لا نستطيع القول – كما يرى الناقد المصري - بأن في الرواية حدث معين، علي الرغم من وجود البؤرة التي حولها تدور الواقائع، وهي علاقة الزواج بين "كيميا و شمس الدين التبريزي، من منطلق أن الكاتب يعترض علي رؤية كل من الكاتبة البريطانية "مورل مفروي" في روايتها "بنت مولانا"، والتركية "إيلاف شافاق" في روايتها "قواعد العشق الأربعون". حيث رأي في الروايتين ظلما لـ "كيميا". التي يسعي هو لإنصافها، وحول ذلك تدور روايته.

«كيميا» وليد علاء الدين .. تصنع ثقبا في الجدار

شوقي عبدالحميد يحيى

 

ولم تزل ثورة الخامس والعشرين من يناير، بتوابعها، تُلقي بظلالها علي الرواية المصرية، لتستخرج منها التجربة الإنسانية، بعد أن أستنفدت التجربة التاريخية أغراضها، بينما التجربة الإنسانية، معين لا ينضب. وكان من آثار تلك التجربة، وما ظهر بوضوح علي ما يمكن أن نسميه، الرواية بعد يناير، ظهور المعلومات، التي أصبحت ذات أهمية في سياق الرواية، والنظر بعمق وعقلانية إلي مسألة التدين، بعد تجربة "إخوان الشيطان" في حكم البلاد، سنة، امتدت آثارها بعدها سنوات. وقد جمعت رواية "كيميا"[1] للشاعر المنضم إلي كتيبة الروائيين القادمين، وليد علاء الدين، بين الجانبين، بل، يمكن القول أنها حولت المعلومة المقدمة عبر الرواية، من الهامش إلي المتن، بحيث لم تعد مجرد إضاءة للفعل الرئيس في الرواية، وإنما أصبح الفعل الرئيس هو المعلومة نفسها- وهو ما فعلته هالة البدري أيضا في أحدث رواياتها "نساء في بيتي"، وفعلها عادل سعد، أيضا، في أحدث رواياته "الأسايطة"، في العام 2019 وما نستطيع أن نطلق عليه "الرواية التنويرية".

سارت أحداث "كيميا" – إن كان ثمة حدث – بطريقين متوازيين. كان الواقع هو المهين في الأول، وما يمكن أن نعتبره "أدب الرحلة" حيث إعتمد كليا علي الجانب الواقعي في سرده رحلة فعلية، قام بها الكاتب، إلي تركيا، تعرفنا فيها علي الكثير من معالمها، وتاريخها، والتي لا أعتقد أن كثيرا من القراء، قبل قراءة هذه الرواية، كان يعلم أن «آيا صوفيا كنيسة .. وإن تحولت إلي جامع بعد غزو القسطنطينية علي يد السلطان محمد الفاتح، فهي توصف بأنها أعظم كنيسة بنتها اليد البشرية علي الأرض. سخر لها الإمبراطور جوستيان أفضل المعماريين، آرتموس الأمهر في أسيا، وإيسادور من ميلانو، وجلب لها الأحجار والأعمدة والرخام من مصر وبعلبك وأبوا وأثينا وروما، وأنفق عليها 360 مليون فرنك ذهبي، واستخدم فيها عشرة آلاف عامل، حتي قيل إن هذه البناية لم يُشهد مثلها منذ آدم، ولا يمكن تشييدها بعد الآن»ص26. الأمر الذي يؤكد ما نُقر به، بان الرواية هجرت مسألة استنامة القارئ، بل أصبحت تدفعه إلي الانتباه، وسوف يخرج بوجبة معلوماتية هامة، وهو ما دعانا لتسمية هذا التيار بـ"الرواية التنويرية".

وهذا ما يؤدي بنا إلي الطريق الثاني لمسيرة "كيميا"، وفيه اعتمد الكاتب علي الجانب التخييلي، الذي يعمل عمل ورق التغليف الملون والمُزهر الذي يغلف ما قد يعتري المعلومات من جفاف، فيحافظ علي طزاجتة. في طريق التعرف علي (اسطورة) الاسم الرنان في عالم الصوفية "جلال الدين الرومي، وما يحدث في بيته، حيث نتعرف فيه علي أفكار وأعمال جلال الدين، وليفتح الكاتب الكامير بمشهد عرضي فنتعرف علي ما كان يدور ببيته. ولتتسع الكامير لتلقي الضوء علي العالم الذي يمثله (مولانا)، محمولا علي أجنحة الخيال، تعلو به وتهبط، لالتقاط كل ما من شأنه أن يعضد رؤيته.

