن في ذلك أسرارا من الحكمة!
ولطائف من بواطن الدلالة.. فتأمل!

ابتسم سامى ابتسامة سخرية وهو يتذكر موضوعا آخر، دق بيديه على رأسه، قال صادق:

- فيه إيه يا شيخ؟

- تذكرت أحد المواقف حصل معى..

- إيه؟

- بالقرب من مدينة الفردوس؛ فى الطريق؛ استوقفنى تلاتة، الحقيقة خفت منهم، أخرج أحدهم مطوة قرن غزال، وقال بعنف:

طلع اللى فى جيبك

وضعت يدى فى جيبى وقلت: حاضر

أخرجت 6 جنيه كانوا كل اللى معايا؛ خطفهم من إيدى وقال لى بغضب:

- هى دى فلوس ياروح أمك؟!

المهم؛ بالصدفة مرت جوارنا عربة شرطة صغيرة، ظهر الرعب على وجوههم وتركونى واختفوا فجأة؛ لم أصدق عينى؛ ولذت بالفرار.

تعجب صادق وقال:

  • الحمد لله إنهم لم يضربوك بالمطوه..

---***---

استأنف سامى قائلا:

- فيه حاجة غريبة أردت أن أحكى لك عنها..

- ما هى؟

- موضوع السرقة فى العمارة 52

- فين؟

- عندنا فى مدينة الفردوس

- إيه حكاية الفردوس دى؟

رد سامى:

- أصلها مدينة شبه مهجورة، يكتر فيها أصحاب الكيف والخارجين عن القانون؛ لا تجد فيها عسكرى واحد، وان قابلته؛ غالبا ما يكون صاحب مزاج..

- وطبعا السكان فيه خوف عليهم

- ماحدش فى حال حد، قول يا باسط، علشان كده الحرامية فرحانين بيها، أنا لغاية يومنا هذا لم أنقل من سكنى القديم؛ لأن المواصلات صعبة ومكلفة بالنسبة لى، ومع ذلك اضطر أحضر هنا شبه يوميا، حتى لا تتكرر سرقة الشقة مرة ثانية

رد صادق متهكما:

- المفروض أن يخلعوا البلاط ياشيخ!!

- أهو ده اللى ناقص!!

- ايه موضوع عمارة 52؟

- أثناء ذهابى لأطمئن على الشقة؛ لقيت عربية نقل واقفة عند العمارة 52.. والعفش نازل منها وأصوات خناقة، واحد يقول بغضب:

- زواج فاشل، سنأخذ بنتنا وعفشها أحسن..

رد الثانى عليه:

- طريقك أخضر يا حبيبي طريقك أخضر يا أخى، العوض على الله، منكم لله، منه لله الذى كان السبب فى هذه الزيجة المهببة!!

اكتفى العابرون بمصمصة الشفاه، والأسف على مايحدث.

قال صادق:

- وماله؟ لا يوجد نصيب؛ كل واحد يذهب إلى حاله؛ هذا أفضل من أن يقتل أحدهما الآخر مثلا!

استأنف سامى بحماس:

- نعم؛ ولكنى لم أكمل لك ماحدث اتضح إن الساكن الأصلى صاحب الشقة مسافر الخارج، والست زوجته موجودة فى بيت أمها بحى الأربعين، وهم مثلنا يسكنون بعيدا فى سكنهم القديم ولم ينقلوا عفشهم الى الشقة الجديدة حتى الآن.. من وقت لآخر يمرون على الشقة الجديدة، والست بكت عندما رأت الشقة مسروقة؛ وكل التحف وعفشها خرج من الشقة فى عز الظهر بالملعوب اياه.

---***---

 

76

 

وتأمل بدء كينونه الوجود.
تملك مفتاح مغاليق الكون،
تتسع بآفاق وعيك اقطار البصائر
وينطرح لقدميك مسار الطريق.

 

صباح يوم من أوائل مارس 2003؛ استيقظ مبكرا كعادته؛ خرج إلى الشرفة التى تطل على الكورنيش القديم، على يمينه تبدو المئذنة العريقة لمسجد سيدى الغريب..

جلس لكى يستمتع – باستقبال يومه ببشر وسعادة فى أحضان الطبيعة الخلابة، يشعر بجمالها ممدة إياه طاقة البقاء والحياة، نظر الى الناحية المجاورة للخور؛ حيث مبنى قسم السويس القديم، بتاريخه التليد الذى يكاد يكون تائها عن الذاكرة؛ كان يسمى قصر محمد على، وقد صار جزء منه قسما لشرطة السويس؛ والجزء الآخر كان مبنى مخصصا للمحكمة الشرعية، حتى أن الشارع المواجه لها كان ومازال؛ يسمى شارع المحكمة، بمرور الزمن لم يعد القصر قصرا ولكنه صار فى خبر كان؛ انتهت ايام العز،وتبدل من عز الى عز، وتكاثر عليه غبار الأيام والسنين، و تراكمت عليه أوحال الإهمال و النسيان.

فى الفرندا الواسعة،استمتع صادق بهوايته، أمسك بالإبريق النحاسى ذى الفوهة الجانبية؛ أماله وقد تقاطر الرذاذ من فتحات صغيرة بطرف تلك الفوهة الدقيقة؛ كانت آية من الجمال، يسقى شجيراته ونباتات الزينة وقد تصاعدت أوراقها متفتحة فى أشكال بديعة، كلما يرويها تنتشر رائحتها العبقة وتتضوع محدثة له سكرا عجيبا؛ كأنما تهديه مكافأة له على ذلك الجميل الذى يقوم به تجاهها.

---***---

جلس على كرسيه؛ أمامه منضدة صغيرة موضوع عليها مجموعة من الكتب والجرائد، كان يهوى معرفة شيء عن مدينته التى خلبته وجذبته إليها؛ بعد أن ذاق طعم الحياة فى غيرها من المدن، أثناء دراسته شغفته القاهرة بحبها، تعود على هواية المشى فى وسط البلد والاستمتاع بمشاهدة أفيشات الأفلام على مداخل سينما مترو وراديو وكايرو وريفولى وديانا وقصر النيل، ومقاهى جروبى ولاباس وسفنكس، وأخذ حب المكتبات منه أوقاتا طويلة مضى متنقلا بين دار المعارف ومكتبة مصر ومكتبة النهضة، كما كان له تاريخ مع مكتبات سور الأزبكية، وقبل أن يختفى هذا السور الأثرى الجميل.كان يحب زيارة المسارح والأسواق العامرة؛ أسواق اللحوم والخضر والفاكهة بباب اللوق والتوفيقية والعتبة، لا ينسى مناظر الفنادق الكبرى والبنسيونات النظيفة والمحلات ونوادى الشطرنج والبلياردو المقاهى العديدة وخصوصا مقهى أم كلثوم التى كانت تمثل له جزءا من كيانه فى صدر الصبا والشباب؛ تجذبه مناظر التماثيل الرائعة التى تتوسط ميادين سليمان باشا ومصطفى كامل وطلعت حرب وابراهيم باشا؛ و يتطلع الى العمارات الكلاسيكية البديعة التى تمثل طابعا مميزا للمنطقة وجعلت منها متحفا معماريا به خليط من الطرز التوسكانية والأيورنية والكورتيسية والتى شيدت فى عصر الخديو اسماعيل، وحفيده الخديو عباس حلمى الثانى.. كل هذا كان يمثل زخما انسانيا جميلا.. سأل نفسه: هل يمكن لتلك الايام أن تعود؟

---***---

أخذ رشفات من فنجان الشاي الموضوع أمامه، فتح جريدته وطالع نبأ انتشار وباء السارس، قضى على 349 شخصا بالصين..

ألقى نظره بعيدة؛ شاهد إحدى السفن الضخمة تعبر القناة، امتدت يده الى الكتاب الملقى على المنضدة، وقرأ:" تحكى آثار الفراعنة عن سنوحي الذى عبر الدلتا إلى السويس وكاد يموت فى الصحراء من الظمأ، لولا أن ساعده البدو حتى رحل إلى الشام وتسرد القصة تفصيل حياته وثرائه وانتصاراته حتى عودته لمصر بعد صدور العفو عنه من قبل الملك سنوسرت الأول ابن أمنمحات الأول

أتت الملكة حتشبسوت إلى القلزم لتودع الأسطول الذاهب إلى بلاد بونت، وقد ذكر ذلك على جدران معبدها الكائن بالدير البحرى غرب النيل بالأقصر.وقد مارس البدو دور المدافعين لحماية الحدود الشرقية، ثم تبعهم الإغريق بداية من عهد أبسمتيك الأول.

قام نكاو الثانى بإعادة حفر قناة سيزوستريس التي طمرها الزمان، بعد ذلك أدى تدهور الأوضاع إلى احتلال الفرس لمصر بقيادة دارا الأول؛ وشرع فى حفر القناة مرة ثانية لأهميتها.

كان الفرس يتمنون البقاء فى مصر واستمرار احتلالها ولكن حلمهم تبخر."

" أكمل ابنه أكزركسيس حفر القناة مرة أخرى، وكانت تسمى ناديت وتصل بين بحر القلزم وفرع النيل البولوزوى عند منطقة بلبيس وترك لوحاته الجرانيتية الثلاث عند كبريت والشلوفة والكمامنتو ناقشا عليها تاريخه وانتصاراته؛ وقد كشف ديليسبس عن تلك اللوحات خلال حفر قناة السويس فى القرن التاسع عشر

احتل الإغريق مصر، وتولى الملك بطليموس الثانى حكم مصر قبل ميلاد السيد المسيح؛ وقد أطلق اسم زوجته الملكة أريسنوى على المدينة الواقعة شمال البحيرات المرة،وقام بحفر القناة مرة أخرى، وبدأ من هيروبوليس؛ التى سميت القلزم،(نفر آب)الفرعونية، وسميت القناة ( ثارو)".

واحتل الرومان مصر عام؛ وفى عهد الإمبراطور الرومانى تراجان بدأ العمل فى حفر القناة، وأكمله الإمبراطور هدريان؛ وتسمى قناة تراجان وظلت تعمل طوال حكم الرومان لمصر."

***

طوى الكتاب، ووضعه على المنضدة أمامه ونظر يتأمل الجو حوله؛أراد أن يعود إلى الواقع، سمع حفيف أشجار السنديان والكافور أنصت إلى زقزقة العصافير التى تتهادى إلى أذنيه فى هذا الصباح الباكر،أحس بالانتعاش، فكر قليلا فى المستقبل، ما الذى يمكن أن يعمله؟ إن فكرة السفر تعاوده من حين إلى آخر بالرغم من أنه يطردها دائما ويحاول أن يستقر فى مدينته، لقد حمد الله على تحكمه فى عواطفه، لم يستسلم للشيطان.. الظروف التى مر بها والآلام النفسية التى عاناها، خلقت لديه نوعا من الإحباط الذى سرى فى دمه بطيئا كالسم، حتى كاد يعصف بأفكاره، أخيرا لم يستجيب لنداء السفر، وفضل البقاء فى المدينة؛ لم تطاوعه نفسه فى السفر مرة أخرى.

