يؤكد مقال الكاتب السياسي المرموق وقع الهزيمة الدامي على الجيل الذي عاشها، وكيف لازلنا في حاجة إلى معرفة ما جرى كي نتخلص من آثارها التي تتغلغل في كثير من مناحي حياتنا، وكيف أن التشبث بالمقاومة لايزال هو الأمل حتى لو جاءت من خارج مصر.

من انكسار الهزيمة إلى إرادة المقاومة

حسن نافعة

 

يصادف اليوم، الأربعاء 5 يونيو (حزيران)، ذكرى مرور 52 عاما على هزيمة 67، وقبل أيام قليلة، وتحديدا في 24 مايو (أيار) الماضي، احتفل حزب الله البناني بذكرى مرور 19 عاما على الانتصار التاريخي الذي حققه عام 2000، وتلك مفارقة كبرى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تستحق أن نتوقف عند دلالاتها بالتأمل. فالهزيمة التي وقعت منذ أكثر من نصف قرن لحقت بالجيوش النظامية لثلاث دول عربية مركزية لديها من القدرات والإمكانات البشرية والمادية أكبر بكثير مما لدى إسرائيل، وترتبت عليها كوارث ما تزال الأمة العربية بأسرها تعاني من آثارها حتى الآن. أما الانتصار الذي تحقق منذ تسعة عشر عاما فسجله حزب لبناني صغير، لا وجه للمقارنة بين قدراته وقدرات إسرائيل نجح في إذلالها وأسقط هيبتها، وكانت له تداعيات إيجابية بالغة الأهمية والإيجابية على مسار الصراع العربي.

تفصل بين الهزيمة التي تجرعنا مرارتها والانتصار الذي ذقنا حلاوته مسافة زمنية تقارب ربع القرن، لكنهما ارتبطا بعلاقة عضوية وثيقة في وجدان الجيل الذي عاصرهما معا. ولأنني أنتمي شخصيا إلى هذا الجيل، والذي تجاوز السبعينات الآن ويوشك على الرحيل وتسليم الراية للأجيال اللاحقة، فقد وجدت أنه ربما يكون من المفيد أن أنقل لهذه لأجيال، والتي لم تتح لها الفرصة لمعايشة هذين الحدثين الكبيرين المتناقضين في كل شيء، تجربتي الخاصة في طريقة التفاعل معهما وكيف أثرا بعمق على تشكيل رؤيتي وإدراكي لما يدور حولي في المنطقة.

كنت طالبا في السنة الأخيرة من مرحلة الدراسة الجامعية وأتهيأ لاجتياز امتحانات نهاية العام حين بدأت طبول الحرب تدق في المنطقة. فقد أعلن الرئيس عبد الناصر فجأة حالة التعبئة العامة وصدرت الأوامر للجيش المصري بالتحرك نحو شبه جزيرة سيناء واتخاذ مواقع قتالية فيها، في خطوة بدا واضحا أنها تستهدف ردع إسرائيل ومنعها من تنفيذ تهديداتها باحتلال دمشق، وما ان انتهيت من أداء الامتحانات حتى كان عبد الناصر قد أعلن إغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، الأمر الذي جعل الصدام العسكري يبدو حتميا. ولأنني أنتمي إلى جيل آمن بالشعارات التي أطلقتها ثورة يوليو، والتي تمحورت حول التحرر الوطني والوحدة العربية والتنمية، وبهرته كاريزما عبد الناصر، فقد كان من الطبيعي أن اصدق إعلامه الموجه والذي كان يؤكد صباح مساء على أن الجيش المصري قادر على الوصول إلى تل أبيب نفسها خلال أيام قليلة، كما كان من الطبيعي أيضا أن أصاب بالصدمة والذهول حين شاهدت وسمعت عبد الناصر يقول مساء يوم حزين من أيام يونيو أننا أصبنا بـ”نكسة” وأنه يتحمل المسؤولية كاملة عما جرى، وأنه قرر التنحي عن السلطة. ولأنني وجدت نفسي رغم ذلك أهرول نحو الشارع، مع ملايين غيري، لمطالبة عبد الناصر بالعدول عن قراره، فقد حاولت فيما بعد تفسير هذا الجيشان العاطفي الذي بدا لي حينئذ أنه كان مدفوعا بالرغبة في التعبير عن رفض الهزيمة والدعوة للصمود وعدم الاستسلام قبل أي اعتبار آخر.