قدم الكاتب روايته بمفتتحين، كانا كشافين مضيأين لسير الرواية، أطلق في المفتتح الأول دعوة من جلال الدين للكاتب بأن يتبعه، أو أن يسير مع التيار، ليصبح واحدا من أتباعه :

«الليلة الماضية، في المنام، رايت شيخا في حي العشق، اشار إليَّ بيده: اعزم علي الالتحاق بنا... جلال الدين الرومي». إلا ان الكاتب، يعلن العصيان، في المفتتح الثاني، ويرفض الاتباع، بل والعزم علي خرق السفينة:

«ولكنني قررت.. قبل ذلك ... أن أصنع ثقبا في الجدار الغليظ، لتحلق روح كيميا.. وليد علاء الدين». فنتعرف من البداية أن الكاتب قرر أن يسير عكسا التيار.

وكان موفقا، أن يبدأ الكاتب،السارد، بتعريفنا بنفسه، وطبيعته، حيث نعلم أنه إنسان كثير الحلم، وأنه وصل لدرجة استطاعته التحكم في أحلامه، حتي تداخل الأمر فلا يعرف ما إذا كان ما يحدث له، أو من يخاطبه، في الحقيقة، أم في الحلم. وهو ما منح الكاتب حرية التنقل في المكان والزمان، دون قيود، ومنح الوقائع منطقيتها، ومنحنا أجنحة التحليق معه في عالم الخيال، وننزل معه إلي أرض الواقع.

لا نستطيع القول بأن بالرواية حدث معين، علي الرغم من وجود البؤرة التي حولها تدور الواقائع، ونتحلق معه إقترابا من رؤية حقيقتها، وهي علاقة الزواج بين "كيميا و شمس الدين التبريزي، من منطلق أن الكاتب يعترض علي رؤية كل من الكاتبة البريطانية "مورل مفروي" في روايتها "بنت مولانا"، والتركية "إيلاف شافاق" في روايتها "قواعد العشق الأربعون". حيث رأي في الروايتين ظلما ل"كيميا". التي يسعي هو لإنصافها، وحول ذلك تدور روايته، رفعا للظلم الواقع عليها، وهو ما سنعود إليه لاحقا.

نتعرف في الرواية علي شخصيات رئيسية: "جلال الدين الرومي" الملقب بـ"مولانا"، وشمس الدين التبريزي، الذي عاش فترة في بيت مولانا، علي مرحلتين، و"كيميا" الفتاة التي دخلت بيت مولانا صغيرة، لاكخادمة، أو مربية، وإنما لتصبح في عداد أبنائه، وهو ما دعي "مفروي" لتسمية روايتها "ابنة مولانا".

  • علي ضريح مولانا، وما يدور حوله من طقوس، وكيف هي الأعداد التي تتزاحم ليل نهار للتبرك به، والتي تأتيه من مشارق الأرض ومغاربها، وكمْ التقديس المُنساق منهم إليه، وهو ما سعي الكاتب إليه في خرق ذلك الحائط الخرساني من التقديس، ليكشف عن حقيقة قد يراها الكثيرون من الأتباع، رجس من عمل الشيطان.

رأي السارد جموعا تتدافع نحو خيمة خضراء في الصحراء، وبأعلي الخيمة صورة كبيرة لجلال الدين بعمامته ، وراي حسام الدين يردد بعض أبيات المثنوي «بينما يفتش جيوب الناس وينزع عن النسوة حُليهم ويلقي بها في حِجر تمثال يجلس القرفصاء علي مدخل الخيمة المغطي بستارة دقيقة الزركشة، وخلفه يردد صلاح الدين زركوب: " نِعَمُ هذا الكون سابغة ببركة مولانا وبركتنا، فلا تضنوا بفتاتها علي أسبابها"»ص167.

