يقدم لنا الناقد الفلسطيني هنا تحليله للجزء الأول من سيرة الكاتبة الفلسطينية المرموقة، ويصحبنا مع خطواتها في الحياة والتمرد على الأعراف وسلطات الكبت المهيمنة والصراخ بجسارة في مواجهتها، وكيف أن هذه الخطوات نفسها هي التي خلقت الكاتبة وبلورت تجاربها وعوالمها الثرية في رواياتها الأولى.

سحر خليفة صاحبة الصّرخة القويّة: لا!

في كتابها الجديد «روايتي لروايتي»

نبيه القاسم

 

تميّزت سحر خليفة منذ بداية شَقّها طريقها في الحياة برفضها للواقع الذي فُرض عليها وألغى أهميّة وجودها لمجرّد كونها أنثى، حتى أنها "لم تستطع التّفكير في نفسها كعضو مُنتم إلى مجتمع ما، بل كضحيّة، وروح ضائعة لا تجدُ مَلاذا يأويها أو يحميها"(ص22). وما كان يؤلمها أنّ أمّها هي التي كانت تُحاول قمعَها وقَتْلَ شخصيّتها وحصرَها في حظيرة الأنثى المسكينة الضّعيفة. ممّا جعلها تنقمُ على أمّها، وتتصدّى لها، وتتحدّاها، وتتّهمُها بالنّفاق والقسوة، حتى أنّها صارحتها بجرأة ومَرارة، ولكن بقلب يعصفُ بالأنواء: "لستِ أمّي، أنتِ بلا قلب"(ص23).

بهذه الشخصيّة القويّة الرّافضة لكلّ نوع من الظلم خاضت سحر خليفة غمارَ الحياة مُتحدّية سلطة الأبّ والأمّ والعائلة والمجتمع، وحتى السّلطة الحاكمة.

سيرة ذاتيّة .. ولكن!
اختارت الكاتبة أنْ تصنّف كتابَها الجديد كسيرة ذاتيّة، ألحقتها بكلمة "أدبيّة". وحصرت زمنيّةَ سيرتها في فترتين مهمّتين:
*فترة طفولتها وفُتوّتها في بيت والدها، ومن ثمّ زواجها لرجل اختير لها.
*فترة ما بعد طلاقها، وانطلاقها في حياتها الجديدة حرّة طليقة تُحقّقُ رغباتها وأهدافها وطموحاتها غير عابئة بمُعترض أو لائم. وحصَرَتْها في: دراستها في جامعة بير زيت وسفَرها إلى الولايات المتحدة للدّراسة ونَيْل الدّكتوراه. والأهمّ التّركيز على ما يختبئ وراء رواياتها الأولى من عواملَ ومُسبّبات وطموحات ودَوافع وصُعوبات وانتقادات وتحدّيات.

تبدأ الكاتبة سيرتها بأسلوبها السّرديّ المميّز، بوصف حالتها وقد عادت إلى بيت أهلها وهي لا تتمالك نفسَها من الفرح، فقد حكمت المحكمة الشرعيّة لها بالطّلاق "قفزتُ الدّرجات الحجريّة وأنا أطيرُ مثل فراشة. ارتميتُ على عشب أخضر ينبتُ كالزّغب تحت زيتونة خرافيّة في دار العيلة، ورفعتُ ساقيّ في الهواء وأنا أكادُ أصرخُ بأعلى صوتي: حرّة، طليقة. أخيرا تحرّرت".(ص13) كانت في الثانية والثلاثين من عمرها، ولكنّها شعرت أنّ حياتها تبدأ الآن، وتصرّفت كمراهقة صغيرة تستردّ حريّتها بعد سنوات طويلة من زواج قَسري وعذابات لا وصفَ لها ولا نهاية، تروي تفاصيلَها في رواية "مذكرات امرأة غير واقعيّة".

وتعود إلى سنوات طفولتها ونشأتها في بيت محافظ لعائلة محافظة في مدينة نابلس المحافظة جدا. وتسردُ بإيجاز العذابات التي عاشتها العائلة بسبب إنْجاب الأمّ للبنات فقط، وعدم إنْجاب الذَّكر الذي سيرث الأب ويحمل اسمَه ويُخلّده. وكيف كانت المصيبة غير المتوقعة بعدما جاء الابنُ الذكر، وكبر وسط دلال كلّ أفراد الأسرة وأصبح "سيّد العائلة بلا منازع" كيف وهو ابن السادسة عشر اشترى له والدُه سيارة، كان يسوقها بتهوّر وسرعة مخيفة، حتى كان واصطدم بسيارته، وانكسر ظهرُه، وعاش باقي عمره "قعيدا، رهين الكرسي، كرسي العَجَلات."(ص28).

كانت الصّدمة كبيرة وقاتلة بالنّسبة للوالد، فقد بكى وشهق وناح، وضرب صدره . كان يذرف الدموع ويتمتم بالأدعية والحَوقلات، ويدعو الله أنْ ينجده وينقذ ابنَه. وحين لم تفلح الأدعية ولا كلام المشعوذين والفتّاحين قرّر الوالد القَرار الذي هزّ أفراد العائلة وقلَبَ حياتهم رأسا على عقب. فقد قرّر الزواج من مُطَلّقة شابّة في عمر ابنته، وترك الدارَ وهجر أسرته. وشعرت سحر في لحظة أنّها "لم تُصَب في أخيها فقط، وإنما أيضا في أبيها، وأيضا في زوجها، وأنّها أصبحت بلا معين، وباتت يتيمة فقيرة بلا سنَد يحمي ظهرَها من غَدر الزّمن".(ص32)

