يستدعي الناقد الكبير نصوص نجيب محفوظ وما تنطوي عليه من قيم ليحاكم بها صفقة القرن، وكأن محفوظ يتناولها لو كان حيا لايزال، وهو مقيم بيننا بنصوصه تلك. ويستمد منها الحكم الذي لا يفصل بين الأخلاق والسياسة، ولا يختزل الحق إلى حفنة نقود، ولا يخلط بين الحق والباطل والدولارات.

ماذا لو حاكم نجيب محفوظ «صفقة القرن»؟

فيصل درّاج

 

يرى البعض في العنوان، ربما، افتعالاً لا معنى له، متوسّلاً أسباباً ثلاثة: الروائي الكبير غادرنا منذ زمن، ولم تكن المسألة الفلسطينية من مواضيعه، وهو، في التحديد الأخير، روائي مادته اللغة والمتخيّل. تبدو وجهة النظر مقبولة لولا حجج ثلاث تقابلها: كان محفوظ مثقفاً حداثياً يرى في السياسة "أساس حياتنا"، يقرأ الظواهر جميعها بمنظور سياسي، وكان نصه الروائي، ثانياً، مهجوساً بالدفاع عن القيم الإنسانية النبيلة المشدودة إلى الحق والحقيقة. والأمر الثالث، وهو الأكثر أهمية، أنّ السؤال المطروح لا يخترع ما قاله الراحل، إنما يقصد الإجابة المنشودة في نصوصه الروائية.
حين قال الراحل جمال الغيطاني لمحفوظ: «أجد أحياناً تناقضاً بين بعض ما تقول في أحاديثك وبين ما أقرأه في إنتاجك الفني»، أجاب محفوظ باختصار: «صدّق إذن العمل الفني». يتكشّف العمل الفني، أي روايات محفوظ، مرجعاً وحيداً للقضايا المختلفة، بدءاً من عمله الأول (عبث الأقدار) انتهاءً بروايته ما قبل الأخيرة: (يوم قتل الزعيم")

تتردّد في الرواية الأولى (1939)، من مرحلته الفرعونية، مقولتان: العدل والحرية، إذْ لا ضرورة للسلطات السياسية إن لم تكن عادلة، ولا معنى للإنسان إن لم ينعم بالحرية. اقترح محفوظ رداً على فرعون يحتكر السلطة ويعتصم بفردية مطلقة، "حكماً تشاركياً" لا يغبن الشعب ولا يستخف بالسلطة، يوزّع الحكم العادل على الأطراف جميعاً. لا مكان لمقولتي محفوظ في «صفقة القرن» حيث نصيب كل طرف من قوته، والنصيب الأكبر للطرف الأقوى، عملاً بقاعدة أثيمة تساوي بين الحق والقوة، فإن رفض طرف ما أعطي له، وقعت عليه "عقوبات" شديدة، كأن تحاصر السلطة الفلسطينية مالياً وتقطع عنها المساعدات، وأن يضيّق على أهل غزة تضييقاً لا مزيد عليه، وأن يُقهر أهل القدس لسبب أو بلا سبب، إلا لتمسّكهم بحقوقهم الموروثة. يصبح القتال عن الحق الوطني، والحال هذه، واجباً سياسياً لا يمكن تجاوزه، صرّح به محفوظ، بلا قناع، في روايته (كفاح طيبة)، حيث المصري الشجاع يحارب المحتل الخارجي ويطرده.
عطف محفوظ على ثنائية العدل والحرية مقولة المسؤولية الوطنية المعنوية، التي تلبّي الحس السليم ولا "يعاقبها" إلا من امتهن الحس السليم. وآية ذلك الفرعون (رادوبيس) المبذّر المتهتّك، الذي أسقطته: "رعية" تتمسّك بالعدل والحرية. وإذا كان محفوظ قد حكم على الحاكم المبذّر بالنبذ والسقوط، فما سيكون موقفه من أية سلطة عربية تبيع وطن الفلسطينيين "بحفنة من دولارات"، وتخصّص حفنة كبيرة "للسلطة الفلسطينية"، وتعد الفلسطينيين إن تخلّوا عن أرضهم بعيش رغيد؟

لكأن الدولار الأميركي، في ذاته، عملة مباركة، وبديلاً عن تاريخ فلسطين وكرامة العرب. وما يزيد الأمر "دَنَساً" أنّ موزّع النقود ينطق باسم إسرائيل قبل أن يصل إلى مصالحة؛ فيهب القدس لإسرائيل ويبارك ضمّها إلى الضفة الغربية والجولان، كما لو كانت إسرائيل وحدها مرجعاً للعدل والحقيقة، والعرب جميعاً كمّاً نافلاً ولا حقوق لهم، حتى لو تباهوا بثروة نفطية لا تنفد ومتعددة المصائر.