فالمال، أو المنفعة ، أو الأمور الدنيوية –عامة - كانت، وراء ذلك المظهر. وهو ما يتبين أيضا في «قصة اللون الأخضر تحتاج إلي دراسة. لابد أن العثمانيين ابتكروها كما ابتكروا رمز الهلال ثم أضافوا إليه النجمة بعد ذلك. الأتراك، ركبوا ظهر الإسلام وغزوا العالم باسم الخلافة ولم يتنازلوا عن لغتهم ولو لصالح لغة القرآن، ولم يرتدوا الجلاليب القصيرة أو يحملوا السواك» ص73. حيث تتسع الدائرة، وتخرج عن حدود التصوف، للنظر في المسألة بجملتها. حيث تلقي السياسة بظلالها علي المشهد المصري و العربي، وحيث تمتد الرؤية تاريخيا، ليصبح اليوم، ليس إلا إمتدادا للأمس، وكأن الزمن توقف بنا عند القرون السابقة، فلا زلنا نعيش في معسول الكلمات الجوفاء، التي يُستدر بها تعاطف البسطاء «رشاقة اشعار مولانا التي يعيد فيها صياغة حكايات شمس ومقولاته. إن هذه الأشعار ليست سوي القشرة الذهبية لكرة حديدية تغلي وتُذيب البشر والجمادات. أشعار مولانا هي نفسها القصص التي يعيدها علي مسامعنا خطياء المساجد ووعاظ الكنائس، إنها لعبة تبسيط الأشياء وتذويبها في سوائل لغوية تتسرب إلي النفوس، فيسري فيها خوف مُغلف بخدر لذيذ. ولكن لصالح من هذا التخدير والتخويف؟» ص139.

وأصبحت هذه الكلمة (المُلغزة)، وسيلة قيادة الشعوب، وسلاح الساسة للسطوة والاستمرار في سلطانهم، فيقول السارد: «"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" ونسي النفري أن يضيف: واتسع التأويل. وبات المعني في يد الأقوي يفرضه وفق حدود شهوته وقوته وأطماعه .. هل قدر الإنسان أن تحكمه كلمات مُلغزة، يفسرها كل صاحب سلطة علي هواه؟ كلما ضاقت العبارة وتلونت اتسعت فرصة أصحاب السلطة لإعادة تفصيلها وحياكتها علي قدر أطماعهم». ص210.

وإذا كانت الظروف الحياتية المعيشة للكاتب، تلعب دورا رئيسا في صنع الرواية، فإنها أيضا تلعب نفس الدور لدي القارئ، الذي لابد يتأمل ما يدور حوله، في أوطاننا العربية الخاضعة للتفتت، والتمزق، وسينظر بالضرورة للجذور القادمة من عمق التاريخ، ومن مخدع من ظنه مقدس، لا ياتيه الباطل، حين يقرأ أفكار (مولانا) وأشعاره ليعرف من أين بدأت العداوات والكراهية حين يواصل علاء الدين حديثه للسارد «لم يكن جلال الدين كما تصورتموه لكنك مثلهم لم تقرأ، تطفو كجثة في بحيرة من صور ركبها آخرون. كيف غفل من قرءوا المثنوي عن موقف جلال الدين الحقيقي من أصحاب الديانات والمعتقدات الأخري؟ كيف غفلوا عن قصصه حول اليهود والمسيحيين؟ يقول: "تصادق مسلم ومسيحي ويهودي في سفرة، ولا تقل لي كيف حدث هذا فقد يجتمع الصقر والغراب والبوم في قفص واحد، هكذا رتبهم، ولا تعجب إن جعل المسيحي واليهودي في القصة" يريدان أن يبيت المسلم جائعا" فهو يعتقد أن .." النصاري ورثوا عن آبائهم ذهبا مزيفا ودراهم مغشوشة، وذراعا مشلولة، وصحراء قاحلة وعليهم إن أرادوا النجاة الدخول في الإسلام".. إنه مثلا يري اليهود بغيضين لمجرد أنهم يهود» ص163.

وإذا كان جلال الدين، ليس بهذه الصورة (المقدسة) عند الملايين، فكيف استطاع أن يستمر نسله طوال ثمانمائة سنة، علي السمع والولاء، والتسليم؟

واستمرارا لحيلة الكاتب الروائية في إنطاق الموتي، يستمر علاء الدين، ابن مولانا، في حديثه إلي الكاتب، حيث نجح في استغلال التشابه بين الاسمين، وجعلهما يتماهيان، وليد علاء الدين الكاتب، وعلاء الدين وَلَد، ليضع الكاتب رؤيته علي لسان الشخصية الروائية (الحقيقية) في ذات الآن، وكأنه – الكاتب – يقف علي الحياد، أو كأنه يقول، وشهد شاهد من أهلها: «المنهج الذي يحاول مولانا التملص به من ورطته بأن يجعلها "مجرد أمثولة لمعني أعمق" سيقولون لك: لاتقف عند الظاهر فنحن أهل باطن! إذا كان مولانا بالفعل لا يريد إلا ضرب الأمثلة، فلم اختار مثالا ينز بالكراهية لأهل دين بعينه؟ إنه يستولد فهمه لقصص القرآن عن اليهود، ويغزل علي منوالهاهذه القصة وغيرها الكثير، منطلقا من قناعة عميقة بأنهم أهل شر وخبث باطني وعداوة لغيرهم من مسلمين ومسيحيين .. أين هذا من صورة الرومي التي روجوها؟ أين هذا من أبياته الرائجة التي تنضح بالسماحة؟» ص163.