---***---

أعاد فتح الكتاب؛ ركز عينيه على السطور، واستأنف:

" وشهدت السويس حروبا عديدة بين أهل مصر من المسيحيين الأقباط وبين الرومان، وفى عهد الفتح الاسلامى بقيادة عمرو بن العاص تم شق قناة سميت باسم أمير المؤمنين بدلا من قناة سيزوستريس التى كانت تربط وادى النيل بالبحر الأحمر، وقد اندثرت معالمها بفعل الزمن، كما كانت كسوة الكعبة تمر بالسويس فوق المحمل الذى يعبر كل عام فى احتفال بهيج بموسم الحج ليصل بعدها إلى الحجاز ".

" خطط عمر بن الخطاب فى ربط وادى النيل بالحجاز تجنبا للقحط والمجاعة التى سبق حدوثها فى أراضى الحجاز؛ واستدعى عمرو بن العاص وناقش الأمر معه، وأتم عمرو المشروع؛ وساحت السفن فى خليج أمير المؤمنين، حتى حدثت ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن على بن أبى طالب على كرم الله وجهه على العباسيين فيأمر أبو جعفر المنصور - ثانى الخلفاء العباسيين- بردم القناة من برزخ القلزم؛ ليصبح هذا التاريخ شؤما على القلزم.

" كلف صلاح الدين الأيوبى شقيقه العادل الأيوبي ببناء أسطول من أخشاب شجر السنط التى كانت تحيط بالسويس والطور وأبحر فى مواجهة الأسطول الصليبى الذى أرسله ارنولد حاكم الكرس لتهديد مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي كانت على مسيرة يوم واحد منها فلحقت به سفن الايوبى عند الجوزاء على ساحل الحجاز فدمرته وأسرت من جنوده المئات

وقد عرف الناس طريق الحج من القاهرة ويبدأ من بركة الحاج التى يوجد عندها أكبر خانات مصر بما يحويه من مستلزمات الحجيج، ومنه تتحرك القافلة صوب السويس مارة بالبويب والحمرة والشيخ التكرورى وعجرود.

وفى زمن السلطان الناصر محمد بن قلاوون شيد خانا عند بركة عجرود اشتمل على بئر وساقية؛ ومن بعده أنشأ الملك الناصر حسن بجوارها أربع مساق ليشرب منها الحجاج، جدد السلطان قنصوة الغورى الخان؛ وأضاف له مسجدا وقلعة لتأمين وحماية الطريق.

ومن السويس انطلقت حملة بحرية قوامها ثمانين سفينة تم انشاؤها فى السويس بقيادة أمير البحر سليمان باشا الخادم وتوجهت ناحية اليمن لمطاردة الأسطول البرتغالى عام 1538 م.

---***---

و فكر هنرى الثالث فى حفر قناة تصل بين البحرين الأبيض والأحمر، بعدها عرض المهندس ريشيليو على لويس الثالث عشر فكرة شق القناة...

وعرض المهندس كوليير على لويس الرابع عشر نفس الفكرة ومن بعده البارون توت على السلطان العثمانى مصطفى ثم على نابليون بونابرت الذى أخبره علماء الحملة بأن منسوب المياه فى البحر الأحمر يعلو تسعة أمتار عن البحر الأبيض؛ فصرف النظر عن الفكرة حتى لا تغرق مصر.

وعندما تولى محمد على باشا حكم مصر؛ عرض عليه جماعة السان سيمسونيان تصميما متكاملا لحفر القناة.ثم حصل فرديناند ديليسبس على تصميمات السان سيمونيان؛ واستطاع أن يقنع بها سعيد باشا ولى مصر، وتم البدء فى حفر القناة؛ وأقيم حفل أسطورى فى عهد إسماعيل باشا؛ وقد حضره العديد من ملوك العالم وأمراءه منهم "أوجيني" إمبراطورة فرنسا التى أقامت فى قصر محمد على الموجود على كورنيش السويس القديم ".

سرح بفكره وقد امتد بصره فوق بحر الخور حتى وصل إلى سفينة تعبر القناة، تلتها سفينة أخرى أضخم منها، دخل الى الغرفة وأحضر نظارته المعظمة، كانت السفينة الأولى حاملة للطائرات؛ والثانية بارجة ضخمة تحمل مايشبه الصارى المرتفع إلى عنان السماء..

---***--

 

 

77

 

من تجلت له دفائن النفوس،
فهو الذكي ذو الفراسة،
أما من كشف خبايا نفسه التي بين جنبيه،
فهو الفطن البصير.

 

بعد رحلة طويلة شاقة أكتشف أنه عاد الى نفس الأماكن والأشخاص..

تعجب وقال ما الذى جنيت؟ ونظر إلى يديه وجدهما تحصدان فراغا؛ أحس بندم وانكسار..

تأكد أن الألم فى أحيان كثيرة فيه عين الحكمة؛ وأن الهجر أحيانا يكون جزءا من العلاج، بل ربما كان العلاج كله إذا تعذر الأمر، كيف يأخذ حب مدينته بشغاف قلبه ويتركه هكذا أسيرا لمجهول؟؟، لا شىء أمامه يشعره بالبهجة الحقيقية، طوفان الناس المقبلين على المدينة كل يوم؛ يزحفون اليها من كل حدب..يصارعون من أجل لقمة عيش؛ شباب المدينة ينظرون بحسرة..لا يقنعه هذا أن يبقى فى مدينته، لقد انكسر في داخله شىء؛ لا يدرى بالضبط كيف يعبر عنه؛ ولكنه صار مزيجا من دوافع شتى... أحس بغصة، لم يعد الناس هم الناس؛ ولا الكلمة هى الكلمة، لم يتأكد من أن النور مازال ساطعا؛ ربما كان منزويا؛ أهى إرهاصات ما قبل الفجر؟...أهى تباشير لفجر قد يكون سعيدا؟ من المؤكد أنه سيكون فجرا سعيدا، تشع منه المحبة والصفاء؛ كلماته وافعاله من القلب الى القلب؛ ليست خادعة ولا مراوغة؛ مثل تلك التى تخرج من اللسان ولاتعبر أكثر من الأذن، كما نرى كل يوم فى قبلات وهمية؛ وكلمات مكرورة فقدت صدقها وبهاءها..

كاد يقوم من جلسته؛ ليعيد النظر الى تلك اللوحة القديمة التى مازال محتفظا بها منذ طفولته، كانت فى بيت العائلة، معلقة على حائط حجرة الصالون؛ والتى تحمل بيتا من الشعر:

الصدق فى أقوالنا؛ أقوى لنا والكذب فى أفعالنا؛ أفعى لنا

دارت فى مخيلته هذه الأفكار وأخذت تداعبه؛ أحيانا يتمادى به التفكير دون أن يشعر ولا يكون ذلك عن افتعال؛ ولكنها حاله من السرحان المشوب بالقلق؛ غالبا ما ينتهي بابتلاع قرص واثنين من المسكن الذي تعود على الاحتفاظ به تجنبا لنوبات الصداع النصفى التى كانت تداهمه؛ تصيبه عادة عندما يوغل في وحشة التفكير والتيه؛ إذا ما كان متصلا بهزيمة أو عجز أو إهانة متعمدة أو ضيق ذات اليد - قاصمة الظهور -؛ تعود دائما أن تكون كرامته فى المقام الأول منذ الطفولة.

تعجب؛ كيف لا يكون له فى وطنه حياة مطمئنة؟ لم يشعر بالسعادة مع اخيه؛ ولا فى البيت ولا فى الحب ولا فى الصداقة...سوى صداقته لسامى

لم يعد يشعر بالرغبة والحماس لقول أو فعل، عندما يحاوره أحد من زملاء العمل،لا يستجيب سريعا، جرب أكثر من مرة أن يكون ايجابيا ومتفاعلا مع المحيطين ولكنه فى الغالب كان يبوء بالفشل؛ يشعر بالمرارة عندما يضع رأسه على السرير، تحضره كل كائنات اليأس ولا يمكنه أن يتناسى المهزلة التى يعيشها؛ بعد أن جلس مع الناس و مع نفسه مرات عديده، فى مساءات وليالى طويلة؛ كان ينظر محملقا فى ظلام الحجرة، تحت بصيص من ضوء مصابيح الطريق الذى يتسلل من خصاص النافذة؛ ليكسر العتمة، ظل يسرح طويلا مفكرا فى حياته وما أنجزه فيها، يفكر فى عمله وفى بيته الذى كان قائما على زوجته فضيلة التهامى التى كرهت ألوانا من الفضيلة، وفى أخيه الذى لم يعرف للأخوة أصولا،أو لصديقه وردة الذى فاحت رائحته أخيرا..

ينظر فى حصيلة حبه للناس، ومحاولاته الدءوبة لكى يكسر حاجز الكراهية..

لم يتذكر سوى لحظات نادرة من السعادة فى حياته، ربما يكون قد ضاع منه الأمل؛.. ما الذى يمكنه أن يفعل؟ ما الذى سبب له كل هذا الحزن والضيق؟ هل هو نقص المال؟ أبدا!! فقد تحسنت أحواله، كان يظن أن زوجته فيما سبق من الزمن فى أشد الحاجة إلى المادة..إلى المال..عندما جاء المال لم يبق له سوى الذكرى... ما جدوى التعب والجرى هنا وهناك؛ بالليل والنهار.. إن لم تكن هناك ابتسامة قناعة وامتنان؟؟! لا لزوم لكل هذا العبث والإرهاق، كأنما يشاهد شريطا لفيلم هزلى!! شعر بالمرارة وبغصة فى حلقه صارت تلازمه فى الشهور الأخيرة، ولا تفارقه إلا بانغماس قوى فى موضوع ما؛ أو عمل شاق؛ أو مع صديق؛ ليس له صداقات حميمة تقريبا سوى صداقته بسامى!! تعود أن يفضى إليه بخبيئة نفسه على انكسار وضيق؛ لم يفكر أبدا أن يخرج أسراره إلى كائن ما؛ ولكن الألم والضيق كانا يدفعانه إلى أن يدلق بعضا مما يلاقيه حتى لا ينفجر..

كان سامى يشبه شمعة تنير له الدياجير...كلما جلس معه يشعر أنه يمتلك حبا وتفتحا على الحياة؛ ظل إيمانه بالله يمثل له دافعا للأستمرار والبقاء.. تذكر الآية الكريمة التى أخذ يرددها: " والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس" صدق الله العظيم.

---***---

 

78

 

ثم إن أجواء الفساد والخيانة والفوضى؛

هى التى ألهمت نفوس الوطنيين؛

إرادة النقاء والإخلاص والنظام

 

احساس الشيخ سامى بصديقه؛ بوحشته وآلامه ووحدته، جعله يقترب منه، ويحاول دائما أن يخرجه من أحزانه وأن يخرج معه" لتغيير الجو " كما كان سامى يقول...أحيانا يتقابلان فى المسجد أو فى العمل أو المنزل، هذه المرة قال لصادق:

سوف أتغدى عندك اليوم!

أهلا وسهلا..

