مع كلّ عمل جديد للكاتب محمد المخزنجي ـ كهذا الذي سيتناوله المقال، الذي غدت فيه مقدرة الكاتب الفنية أكثر تبلوراً مع تعميق لنزعته الإنسانية ـ تتجدد الحاجة إلى التأكيد على أهمية هذا الكاتب والتذكير بمزاياه العديدة المتفردّة التي جعلت منه واحداً من بين عدد قليل من الكتاب العرب الأكثر شعبية بين قرائه. والشعبية التي حققها المخزنجي، وهي هنا ليس بالضرورة، بالمقتضى العددي، وإن كان هو لا يفتقدها بمعناها هذا، قياساً إلى عدد طبعات كتبه، لابدّ من أن يتم تمييزها عن تلك المتوَهَّمة، المصنوعة بقوة الإعلام والمفروضة من فوق، والتي جعلت من الأدب الحي، الحق خارج عالم الأدب، بما أمْلته، من مواصفات جديدة تتنافر مع كل ما هو أصيل، أي كل ما هو حائز على الشروط “الطبيعية” للإبداع.
هنالك خصيصة أساسية، هي من صلب مقومات ومن ثمّ مزايا كتابة المخزنجي، تتمثل بالمنحى الشعري لقصصه، وذلك عبر تفصيلين رئيسيَين، الأول، في رؤية الكاتب، في حد ذاتها للأشياء، أي أن يكون تعاطيه مع مفردات الوجود وما يحفل به من ازدهارات وانسجام أو انطفاءات وتفاوتات وصراعات، من منطلق ومفهوم شعري، والثاني، في ترجمة وإنفاذ هذه الرؤية، بمعطى شعري من خلال نحت بنية النص وإقامة العلاقات اللغوية فيه، حتى يغدو نصه، في الأخير، كما في الكثير من الأمثلة، قطعة شعرية تكاد تخرق الشرط السردي، شكلاً ومحتوى. وهو ما كانت عليه أعماله، بدءاً من “الآتي”، كتابه الأول، مروراً وبشكل خاص بالنصوص المجسِّدة لهذا المسار، كما في مجموعات “سفر” و “رشق السكين” و “البستان” وقد أطلق على كلٍ من الأخيرَين وصف كتاب قصصي، ولهذه التسمية صلة بنزوع الكاتب إلى التحرّر والتجريب بعيداً عن الشكل المستقر لكتابة القصة، حتى في تقسيمه للكتب الثلاثة هذه إلى وحدات بعناوين مختلفة، الأمر الذي يشي أيضاً بحس الكاتب النقدي.
لكن في مجموعة “صيّاد النسيم” وإن ظلّ الكاتب وفياً لرؤاه الشعرية غير أنه على صعيد الشكل كان أكثر التزاماً بالبناء المعهود للقصة، بالتزامن مع غنى مضامينه وقوتها، كما معالجته المرهفة لمختلف المواقف الإنسانية، حدّ إرعاش الدمعة في العين، خاصةً حين يتعلق الأمر بقضايا مثل الاستلاب والقهر أو كل ما يجعل من الإنسان ضعيفاً وهشاً في مواجهة ظروف أو قوى لا قبل له بها. وتُستحضر هنا، تمثيلاً، قصة “عُري أحمر” وهي واحدة من ثلاث قصص في المجموعة، إلى جانب قصتَّي “سيل الليل” و”خمسون صوتاً تحت شمس الشتاء الصغيرة”، التي تتحدث عن السجن، وخلالها تجلّت براعة الكاتب في تصوير العالم الداخلي للسجن وهو عالم عجيب، قاتم، لا يمكن للإنسان العادي تصور ما يجري، ثمّة، وراء الجدران العالية من مظالم وفضائح كأنها الوجه الخفي، الموارَى، لكن الصارخ لسياسة دحر ووأد الإنسان، في منطقتنا.