ويواصل كشف زيف مولانا: «هو لا يقبل كل الطرق إلا لتصل إليه، إنه تحت القشرة حنفي حتي النخاع وإن كان صوفي الطريقة والهوي. والرجل الحنفي يقول: لو أن رجلا عبد الله تعالي خمسين سنة ثم جاء يوم النيروز وأهدي إلي بعض المشركين بيضة، فقد كفر وحبط عمله». ص164.

وتبرز السياسة من جديد، وهي الغاية والجوهر في النهاية، فهي المال، والسلطة، وهما غاية من حاولوا الوصل إلي الحكم، قديما وحديثا. عندما يسأل السارد "علاء الدين عن استغلال "حسام الدين جلبي" في نسج أسطورة جلال الدين باستكتابه المثنوي، وجمع الفلوس لشمس، فلماذا استسلم الناس لتلك الأساطير؟ فيجيب علاء الدين بأن قدوم المغول علي الأبواب، جعل الحكام في ذعر، والناس يعيشون كل ساعة أنها الأخيرة في حياتهم. «في أرض الخوف تتعاظم الآلهة، ويتعاظم من يتحدثون باسمائها "إرم همومك عليه تأتك راحة البال" وماذا إذا لم تأتك الراحة ويهدأ البال؟ لاشك أنك أنت المقصر وليس هو ولا إلهه. وعليك أن تظل منتظرا! وإن لم تأتك الراحة حيا، فهي –بلا شك- من نصيبك بعد الرحيل ... في فوضي الأناضول تنازعت الديانات والمذاهب علي السلطة» ص166. وكأن الكاتب يُلبس الحاضر ثوب الماضي.

وبعد أن ترك الكاتب، حياة جلال الدين بين يديّ القارئ، يستخلص منها ما يشاء، بصل إلي التصريح، الذي ينطق به المشحون غضبا منه، ابنه علاء الدين، ليتساءل بدوره، ويقدم الإجابة: «هذه أسطورة .. هكذا تُصنع الأساطير. من هو جلال الدين بالنسبة إليكم؟ رجل عاش قبل ثمانمائة سنة، نقلوا لكم عنه قصصا مذهلة، وترك كتبا قالوا عن أحدها إنه أكملُ كتابٍ في اللغة الفارسية، ورددوا علي مسامعكم مختارات منه فاكتملت القصة، ولكن لم يقرأ أحد. المثنوي، نظم مسجوع لقصص ركيكة سطحية تدعي أنها عميقة المعني. وحجتهم في تلك الركاكة [أن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها][2]. كتاب يُلغز ثم يقول لك إن لم تفهم ألغازي أو تعجبك حكاياتي فليس العيب فيها. إنما في ذاتك... راجع نفسك.. انظر في مرآتك» ص161. «إنه يبدي لك قشره، ولكنه لا يسفر لك عن لبه، لقد اختفي أمامك كما يُخفي المحبوب وجهه بالبرقع والحجاب، ذلك أنك غير خبير بأقدار الكتب بحيث يبدو لك القرآن – من تَجَبُرِك وعنادك – مجرد أساطير وحكايات كأنه كتاب الشاهنامة أو كتاب كليلة ودمنة» ص162.

ويكرس لنا الكاتب أنه ليس البسطاء من انخدع بدروشة الصوفية فقط، وإنما، أيضا، الشاعر الذي ذاعت أشعاره "محمد إقبال، كان واحدا من دراويشه، وكتب فيه شعرا، مما دعي السارد لانتقاده.

ثم يصور لنا الأثر الفعلي ل(مولانا) وكأنه ينسحب بالزمن إلي مئات السنين بعده، فيصور لنا الأثر الذي كان، وكأنه يقرأ المشهد الكائن، حيث تحولت أفعالهم إلي القبور، بدلا من الزهور: «في الحديقة الخلفية لمقام جلال الدين الرومي لا توجد زهور، فقط مقابر، رغم أن هذا المكان كان حديقة ورد تابعة لقصر السلاجقة أهداها السلطان علاء الدين كيقاد إلي والد جلال الدين، سلطان العارفين بهاء الدين وَلَد، الذي كان أول المدفونين في هذه الأرض». ص69. إشارة إلي أن الحياة ما هي إلا طريق للقبور، فكانوا دعاة موت، لا دعاة حياة. وكأنه ترجمة للمكتوب علي شاهد قبره «يا من تبحث عن مرقدنا بعد شد الرحال، قبرنا يا هذا في صدور العارفين من الرجال». ص54.