كان أثرُ زواج الأبّ وتركُه للدّار صعبا على سحر "لم أنم تلك الليلة. طوال الليل وأنا أبكي وأندب حظّي وحظّ أمّي، وأخي المشلول وقطيع البنات. والخوف من زمن يغدر بنا وقد بتنا ولايا مَقطوعات، لأنّ الوالد سنَد العائلة انتهى أمره. وأخي عاجز وزوجي مقامر وأخواتي كنّ في مهبّ الريح".(ص32) زواج الأب وتركه للبيت زاد من سَطْوة زوج سحر الذي انتقل ليعملَ في أحد البنوك في ليبيا، وأشعره بالتحرّر من نير والدها عليه ومراقبته ومساءلته له. فزاد اندفاعُه في لعب القمار وخسرَ كلّ شيء. "ذقتُ في ليبيا الأمرَّين.. جوّ مشؤوم من البداية. بيت فارغ وبلد غريب، ومال شحيح لا يكفي إلّا للأكل، يا دوب للأكل، ولا توجد أمّ ألجأ إليها لأشكو همي فتواسيني وتهون عليّ، ولا أقارب، ولا حتى مكتبة البلدية أغرف منها الكتب التي شكّلت لي لسنوات طوال، نوعاً من الهروب ومصدراً للعَزاء"، ممّا دفعها للتّفكير بالهرَب والخلاص منه.

هذه الشخصيّات الثلاث: الأب والزّوج والأخ، تركت أثرَها على سحر، وحدّدت لفترة من الزمن طريقّها وتفكيرها واختياراتها. لكنها كانت قويّة واستطاعت أنْ تحسمَ أمرَها وتأخذ قرارَها عندما جاءها والدُها برفقة زوجها وهي في مكتبها في جامعة بير زيت، وطلب منها تَرْكَ عملها وجامعتها والعودة لبيت زوجها، فتحدّته بقولها: أنا أعود إلى هذا المقامر النصّاب، وعندما حاول والدُها فرضَ سلطته الأبويّة قالت: أنا أقرّرُ حياتي كما قرّرتَ أنت حياتك. لو كنتُ مكانك لا أحكي ولا أتدخّل. أنت قرّرتَ ، وأنا أقرّرُ ولا أحد له الحقّ بعد الآن في أن يتدخّل في حياتي. وهكذا حسمت الجدَل واللقاء وصافحتهما عند الباب وطوت آخر صفحة من ماض رهيب. كذلك اختفت شخصية الأخ، ولم يعد له تأثير على حياتها فانطلقت حرّة طليقة تملك زمام أمرها.

تفَجّر الوَعْي السّياسي والاجتماعي لدى سحر:
تدخلُ سحر مباشرة في مواجهة واقع الاحتلال الإسرائيلي في حزيران 1967. لا تتناولُ التفاصيل الدقيقة، ولا ترسمُ الواقع الذي كان، وإنّما بكلمات بسيطة هادئة تقول "وقعنا تحت احتلال وما زلنا نُعاني نكبته حتى كتابة هذه السطور، أي حتى بعد نحو نصف قرن من الزمن المرّ، أطول احتلال على وجه الأرض"(ص49) وتتساءلُ بمرارة الانسان المقهور: "كيف وقعنا وكنّا نظنّ أنّ لدينا أقوى قوّة ضاربة في الشرق الأوسط؟ كيف فقَدْنا بقية فلسطين وكنّا نتهيّأ لاسترداد ما ضاع منها سنة 1948؟" (ص49) وتقول بألم حارق "اكتشفنا كم نحن واهمون وواهون وهشون وطفوليّون وطفيليّون. لم نكن ناضجين ولا مستعدين للتّحرير، لا كأنظمة، ولا كشعب، ولا كقيادة."(ص49).

وتروي سحر قصّة المشهد المبكي غير المعقول لاحتلال مدينتها نابلس "خرجت الوفودُ بالهتافات والزغاريد لاستقبال دبابات الجيش الإسرائيلي، وفي ظنّهم أنّها بشائر الجيشين العراقيّ والجزائريّ اللذين جاءا لنصرتنا"(ص50) وتحكي ما حدث لها بعد أيّام: "خرجنا لنُفاجأ بأقسى وأبلغ مشهد جعلنا نُصاب بذهول أفقدنا القدرة على النُّطق أو الحركة: شاهدنا جحافلَ اللاجئين من بلدات الحدود مع إسرائيل وقراها. جاءوا بأطفالهم وشيوخهم ودوابهم، بحميرهم وأغنامهم وكلابهم وهم جوعى وعطشى، وبعضهم بأمراض وجروح وإصابات، وناموا في العَراء في كروم الزيتون حول دارنا ولا يعنيهم أحد. كانوا بالألوف، عشرات الألوف، وما كان في استطاعة أيّة مساعدة أنْ تكفيهم"(ص51)

مبادرة سحر وجارتها
أثّرَ هذا المشهد للألوف المعذبة الشقية على سحر وجارة لها، فقرّرتا التّوجّه للبلدية لطلب المساعدة "مشينا في الشوارع، هي وأنا، وكانت خالية، والمدينة شبه مهجورة، مدينة أشباح، لا دبّابات، ولا سيّارات، ولا مدافع، ولا حتى جنود. ولم يعترضنا أحد من الجنود في دخولنا للبلدية، ولكننا فوجئنا برئيس البلدية مُحاطا بضبّاط الجيش، وإذ انتبهوا لنا نظروا إلينا بدَهشة وفضول، وهبّ رئيس البلدية واقفا وهو يتساءل بذعر: شو جابْكن كيف وصلتوا يا الله يا الله روّحوا عَبيتكن. لكنّ سحر وصاحبتها رفضتا طلبَه وشرحن مطالبهما! وتمكّنتا من استصدار أمر عسكري من كبير الجنرالات بفتح مخازن الشؤون الاجتماعية ووكالة غوث اللاجئين وإخراج الحبوب والحليب والبطانيات، وتمّ نقلها بواسطة شاحنات الجيش الإسرائيلي إلى اللاجئين"(ص54).