تجول صادق فى المدينة، تنقل من حى إلى آخر، وجد نفسه بالقرب من مسجد الأربعين، سمع آذان الظهر؛ دخل ليصلى، أثناء خروجه؛ لفتت انتباهه تلك النافورة القائمة بالجزيرة الوسطى، تطلع إلى المعالم متذكرا ما مضى،أزيل شريط القطار المواجه للمسجد؛ وشق مكانه طريق مزدوج؛ تذكر العشش التى كانت مقامة حول السكة الحديد، ومساكن الدريسة، ومنفذ لبيع المواد الغذائية زهيدة الثمن؛ وأكوام الزبالة التى كانت ملقاة هنا وهناك، لم يعد لها وجود، أنشئت نافورة جديدة فى الجزيرة الوسطى بين الطريقين، مواجهة تماما لباب المسجد، تم إزالة السكة الحديد من هذه المنطقة؛ اتسع الطريق ذهابا وإيابا؛ كان هذا مصدر فرح وارتياح للناس.

وجد المنظر وقد اختلف تماما عن الشكل القديم الذى كان لا يزال عالقا في ذهنه قبل سفره، كان السوق القديم مكونا من مجموعة من العشش المتواجدة فى مسار السكة الحديد القديمة، والتي قيل منذ سنوات عديدة أنها ستزال قريبا، وسيكون قطار البضائع خارج المناطق السكانية اصطفت هذه العشش بصورة بدائية على امتداد القضبان التي اختفت تحت الأرض بسبب أطنان الأتربة ومخلفات البناء التي كانت تأتى بها العربات الكارو والنقل، والتي جعلت من هذا المكان مقلبا للزبالة، كان لكل بائع بهذا السوق عربة خشبية ثابتة؛ أو منضدة ذات أربعة أرجل كيفما اتفق، يضع عليها الخضار أو الفاكهة، ولكي يتقى الحرارة وتقلبات الجو والصهد المتصاعد صيفا، كان يرفع قطعة من القماش القديم أو الخيش أو الجوت، يحملها قائم خشبي يتوسطها ويسندها من الأطراف بقطع من العصى الطويلة؛ أو الجريد أو أسياخ من الحديد، والقليل كان لديهم شمسية جاهزة..

لم ينفق الباعة مع إدارة الحى على كيفية تجهيز أماكن البيع؛ ذلك أنهم يعرفون أن أقامتهم فى هذا السوق القديم مؤقتة؛ آخر النهار كانوا يتركون أماكنهم وباقى بضاعتهم بعد تربيطها حتى لا تكون عرضة للسرقة إذا ما كانت تحتوى أشياء ذات قيمة تذكر. داخل هذا السوق يختلط لغط الباعة وضجيجهم المستمر وتنافسهم بأصوات شتى متداخلة، وكل منهم لا يكل من النداء على بضاعته التي يدعو الله أن ينتهى منها؛ قبل أن تهبط الشمس من كبد السماء مؤذنة بالغروب.

---***---

الداخل إلى سوق السمك بحى الانصارى القديم؛ يشبه من يذهب إلى رحلة خيالية، محفوفة بالمخاطر؛ كان عليه أن ينتبه جيدا ولا ينهمك فى النظر إلى طاولات السمك والاوانى مختلفة الأشكال والأحجام المنتشرة أسفل قدميه حتى لا تصطدم رأسه بمظلة واطئة أثناء سيره فى ذلك الممر المزدحم؛ وحتى لا تنزلق قدمه فى بركة من برك المياه المنتشرة هنا أوهناك. فى السوق تصادف عينيك أصناف شتى من خيرات البحر، فى الموسم يوجد الشعور والبياض وسمك والكشر والبلاميطة بأحجامه المختلفة، كما توجد أسماك النور كما يسميها الصيادون، ومنها الكثكمرى والسهلية والموزة والسردينة والباغة، ويسمون طريقة صيدها "الشانشيللا". شاهد صادق السمكة الصغيرة الحمراء التى تسمى البربونى والتي يعجب بها بالرغم من أن زوجته لم تكن تهواها، وعلى يسارها شاهد طاولة مليئة بالسوبيا الطازجة، التى يوحى منظرها بأنها قادمة من"العنبك" وهو البحيرات المرة، كما ينادى عليها البائع، نوع مميز ذو طعم شهى، تعجب صادق عندما رأى سعرها المرتفع معلقا على ورقة مغروسة وسط الطاولة.

تغيرت تماما تلك المبانى القديمة؛ ورأى على امتداد البصر محلات السوق الجديد – سوق الأنصارى - وقد اخذت المبانى شكلا دائريا كبيرا، لم يرتح لإهدار تلك المساحة الضخمة لذلك المبنى المكون من دور أرضى فقط على هيئة محلات، من الممكن مستقبلا،إعادة بناء هذا السوق واستغلال المكان رأسيا، مع عدم نسيان أماكن انتظار السيارات والخدمات الأخرى، وجد للسوق أبوابا حديدية فى أربع جهات؛ تسمح بدخول المشاة وعربات البضائع الصغيرة فقط، ولا تسمح لباقي المركبات بالولوج إلى داخل السوق.

واصل صادق سيره حتى يكتشف باقى السوق الجديد؛ فى المنتصف وجد مبنى صغيرا به نقطة شرطة السوق و كافيتيريا صغيرة ومصلى ودورة مياه، الواقف بها يمكنه أن يرى أربعة مداخل للسوق، فهو بالضبط واقف فى مركز الدائرة التى تمثل السوق، ويتبعها دوائر أخرى متدخلة أكبر فأكبر حتى تصل إلى المحيط الخارجي الذى يحتوى على أكبر عدد من المحلات، و يتخلل هذه الدوائر فواصل عبارة عن طرقات واسعة حتى تصل إلى الخارج.

المحلات التى تلقى رواجا هى فقط الموجودة فى المنتصف، فى اتجاه أبواب السوق الأربعة؛ يتناثر الباعة الذين خرجوا ببضاعتهم، ليلحقوا زحام الزبائن الداخلين الى السوق من مداخله الأربعة،،وكذلك بعض المحلات الموجودة بالواجهات الخارجية..

على المدخل؛ وجد جاويشا يحمل عصا صغيرة فى يده، وقد ملأ شاربة صفحة وجهه المكتنز؛ ينظر أمامه إلى امرأة تفترش الأرض وتنادى على الليمون، والى جوارها قفص عليه البقدونس والشبت والجرجير والفجل، زعق فى وجهها وهو يأخذ قضمة كبيرة من خوخة حمراء التقطها من عربة مجاورة، تناثر من فمه رذاذ لحق ذراع صادق:

  • هيا قومي يا بت يارحاب؛ شوفى لك مطرح تانى، كفاية عليكى...انتى اشتريتى الحكومة بالجنيه بتاعك؟!!

***

بالسوق قسم للخضروات وقسم للأسماك، تتجاور المحلات الصغيرة حتى كأنما لا يوجد فواصل بينها،ألقى نظرة سريعة على أنواع الخضر، حمد الله فى سره، بالرغم من الزيادة السكانية التى تشكو منها الحكومة ليل نهار إلا أن المنتجات وفيرة، تكفى وتفيض عن الحاجة، من المؤكد أن هناك خللا فى توزيع الدخول..

شاهد منظرا لم يكن سوق السمك يألفه فبل النكسة؛ وهو مجموعات من السيدات اللاتي يفترشن الأرض، كل واحدة أمامها طشت واسع به السمك أو الجمبرى والثوبيا، وغالبا ما يكون السمك طازجا من أنواع البوري أو الحفارة أو السيجان لأنها تباع يوما بيوم.

راى وجها يعرفه؛تاجر أسماك كان له محل بالسوق القديم رجعنا السويس شى لله ياغريب؛طول عمرنا كنا جبن سيدى الغريب فى الحرب كنت هنا ما هاجرتش..فناطيس المياه خلصت،البلد نشف ريقها سمعنا عن البير فى شارع قواز..جرينا على هناك؛ دخلنا دكان محروس الجزماتى الناس تزاحمت، والشيخ حافظ قعد يقرا قرآن فى الركن، جزم كثيرة على الرفوف وعلى الأرض؛ لقينا قاعدة خشب رفعناها، كان تحتها جزم كتير شيلناها، تحتها ضلمة، طلبنا الكلوب، واحد ناولنى كشاف، ضوء الكشاف ضعيف؛مديت دماغى وبصيت تحت لقيت ميه.الميه موجودة يارجاله..نزلت بالحبل؛ مستوى المياه واطى.. الضلمة شديدة. الشيخ طلب سكر،استغربنا لقيناه رش البير بالسكر؛ بعد شوية لقينا الميه طلعت، فرحنا الناس ضحكت، لا اله الا الله...

نادى أحد الباعة على صادق باسمه،التفت اليه منتبها وحياه، طلب منه البائع متبسما أن يتفرج على السمك،أعجبه تنوع الاسماك، وقد تناثرت عليها قطع الثلج البيضاالمجروش، تنعكس بلون فضى رائع، بكل اطمئنان أذعن للرجل الذى أحضر إليه سمكة كبيرة، وبسرعة وزنها؛ أمسكها بيده، وقال لصادق:

سنجارى ياباشا؟

نعم

أرسلها مع أحد الصبية لفتح السمكة من ظهرها بموازاة العمود الفقرى، وتنظيفها، حشوها بعد ذلك؛ لتكون جاهزة للشوى.

نظر البائع إليه مبتسما؛ وهو يسلمه الكيس المحتوى على السمكة بعد تنظيفها قائلا:

- بالهنا والشفا يا باشا

أجاب صادق وهو ينقده الثمن ممتنا:

- شكرا....

عبر الى الناحية الأخرى؛ متجنبا الخوض فى بحبرات المياه الصغيرة التى تملأ المكان بسبب انعدام الصرف وتجمع المياه الناتجة عن ذوبان الثلوج ورش الأسماك بالمياه من حين لآخر؛ اللهم الا بعد أن ترتفع حرارة الجو وتتتنتهى هذه البحيرات الصغيرة المزحلقة بفعل البخر.

---***---

رأى عجوزا فى الثمانينات؛ فوق رأسه كاسكيت، كان واقفا أمام عربة خضار، اقترب صادق من العربة ليعاين بعض حوائجه، سمع حوارا يدور بين العجوز والبائع؛ قال العجوز:

أيام زمان كان قطار البضاعة يوصل الآخر، ويكون بالقرب من الخور، كان المينا موجود هنا..تنزل البضايع من السنابيك، وتتنقل على عربات كارو إلى القطار أو العكس؛ وكان القطار يمشى هنا مكان السوق، ويكون محملا بالقصب أو البطاطس أو البصل أو صفايح الجبنة أوالسمن البلدى المحترمة؛ أو العسل الأسود من الصعيد، ويا سلام على الصيف، وموسم البطيخ العرايشى كنا نستلمه هنا وإحنا عيال ناكل من البطيخ؛ مازالت حلاوته على لسانى، لا يعلى عليها، ولما نشبع؛ كنا نكسر البطيخ ونضرب بعضنا به، شقاوة عيال...آه..كانت أيام...

---***---

حمل سمكته الضخمة؛ سعيدا بها، عندما وصل الى منزله؛ وضعها بالمطبخ؛ غير ملابسه وأمسك بها، أراد أن يجهزها انتظارا للضيف، قربها بطريقة آلية إلى أنفه بعد لحظات دق الجرس؛ فتح صادق الباب فوجد الشيخ سامى يتبسم له، فى الحال تغيرت ملامح سامى ونظراليه، متأففا وهو يقول:

- ما هذه الرائحة؟

- سمكة كبيرة اشتريتها اليوم.