فإذا كانت هذه هي الحقائق الخفية وراء تلك الهالة حول جلال الدين. فماذا عن الشخصية الأخري، التي ارتبطت بها، ونالها من الشهرة ما يكاد يصل إليها، "شمس الدين التبريزي، الذي إلتقاه مولانا، وأصر أن يقيم معه في بيته؟ يكشف لنا –أيضا - الصوت المعارض داخل بيت جلال الدين، ابنه علاء الدين، رافعا للقشرة المغلفة، مُظهرا للجوهر الخفي في الشخصية. يقول صوت علاء الدين «نبت التبريزي من العدم، وتغذي علي القلق الوجودي الذي حاصر جلال الدين في سنواته الأخيرة، نفذ إليه من حيرته بشأن الله، وانشغاله بطبيعة علاقته بالكون والناس، ضرب جذوره بين طيات عدم ارتياح أبي إلي الصورة التي رسمها الفقهاء التقليديون للإله، التقطه من مستنقع الشك وجذبه إليه،لا ليريح قلبه، أو يؤنس قلقه، أو يعيد ترتيب طيات روحه، بل ليصنع منه – وهو الشيخ العابد – صنما يزوره الناس، وجلس علي أبواب معبده يقبض الثمن» ص155. فقد أصبح "الجلبي" هو من يرتب الراغبين في رؤية مولانا ، بعد أن كانت مهمة شمس، الذي كان يسأل «ماذا أحضرت وماذا تُعطي مقابلا لكي أظهره لك؟» فإذا ما أراد أحد المريدين رؤية شمس فعليه أن يقدم عشرة أو عشرين ألف درهم، وإذا ما قدم المال، فإنه يتكلم إلي شمس، أو إلي مولانا.

وإذا كان الكاتب قد استطاع أن يصنع ثقبا في الجدار السميك من القداسة، والدروشة، المحيطة بذلك الرمز صاحب الهالة، فأفرغ هواء الإطار، وأفقده صلاحيته. فكيف نتقبل ذلك الهجوم، والمعارضة من داخل البيت نفسه، حيث يقف الإبن علاء الدين، ويتحول إلي مرشد للكاتب، كاشفا عن نقاط الضعف في البيت؟.

يعود بنا الكاتب إلي الحالة الإنسانية، ونوازعها، فيكشف عن الغيرة، الممتدة، بين الأخوة، منذ قابيل وهابيل، فَيُقِر علاء الدين بغيرته من أخيه (سلطان ولد) لكون الأخير هو الإبن الأول لجلال، فحظِيَ بحبه وميله، فاستغل "سلطان" هذه الحالة، واصبح يوافق أباه علي كل شئ، بينما كان هو (علاء الدين) لا يرحب بالكثير من تصرفات أبيه، خاصة (رقصة السماع)، وهو الشيخ الوقور، وإن كنا نتبين فيما بعد أن دوافع نفسية أخري، لابد لعبت دورا في موقفه ذاك. لذا «يتحدثون عني لأبي نفسه ليعزلوني عنه، لمجرد أنني رفضت أن أتحول إلي ظل باهت لهم، يقول أحدهم وقد نقخ الإيمان أوداجه فاحمرت "إنه ليس من أهلك، إنه عملٌ غيرُ صالح"[3] . صرت أنا العمل غير الصالح لمجرد أنني حاولت إنقاذ كيميا أخت روحي من السقوط في فخاخهم، صرت أنا "ليس من أهلك" لمجرد أنني وقفت أمام بطشهم وعبثهم بحبي لها وحبها لي، صرت عدوا لهم لمجرد أنني لم أفرط في حقي في كيميا، يلهجون بالعشق ليل نهار ويقتلون العاشق الصادق الوحيد بينهم» ص176.