مواجهة سحر الثانية مع جُند الاحتلال
تؤلمها هذه المواجهة لأنها فقدت فيها مسوّدات روايتها الأولى التي كانت قد كتبتها وهي في ليبيا تعيش مع زوجها وابنتيها. فيها تأريخ للأيام الأولى بعد احتلال الجيش الإسرائيلي للضفّة الغربية، ووصف دقيق لكيفيّة استقبال الناس العَشوائي للاحتلال بنكهته الدراميّة السّوداويّة (ص77). تقول سحر: وصلنا إلى الجسر، وأوّل ما قوبلنا به هو حجز الدّفاتر والكتب وإدخالها إلى مكتب المخابرات للرّقابة والتّفتيش.(ص78) وبعد ساعات من الانتظار والملل والخوف استُدْعيتُ للتّحقيق "بادرني المحقّقُ بسؤالي عن مضمون الدّفاتر، وعن مستوى تعليمي ومضمون الرواية، وفتح أحد الدفاتر وأخذ يقرأ الفقرات التي أصف فيها الدبّابات ومعركة وادي التّفاح. طلبتُ منه في نهاية التّحقيق أن يعيدَ لي روايتي، قال ستذهب هذه الدفاتر إلى تل أبيب للمعاينة والفَحص، ثم نرسل في طلبك. أمّا الآن خذي الصغيرتين وانصرفي."(ص80) وبألم تقول سحر: "وضاعت بذلك روايتي المنسوخة على الدفاتر العتيقة على الجسر، كما ضاعت النسخة الأصليّة المخبّأة بين اللحف والبطّانيّات في ليبيا، إذ أن زوجي وجدها ومزّقها كما كان يفعل بلوحاتي. ولم يَبق من روايتي إلّا الذكرى والحَسرة". (ص81)

رواية "لم نعُد جواري لكم"
ضياع الرّواية الأولى التي مزّق زوجُها نسختَها الأصلية ، وصادرت السلطاتُ الإسرائيلية نسختَها الثانية، دفع بسحر للشّروع بكتابة رواية جديدة، ولخوفها من ردّات فعل زوجها كانت تطلب من ابنتها الكبرى أن تقف خلف النافذة ترصدُ الشارع حتى تُخبّئ الأوراق بحَذر قبل قدومه. ولم تجد الاستجابة المرجوّة من دور النشر التي عرضت عليها روايتها، وفقط كانت استجابة الناشر حلمي مراد رئيس تحرير سلسلتَيْ "كتابي واقرأ"، مشجّعة ومحفّزة، انتهت بنشره للرواية ضمن سلسلة "اقرأ" مع مقدّمة تنبّأ فيها بمولد روائيّة عربيّة جديدة اسمها سحر خليفة.

اختلفت آراء النّقّاد والمثقّفين حول الرواية، فبينما رآها البعض قمّة في الإبداع كعيسى الناعوري، رآها البعضُ الآخر، أمثال رجاء النقاش، سخيفة. وأنّها لم تكن أكثر من نفثات امرأة برجوازيّة، لا تخدم القضيّة بل تُسيء إليها، واعتبرها البعض حُلية أدبيّة، أو أديبة صالونات، أو وجها أدبيّا مَوسميّا. وقد رأيتُ في رواية "لم نعد جواري لكم" في الدراسة التي نشرتُها عنها في مجلة (الجديد عدد تموز 1977) "صرخة تُعلن عن تمرّد المرأة العربية على قيدها الطويل، ودعوة للخروج لمواجهة الرّجل ومُطالبته بكل حقوقها". وأنّها بصرختها هذه تُعرّي بنيةَ الطبقة البرجوازيّة المتعلّمة العَفنة، وتُعرّي أفكارَها ونهجَها وواقعَها، وإظهار استحالة الاعتماد عليها في تَسْيير دفّة الحياة ومُواجهة الصّعاب، فهي طبقة مُخادعة، تافهة، تمضغ الفلسفات حول الموائد، مَغرورة، عاجزة عن المبادرة ولا يُؤمَن جانبها" (نبيه القاسم. سحر خليفة وصرختها العالية: لا. ص46-48 دار الهدى للنشر 2011.) وكانت ترى أنّ هدفها الأوّل والأخير هو الحياة بحريّة "أعيش كما أريد، أحلمُ كما أريد، أقرأ، أكتب، أدرس وأتعلّم وأتثقّف، وأصبح سيّدة نفسي لا قيود ولا ضوابط"(ص104).

جامعة بير زيت بوّابة سَحَر للانفتاح على العِلم والمعرفة والحياة
سعت سحر خليفة بعد تحرّرها من قيود الزّوج والزّواج لاكتشاف العالم الخَفيّ عنها، وكان قبولُها طالبة في جامعة "بير زيت" القَفزةَ الكبرى نحو تحقيق الأهداف الكبيرة. "كانت بير زيت في السبعينيّات من القرن العشرين مَنارة، وشعلة، وبؤرة تنوير على المستويين السّياسي والاجتماعي. كانت بيروت مُصغّرة، بكل ما فيها من زخَم سياسيّ واجتماعي وثقافيّ. تعلّمتُ على أيدي أساتذتها، ومعظمهم شبّان في الثلاثينيّات، تعلّمت على أيدي هؤلاء كيف أفكّر وأناقش وأقرأ بعين ناقدة، وأتمعّن في مشكلات وطننا التي تُعيق تقدّمنا وتحرّرنا. بدأتُ أفهم ما هو التّقسيم الطبقيّ، وما هو دور المثقّف في مجتمع مُتَخلّف، وما دور الموظّف والعامل، وما هو دور المرأة. ما هو الفكر الاشتراكي والرأسمالي وموقعنا نحن العرب بين هذا وذاك"(ص119)