- من أين اشتريتها؟

- من أحد معارفى فى السوق

- أحد معارفك؟

- نعم!

- هذه السمكة فاسدة..

- لا يمكن

- لم؟

- لأنه صاحبى

- ضحك عليك، لقد فاحت رائحتها بعد ذوبان الثلج.!

- يا ساتر!

أقترب بأنفه من السمكة وظهرت على وجهه علامات التأكد والضيق، وأكمل كلامه:

  • لهذه الدرجة بنعدم الضمير؟!!

---***---

 

79

 

فليكن المظهر المتواضع البسيط

موصولا بالجوهر النقى الأصفى؛

ثم انزع عنك أنانيتك

تتجافى عنك غواية الأمانى

وألق زخرف الزيف

تصفو فى ساحتك منازل الكدر

 

عرض الريس جمال على نسيبه الدكتور مؤمن وأخيه صادق الخروج للنزهة فى رحلة بحرية؛ وافق صادق ممتنا، فقد لاقى هوى فى نفسه لكى يراجع ما ترسب فى قاع الذاكرة من معلومات قديمة عن الأتكة والادبية؛ والعين السخنة؛صار هذا الطريق يمر بعلامات حضارية عديدة..

منذ سنوات لم يذهب إليها؛ ولم يطالع هذا الجمال الساحر الذى ذاع صيته مؤخرا، جاء الغريب لكى يكتشفه لنا، ويبنى حوله؛ كان يراه على مرمى البصر فى لون المياه الفيروزية، الزرقاء أحيانا، والتى تكتسب ألوانا مختلفة باختلاف ساعات النهار، قلما يثور فيها الموج مرتفعا، غالبا ما تبدو صفحة المياه ساكنة هادئة معظم أوقات العام، عكس بحر إسكندرية بفورته وجموحه وثورته؛ التى تتوالى فى حركة أمواجه بعنف وصخب فى معظم أوقات العام؛ وتندفع منه دفقات الرذاذ فى روعة، مع أصوات تدفق الأمواج يشنف آذان الجالسين والسائرين بمحاذاة الكورنيش الجميل.

---***---

صحب صادق أولاده مجدى وشكرى، وكذلك حماه التهامى الذى وافق مرحبا بالفكرة، فى الطريق توجد أماكن كثيرة تستحق الدهشة، على يمين الطريق توجد محطة كهرباء عتاقة، بعدها بدقيقتين بالسيارة تطالعك لافتة على اليسار بالقرب من الشاطىء مكتوب عليها " المعهد القومى لعلوم البحار والمصايد "، تذكر أيام زمان عندما ذهب إلى نفس المكان قبل النكسة؛ وكان يسمى" متحف الأحياء المائية"، ولم يكن معهدا آنذاك،على الناحية الأخرى وأمام المعهد – توجد الآن شركة السويس للصلب؛ فى الطريق ظل نسيم البحر يتهادى اليهم؛ قطعت السيارة حوالي ثلاثة كيلومترات إلى أن ظهرت فى الأفق الصواري الخاصة بمراكب الصيد،تقف شامخة فى روعة وبهاء؛ تمنى صادق أن ينتظر ليرسمها، ولكنه لم يحضر معه لوحة للرسم ولا فرشاة أو ألوان، وهبط من هذا الحلم إلى الواقع على صوت الريس جمال:

- قربنا من ميناء الادبية..

قبل الوصول إلى الأدبية كانت اللافتات الضخمة محل اهتمام ونظر، شركات مشروع تنمية شمال الخليج، بالقرب من الأدبية وعلى يمين الطريق شاهد شركة ترست النسيجية، ومصنع الثلج والدولية للكيماويات، وسينا ستون وشركة البلبيسى والعتال للصلب، وشركات أخرى كثيرة.

---***---

عند ميناء الادبية؛ أخذت السيارة جانبا؛ نزل الجميع وتوجهوا فى الحال ناحية الشاطىء، ابتسامة مشرقة تعلو وجوههم فرحا بهذه الرحلة البحرية التي سيقومون بها لأول مرة فى مركب صيد لعدة أيام..

كان زميل الريس جمال فى انتظارهم، رحب بهم سأل الدكتور مؤمن حماه الريس جمال:

إلى أين سوف نبحر؟

داخل الخليج..

وأشار إلى السفينة الرابضة فى نهاية المجموعة المتواجدة بجوار الرصيف، توجهوا سويا إلى سقالة طويلة ممتدة داخل مياه البحر عدة أمتار، انتظروا عليها قليلا،مع بعض الصيادين من طاقم السفينة، حضر اليهم لنش، عندما اقترب اللنش من السقالة قفزوا اليه..

أخذهم جميعا ليصل بهم إلى السفينة، بينما تتصاعد الى آذانهم أصوات الماكينة التى غطت على أصواتهم، مما اضطر الجميع الى الحوار بأصوات عالية زاعقة حتى يمكنهم التفاهم.

---***---

بصعودهم إلى السفينة،أخذ الريس جمال ضيوفه ليريهم مكان إقامتهم، دخلوا حجرة بها سرير مزدوج من دورين، ودولاب صغير داخل الحائط، ودورة مياه خلف باب الحجرة، وفى مواجهته توجد قمرة بيضاوية الشكل تطل على مياه البحر بصفحتها الزرقاء الفيروزية الرائعة.

أراد الأولاد أن يصعدوا إلى سطح السفينة؛ رحب الريس جمال وخرجوا جميعا من الحجرة لمشاهدة البانوراما المحيطة بهم، تساءل الدكتور مؤمن:

- هل تصطادون فى أوقات محددة؟

أجاب الريس جمال:

- لا يشترط، نصطاد فى الذهاب والعودة أحيانا، ولنا أماكن نعرفها جيدا.

سأل صادق باهتمام:

- هل سنخرج بعد الخليج؟

  • لا، لنا تصريح داخل الخليج فوق الريح، نطلع لغاية الغردقة، فيه مراكب معها تصريح صيد تحت الريح
  • بعد الغردقة؟
  • تحت الريح معاك لغاية برانيس ومرسى علم..
  • هل معكم أجهزة اتصالات؟
  • طبعا دى أهم حاجة.. أنا ملاحظ انك قلقان شوية يا دكتور، أولا أحب أقول لسيادتك انك ستكون مسرورا معانا إن شاء الله، لا تحمل هما، المركب فيها جهاز ساتلايت جديد

تساءل مؤمن:

- ساتلايت؟

  • نعم؛ يرسم لنا الخريطة والطريق الذى نروح منه..وأيضا طريق العودة فى البحر
  • انتم فقط لديكم هذا الجهاز؟
  • لا معظم المراكب التى أمامك فيها جهاز حديث مثله، لتتبع وتسجيل الأماكن تحت المياه،ويرسم لنا خريطة طريق البحر، نعمل صباية فى الجهاز مكان الوابور الغرقان، أو الوايرات او الطيارات الغرقانة و نبعد عنها، وكمان نعرف أماكن الخير ونعلم عليها، وإحنا راجعين نعرف سكتنا كويس.
  • وكيف يمكنكم أن تتعرفوا علي أماكن الصيد؟
  • نتعرف الأول على أماكن تجمع السمك، عن طريق اسكانديل، نتعرف به على الموجود فى الأعماق، ونعرف الطرح الموجود فيها الخير

- أسعار السمك ارتفعت فى المدينة ياريس جمال..

- عدد كبير من التجار يشترون السمك من سوق العبور بمصر؛ و يبيعونه فى السويس؟!!

---***---

 

80

 

والخوف الذي تفزع منه الصدور،
كيف لي أن أهرب منه،
تلك أفكار تراود النفس منذ الأزل.
أفكار قديمة، طريقها ممدود بلا أمد،

 

حكى لهم الرجل بعض الحكايات الحقيقية وأخرى ممزوجة بالخيال، مثلا حكى عن تلك السفينة التى دخلت الميناء منذ سنوات، وكانت مليئة بالفئران، وبعد أن دخلت الى الحوض العائم لإجراء رشمة وإصلاح، قفزت الفئرن منها لأنها لم تجد ما تأكله، وظلت تعوم على سطح المياه حتى وصلت الشاطىء، امتلأت المدينة يومها بالفئران.

تعجب صادق من حكاية سفينة الصيد أبو الفوارس؛ قال له الريس جمال كان على ظهرها خمسة وأربعون صيادا. العواصف كانت شديدة عليها.. لم تستطع المقاومة فقدت توازنها؛ ارتفعت الامواج كالجبال...

غرقت فى قاع الخليج على عمق أكثر من 30مترا شمال رأس غارب

أبو الفوارس سفينة شانشولا

يعنى ايه شانشولا ياريس جمال؟

يعنى تصطاد بالليل على النور؛ وتصطاد سمك النور زى الباغة والسردين والموزة والكثكمرى...

ننصب الشباك بالنهار، بالليل نور الكشافات يجمع أسراب السمك..

عندنا حوالى 84 مركب شانشولا تطلع كلها من الأتكة..

مركبنا أنقذ 3كانوا على فلوكة تابعة لأبى الفوارس، عملنا لهم حلبة ساخنة ولفيناهم بالبطاطين..

حاولنا الاتصال باللاسلكى رد على النداء أخو ريس السفينة حاولت الاتصال بالمحمول برقم قائد السفينة ولكن التليفون كان مغلقا

اكتشفنا بقع الجاز فوق سطح الماء..

كان هناك حبل عائم سحبنا لغاية الجزء المعدنى..عرفنا ساعتها ان المركب راقدة فى قاع البحر

أبو الفوارس كان على ظهره رجال من رشيد وعزبة البرج لكن الغالبية من المطرية دقهلية..

غريبة! الحوادث كثرت هذه الأيام! اغتالوا رفيق الحريرى، وألف شيعى ماتوا فوق جسر الائمة فى بغداد فى الزحام..

رد الريس جمال:

انت ناسى، الناس ماتت فى الشرم..

88 واحد.. مصيبة!!..

وضحك قائلا:

مبروك! الريس فاز بولاية جديدة!.

استأنف الريس جمال حديثه:

لم أحكى لك عن حادث" أشرف عبده "

مركب الصيد؟

نعم.. أنا محتفظ بالجرنال، تحب تشوفه؟

وضع يده تحت الوسادة الجالس عليها وأخرج الجريدة وأعطاها لصادق الذى أخذ يقرأ بصوت مسموع:

جريدة الوفد -16 سبتمبر 2005:" كانوا يجرون وراء لقمة العيش...بعد أكثر من عامين علي حادث غرق مركب الصيد "أبوالفوارس"، في منطقة خليج السويس أمام سواحل مدينة رأس غارب ومصرع أكثر من 40 صيادا من عزبة البرج وكفر الشيخ والبرلس، تكرر السيناريو لمركب الصيد "أشرف عبده" التي كان علي متنها 22 صيادا من نفس موطن ضحايا العبارة السابقة. غرقت المركب أمام ساحل مدينة رأس غارب علي بعد حوالي ثلاثة أميال بحرية جنوب المدينة عندما هاجمتها أمواج عاتية لم تستطع أن تصمد أمامها سوي دقائق معدودة. قام الصيادون بالقفز في مياه البحر بعدما فقدوا جميع وسائل الاستغاثة..