وهو ما يستحضر قصة كيميا، ثالث الشخوص الرئيسية في البيت، تلك التي أنشأ الكاتب روايته دفاعا عنها- ظاهريا- ، وإن كانت حواراتهما معا تفيد، علي عكس ما صرح، بموافقته – الكاتب – علي رؤية كل من شافاق ومفروي، من أن كيميا هي التي سعت لشمس الدين التبريزي، حيث يهمس الكاتب لنفسه بعد ما سمع هذه الكلمات المكلومة، والشخصية، من علاء الدين «خشيت أن اقول له إن كيميا، في بركة الصور التي غرقنا فيها، هي فتاة هامت بشمس التبريزي، الذي كان – رغم تجاوزه الستين من عمره بسنوات – فاتنا تنسدل جدائله السوداء علي وجهه، وتلمع في سوادها عيناه المشعتان ببريق آخاذ لم تملك أمامه سوي أن تتمناه! هكذا قالت شافاق يا صديقي، وقالت مفروي إن كيميا هي من طلبت يد شمس لنفسها من جلال، لأنها رأت فيه الطريق إلي الله!» ص177.

كما أن قول علاء الدين نفسه عن تلك الأحاسيس التي تنتاب كيميا عند رؤيتها "شمس"، ما يوحي بتلك الرغبة منها تجاهه، في الوقت الذي لم يرد شئ عن مجرد تفكيرها في علاء الدين، ليظل حبه لها من طرف واحد، وخيالاته هي التي صورت له أن الحب متبادل: «صمت الصوت قليلا.. تجسدت لي كيميا... لمعت ثيابها الملونة بين تكسرات الشمس والظل علي جدران المنزل. مرقت مضطرة – ككل مرة ترغب في الخروج – من أمام غرفة شمس الدين التي منحها له مولانا منذ قرر أن يعيش بينهم، تربكها نظراته، وإن كانت من خلف جدار. توشك أن تؤمن بأن هذا الشيخ الغريب يري من خلف الجدران والملابس، ويري في العتمة كما تفعل القطط. نظراته تعريها، تشعر بجسدها يكاد ينهزم ... في هذا البيت الذي ألفت أهله وألفوها، تبعث في جسدها شعورا يراوح بين الخوف والرغبة، تنتصب لها شعيرات جسدها، تسري من أسفل ظهرها قشعريرة فتتصلب حبتا توتها ويرتعش عنق تينتها الغضة، وترغب في المزيد.» ص156. ورغم ذلك يقول علاء الدين : «كيميا وأنا تعاهدنا علي الحب منذ تلامست كفانا حين دخلت بيتنا أول مرة، كيميا طفلة لم تُدرك الفرق بين الله الذي يشعر به قلبها، والجحيم الذي قدموها إليه باسمه» ص177. وكأن خيالاته جسدت رؤي لم يرها، وليتحد السارد وعلاء الدين، مرة أخري، في الهذيان، أو تداخل الحلم والحقيقة لديهما. الأمر الذي يُحسب للكاتب في القدرة علي رسم الشخصية. خاصة إذا تأملنا رؤية السارد ل"كيميا" فسنجده يراها في أشكل مختلفة، تميل كلها إلي التصور، والشاعرية، فمرة يراها عصفورة، ومرة يمامة، ومرة طفلة ترعي العنزات. وفي كل الحالات، تخرج له كرؤيا مُتخيلة «هناك، خلف الجبل ظل كيميا، رحت أعدو متقطع الأنفاس، مأخوذا بتغيرات الضوء المفاجئة والسريعة». ص129. حيث الصورة المرسومة بالضوء المفاجئ والسريع، ما يمنح المشهد شكل (الزغللة) «مرقت كيميا برشاقة عبر باب الكوخ الخشبي الشاهق، تبعتها عنزتها» ص129. ولتتحول "كيميا" إلي أيقونة، لدي الكاتب، أو رمزا لتلك البراءة، أو ذلك النموذج المسحوق بين الأقدام، في زحمة المولد.

التقنية الروائية:
استعمل الكاتب، أكثر من حيلة روائية، ساهمت في إخراج الرواية، رغم احتشادها بالمعلومات، بالشكل الروائي المدهش الذي خرجت به. منها:

اللغة الشاعرة
علي الرغم من أنه ليس بالرواية حكاية، أو (حدوتة) معينة، إلا انها حفلت بأكثر من قصة داخل السرد، استخدم فيها الكاتب إمكانياته في اللغة الشاعرة، الموحية والممتعة، الأمر الذي ساهم في عنصر التشويق حتي نهاية الرواية، مستخدما إمكانياته الشعرية الخالقة للصور، والدافعة للتخيل، لتصوير الفارق بين السطح (الأخضر) وما تحته (الأسود)، كما رؤية "كيميا" تتصارعها كف الشر، فتنقض كف الخير، الذي، وإن كانت قد جُرحت، إلا ان الخير، او النور، ليس دائما ينجو من الشرور.