قضيّة العَمَل في إسرائيل بعد الاحتلال، حاجة مُلحّة أم خيانة وطنيّة كبرى!
كانت قضيّة عَمَل العمّال الفلسطينيين في إسرائيل بعد هزيمة حزيران 1967، ووقوع كلّ الأراضي الفلسطينية في قبضة الاحتلال الإسرائيلي، القضيّة السّاخنة والمتداولة في جلسات الناس. وتذكرُ بشكل خاص الطالبَ الذي حكى في درس للأستاذ سليم تماري عن مأساة العمل في الصناعة الإسرائيليّة، وأنّ والده يساهمُ في تلك المأساة مُجبَرا لأنّ البديل هو الهجرة عن بلد يُعاني البطالة والفقر والتّخلّف الصّناعي والزّراعي وانعدام الفُرص. واعترف بألم وخجل، بأنّه هو أيضا، في أثناء العُطل الصّيفيّة، ينزل مع والده إلى المصانع الإسرائيليّة، ويعمل هناك طوال الصيف حتى يستطيع تَسديدَ تكاليف تعليمه الجامعي (ص121).

أثارت قضيّة العمل في إسرائيل اهتمام وفضول سحر، فقرّرت البحث والتّحرّي ومَعرفة كلّ جوانب القضيّة، وقرّرت النزول إلى العمل فتخفّت بلباس العاملات، وتصادقت معهن وسمعت قصصهم الحياتيّة وشكاواهم ومعاناتهم وصوّرتهم، واستعارت أصواتهم ولهجاتهم. وبعد أن استوفت البحث، وفهمت أبعادَ الموضوع ودوافعَه وأعماقه، كتبت ريبورتاجا مُصَوّرا في جريدة "الفَجر"، أحدث ضجيجا، وأثار زوبعة في التجمّعات السياسيّة والصالونات. وتعرّضت سحر بسببه للمُساءلات والمضايقات من سلطات الاحتلال الإسرائيليّة. وكان الدّافع القويّ لكتابة رواية "الصبّار".

رواية "الصبّار" صرخة سحر التي أثارت الجميع وكشفت العيوب وحدّدَت المواقف
تكشف سحر الدّوافع وراء كتابتها لروايتها "الصبّار":
الأول هو ما كشفته من حقائق مذهلة حول مسألة عمل العمّال الفلسطينيين في إسرائيل ممّا اعتبره أغلب الناس خيانة، وقاموا بمعاقبة العمال بحَرق الباصات التي تُقِلّهم، وبجَلْد العمّال، وضَربهم، وإهانتهم ونَعتهم بالخيانة. هذه الحقائق التي توصّلت إليها بنزولها للعمل وانخراطها مع العمال وتسجيل تفاصيل حياتهم وكتابة ريبورتاج موسّع حول العمل في إسرائيل ونَشْره في جريدة "الفجر".
والدّافع الثاني واجهته أثناء زيارتها لمصر حيث قرأت مقالا للكاتب أحمد بهاء الدين وصف فيه العمّال الفلسطينيين بالعَمالة والخيانة لأنهم يعملون في الصناعة الإسرائيليّة. أثار هذا المقال سحر وأغضبَها وأثار فيها إحساسا بالعزّة الوطنيّة والتّحدّي. وتساءلت بألم صارخ: ماذا يعرف الأستاذ أحمد بهاء الدين عن أوضاعنا تحت الاحتلال. وانهيار البلد على كلّ صعيد؟ ماذا يعرف حتى الفلسطينيون في الخارج عن أوضاع البلد الحقيقيّة؟ وكل هؤلاء المنظّرين السيّاسيين والصّحافيين وأشباه المفكّرين، الذين يُغْدقون علينا النّصحَ من الخارج من دون أنْ تكون لهم أيّ صلة بالواقع الذي نعيشه؟ حتى قيادتنا السياسيّة في بيروت، بكل تنظيماتها اليساريّة وغير اليساريّة، ماذا تعرف؟ هل يعرف القيّمون عليها أسباب هذه الظاهرة؟ وهل هم قادرون على تقديم علاج لها؟"(ص129).

وتقول سحر: "عدتُ من القاهرة مصمّمة على كتابة رواية عن موضوع العمل في إسرائيل، لكنّني لم أبدأ بكتابة الرواية إلّا بعد أنْ قمتُ بمقابلة العَديد من النقابيين والسياسيين والصّحافيين وأرباب العمل وأصحاب المتاجر، وكذلك بعد نشر الريبورتاج في جريدة "الفجر". كما واتخذت سحر قرارَها بالتوقّف عن الدّراسة الجامعيّة مدّة فصلَين للتفرّغ لكتابة الرواية، وهكذا كتبت رواية "الصبّار" التي أحدثت بعد نشرها، انفجارا أدبيّا وفكريّا وسياسيّا، وتُرجمت إلى العَديد من اللغات الأجنبيّة.