وقاموا بالسباحة مسافات طويلة وهم يقاومون الأمواج، ويحتضن أغلبهم طاولات الأسماك الخشبية الفارغة وجراكن المياه وكل ما يطفو من بقايا المركب، ومنهم من استطاع السباحة أكثر من 13 كيلو مترا حتي شاهده رجال بحرية الشركة العامة للبترول أمام ميناء رأس غارب يصارع الأمواج فهرعوا إليه وانتشلوه من مياه البحر؛ بعدها فقد وعيه وخارت قواه وتم نقله إلي مستشفي رأس غارب مع بقية زملائه."

هيا بنا نرجع.. لقد أرعبتنى ياشيخ!

***

81

 

صون الخاطر عن ضلال الرأي
سند لخير الرجاء،
أما خلود النفس بعد فناء الأبدان،
فهو البقاء السرمد.

 

دعى الشيخ سامى صادقا لحضور حفل المولد النبوى.قال له:

سوف أكون منشدا فى هذه الليلة.. ارجو ألا تتأخر...

لبى صادق هذه الدعوة، وقال:

لابد من التزود؛ الزاد أهم شىء فىالحياة أريد أن أستزيد، معك أحيانا أشعر بحقيقة الحياة..

ضحك سامى من قلبه وقال:

أخشى أن أسلبك الحياة يوما ما!

رد صادق:

يبدو أنك سيطرت على حياتى فعلا!

ألا تعرف أن من الحب ماقتل؟ أحب القلب النقى

بالمناسبة أحيانا يلح فى ذهنى و يشغل بالى سؤال

ماهو ياترى؟

كيف أترك الحياة وأنا مستريح؛ وغير آسف على شىء؟!

قال له الشيخ سامى:

لك العمرالطويل؛ أنت لا تغضب الله

حياتنا قصيرة جدا؛ لم أكن متأكدا من هذا...

تنهد الشيخ قائلا:

سواء شئنا أم أبينا، فالموت قادم؛ اشغل لحظاتك بالإصلاح والذكر؛ تحرك ولا تخش الحركة،طالما قلبك معلق بالذكر؛ ولا تحزن!!

***

فى تلك الليلة البهيجة؛ أضيئت أنوار المسجد الضخم؛ مسجد سيدنا حمزة، يشاهد السائرون حول المسجد أضواء مبهرة تلفت الأنظار من أول الطريق القادم من ناحية شركات البترول أو ذلك الطريق المتعامد عليه؛ أو القادم من ناحية طريق القاهرة القديم؛ من أعماق مدينة فيصل على امتداد الطريق.

عندما اقترب من المكان انبهر صادق باللون الأبيض والارتفاع الشاهق للمآذن الأربعة التى تبدو تقليدا لمآذن الحرم، يقع المسجد على مساحة هائلة عند التقاء حى الصباح وحى الإيمان وطريق ناصر الذى توجد على ناصيته بالجانب الآخر محطة لوقود السيارات.

داخل المسجد؛ توجه برأسه إلى أعلى؛ شاهد آيات قرآنية مكتوبة بخط الثلث،على حوائط المسجد؛ دارت رأسه ليتابع الجمال حتى ينتهى عند انتهاء الدائرة العلوية فى منتصف المسجد؛ ليبدأ من جديد.كانت مكتوبة باللون الأزرق المحاط بخط أحمر رفيع، وهناك زركشات من الألوان الأصفر والأخضر،تمنح الشكل جمالا وتزيده رونقا..حملق فيها كأنها تنطق وقد كتبت على خلفية من اللون الكريم اللامع؛فوقها لاحظ مقرنصات وشبابيك أرابيسك مطعمة بقطع الزجاج الملون تنعكس عليها أشعة الشمس؛التى تجعلها تومض بشتى الألوان.

بعد الصلاة، جلس الجمع للذكر، تحلق الناس؛ وزع عليهم أحد الحاضرين كتيبا صغيرا؛ تفوح فى المكان رائحة عطر غامض أثير؛ قرأ الجميع الفاتحة ثم شرعوا فى القراءة من الكتيب الصغير:

"اللهم صلى بجميع الشئون فى الظهور والبطون على من منه انشقت الأسرار الكامنة فى ذاته العلية ظهورا؛ وانفلقت الأنوار المنطوية فى سماء صفاته السنية بدورا؛ وفيه ارتقت الحقائق منه إليه؛ وتنّزلت علوم آدم به فيه عليه؛ فأعجز كلا من الخلائق فهم ما أودع من السر فيه، وله تضاءلت الفهوم؛ وكلٌ عجزه يكفيه....فذلك السر المصون لم يدركه سابق فى وجودة ولا لاحق على سوابق شهوده؛ فأعظم به من نبى.. "،

بعد أن انتهوا من قراءتهم،بدأ سامى يتغنى بأشعار صوفية، فتعجب صادق من صوته الشجى...

صدح بصوت جميل وهو ينشد:

" أنتم فروضى ونفلى انتم حديثى وشغلى

يا قبلتى فى صلاتى، إذا وقفت أصلى

جمالكم نصب عينى إليه وجهت كلى

وسركم فى ضميرى والقلب طول التجلى

يسمع أصوات الحاضرين: الله الله...

---***---

آنست فى الحى نارا ليلا فبشّرت أهلى

قلت امكثوا لعلى أجد هداى لعلى

دنوت منها فكانت نار المكلم قبلى

حتى اذا وصل إلى قوله:

"صارت جبالى دكا من هيبة المتجلى

ولا سر خفى يدر يه من كان مثلى

وصرت موسى زمانى مذ صار بعضى كلى

أنا الفقير المُعنّى رقّوا لحالى وذلى

والحاضرون يرددون: "الله الله..؛ وقع أحد هم مغشيا عليه...

أخذ يعيدها؛ مع اختلاف طريقة الالقاء فى كل مرة؛ مما أشجى الحضور وكانت أجسامهم تتمايل مع حسن الإلقاء وعذوبة الصوت؛ كأنما كانت تسقى بماء الغيب؛ وتنتشى إعجابا.

---***---

بعد أن انتهى المنشد، قام الجمع وبدأوا ينشدون بأصوات رقيقة:

" عيدوا على الوصال عيدوا فان شوقى بكم يزيد

خذوا فؤادى؛ وفتشوه وقلبوه كما تريدوا

فإن وجدتم به سواكم علىّ زيدوا العباد زيدوا

وقربّوا الوصل والتدانى فالقرب للعاشقين عيد

أكمل جماعة أخرى غناء صوفيا جميلا؛ وتصاعدت أصواتهم كملائكة برره فى محراب الحب عندما صدحوا بقول الشاعر:

"ساقى الحما عرج علينا واسقنى كأسا وفيا

فالكاس أحلى والخمر أغلى والشرب أحلى رشفا وريا

قم ياموافى زال التجافى والخمر صافى اشرب هنيا

من ذاق قطرة من دن خمر فى العمر مرة أضحى وليا

قبلا سقاها للصحب طه شموا شذاها خروا بكيا

أخيرا، ردد الحاضرون دعاء سيد الاستغفار:

" اللهم أنت ربى لا اله الا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وانا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت وابوء لك بنعمتك على وابوء لك بذنبي، فاغفر لى؛ فانه لا يغفر الذنوب إلا أنت يا أرحم الراحمين "

---***---

 

82

 

أفواج تأتى وتروح، وازمان تتعاقب

الكل مزيج من الوان شتى،

لكن..

على البدء دوما تعود الدوائر، والى المبتدأ يعود كل آخر،

فالرجوع إلى الأصل طمأنينة،

والطمأنينة عود بدء،

وعود البدء قدر دهري

لم تتوان السيدة محاسن عن الوقوف على جانب نادر ومؤازرته بشتى السبل، كان ذلك واضحا فيما مر به من أزمات بينه وبين أخوته، حاولت جاهدة ألا يفلت منه قرش واحد حتى لا تتفرق ثروته وتتبعثر كما كانت تقول،دائما معه على الخطأ أو الصواب..

كان أحد أقربائها يعمل فى شركة استيراد وتصدير، ساعدت نادرا فى حصوله على توكيل السيارات الكورية الحديثة، تم تغيير المعرض القديم وشراء معرض حديث يطل على ميدان فسيح؛ يحاط بأبواب زجاجية ضخمة، تلمع حوائطه من الخارج والداخل،وتزدان بألوان من الثريات المنتشرة فى أماكن متفرقة، كما علقت الكشافات الضوئية البيضاء القوية أعلى الأبواب الخارجية؛ تفرقت باقات الزهور والورود هنا وهناك، استعدادا ليوم الافتتاح.

فى ذلك اليوم المشهود؛اتفق نادر مسبقا على عمل مأدبة لأصحاب الشركة الذين سيشرفون المدينة بقدومهم، فى فندق الرد سى الشهير والمطل على ميناء بورتوفيق والقناة، كانت جلستهم بقاعة الطعام بالدور الاخير، حيث يمكن للجلوس رؤية بانورامية للبواخر العابرة، وحدائق بورتوفيق الشهيرة، وجزءا من سيناء وعلى البعد يرى الأفق وقد ازدان بطيور النورس المحلقة خلف البواخر..

اعتمرت الطاولات بأطايب الطعام،كان هناك كبش مشوى يتصدر المائدة، وقد توزعت حوله أطباق الأرز المطعم بالمكسرت، كالصنيبر والفستق والمشهيات من المخللات المتنوعة؛ ازدانت بسلاطة الخضروات والطحينة وبابا غنوغ و الفتوش وغيرها،كما تناثرت زجاجات المياه المعدنية هنا وهناك، وانتشرت علب البيرة وأنواع متباينة من المثلجات على المائدة، استمر الجميع يأكلون ويزدردون، أطباق تأتى وأطباق تروح، كان المترودوتيل واقفا الى جوارهم يستمع الى همس طلباتهم، ليجيبها مسرعا، حتى سكنت الحركات، وبدأت الكلمات، وأخذ الجمع يسلكون أسنانهم، ويتجشأون أتى النادل بأطباق المهلبية بالمكسرات، وراحوا يتناولونها فى شغف وقد تصاعدت أصوات الملاعق وحفيفها..

***

كانت يد القدر أعجب من الخيال؛. بالرغم من أن صادقا لم يبح بمكنون صدره؛ إلا أنه كان مندهشا لتلك النهاية المفاجئة التى انتهى اليها نادر..

إثر عودته من الحفل، أحس نادر بهبوط و دوار شديد؛ ارتمى على السرير، بعد قليل جاءت زوجته لتوقظه، لم يبد أى رد.

***

 

83

 

وهو قصد كل رجاء،
كلما لاذ به مستجير،
انفتحت منه أبواب العطاء
فاذا بلغ منه الفضل تمام الجود،
ترفع عن استجداء العرفان،
بسط علي الدنيا سحائب عنايته
فلم يتسلط بجبروت الولاية
ولم يتدنَّ إلي حال اشتهاء
ولا نازعته رغبة... مما تعانيه النفوس

 

كالعادة؛ لاتأبه الدنيا لذهاب عظيم أو موت وضيع؛ ولا غنى أو فقير؛ فيها من القوة ما يمكنها من تجديد نفسها والقضاء على من يعيش فوقها؛ تجدد الحياة على أديمها وتحت أرضها، بكل ما وضع الله فيها من سحر وأسرار، هى تبكى فقط على كل جميل يتوارى تحت ترابها..