سخر محفوظ في روايته (القاهرة الجديدة) من عائلة فقيرة منحلّة تبيع جسد ابنتها إلى زوج - قوّاد، يقايض جسد زوجته الجميلة بوظيفة "معتبرة" يرعاها وزير لا أخلاق له. من المحقق أن الفلسطينيين لا يقايضون الوطن بحفنة واسعة من النقود، لأنه وطن يغاير معناه كلياً أجساد النساء، حتى لو كانت بديعة التكوين. وصف محفوظ الزوج الداعر قائلاً: "انتصر بعهره" مقترحاً علينا وصفاً جديداً "يوائم المرحلة"؛ عنوانه "الانتصار العاهر، أو عهر الانتصار".

ولعل حسّ محفوظ بالمسؤولية الوطنية الأخلاقية هو ما دعاه إلى العبث بموظف مرتشٍ في روايته "ميرامار"، فالرشوة عار، مهما تكن مستوياتها، وإلى الاحتفاء بامرأة فقيرة تعرف معنى الكرامة تشبه، مجازياً، فلسطينيين مضطهدين تقاوم عيونهم، منذ مائة عام، المخرز الصهيوني.
أعطى موقفاً لا التباس فيه عن علاقة السلطة بالأخلاق في نص روائي أقرب إلى الوصية، عنوانه (يوم قتل الزعيم)، أمطر فيه "زعيماً" فارغاً متغطرساً بمتواليات من صفات سالبة، فدعاه لصاً و"زعيماً لعصبة لصوص"، يثير السخرية إن ادعى "الانتصار"، وسخرية أوسع إن فرش صدره بالأوسمة، إلى أن يقول "كان الراحل في هزيمته أكثر هيبة منك في انتصارك"، والراحل زعيم وطني سبق الزعيم المتغطرس. أكّد أولوية القيم على غيرها. فلا معنى لنصر أو هزيمة أو "دولار" و"شيكل" إن قوّض الشرف وتهاون في الحق، وهو ما تصرّح به "صفقة القرن" وأشياعها والمؤتمرات الملحقة بها. لو تأمل الروائي المصري "صفقة القرن" لأوغل في الضحك ولأطلق قهقهته العالية الشهيرة، ولنظر إليها وإلى أنصارها نظرته الصائبة التي سخرت من "الزعيم الفارغ "المتغطرس"، الذي كلما زادت أوسمته تناقصت كرامته"

استهل محفوظ مجموعته القصصية (الشيطان يعظ) بقصة عنوانها: الرجل الثاني، مستأنفاً عالم "الفتّوات"، الذي عرفه جيداً، واستخدمه كمجاز للشر والقوة العمياء. أدرج في قصته "فتوّتين" لا ينقصهما من الضخامة والغلظة شيء، وضع بينهما إنساناً بسيطاً مقهوراً، استخفّا به وحاصراه وعبثا بحقه، وتصدى لهما وانتصر ومات. لكأن محفوظ يقول بصوت جهير: لا تتعيّن قيمة الإنسان الحقيقي بنصر أو بهزيمة، بل بموقف مقاتل يواجه الشر ويحتفي بالحق. لا يبتعد إنسان محفوظ المقهور عن وضع الفلسطينيين، القادرين على التصدّي للشر والاستمرار في الحياة، مواجهين فتوّات جدداً، عضلاتهم نقودهم وضخامتهم من شرط عربي راهن كثير الثقوب والمبكيات.
أخذ الفن المحفوظي في أحواله المختلفة بالقيم النبيلة مرجعاً، ومن مواجهة الظالمين قاعدة. صدر موقفه عن بصيرة ثاقبة، وتكامل معنوي – جمالي، يعطف الحاضر على الماضي ويتطلّع إلى زمن منير محوّط بالغموض والالتباس.
لو تأمل الروائي المصري "صفقة القرن" لأوغل في الضحك ولأطلق قهقهته العالية الشهيرة، ولنظر إليها وإلى أنصارها نظرته الصائبة التي سخرت من "الزعيم الفارغ المتغطرس"، الذي كلما زادت أوسمته تناقصت كرامته. ذلك أن محفوظ لم يكن يفصل بين الأخلاق والسياسة، ويرى الأخيرة حاكمة للحياة، لا تختزل الحق إلى حفنة نقود، ولا تختصر فلسطين إلى صفقة اقتصادية، ولا تخلط بين الحق والباطل والدولارات، ذلك أن السياسة، وكما رأى محفوظ، تساوي حرية الاختيار، واعترافا متبادلا بين أطراف مختلفة، لها حقوق الرفض والقبول والاقتراح والدفاع عن صواب يحقّق العدالة.
قاتل الفلسطينيون من أجل حقهم الوطني مائة عام وأكثر، وجابهوا صفقات رخيصة متلاحقة، ليست صفقة القرن إلا أحد وجوهها المتأخرة.