رواية "عبّاد الشمس" وطرح القضايا الحسّاسة المختلَف عليها
نجاح رواية "الصّبّار" والدّويّ الكبير الذي أثارته حول بعض القضايا الحسّاسة مثل قضيّة العمل في إسرائيل، دفعت بسحر لتخوض في روايتها الجديدة "عبّاد الشمس" مواجهة أعنف وأقسى مع مختلف التيّارات السياسيّة والاجتماعية والدينيّة. وذلك في طرحها للجانب النسويّ في الوقت الذي كانت فيه كلّ التنظيمات، بما فيه اليساريّة، تعتبر أنّ إثارة هذه القضيّة مسألة في غاية الخطورة، لأنّها تعمل على شقّ الصفّ الوطني. (ص185). طرَحت سحر موقفَها المختلف عن مواقف الجميع بأنّ عمليّة تحرير الوطن لن تتمّ، ونصف المجتمع مهمّش، وقضيّة المرأة جزء أساسيّ من قضيّة الوطن. وتصل إلى نتيجة "أنّ الحريّة بحاجة للأقوياء، للأصحّاء. والرجل العربيّ ما زال مريضا، منفصما منقسما يرغب في شيء ويُطبّق آخر، مشدود إلى الماضي ويتغنّى بالمستقبل. فهو ضحيّة، كالمرأة تماما، لكنّ مرَضَه أخطر لأنّه الأقوى والمتجبّر. وما يفهمه الرجل عن ثورة المرأة هو التّحرّر الجنسي فقط لا غير." (ص188-189)

رواية "مذكّرات امرأة غير واقعيّة"
هذه الرواية تحكي قصّة سحر خليفة من خلال شخصية البطلة عفاف، وكما في رواية "عبّاد الشمس" طرحت قضيّة المرأة وتحرّرها ، وموقف الرجل المتخلّف الحائر بين ما يقول وما يفعل. وأنّ مفهوم الشّرف الأنثويّ ما زال يتحكّم فينا ويحكمنا أكثر من الشّرف الوطنيّ، وأنّ الغالبيّة من شعبنا ما زالت تُضحّي بالشّرف الوطنيّ في سبيل الحفاظ على الشّرف الأنثويّ. وأنّ "ما تعيشه وتُعانيه المرأة، على المستوى الشخصي، هو في الأساس سياسيّ، لأنّه حصيلة مفاهيم وممارسات وقيود وقوانين سياسيّة أفرزها ، على مرّ العصور، الوضع الاقتصادي للمرأة، ثمّ وضْعاها الثقافي والديني."(ص209). وقد رفضت إدارة جامعة بير زيت نشرَ الرّواية، وألغت عقد النّشر بسبب ضغوط الإسلاميين الذين بدأ تأثيرُهم يقوى في الشارع الفلسطيني والجامعات. ممّا دعا سحر لإرسالها ونشرها في "دار الآداب" في بيروت.

وقد قلتُ في ختام دراستي لرواية سحر "لقد تألّقت سحر خليفة في روايتها هذه باستعمال مختلف أساليب السّرد والحوار، والمرونة باستخدام اللغة ما بين الفصحى والعاميّة، وحافظت على عفويّتها في اختيار الكلمات والعبارات، وتميّزت كعادتها بجملها القصيرة وكلماتها القليلة الحادّة في دلالتها وإيقاعها، كما اعتمدت أسلوب الوعي، خاصّة في مشاهد حياتها مع زوجها وعلاقتها مع عنبر قطّتها في الغربة"(نبيه القاسم: سحر خليفة وصرختها العالية : لا" دار الهدى 2011 ص84).

رواية "الميراث" وتَحكّم المفاهيم المتوارثة في الإنسان العربي أينما كان
تكشف سحر أنّ رواية "الميراث" بدأت تُراودها وهي في أمريكا، ودافعها ما حدث لعائلة عربية أمريكيّة متعلّمة، الأب أستاذ جامعي والأم مُدرّسة أميركيّة وابنتهما دنيا التي مارست الجنس وحمَلَت، ممّا جعلها مُعرّضة للقتل من والدها الأستاذ الجامعي الذي كان قبل سنوات قد حاول قتل ابنته الكبرى لنفس السبب. لكن سحر تقول إنّها أعادت كتابة الرواية ولم تُبق من النسخة الأصلية إلّا الجزء الذي يصوّر ما يتعرّض له الإنسان العربي من اختلال وفقدان توازن بسبب تعرّضه لحضارة بعيدة كلّ البُعد عن انتماءاته الثقافيّة والدّينيّة والسياسيّة. أمّا باقي أجزاء الرواية فتعود إلى الأجواء المحليّة في الأراضي المحتلة، وتترك الحديث عنها للجزء الثاني في سيرتها الأدبية.

أميركا بوجهَيها الجميل المغري والقبيح المنفّر
تُخصّص سحر جزءًا مهمّا من سيرتها للفترة التي عاشتها في أمريكا حيث سافرت للدراسة والحصول على شهادة الدكتوراه. وتبدأ هذا الفصل بوصف الحالة التي اعترتها ساعة وصولها إلى نيويورك "حين خرجت من مطار نيويورك ووقفت على الرّصيف لأوّل مرّة، وشاهدتُ الشجر يصل إلى عنان السّماء ويتفجّرُ بخُضرة أوراق تكاد تصلُ إلى الأرض، لثقلها ونضارتها". كان هذا أوّل انطباع عن أميركا وجوّها. "ماءٌ وسماء تُمطر في الصّيف، ورائحة بخار الأرض وتخثّرها ونثيثها. ثمّ النظام وحركات الناس. فالخطو سريع ونظرات الناس زجاجيّة تُحدّق في أهداف أماميّة، فلا تلفّت على الجانبين ولا تلصّص، بعكسنا نحن، فكلّ واحد يُسابقُ الآخرين نحو هدفه، ولا وقت لديه للفضول ومراقبة الناس. هنا يعيش الناس، كلّ بحاله من دون قلق من تدخّل الآخرين وتلصّصهم. هنا تعيش النّساء بحرّيّة ولا يضطررن إلى الدّفاع عن أنفسهنّ في إثر كلّ شهيق أو زفير. هنا يُسافر المرء من أوّل القارّة إلى آخرها من دون أن تستوقفه الحواجز وكلاشنات الجيش أو الشرطة. هنا النّظافة والظّرافة وألَق الأسواق المكتظّة ببضائع تخطف الأنفاس وتُبهرها. هنا ناطحات سحاب خرافيّة. هنا كلّ شيء مختلف عمّا لدينا" (ص220-221)