" الجنازة حارة؛ والميت كلب "

سرح صادق؛ وكان فى سبيله إلى موقع المدافن الجديدة التى تبعد عن المدينة بضعة كيلومترات على الطريق العام، طغت تلك العبارة على أعماق فكره وهو سائر فى الطريق؛ ضمن أعداد هائلة من البشر؛ حضرت لتودع أخاه الذى فارق الحياة وقت أن كان ينتظر المجد والثروة بعد فوزه بتوكيل السيارات.

تمكن خيط الذكريات؛ القريب منها والبعيد من التكشف على ساحة عقله فى شهود واضح لكل تفاصيل الوقائع والذكريات التي مرت كالسحاب..

بالرغم من الدوخة والاموال الطائلة التى أنفقها نادر وزوجته لينجبا طفلا،الا أن المشيئة الالهية كانت قد سبقت، ولم تتحقق لهما تلك الأمنية..

تراءى لصادق شريط حياته هو.. فقد من الله عليه بنعمة المدارس والجامعات، وقضى معظم الأيام والشهور والسنوات داسا عينه المجهدة (فى الورق) ومن نجاح إلى نجاح (على الورق)؛ وحصل فى نهاية مطافه على شهادة كبيرة (من الورق) أيضا؛ وتعين مباشرة فى الدرجة الثالثة الفنية مهندسا لا يشق له غبار، وأصبح يتقاضى كل شهر حفنة فلوس (من الورق أيضا ) لم تسعفه فى شبكة ولا زواج حتى صار عديلا " للمرحوم " أخيه - بإيحاء ومباركة من "المرحوم" أيضا؛ بمجرد انتهاء شهر العسل؛ لم يحس بسعادة؛ بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وانتهت لذة الشهر ليبدأ رحلته مع عناء الدهر، كانت الخلافات على الفلوس، لم تتركها أمها فى حالها، بل أصرت على أن تصل بهذه العلاقة الزوجية الى النزع الاخير.

عندما اقترب الجمع من المقابر،ركن سيارته جانبا،وأكمل سائرا على قدميه، بين الفينة والأخرى كان يمصمص شفتيه ويغمغم: "سبحان الله " وتهتز رأسه قليلا؛ علامة الإشفاق والتعجب من غرائب الدنيا وتصاريف القدر؛ قال فى نفسه:

" حقا..من تغطى بها عريان"..

---***---

 

84

 

أفواج تأتي وتروح،
وأزمان تتعاقب
الكل، مزيج من ألوان شتي،

 

تتوالى الأحداث كالمطر المنهمر،لا تلبث أن تنتهى من حال إلا ويكون البدء عنوانا لها، فى خطوط عديدة متقاطعة وغير متقاطعة؛ ودوائر لا حصر لها، تسير الحياة؛ متباينة؛ متنوعة كل التنوع..

فى مدخل المديرية، علق زكى واصل إعلانا صغيرا عن القيام برحلة الى الأراضى الحجازية لأداء فريضة الحج بالباخرة هذا العام، ضمن أنشطة الجمعية القبلية التى ينتمى اليها وقد تولى رئاستها، على الدرج؛ تقابل مع ماهر وهو يحمل صينية عليها فنجانى قهوة؛ تتضوع منها رائحة البن المحوج؛ استوقف ماهر السيد زكى قائلا له:

يا أستاذ زكى..لم أدر أن مصروفات الحج قد ازدات هكذا!

تساءل زكى:

كم معك يا ماهر؟

رد الأخير مموها:

معى الستر!!

تبسم زكى وقال:

يمكنك القيام بحج رجال الأعمال درجة أولى؛ وتسكن فى أبراج مكة!

سوف أشترى بضائع من الحجاز..

فرصتك هائلة؛ لأننا سنسافر بالباخرة كما تعلم!

ياكريم يارب!.

---***---

 

تحدث صادق مع حميه التهامى عن رحلة الحج التى يرتبها زكى واصل باعتباره رئيسا للجمعية؛ ودعا اليها كل من يريد من العاملين فى المديرية وذويهم؛ وكتب فى النهاية الاشتراك بأولوية الحجز.

قال التهامى لصادق:

لم أؤدى الفريضة حتى الآن!

سوف أحجز لك، أنت والحاجة محاسن فى هذه الرحلة؛ مارأيك؟

صحيح؟!

نعم..

ليس لدى مانع، وأتمنى أن يكون لى نصيب فى الحج..

فرح التهامى بهذه الدعوة، فهو يحب الترحال، ويتمنى أداء الفريضة قبل فوات الأوان.

استأنف قائلا:

ربما يكون الله قد كتبها لى لأكمل عباداتى..

وافقت السيدة محاسن على رحلة الحج، وخصوصا بعدما علمت أنها سوف تكون بالباخرة، كانت قد تغيرت تماما بعد وفاة ابنتها فضيلة، تعودت أن تقرأ القرآن، وبقدر استطاعتها صارت تحافظ على الصلوات؛ قالت للتهامى:

انا زى عبد الوهاب؛ طول عمرى أخاف من ركوب الطيارة..

كانت قد بدأت تعانى من آلام النقرس التى دبت فى مفاصلها وسببت لها رعبا..فى السنوات الأخيرة تعاطفت معها حفيدتها سلمى؛ وظلت معها لترعاها، حجز صادق استمارتى الحج باسم حميه التهامى والسيدة محاسن.

***

فى يوم شتوى من أوائل ديسمبر عام خمسة وألفين؛ كان ميعاد الرحيل.. كان صادق موجودا بالميناء ليودع حماه التهامى وحماته، وزملاء العمل المسافرين تحت اسم الجمعية؛ تزداد حركة الميناء كل عام فى موسم الحج وموسم العمرة، أخذ زكى واصل وماهر وآخرين بالأحضان، كان الوداع حارا....

---***---

 

85

 

إنها لاتأتي النكبات،
إلا وجرت في أذيالها بشائر الفرج..
ولا يرد وارد السعادة،
إلا جالبا، طي أكمامه، علقم الشقاء

هي دائرة أزلية دائمة الدوران..
فمن ذا يعرف حد النهاية؟
من ذا يملك معيارا،
نعرف به تبدلات حظوظ النفس من تلك الأشياء

..فافهم ذلك!

 

أثناء عودة الحجاج هذا العام كان صادق يجلس الى مكتبه؛ مد ساقيه على كرسي آخر أمامه كأنما يشكو من آلام المفاصل و الخشونة التي أمسكت بركبتيه حتى صار يتغنى بكل ما ينتمي إلى الزمن الفائت...

فى جريدته؛ جرت عيناه على أهم أحداث العام الفائت..انفلونزا الطيور؛ وفاة الملك فهد واغتيال رفيق الحريرى؛ زلزال باكستان، وأعاصير الولايات المتحدة...

نظر الى التليفزيون وهو سارح، الى أن شده خبر

قال المذيع إن الباخرة السلام 98 بها عطل أو شىء من هذا القبيل...

جرى الى الريموت كونترول ليرفع الصوت..

تخشب أمام الجهاز..لم ينم فى ليلته هذه مما سمعه...

غرق الباخرة التى أبحرت من ميناء ضبا السعودى الى ميناء سفاجة؟!...

---***---

نظر سامى الى شروق وقال:

غريبة!

ماهى؟

أنك لم تحجى مع زوجك!

طلب منى أن أذهب معه؛ ولكن والدتى كانت فى حاجة لمن يرعاها..

متى يعود الحاج زكى؟

قالت شروق:

لا أدرى؛ لم يخبرنى بشىء..

تساءل سامى:

أخشى أن يكون أحدهم على تلك السفينة المنكوبة!

لقد اتصل بى التهامى وأخبرنى أنه سيرجع على مركب السلام، ولكن لا أدرى أى سلام؟

السلام كم؟

لم يقل لنا...لا نعرف أى خبر عنهم..وأردف بقلق واضح:

لابد أن نسافر الى سفاجا لنسأل عنهم..حتى بفرض إن لم يكن التهامى أو أى واحد من معارفنا هناك...أعتقد أنهم يحتاجون النجدة بأى وسيلة..

رد صادق وقد اكتسى وجهه بإمارات الحزن:

سنسافر سويا إن شاء الله..

---***---

 

86

 

قد عصفت العواصف،
فلم تلبث غير برهة،
وأرعدت البروق،
فما سطعت إلا طرفة عين.
أما قد عرفت أنها فطرة الوجود،
وطبع الموجودات في أنحاء السموات والأرض!
 

على صفحة المياه الفيروزية، مد بصره إلى مسافات بعيدة تحمل معها كل أسرار البحر، يتفاوت الواقفون فى الحر والبرد، يزدحمون فى المكان فى تلك البقعة الصغيرة من الشاطىء، وقد احاط بهم أفراد من قوات الامن، فى ذلك المساء البارد من شهر فبراير، تحلق الجميع وقد شطح خيالهم عند التفكير فى تلك الأعماق السحيقة التى أخذت السفينة تغوص فيها رويدا رويدا، وقد تجمعت حولها صنوف من وحوش البحر، من المؤكد أنها وجدت ولائم شهية من تلك الفرائس الهابطة اليها فى الأعماق السحيقة تحت الماء، حتى تستقر أخيرا فى ذلك القاع الأسود؛ الدامس الظلام بخفافيشه البحرية، أرخى الليل ستائره على الحاضرين، صار الكلام همسا، أضاء البعض فوانيس حملوها معهم،الآخرون لا يكفون عن الكلام بصوت زاعق فى المحمول، يريد الأهل أن يطمئنوا...

أحس صادق ببرودة شديدة، كأنما يتسرب الجليد ليعبث بنخاعه،ارتعش جسده،ألقى سامى بطانيه على كتفه أخذها صادق ممتنا؛ وهو يردد بشفاه مرتعشة:

الجو بارد جدا..الجو بارد جدا، ياترى عملوا إيه؟

رد سامى:

ما العمل؟

فى تلك اللحظة كان هناك زورق يبحر تجاه الشاطىء، خرج منه جنود يحملون ملاءات أو أكياس لا تبين فى الظلام، تبدو بيضاء اللون؛ أخذوا يتناقلونها فيما بينهم، على ذلك الجسر الخشبى الموصل الى الشاطىء؛ وقد خيم السكون والجزع والرهبة على الجميع..

رأى شبحا قادما فى الظلام ضمن أشباح قليلة صعدت من الزورق أخيرا؛ وقد تلحفت ببطاطين تتحرك فى الظلام كالأشباح، البعض حملوهم على محفات..

 

فى نهاية الجسر الذى يحوطه جنود الأمن، رأه سامى..نعم إنه هو..ماهر...يهذى وكأنما يحدث نفسه، ماله؟ كأنما لا يدرى أى شىء ولا يعرف من حوله؛ لا يتلفت؛ فى عينيه هدوء غريب ونظرات شاردة؛ سمعه يقول بصوت ضعيف:

"لا لا... كل شىء راح...والتهامى استراح..