والواقع أنه ما ان تكشفت في ذهني تباعا الأبعاد الكاملة للهزيمة حتى تملكني إحباط كاد يصل بي إلى حافة اليأس، وبدأت أفقد ثقتي تماما بالتجربة الناصرية برمتها، لكني سرعان ما أدركت أهمية وضرورة التمييز بين المشروع الوطني لثورة يوليو ونظامها السياسي. وهكذا استقرت قناعاتي بأن المشكلة لا تكمن في طبيعة ومضمون المشروع الوطني لثورة يوليو وإنما في النظام السياسي الذي يعد هو المسؤول الأول عن إجهاض المشروع الوطني، ثم راحت هذه القناعات تزداد رسوخا بمرور الأيام، خاصة في ضوء ما جرى لمصر وللعالم العربي إبان فترتي حكم السادات ومبارك. تلك كانت الأجواء النفسية التي عشتها في أعقاب الهزيمة والتي كانت من بين الأسباب التي دفعتني إلى فرنسا لاستكمال دراساتي العليا في العلوم السياسية.

لم أكد أصل إلى باريس حتى صدمنا خبر رحيل عبد الناصر مساء يوم 28 من سبتمبر 1970، ومن هناك تابعت المشهد الأسطوري لتوديع جثمانه كما تابعت ما جرى لمصر وفيها بعد تولي السادات زمام الأمور. ورغم شكوك كثيرة راحت تنتابني بسبب تخبط السياسات التي انتهجها السادات، إلا أن هذه الشكوك سرعان ما تبددت بمجرد اتخاذه قرار خوض الحرب في 6 أكتوبر 1973. فقد وصل الحماس بالدارسين المصريين في باريس إلى حد الاقامة شبه الدائمة طوال فترة الحرب في مقر المكتب الثقافي في شارع سان ميشيل، وكان انبهارنا لا يوصف بأداء الجيش المصري، خاصة خلال الأيام الأولى للحرب. فقد أثبت هذا الجيش حقا أنه يستطيع صنع المعجزات إذا توافرت إرادة المقاومة والقتال وإديرت المعارك باسلوب علمي. وهكذا بدأنا نشعر أننا نتخلص تدريجيا من روح الهزيمة ونستطيع أن نرتفع إلى مستوى التحدي. لكن ما ان توقف إطلاق النار وبدأ السادات يستقبل كيسنجر في جولاته المكوكية حتى بدأ الشعور بالقلق يراودنا من جديد وازدادت خشيتنا من أن يتمكن لصوص السياسة من سرقة ما أنجزه السلاح، وهو الأمر الذي راح يتأكد تدريجيا إلى أن استقر كيقين عندي عقب قرار السادات زيارة القدس في نوفمبر 1977.

كنت قد أنهيت دراستي في باريس وعدت بالفعل إلى القاهرة قبل ايام قليلة من زيارة السادات للقدس، ومنها رحت أتابع عبر شاشات التلفاز مشهد رئيس أكبر دولة عربية وهو يهبط من سلم الطائرة في تل أبيب مصافحا قادة الكيان الصهيوني المغتصب للأرض الفلسطينية ومن بينهم من شارك بنفسه في اغتيال الأسرى المصريين في حريي 56 و73. ولأن المشهد كان أقوى من طاقتي على الاحتمال، فقد انخرطت في نوبة بكاء حارق. فقد أحسست في ذلك الوقت أن نصر أكتوبر على وشك أن يهدر، وأن إسرائيل تبذل قصارى جهدها لإخراج مصر من المعادلة العسكرية للصراع كي تتفرغ بعد ذلك لتصفية القضية الفلسطينية بعد أن تكون قد نجحت في زرع بذور الشقاق والفتنة في كل ربوع العالم العربي، وهو ما حدث بالفعل.