هكذا فُتِنَت سحر بأميركا في الأيام الأولى من زياتها. لكنها مع الأيام بدأت تتكشّف لها الحقائقُ المخفيّة، وظهرت أميركا بوجهها القبيح المنفّر. "سباق، ركض مُستمرّ، مجتمع استهلاك تتجلّى فيه الفَرْديّة في أقصى صورها، الأنانيّة، والعنصريّة، والوحدة. لا وقت للمَشاعر ، ولا للقَرابة، ولا للصّداقة. لا وقت لطموح سوى طموح العمل والانتاج والرّبح السّريع. لا وقت للتعرّف على جار أو الاندفاع في تبنّي قضيّة عادلة أو التورّط في محنة صديق. النظام الاقتصادي لا يسمح، ولا الاجتماعي لا العائلي. اغتراب نفسيّ عن الوطن، والأهل، وحتى اغتراب المرء عن ذاته، كلٌّ محصور ومُحاصَرٌ داخل قفص زجاجيّ بلاستيكي ، مثل الآلة."(232-233)

الطالب العربي
وتتوقّف لتصف حالة الطالب العربي الذي يسافر إلى أمريكا للدراسة فتأخذه مباهجُها والحرية المنفلتة فيها والرّغبة في استغلال وجوده للتّنعم بمنعماتها. "كنت أرى الطلاب العرب في الجامعات التي درستُ فيها أو زرتُها، يتحلّقون حول طاولات ضخمة في مطاعمها أو الكافتيريات، يتبادلون الأحاديث والنّكات والتّعليقات بالعربية، ولا يتحدّثون بالإنكليزية إلّا في قاعات الدّراسة، وبلغة مكسّرة ركيكة، ولا يعرفون عن الحضارة التي يعيشون فيها إلّا أجواءهم العربية، ولغتهم العربية، وأكلهم العربي في تجمّعاتهم وسهراتهم وزياراتهم، وكل ذلك بالعربية. أي أنّ ذهابهم إلى أميركا كان بالاسم والجسم فقط، أمّا العادات فواحدة لا تتغيّر، وكذلك اللغة والمفاهيم، والدّراسة، إذ يعتمد الكثيرون منهم، وخصوصا مَن جاءوا من دول البترول، على شراء الأوراق والأبحاث الجاهزة في السوق الطّلابيّة.

وظاهرة شراء الشهادات العلميّة من بعض الجامعات التجاريّة هي أيضا متوفّرة ويستغلّها بعضُ طلبتنا بتهافت وسخاء. وحين يعودون إلى الوطن، يحتلّون المناصب ويقودون بلادهم بالسياسة العشوائيّة الاتكاليّة العَبَثيّة التي نراها. كانت الدّراسة والمطالعة والتّحضير بالنّسبة للطالب الأمريكي مهمّة أساسيّة تخضع لها كلّ الاعتبارات الأخرى. بينما كان سلوكُ الطالب العربي على عكس ذلك تماما. كان دائما على استعداد لأن يضع كتبَه جانبا إذا سنحت الفرصة لتناول فنجان قهوة مع فتاة، كان حسّه بالمسؤوليّة مرتبطا بما هو خارج عنه، بسلطة تقف فوق رأسه، لا بدافع داخليّ يلزمه ذاتيّا". (ص233-234) وتصل إلى النتيجة أنّ الكثير من الطلاب يعودون إلى بلادهم بشهادات، في مُعظمها دُفِعَ ثمنُها، ولا يُتقنون اللغة الإنكليزية، لأنّهم تكلّموا بالعربية فيما بينهم معظم الوقت، وأهملوا دراستهم.

وتصف المجتمع العربي في أميركا بأنّه يتشكّل في معظمه، "من الطبقة الوسطى الصغيرة، بمَن فيها من عمّال ذوي أصول قرويّة، وباعَة في البقالات، وأُجَراء في محطّات الوقود، وتجّار صغار في سوق الأغذية والنّثريات."(ص237) "وهم يعيشون في نيويورك أو ديترويت أو كاليفورنيا في أحياء لا تختلف إلّا من حيث الاسم عن سوق الحميديّة في دمشق أو سقف السّيل في عمّان أو البلد القديمة في نابلس. شوارع ضيّقة، في الغالب، محدودة النّظافة، محاطة بدكاكين ومخازن عربية تبيع كلّ ما يخطر في البال من مأكولات ومشروبات وأقمشة وملابس جاهزة رخيصة." (ص238) ولا يختلف وضع المرأة العربية في أمريكا عنه في الوطن العربي.

قيمة سيرة سحر في روايتها لرواياتها
أدركت سحر، من حيث تدري أو لا تدري، منذ صرختها الأولى في وَجْه أسرتها ومجتمعها بكلّ ما يحمله من عادات وتقاليد وكَبْت وحرمان ومُحاسبة البنت على كلّ صغيرة وكبيرة أنّها مَبعوثةُ أمّة، وحاملةُ رسالة عليها تأديتها، فتحرّرُها من القيود التي تُفْرَض عليها هو تحرّر لكلّ فتاة يظلمها أهلُها، وخلخلةٌ لاستبداد مجتمع ذكوريّ ظالم. فالشّخْصيّ عند سحر تَداخَلَ مع العامّ، وهذا ظهَرَ جليّا في طرحها لموقفها من مختلف القضايا الاجتماعيّة والسّياسيّة والدينيّة والوطنيّة في كلّ رواياتها. سحر لم تَجْبُنْ وواجهت القضايا الحسّاسة مثل قضيّة تحرّر المرأة في "مذكرات امرأة غير واقعيّة" وقضيّة عمَل العُمّال الفلسطينيين بعد نكسة حزيران في إسرائيل نتيجة للحالة الاقتصاديّة المميتة والاهمال من كلّ العالم، والعربيّ خاصّة، وجشَع الأغنياء وأصحاب الأراضي والمصالح في الأراضي المحتلة، ورغبتهم في استغلال العامل الفقير، وفَرض الأجر الزّهيد والشّروط المهينة في روايتي "الصبّار وعبّاد الشمس". وقضيّة المواجهة اليوميّة لمختلف قطاعات الشعب مع جند الاحتلال الإسرائيلي في رواية "الميراث".