تحويشة العمر راحت 120 ألف ياهوه 120 ألف يا عالم ياهوه!!!

الناس راحت، زكى... يازكى؛ أنت يازكى؟ رد على بالله عليك اسمعنى يازكى..أنت هنا..بجبروتك وذقنك السوداء الطويلة يازكى.. أعذرنى..ماقدرتش أشدك..وزنك تقيل عليا..

رحت فين؟ رد عليا...

الكل راح يازكى... وانت فين ياترى؟

والتهامى بلعه البحر؛ السمك أكله....."

---***---

احتضنه سامى وهو يبكى؛ هدىء نفسك يا ماهر... ربنا موجود..

نظراته الشاردة أقلقت الحاضرين؛ أحس صادق أن ماهر حتى هذه اللحظه لم يتعرف عليهم، كانت نظراته اليهم تشى بذلك، كأنما قد عاد اليهم من زمن سحيق، أو كانما يولد للمرة الأولى ولادة عسرة، ينظر الى هذا العالم المتشظى نظرة فارغة من المعنى، لم يذكر اسم أى واحد منهم...لم ينطق اسم صادق ولا سامى ولا أى أحد من زملائه...

بين الفينة والأخرى كان يحاول أن يتكلم بأعلى صوته، يزعق، ربما ليتأكد من أنه مازال على قيد الحياة؛ ولكن صوته كان يخرج ضعيفا؛ محدثا نفسه:

عوضك على الله يا ماهر يا أبو سريع...ياحبيبى ياتهامى..رحت فين.؟ ولد يا حسن ناولنى الشنطة أوعى تقع منك البحر لونه أسودالبرد شديد يا اخواننا... حاسب الموجة عالية...

الكل رايح رايح...

بين الحين والآخر كان ماهر يقول بصوت عال:

البلد اتباعت؛ وتحويشة العمر ضاعت..

راح اللى راح يا قلبى.. وكُلّك جراح.!!.

الشنطة راحت،الحقنى يا حسن.. امسك التهامى..التهامى غطس... الحقونى!!!

اغتم صادق مما رأى..كاد يصاب بغثيان؛ أحس بغصة فى حلقه لم يدر مايفعل ولا كيف يتصرف؟ كاد يقع على الأرض؛ تحامل على نفسه وجلس القرفصاء؛ سحب نفسا من سيجارة أشعلها له أحد الحاضرين، أحنى رأسه تجاه الأرض؛ لم يتحكم فى دموعه؛ أخيرا قال الرجل لسامى:

اتركه يجلس قليلا؛ سيذهب الناجون كلهم فى سيارت الاسعاف والأتوبيس الى المستشفى..

---***---

 

87

 

لذلك لا يطيش قلب العاقل

فلا يفشل سعيه،

ثم إنه لا يقيد مراد النفس؛

بما لا ينبغى له؛

فلا يحزنه فقد

ولا يصيبه خسران..

" ليس فى الامكان أبدع مما كان "..

 

تتداولت الألسنة حديث الباخرة وأصبح موضوع الساعة للكبير والصغير، والعالم والجاهل؛ أصبح نكتة سوداء فى جبين الوطن؛، متى يعرف كل منا حدوده واجباته، ترى ما سبب هذا الحادث اللعين؟ أهو الاهمال كعادتنا؟ أم هو القضاء والقدر؟ الشماعة التى نعلق عليها كل أخطاءنا.

فى الصباح تجمع الموظفون فى حجرة الشيخ سامى، الكل يتلهف على الأخبار، جذبت الباخرة المنكوبة انتباه كل الناس؛ ظل الجميع متابعين الموقف ساعة بساعة، هذه الكارثة طالت عظام الناس وقرقشتها،؛ وقعت عيناه على إحدى المحطات الفضائية الخليجية، شاهد جزءا من برنامج تليفزيونى مع الناجين فى حادث العبارة..

" لا يظن الناجون حتى الآن أنهم نجوا.."

قال احدهم:

ضاع كل شىء؛ من العجيب أن أبقى حتى الآن على قيد الحياة!

"حوالى الساعة 10 مساء انبعث دخان كثيف من الدور السفلى؛ بعدها وجدنا الماء يندفع من خراطيم كثيرة؛ حتى ملأ المكان، سطح المركب صار كحوض السباحة، يبدو أن بلاعات الصرف كانت مسدودة، مالت المركب على جانبها... خفنا؛ بحثنا عن وسيلة إنقاذ..فى البداية رفضوا وحاولوا أن يطمئنونا، عندما تأكدت مخاوفنا، حدث هرج وهلع،الكل يبحث عن وسيلة إنقاذ، قالوا البسوا الجاكت... لبسنا؛ بعدها قالوا سيطرنا على الموقف.. اخلعوا الجاكت..خلعنا.. قلنا ما الحكاية يا إخواننا؟ نرجوكم نزلوا لنا القوارب، قالوا القوارب تحريكها صعب، الدنيا عتمة والساعة وصلت 2 إلا ربع...المركب مالت على الآخر، سمعنا أصوات فرقعة شديدة، سمعنا الصراخ واللطم ونحيب الأطفال والكبار، ازداد الرعب والمرج؛ الكل يجرى فى أى اتجاه، كان الركاب يقعون على بعضهم، أمهات وأولادهم فى أيديهم، بدأوا يتزحلقون على سطح السفينة المائل، يغطسون فى الماء فرادى وجماعات، تبتلعهم الأمواج؛ القليل من يظهر على سطح الماء، فى الغالب يغطس مرة أخرى.. تعلقت بقارب مطاط..رأيت طفلا يغرق أمامى بعد أن انفلت من يد أبيه الذى بدأ يغرق هو الآخر؛ أردت أن أساعده،حاولت أن أنقذه؛ ولكن وجدت نفسى بعيدا عنه وأنا لا أجيد العوم... الساعة 5 و نصف شفنا طيارة، الساعة 6 بعد المغرب وصل مركب حربى، قالوا أوعى أحد ينزل الماء...نزّلوا حبل وربطوه فى القارب، وشدونا واحدا واحدا.."

... ظهر على الشاشة إعلان تليفزيونى، بعده جاء ناج آخر؛ ليحكى حكايته..

"...ألقيت نفسى فى البحر؛ ظهرى إلى الماء ووجهي الى السماء، هدانى الله إلى أن أضع اصبعى على أنفى؛ كان جسمى يرتعد من البرد؛ عضلاتى تيبست، زالت الشمس.. أذّنت وأنا على ظهرى صليت الظهر والعصر تعودت أن اقرأ سورة تبارك، لم تأت نجدة حتى الآن؛ تذكرت أن اليوم جمعة وفى الجمعة ساعة إجابة.. اللهم عجل لنا فيها بالفرج؛ كنت قد سلمت أمرى كله إلى الله تعالى؛ تذكرت ولدى؛ فى حوالى الساعة الخامسة جاءت طائرة استمريت فى التجديف وحدى... ابتعدت عن موفع العبارة؛ استمرت الطائرات تحوم غابت شمس الجمعة بحثت عن الكشاف لم أجده؛ وبحثت عن الصفارة؛ وجدتها، تعبت...الكشاف مربوط دمس الليل، كلما اقتربت منهم ابتعدوا عنى حتى جاءنا قارب سريع؛ كنت أصّفر لهم ويصفرّون،لا يرون من علو الموج؛ أخيرا عثروا علىّ؛ جذبونى بالحبل إلى القارب؛ أخذونى إلى سفينة الإنقاذ لفونى بالبطاطين وغسلوا فمى بالماء... فى الحال أحضروا شرابا وطعاما وشايا ساخنا وأعطونى حقنة مسكنة للآلام ودواء للدوخة والغثيان"..

---***---

 

88

 

تتساند الذٌرا والوهاد علي متكأ واحد،
وينسجم رنين الصوت في الصدى
فيسعي اللاحق في إثر من مضي،
فلأجل هذا يقيم القديسون بحال من الزهد

فى مكتبه؛ جلس باحثا عن حزمة من ضوء الشمس، تأتى فى ميعاد معروف؛ استقبلها مرحبا ومنتظرا أيضا ليعرض ساقيه وظهره لمفعولها الساحر المجاني؛ الذي لم يكن يلتفت إليه أو يعرف قيمته أيام الصبا والشباب؛أحس بذلك المفعول جليا بعدما تغلغل الصقيع الى عظامه فى تلك الأمسية المشئومة التى قضاها فى الظلام بين البحر والتوجسات وذلك الانتظار البغيض الذى مثل فصلا من مأساة عظمى.

***

أنهى مجدى صادق ماجد أبو اليسر دراسته الجامعية، والتحق بالخدمة العسكرية الاجبارية، بعد وفاة عمه نادر عاد أخوه شكرى من القاهرة ليكون بالقرب من أبيه، وقام بادارة المخابز ومعرض السيارات الذى كان ضمن ميراث عمه..

قال صادق:

المال والبنون زينة الحياة الدنيا، اسمع يا بنى، لا تجعل المال هدفا لك فى الحياة، المال إما يميل بك الى الخير أو العكس والعياذ بالله،حاول دائما أن ترضى ضميرك،وأن يكون قلبك عامرا بالذكر والشكر..

لقد وصل المال الينا؛ ولكنه فى الأصل كان مصدره مال جدكم ماجد وقد ورث عن أبيه...ولو دامت الدنيا لغيرك ماوصلت اليك.. وهى حكمة أصيلة عرفها الأجداد..

***

كانت شروق توقع بعض الاوراق من صادق، عندما همس لها:

شدى حيلك!

الحمدلله..

ماذا ستفعلين يا شروق؟

مسحت عينيها بمنديل فى يدها؛ وقد ذرفت الدمع:

لا أدرى، ألا تشعر بالذنب

أنا؟

نعم أنت..ألم يصلك خطابى ورفضت حتى مجرد الرد عليه؟

أردت أن أرد عمليا

كيف؟

الشىء الذى لا تعرفينه أننى حضرت بنفسى، وافقت على خصم من الراتب،بعد عودة صاحب العمل من خارج المملكة؛ ولم أتكلم فى أى شىء؛ لأن هناك ترتيبات لابد أن أقوم بها أولا

ياسلام!

لقد كان والدى على عتبات الموت! ومع ذلك فكرت فيما كنت تفكرين فيه...ألم تقل لك أى واحدة من زميلاتك فى المديرية؟

نعم..قالوا إنك جئت لتبارك لى على الزواج!

مازالت عيناك تدمعان..

حدق فيها مليا وأردف:

اذن كنت تحبينه..

أنا حزينة على حظى..

حقا؟!

أمازلت لا تدرك هذا؟

اعتقدت أنك نسيتى بعد الزواج..

كان – الله يرحمه-..سىء الطبع غليظ المعاملة، متزمت.. مثل أهله..

لم أسمع عن حياتك الزوجية شيئا؛ إلا اليوم!..

لم أتكلم مع جنس مخلوق عن حياتى الخاصة؛ إلا معك الآن..الآن فقط...

قال آسفا ومواسيا:

أرجو ألا أكون قد ضايقتك!

حدثته نفسه؛ وقد ثار فى قلبه شوق قديم:

سيقضى الله أمرا كان مفعولا!