هكذا قدر لي أن أتابع، ولكن من موقعي ككاتب وكباحث أكاديمي هذه المرة، ما جرى للمنطقة وفيها بعد تلك الزيارة المشؤومة. ويكفي أن نسترجع الشريط الذي يذكرنا بإبرام اتفاقيتي كامب ديفيد، وبثورة إيران الإسلامية، وباغتيال السادات، وباجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان وتحريضه على ارتكاب مذابح صابرا وشاتيلا وطرد منظمة التحرير وترحيل قيادتها إلى تونس، وباستدراج العراق لحرب طويلة مع إيران ثم لغزو الكويت تمهيدا لتدميرها…، إلى أن وصلنا إلى ثورات الربيع العربي والمحاولات المستميتة لإجهاضها، لندرك حجم المؤامرة التي تعرضت لها المنطقة وشارك العديد من القادة العرب بوعي أو بدون وعي في تنفيذها. وكان هذا هو السياق الذي زُرع حزب الله في رحمه، وبولادته عام 1983، بدأت تتشكل نواة لمشروع مختلف ومقاوم للمشروع الصهيوأمريكي في المنطقة، ثم راحت بذرته تنمو وتترعرع رويدا رويدا إلى أن وجدنا أنفسنا عام 2000 أمام عملاق حقيقي.

لم يكن حزب الله أول حركة سياسية ترفع شعار المقاومة أو تخوض حرب عصابات في مواجهة إسرائيل، لكنه الوحيد الذي استطاع أن يرتفع إلى مستوى التحدي وأن يحقق نصرا كاملا لا تشوبه شائبة، أدى إلى تحرير أرض عربية تحتلها إسرائيل دون قيد أو شرط، وهو أمر لا سابقة له في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وإلى دحر القوات اللبنانية العميلة ممثلة في “الجيش اللبناني الحر بقيادة انطوان لحد، وإجبارها على الاختيار بين الاستسلام الكامل تمهيدا لمحاكمتها بتهمة الخيانة العظمى أو الهرب إلى أرض العدو مع بقية قوات الاحتلال الفارة من ميدان المعركة، وهو أمر لا مثيل ولا سابقة له أيضا في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وكان الملهم الحقيقي والداعم الأصلب عودا لحركات المقاومة الفلسطينية المسلحة التي عبرت عن رفضها لاتفاقية أوسلو ولكافة المحاولات الرامية لتصفية القضية الفلسطينية. ومن المعروف أن إسرائيل بذلت قصارى جهدها للانتقام من حزب الله وسعت لتدميره عام 2006، حتى لو ادى إلى تدمير لبنان كله، لكن الحزب خرج من المحنة اقوى مما كان عليه قبلها وتمكن من تثبيت الانتصار الذي حققه عام 2000.

أدرك تماما أن حزب الله شيعي الهوى والمنشأ، وأنه يتبنى مبدأ ولاية الفقيه، وأن إيران هي التي أسسته وأنه يعد من ثم جزء لا يتجزأ من مشروعها في المنطقة، غير أن هذا الحزب هو أولا وقبل كل شيء بمثابة العمود الفقري لحركة المقاومة ضد المشروع الصهيوني في المنطقة. لو كان هناك مشروع عربي منافس على ارضية المقاومة لانحزت إليه دون تردد، وإلى أن يظهر مثل هذا المشروع فسيظل حزب الله بالنسبة لي هو القائد الفعلي والحقيقي لتيار المقاومة في المنطقة. ومن هذا المنطلق وحده أحييه وأقدم له أصدق التهنئة بمناسبة العيد التاسع عشر لانتصاره المدوي على إسرائيل.