وكانت سحر قد اعترفت "أنّ أعمالها الرّوائيّة تنتمي إلى الواقعيّة السّياسيّة الاجتماعيّة، مضافا إليها التاريخ، وأنّها في رواياتها ترصدُ تحوّلات المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي"(دفاتر ثقافيّة العدد11). والأديب في رأي سحر خليفة، كأيّ إنسان، "ابن البيئة، بكلّ ما فيها من حَلاوات ومَرارات، وهي البيئة التي تُهيّئ للكاتب أجواءه وتوحي إليه بمَشاهدَ وشخوص وثيمات يُحوّلها بدوره إلى صوَر فنيّة دراميّة تُعيدُ تصويرَ الواقع أو تشكيله أو ترميزه"(ص6). وقد ذكرت سحر نصيحة الفنان إسماعيل شموط لها "على الفنّان أن يبحث عن ظَرْف خاصّ يُساعده على الانتاج والإبداع وتكوين بوصلة تُوجّهه حتّى لا يقَع في المحظور، ويُكرّر عادات الجوّ العام ومُمارساته"(ص5).

وتعترف سحر بوقوعها في المحظور وعادات الجوّ العامّ وممارساته في فترة حياتها الأولى، إلّا أنّها تمرّدت على حياتها التي فُرضَت عليها، وتَمكّنت من إيجاد بوصلتها، والخروج من المَـأزق ومن مُمارسات الجوّ العامّ لتكون، كما أرادت، وكما تنبّأ لها الكاتب حلمي مراد كاتبة يُشار لها بالبَنان.

قصّة حبّ وهميّة وأخرى تُثير الرّثاء
اعتدنا في مجتمعاتنا العربية على التستّر والتّخفّي والتّكتّم على كلّ ما له علاقة بعواطفنا وعلاقاتنا مع مَن أحبَبنا وعشقنا في حياتنا، وكل ذلك حتى لا نخدش حياءَ المجتمع، ونحافظ على أسرارنا وأسرار الغير لأنّ الانسان العربي لم يزل غير مستعد وغير ناضج لتقبّل الحقيقة. وأستغرب كيف نُهلّل كلّنا ونُردّد بإعجاب ونَشوة الرسائل المتبادلة بين جبران خليل جبران وميّ زيادة، وحولّناها بعَفويّة المتلهّف إلى رسائل حب وعشق، وهي في حقيقتها رسائل بين صديقين متميّزين، وجد الواحدُ في الثاني مَلجأه من شعوره بالوحدة والغربة والقَطيعة مع كل العالم. وتابعنا قصص وقوع كلّ من طه حسين ولطفي السيّد وعباس محمود العقّاد ومصطفى صادق الرّافعي في حب ميّ. وتمتعنا برسائل الحبّ التي كتبها الرّافعي لمحبوبته التي لم يُصرّح باسمها في "رسائل الأحزان" و "أوراق الورد". وغضبنا على غادة السمّان لنشرها رسائل غسان كنفاني ورسائل أنسي الحاج إليها، وكذلك نشر ديزي الأمير لرسائل خليل الحاوي إليها، وكل ذلك باسم خدش الشّرف العامّ والرّغبة في المحافظة على سريّة وقُدسيّة علاقات العشق التي ربطت بين عاشقين. وبهذا الموقف المتشدّد الجاهل نحرم إنساننا العربي من نوع أدبيّ راق هو "رسائل العشق والحبّ".

وتأتي سحر خليفة في سيرتها هذه، وبكل جرأة وقوّة وثقة بنفسها لتُدخلنا في دهاليز حياتها الخاصّة بوقوعها في حبّ أستاذ فنّان. لتقول إنّها خلال دراستها في جامعة بير زيت، ورغم أنّها امرأة مطلّقة، ولها بنتان، وبلغت الثانية والثلاثين عاما "وقعتُ في الحبّ". وتُتابع "في ذلك الجوّ الحارّ المتوثّب في بير زيت سنة 1972، وأنا ما زلت أعلّم وأحلم وأطير. أنظر الآن إلى تلك التجربة وتلك الأيّام بعَين الحَسْرة، لأنّي بكيتُ كثيرا وتألّمتُ، لأنّي أحببتُ صورة وهميّة أو قصّة شاعريّة خلقَها خيالي الجائع وعشتُ فيها كأنّها واقع. لم تكن الصورة حقيقيّة، ولا القصّة، ولا العلاقة مُجسّدة في أرض الواقع."(ص167).

وتعود لتعترف بعلاقة ثانية لها مع استاذ جامعيّ شاب، طارَدها وحاول إيقاعها بمختلف الأساليب، لكنّها اكتشفت سخفَه وعدمَ مصداقيّته بسرعة، فردّته بلطف، وقطعت علاقتها به.(ص173-176) لكنّ علاقتها بهذا الأستاذ المخادع جعلتها تتّخذُ موقفا سلبيّا من سلوكيّات الشباب المثقف المتعلّم، وتشكّ في مصداقيّتهم، فهو ليس حالة نادرة ولا شاذّة، بل هو نموذج للرجل العربي الجديد، أي سي السيّد عبد الجواد في رداء جديد، في عصر جديد، لكن الحشوّ، هو سي السيّد عبد الجواد، متمنطقا بمنطلق هيجليّ ماركسيّ سارتريّ وجوديّ والرّجل الواحد بعدّة وجوه." (ص180). وترى أنّ المرأة لا تختلف عن الرجل، فهي أيضا بعدّة وجوه، وجه جديد ووجه قديم. وجه ما زال يتعثّر في أواخر القرن العشرين، ووجه ما زال يتدثّرُ بإيزار أمّي وجدّتي وآراء ومُكتسبات ورثناها من الدّين والأعراف والتربية والقوانين.