ولطالما عالج الكاتب موضوعة السجن وعاودها في غير كتابٍ له، ففي “رشق السكين”، مثلاً، هناك أربع قصص مكرّسة لذلك. وإذا كان التعاطف مع السجين السياسي هو أمر بديهي، في الغالب، خلافاً للموقف من سجناء الإجرام، فإنّ الكاتب وبفعل مقدرته التصويرية واللمسة الإنسانية التي يُضفيها على مشاهد السجناء البسطاء استطاع أن يحمل قارئه على التعاطف مع هؤلاء دون السؤال أو التدقيق الكبير في الأسباب التي ساقتهم إلى السجن، وهذا يدخل ضمن مبدأ أو “شرط” الإقناع في الكتابة، هذا الشرط الحاسم، كعلامة إبداع. فالقارئ يجد نفسه إزاء حالة إنسانية خالصة كما تجسدها لواعج وتطلعات السجين التوّاق إلى العودة للحياة العادية بما تعنيه من نعمة الحريّة حتى في أبسط تجسداتها وصورها.
“خمسون صوتاً”، الآنفة الذكر، هي قصة عن استدلال السجناء على بعضهم من خلال أصواتهم بما أنهم كانوا ممنوعين من أي فرصة للاختلاط، وحين يُتاح لهم اللقاء بعد مطالبات واحتجاجات، فإنهم يأخذون بـ “تركيب” الأصوات على أجساد أصحابها وهنا تحدث المفارقات. وهي ثيمة متميزة ومؤثرة، وقد سبق للكاتب يوسف إدريس أن عالج في قصة “مسحوق الهمس” ـ مجموعة “النداهة”، ثيمة تواصل السجناء بالكلام وهم في زنازينهم عبر الجدران باستخدام أواني الطعام، وكانت لدى إدريس “الكسرولة”، ولدى المخزنجي “القروانات”، وذلك بان توضع فوهتها على الحائط ويقرب السجين فمه من قاعها ليتكلم. ويفترق مضمونا القصتين، إجمالاً، إلا في هذه الجزئية، فلدى إدريس كان الهاجس الجنسي بسبب الحرمان، مُهيمناً على السجين الذي كان يعتقد أن لا فاصل بين زنزانته وعنبر النساء سوى الجدار، من هنا تبدأ مغامرته لإيصال صوته لامرأة. و”مسحوق الهمس” هي من القصص الكبرى في الأدب. ومقابل الوجوم في العوالم التي يتعرض لها المخزنجي في “صيّاد النسيم”، فثمّة أيضاً ما يحمل القارئ على الضحك، حين يجعل الكاتب شخصياته عرضة للمفارقة في ما يجري لها أو حولها، بما يتقصّاه أو يصنعه من ظروف تتصف بالغرابة واللامألوف، كما، على سبيل المثال، في قصتي “ابتسامة أم كيسنجر الوحيدة” و”وزة نهاية العالم” وكلتاهما تنتمي إلى ما يمكن ردّه إلى واقعية سحرية مصرية.
وكثيراً ما يتزاحم ويختلط السحري بالعلمي بالتخييلي، كما انّ القصة تتحول لديه وبدون ذلك الإثقال الذي يبدو خارج سياقات السرد، إلى مصدر معرفي محايث للنص، باستطرادات لا تَخلّ ببناء القصة. وهو لا يتردد في ذكر عناوين بعض الكتب أو الشخصيات أو القبسات التي يستدعيها سياق النص لديه كما في “شجرة الباوباب”، حيث الإحالة إلى كتاب هانا هولمز “الحياة الخفية للغبار”، أو إلى المعماري المصري حسن فتحي وكتابه المعروف “عمارة الفقراء”، كما في القصة التي تحمل اسمها المجموعة، وهو بصدد الكلام عن العمارة الحديثة التي ينتقدها بقسوة. فالمباني السكنية الحديثة شبيهة بالأفران كما يرى الكاتب وهي مصممة دون أي حسبان لاستقبال نسمات الهواء العذبة في فصل الصيف، الآخذ بالتفاقم، وقد تمكن الكاتب هنا، في سعيه لاصطياد النسيم، من صنع قصة متفردة قائمة على المفارقة، من موضوعة تبدو للوهلة الأولى غير قابلة للاستثمار. كما أنه لا يترفع عن تضمين جملة للسادات من خطاب له عن الديمقراطية في معرض السخرية من ذلك كما في قصة “خمسون صوتاً”.