ففي مشهد رائع الخيال، وكاشف عن الرؤيا الداخلية للسارد، وتصوره لما عانته "كيميا" التي وجدت في بيت محاط بالآلاف من البشر، والكثير من التبجيل والتهليل، بينما عاشت منسية، وماتت دون أن يعرف عنها أحد كيف ماتت، ولا اين دُفنت، فكأنها نسيا منسيا، حتي أن أحدا ممن سألهم عنها السارد، إلا وكان الامتعاض والدهشة المتسائلة عمن تكون.

فالعنزة الكبيرة ترفض إرضاع الصغيرة.. لأنها ليست ابنتها ورزقها علي الله.. هذا ما قالته البنت للسارد، والذي رأي فيها "كيميا"، البنت التي رسمت درجا صاعدا للسماء.. ثم تخيل السارد تشكل نمر أو فهد ثم يتحول –في مخيلته – إلي قبضة وكف، تسير علي الدرج فتمسحه «انتزعت القبضة حزمة من عُشب الأرض، عرتها فبدت التربة سوداء قاحلة. قبضت الكف العشب وراحت تتعقب الدرجات التي رسمتها الطفلة. تمسحها درجة درجة في غضب ورعونة. اصابني الفزع، هل يهوي السلم الآن؟ وما مصير الطفلة والعنزة؟ مسحت الكف درجة وراء درجة. وقلبي مُعتصر وليس بيدي حيلة .. من حيث لا أدري، انقضت كف قوية. هبطت من عل كأنها ابنة الفضاء. كف فتية عفية بيضاء، اعتصرت الكف السوداء. تصارعتا معا. رأيتهما تتقلبان علي المرج الواسع، وحولهما تتقلب ظلال أضواء السماء، قرنان متقاربتان، لا أظن النصر سيكون حليف إحداهما، راهنت علي الوقت، الوقت. الوقت فقط كفيل بأ يسمح للطفلة والعنزة بالوصول إلي الأمان.. ارتفع ثغاء العنزة وجاء صوت البنت كأـنما يتنزل من السماء " ارحل يا علاء الدين.. وصلتُ الآن" "اختفت الكف السوداء.. ركضت الكف اليضاء .. لمحتها تتدحرج علي الدرج..استوت فتي شديد البهاء وقفت أمامي.. بيني وبينه حاجز. عيناه حزينتان وكفه جريحة وشفتاه ترددان: كيميا» ص63.

وكذلك، هذا التصوير الشعري، الذي يوحي أكثر مما يصرح، ليصف حالة أولئك الساعين إلي التبرك ببركات مولانا، خالعين أجسادهم، ومحلقين علي أمل الخلاص، حيث ماتت أجسادهم، وهامت أرواحهم «مَنْ هنا الميت ومَنْ الحي؟ من أطلق الحمائم البيض من أقفاص أجسادها لتحلق علي صدي رجفات قلوبها دائرة علي محور حنين خفي إلي الانفلات من الأسر، أم من يتلظون شوقا إلي مجرد افراجة يمر من خلالها بصيص نور يضئ ولو قليلا عتمة القلب والروح؟ من اخترق الزمان والمكان بزمان ومكان صنعهما بنفسه، بجنونه، وصاغ جنونه شعرا مس قلوب القاصي والداني، أم هؤلاء الحائرون الذين يغص بهم المزار؟» ص55.

إختلاف بنط الكتابة
حيث ميز تلك الأقوال الآتية من بعيد عبر الزمن، مثل حواراته مع "علاء الدين وَلَد" ابن مولانا، ميزها بالخط المائل. كما ميز رسائله لصديقه، التي يشرح فيها تفاصيل الرحلة، والتي جاءت مسلسلة تحت عنوان "في الطريق إلي مولانا" والتي تُشكل إذا ما جمعناها بتسلسلها، سنخرج بتجربة الرحلة، منفصلة. ميزها ببنط أقل. بينما جاء سرد السارد بالبنط العادي. وكأن الكاتب خشي علي قارئه أن يتوه وسط الخيالات والتهيؤات. فأرد أن يعنه، أو يرشده.