---***---

 

89

 

ثمة غيب في خفاء مستور،
حاز كمال بدء الوجود،
قبل شهود السماء والأرض،
ذلك الغيب فيض أسرار،
محجوب بشطآن الصمت،
مشهود بعين السكون.

 

مرت شهور قليلة على ذلك الحادث الأليم؛ أحيانا يرى فيما يرى النائم بناء شامخا؛ على شاكلة البرج؛ يعلو ويعلو علوا شاهقا، وكلما ارتفع ضاقت مساحته؛ وقد وقف هو على سطحه الأملس، صار فوق دائرة لا يتجاوز قطرها ثلاثة أو أربعة أمتار، لا يوجد بحوافه سور؛ ينتابه رعب شديد كلما اتجه نظره إلى أسفل، لا يرى سوى علامات ضبابية؛ لا توجد معالم واضحة لشىء ما..الارتفاع شاهق جدا، والفراغ المحيط كثيف؛ شاسع، لا يستطيع أن يحدد أى معالم لأى شىء؛ حتى الطرق الواسعة اختفت معالمها تماما، لم يتبق منها سوى خيوط رفيعة سوداء؛ لا تكاد تَرُى...

إلى جواره ظهرت فتاة جميلة؛ بدأت الفتاة فى التلطف معه؛ حاورته؛ تعجب من ظهورها المفاجىء، فى قرارة نفسه فرح بها؛ بالرغم من المخاوف التى أحاطت به، أمسكت يده وهى تحدق فى عينيه؛ قبض علي يديها، تحركت كمن تحاول أن تراقصه؛ تماسك مدعيا الثبات...

انتابته قشعريرة؛ لو زلت قدمه سيسقط إلى مثواه الأخير؛ ربما يضيع جسده فى الفراغ ويتلاشى؛ وتختفى معالمه نهائيا ولا يبقى منه أثر؛ الأكيد أنه سوف يهبط من حالق؛ ويرتطم هذا الجسد ارتطاما عنيفا؛ ربما على سطح معدنى أو أسفلت الطريق، أو ربما كان الجسد محظوظا ويسقط فى المياه؛ أى مياه؛لا يهم، ولكن المهم ألا يشعر بالألم؛ تمنى من الله ألا يتعرض للمعاناة الشديدة التى يكاد يفقد وعيه لمجرد التفكير فيها، على البعد الشاهق تناوبته الهواجس، تقريبا شل تفكيره، نظرت إليه بابتسامة لعوب حانية وقالت:

مالك؟

حاول أن يلملم شتاته وقال:

لا شىء..

أخيرا رأى طريقا ممهدا أمامه؛ قد اصطفت على جانبيه جموع من البشر؛عاين فيهم وجه أبيه الجميل، وهو يتبسم له بإشراقة وتفاؤل، وجد أطفالا يحملون الزهور وباقات الورود وكأنما تمتد إليه الأيادي ويفوح أريج الرياحين قائلا له: تفضل.. فتحت له الأقدار بابا كان عصيا عليه فى الزمن الماضى، يمكنه الآن أن يلجه فى سهولة ويسر، رأى وجه حبيبته - التى كانت و ما تزال - أحس بعد زمن طويل؛ أنه قد عثر على نفسه بعد أن مضى من العمر الكثير... صحا من نومه مستبشرا؛ قال لنفسه: لرب ساعة سعادة وهناء تعوض ماانقضى من العمر؛ ورب شهر أو عام أبرك وأوفر حظا من أعوام عديدة...

---***---

جلس- كعادته كل صباح- فى شرفة منزله؛ وقد وضع أمامه فنجان قهوته، سقى الزرع فى أصصه المعلقة، تمتع برؤياه، ملأ صدره بهواء ناعم عطر؛ وأحس بالتجدد يشمل الحياة، كما حدث له هو، شعر بالفرحة تشمله الى حد الانتشاء، انتبه الى زقزقة العصافير،اتجه ببصره الى شجرة الكافور التى تواجه منزله، وكأنما يراها للمرة الأولى؛ زالت عنه كل آلام مفاصله التى لازمته فى الشهور الأخيرة منذ عاد من رحلة سفاجا، تأكد أن الدنيا لا تقف برحيل أحد، كما صار واثقا أيضا من أن حياة الانسان قصيرة، وأنها لاتتسع للحزن الشديد، ولا للبهجة الطاغية، حامت بذهنه قصة الجنديين المحبوسين، التى قصها عليهم والده، أيام الطفولة، وجدها تطفو على سطح الذاكرة، رغما عنه؛ وجد مشاعره متناغمة وهادئة تجاه الناس والأشياء والاحداث... تهادى إلى مسامعه صوت عبد الحليم وهو يغنى:

آه من حيرة قلبى

وآه من دمعة عينى..

كل ما أقول أنساك توحشهم نارك وتصحيني!

أجري وأسأل عنك قبل ما انت تجيني..

---***---

 

90

 

إن الشجرة السامقة،

تنبت من بذرة ضئيلة؛

والبناية الطالعة للسحاب،

تتأسس على رمال وحصى،

وطريقا مقداره ألف ميل يبدأ بخطوة واحدة

أمتلات نفسه بشرا وسرورا؛ فما زالت صفحة المياه تتراقص بزرقتها الصافية، والأمواج الصغيرة تتهادى فى تتابع متراخ، ومازال ضوء الشمس ساطعا بلونه الذهبى، ندف متتالية من السحب البيضاء الناصعة تجوب المشرق؛ تتحرك فى تراخ؛ لا نملك الا أن نتعجب منه وبه، تسرى على صفحة السماء الشاسعة التى تنبئ عن ضآلة الإنسان فى هذا الكون الهائل المحكم،أراحته فكرة طرأت على ذهنه فى هذه اللحظة بالذات؛ شعر بالامتنان لله الذى لم يطل عمر الإنسان إلى مئات أو آلاف السنين، حتى لا يزداد ظلما، ويفيض طغيانه على خلق الله... أُفٍ لهذه الفراعين الصغيرة؛ التى التى تحاول جاهدة أن تملأ أعيننا بالقذى وأن تحشو آذاننا بالطين، وأن تقطع ألسنتنا!!..

إنك لا تستطيع أن تسلخ الفرعون من جلده؛ فإن طال به البقاء سوف يرسى دعائم حكمه؛ ويتفرغ للقبض بيد من حديد؛ على كل موارد الدنيا؛ سوف لا يترك سوى الفتات لمن حوله، لو كان الأمر بيده لما ترك شيئا لمن بعده من أجيال، سيكون البشر عرضة للاضطهاد والذل زمنا هائلا؛ إذا ما بقى مسيطرا على وسائل الحياة، ومنابع الثروات؛ سيظل متحكما فى المسيرة آمادا طويلة...

مر شريط الأحداث أمام ذهنه، كان ماهر قد تردد على عيادات التأمين الصحى، وتم عرضه أكثر من مرة على الأخصائي النفسى،الذى أوصى له أخيرا بعرضه على مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، حيث اختفى هناك، لم يعد أحد يتذكره إلا قليلا.

---***---

فى فرح عائلى صغير ضم العروسين والدكتور مؤمن، والأخت ليلى؛ كما حضر الشيخ سامى وثلة من زملاء العمل وأهل العروس، كان فرحا كالحلم..

أحس صادق بالهدوء النفسى والدعة، كلما تكلمت عروسه، أحس بنشوى، كأنما يحادث نفسه. لم يدر لم كانت الأقدار هكذا! كان يتمنى فى قرارة نفسه أن يكون الرجل الأول والأخير فى حياة حبيبته التى ملكت عليه شغاف قلبه؛ وكانت عاطفتها نحوه بمثابة الجذوة التى لا تنطفىء؛ تشجعه فى الخفاء على الاستمرار فى الحياه؛ وأداء عمله كما يهوى بل وأكثر.

تحولت عيناه الى سفينة عابرة؛ كانت تتحرك كالعادة بهدوء، هناك مساحة ممتدة بين الخور والقناة لم يسبق عمل مشروعات بها؛ مازالت بكرا؛خشى أن يفاجأ بين يوم وليلة بقرار أهوج يضيع نشوة الإستمتاع بالرحابة والهدوء؛ تحتاج الى فكر سليم وقلب سليم ويد نظيفة لتقوم مقامها منطقة سياحية عالمية. لا بل يمكن أن تكون حدائق غناء ومنتزهات، وشوارع واسعة

منسقة، نواه للاحتفاء بالمواطن، شرد ذهنه، وهو ينظر من بعيد، حتى اختفت السفينة عن الرؤيا.

أحس أنه يريد أن يعتذر للمدينة بالرغم من أنه لم يبح إلا بقسط صغير من الحقيقة؛ ما حكى سوى ما حدث؛ تمنى أن يرقى الحكى؛ ولكن ما يعزينا أن الله خلق الخير والشر؛ وقضت حكمته أن يكونا متنازعين متعاركين مادامت الحياة...معذرة يا مدينتى فيما خطه القلم؛ فقد كان غصبا عنى!

فى أعماق نفسه؛ جنح به الفكر؛ وشط به الخيال؛ هامت روحه بالمحبة والشوق؛ للعودة للطبيعة، للرجوع إلى الأرض والسماء والماء؛ إلى شاطىء البحر؛ نظر إلى عين الشمس وقد هبطت؛ وهدأت حمأتها،واصفر لونها،.. وقد رسمت لوحة جميلة؛ امتد لون أشعتها الارجواني من خلال ندف السحاب، أوشكت على الاختفاء خلف الجبل، بأشعتها المنعكسة على صفحة المياه...

وتخيل نفسه وقد خلع ملابسه؛ وصعد عاريا إلى أعلى جبل عتاقة، وقذف بجسده سعيدا راضيا؛ منتشيا بالأمل الخفى، ليمتزج بالهواء والرمال والماء، ويذوب ذلك الجسد ويتطهر؛ ليموت حبا؛ فى الحياة؛ فى الناس وفى الأمل وفى المدينة التى عشقها وحيّرته؛ وليقدّم روحه راضيا قانعا من أجل الخلاص؛ من أعلى الجبل؛ هبط الجسد ليختلط بمفردات الطبيعة، أحس بالانتصار وهو يهبط مغشيا عليه ومنتشيا وهو يصرخ بأعلى صوته؛ ولكن لا حياة لمن تنادى...

اقترب الجسد من البحر؛ انحدر اليه؛ اختفى رويدا رويدا تحت سطح الماء..

تعلق بصره بتلك الطيور الهائمة فى الفضاء وهى تتبارى، فرقة باليه تقوم باستعراض رائع لقدرتها على العلو والسمو، بعدها طارت فى نظام بديع لا يصطدم أو يحتك فيها طائر بآخر، لا تترك دخانا أو تعكر للفضاء صفوا، استمر محدقا فيها؛ وهى تبتعد فى السماء رويدا رويدا؛ حتى اختفت تماما وراء ذلك الأفق البعيد.

انتهت— أغسطس 2007

 

افتتاحيات الفصول مأخوذة من الطاو؛ والطاوية هى إحدى أكبر الديانات الصينية القديمة التي ما تزال حية إلى اليوم إذ ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد، تقوم في جوهر فكرتها على العودة إلى الحياة الطبيعية..