موقف كهذا هو في الصميم من توجّه الكاتب ورسالته في إدانة السلطة ونقدها والدعوة إلى مقاومة منظومة الاستبداد، دون التواني، في الوقت نفسه، عن نقد المجتمع الذي يرتضي السكوت على مآثم الحكم، أو في مظاهره السالبة الأُخرى، يقول ذلك بشفافية الرمز وبفنية رفيعة. كما في قصص “بلغة الإشارة”، “زومووو” و”كرسي يمشي على رجلين بكبرياء” هذه القصة المُحكمة التي تنتصر لثورة 25 يناير المصرية، دون أدنى شعار، ليتوصل القارئ إلى استنتاج مفاده، ومن خلال حالة بطل القصة “محمود أيَامَه” الملقّب بمحمود الكرسي، لاتخاذه شكل الأخير في مشيته، نتيجة التعذيب الذي تعرض له، حتى دون أن يكون معارضاً بالمعنى المباشر، أنه لو لم يكن للنظام سوى جريمة تحطيم جسد هذا الإنسان، لكان يستحق الثورة عليه.
وكسمة أُسلوبية صارت دالة عليه، يوظف الكاتب معارفه وخبراته الطبية في أكثر من موضع من المجموعة، مستعيناً باختصاصه في الطب النفسي والطب البديل، مثال ذلك قصص: “تميمة الألزهايمر”، “ننتظر ونراقب”، “وزة نهاية العالم” و”سيل الليل” وسوى ذلك، فمعظم القصص الست عشرة في المجموعة لا تخلو من إشارات كهذه، إن كانت عابرة أو تفصيلية. والأمر لا يقتصر على ما هو طبي، فالتفكير والتعليل العلمي الذي يُبديه الكاتب إزاء الكثير من الظواهر في قصصه سواء ما تعلق منها بشخصياته أو ما يحيطها، يُعدّ علامة من علامات المخزنجي الأُسلوبية ويكشف عن مدى قراءاته واطلاعه في أكثر من مجال. وهو ما تشهد عليه أيضاً مقالاته المشوّقة، المتميّزة، كذلك كتبه المخصّصة للناشئة بطابعها القصصي وبمسحتها العلمية المحبّبة لتكون الفائدة مزدوجة بحق، وهو ما ينطبق على كتاب الرحلات الضخم “جنوباً وشرقاً ـ رحلات ورؤى”، وسوى ذلك.
إن الخلفية العلمية للمخزنجي والشغف المتواصل بالمعرفة وتعزيزها أضفى طابعاً علمياً رصيناً على نظرته لفن القصة والأدب عموماً، فضلاً عمّا لذلك، أساساً، من تدعيم لأدبه. ويمكن القول أنّ المخزنجي وبالثيمات التي يتناولها أو نوع معالجته لها، يقترب من أساطين القصة العالميين، كتشيخوف، تورجنيف، سومرست موم، همنغواي، غارسيا ماركيز، ماريو بينيديتي، وسواهم، هؤلاء الذين أغنوا الحياة الأدبية بامثولات باقية بقاء الإنسان وانشغالاته. ولا غرابة في أن يكون المخزنجي بالمواصفات التي ذُكرتْ فهو وريث تقاليد سردية ريادية راسخة، عرفتها مصر وتواصلت عبر أجيال من الكتّاب صار لأسمائهم وقعها الخاص كرديف للإبداع والتميّز، بدءاً من الأعمدة كيوسف إدريس ونجيب محفوظ، وصولاً، والأمر يتعلق بعالم السرد، مصرياً تحديداً، ووفقاً لذائقة أو ذاكرة شخصية، إلى صبري موسى، مجيد طوبيا، بهاء طاهر، محمد مستجاب، خيري شلبي، يحيى الطاهر عبد الله، عبد العال الحمامصي، محمد البساطي، وخيري عبد الجواد.
محمد المخزنجي: “صيّاد النسيم“
دار الشروق، القاهرة 2018
232 صفحة.
جريدة القدس العربي