لغة سحر المميّزة
قد تتّفق معظم آراء النقّاد الذين تناولوا روايات سحر بالنّقد والتّحليل أنّها لم تشتغل كفاية على تطوير لغتها، وأنّها ظلّت في حدود السّرد المحكي، بينما الحقيقة تؤكّدُ أنّ سحر أثبتت قدرتها الأدبيّة، وطوّرت لغتها وتراكيب جملها حتى وصلت في الكثير منها إلى حدّ الشاعريّة الأخّاذة كما في روايات (صورة وأيقونة وعهد قديم، وأصل وفصل، وحبّي الأوّل، وأرض وسماء). وواجبُ النّاقد أن يُدرك أنّ المواضيع الكبيرة، كالتي عالجتها سحر خليفة في رواياتها، تفرض على الكاتب اللغة والأسلوب. فسحر خليفة في رواياتها الأولى انشغلت بتسجيل الأحداث التي تلمّ بشعبها الذي سقط رهينة في يد المحتل الإسرائيلي عام 1967. وكان عليها أنْ ترصدَ الأحداث وتُتابع الشخصيات، وتنتبه أنْ لا تسقُطَ في مَهاوي اليأس والتّسليم وانتظار المنقذ الذي قد يجيء على ظهر حصانه الأبيض.

فهي منذ عادت من رحلتها العلمية في الولايات المتحدة تحمل شهادة الدكتوراه آلت على نفسها أن تُناضل من أجل تحرير المجتمع، والتّصدّي للمحتل، وتحرير المرأة، وتوعية الرّجل، وقالت" تعلّمتُ ألّا أتّكل على أحد، ولا أتوقّع النّجدةَ من أحد. وأن أصارع الأمواج بقدراتي. قدراتي أنا. وما وهبني الله من عقل وصبر ومواهب. ولا أنظر إلى الخلف، بل إلى الأمام، بلا تردّد، وباندفاع مقاتل لا يخشى العَطَب". وإذا كانت في بعض الحالات الموئسة التي ترى فيها أبناء شعبها قد أذلّهم الفقر وظلمُ ذوي القربى وقسوةُ المحتل قد تفوّهت بعبارات موجعة مؤلمة صارخة "إنّنا شعب مهذار كثير الكلام ، قليل الفعل، سقيم التفكير، عديم التنظيم" فإنّ هذه الحالات النفسية الغاضبة سرعان ما تزول وتعود سحر عبر شخصيّات رواياتها، وبدَفْع قويّ منها لتشدّ الهمم، وتتحدّى كلّ الصّعوبات وتمضي في معركتها التي لا تتوقّف.

اهتمت سحر أنْ تبني الشخصيّات القويّة المواجِهَة المتحدّية التي لا يُرْهبُها جندي الاحتلال ولا تكبّلها مفاهيمُ الأسرة والمجتمع، ولا ترضى بما يُقرّرُ لها الغير. شخصيّات رافضة قويّة لا تهمّها حذلقات الكلام، ولا جماليّة المفردات، ولا إيقاعيّة المفردة والجملة والعبارة، ولا تشغلها الصّور والاستعارات وما إليه، فهي شخصيّات عمليّة، لها لغتها الحادّة المباشرة الصّريحة المفهومة لكل واحد، هي لغة الحَكي السّرديّ البسيط الذي استطاعت سحر بالتزامه في رواياتها الأولى أنْ تخوضَ المعارك الكبيرة التي واجهتها، إذا كانت ضدّ جُند الاحتلال أو في مواجهة الأهل والمجتمع بكل مفاهيمه ونُظمه وقسوته وحتى تحدّي ومُواجهة السّلطة. فهي تعطي لشخصيّاتها أنْ تقدّم نفسَها وتحكي حكايتَها للناس العاديّين فتجندهم ليكونوا نَواةَ المستقبل والأملَ المرجو.

رواية الرواية
نَنْشدُّ في قراءتنا لأي ّ رواية أن نبحث، نحن كقرّاء، عن دوافع الكتابة، والظروف التي أحاطت بالكاتب، ونحاول التّعمّق في مجريات الأحداث وغور الشخصيّات وترصّد كلّ كلمة يتفوّهون بها وكلّ حركة يقومون بها لنخرج بنتائج تُشعرنا بالاكتفاء والرّضا. وقليلون هم الذين اعترفوا بدافع الكتابة مثل نجيب محفوظ في كتابته للرواية التاريخية حيث قال "هيّأتُ نفسي لكتابة تاريخ مصر كلّه في شكل روائي على نحو ما صنع وولتر سكوت في تاريخ بلاده" (فاطمة موسى: في الرواية المعاصرة ص34، وفؤاد دوارة: عشرة أدباء يتحدّثون ص283).

وكانت سحر خليفة الرائدةَ في هذا النّهْج مُتسلّحة بفكرها ومعاركها الصّعبة وتحدّياتها، فأُطلعتنا على دوافع كتابتها لكلّ رواية من رواياتها، وفي ذلك سَبَق نُحييها عليه، وجرأة لا يستطيعها كلّ واحد. ولأنّ سحر قدّمت لنا في كتابها هذا الجزء الأوّل من روايتها لرواياتها، ووعدت بجزء ثان. ننتظر تحقيق وعدها.