الرؤية المشهدية
من بين الحِيَل الروائية، الجاذبة للقارئ، لتجعله في حالة انتباه دائم، تصوير المشاهد، الأقرب للدراما، والمحفزة للترقب. مثل هذا المشهد «صمت الصوت قليلا.. تجسدت لي كيميا ... لمعت ثيابها الملونة بين تكسرات الشمس والظل علي جدران المنزل. مرقت مضطرة – ككل مرة ترغب في الخروج – من أمام غرفة شمس.» حيث نشعر وكأننا نستمع لدقات المسرح، والتي عنها يصمت الجميع، فلا تسمع إلا صوت الصمت، لأن حدثا جللا سيقع الآن، {صمت الصوت قليلا} ثم يبدأ الممثل في الظهور وسط الضوء الخافت، قبل أن تضاء الأنوار{تجسدت لي كيميا} رويدا رويا {لمعت ثيابها الملونة} ومازال الترقب ومحاولة الاستكشاف {مرقت مضطرة} وكأننا في حالة تلصص، وهو ما كانت تفعله"كيميا في تلصصها، وتنصتها علي شمس الجالس وراء الجدران. ثم اكتملت الإضاءة وتحرك الممثل في الضوء «ككل مرة من أمام غرفة شمس».

وكذلك في تعايش الجسد البشري مع الموسيقي، وكلاهما من عناصر، أو معالم الصوفية . عرضت الرواية مشاهد عديدة علي كيفية (رقص السماع)والتي تعتبر أحد معالم الصوفية، من جلال الدين، وحتي ما نراه في الموالد الشعبية الآن، وفيها يدور الناس حول أنفسهم علي نغمات الموسيقي، التي لعبت دورا كبيرا في عالم الصوفية. نسجها الكاتب في ثوب الرواية فاصبحت جزءً منها، يزيد الرؤية إضاءة «رايت قاماتهم تمتد وتطول علي إيقاع موسيقي صاعدة من جوقة في ركن الخيمة. ارتفعت الموسيقي وتأججت نغماتها إلي أن هبطت في حدة، وتجمعت في نغمة"فا" واحدة كالتي تصدرها سحبة قوس علي أوتار كمان، راحت النغمة تعبئ المشهد بالتوتر والشجن» ص167.

محادثة القارئ
من المعروف أنك حين توجه الحديث لشخص محدد، فإن الطبيعي أن ينتبه إليك. وهو ما فعله الكاتب حين اتجه إلي قارئه بالحديث، بصيغة الاختيار المُلزم، بمعني أن تُخير من تحدثه بين أن يستمع أو لايستمع، فالإجابة غالبا ما تكون بالإيجاب، وهو ما يخلق حركية بين المتحدث والمستمع، أوبين الكاتب والقارئ «إشراقات روحانية! لكن لأؤكد – لنفسي أولا، ثم لكم – إن كان يهمكم الأمر» ص19. خاصة عندما يتحدث الكاتب باسه الحقيقي المنقوش علي غلاف الكتاب «دققت النظر في المرآة، ثلاث عبارات كُتبت بخط جميل متراقص علي زجاجها المضبب: سَن وليد علاء الدين سِن، بَن علاء الدبن وَلدتَر، سَن بِنم ترستر» ص13. «انتظرتك طويلا. ليس أمامنا مزيد من الوقت. كن مستعدا» «أنت وليد علاء الجين.. وأناعلاء الدين ولد.. فأنت شبيهي».

حضور لغة العصر
اختفت الحائط الرابع كثيرا، فأصبح الكاتب وكأنه يمارس عملية الكتابة أمام قارئه، مستخدما وسيلة العصر السريعة والناجزة، فكانت الرسائل الإليكترونية، وكان البحث عن المعلومة، وفق ما هو الآن، وكلما تعثرت عليه المعلومات، لم يكن أمامه إلا «ما إلك إلا جوجول» مصحوبة بروح السخرية الخفيفة في كثير من الأحيان، وكأنه يتخفف بها من جهامة الرؤية «دعكت مصباح العصر السحري» ص46.

وفي نهاية الرحلة، لا نملك إلا أن نقول أنه مثلما واجه وليد علاء الدين في رحلته إلي تركيا، الكثير من المغامرة، والكثير من المتعة، والكثير من الكشف، والمكاشفة، مثلما نجح في خلق اسطورة "كيميا" لتكون طعنة في جسد الفكرة، وبابا تأتي منه الريح المثيرة للتساؤل في العقول، التي غيبها الانقياد وراء الأساطير، فضلت وانقادت لحكامها، فعاشت نسيا منسيا، وحقا مُضاعا.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

 

[1] - وليد علاء الدين – كيميا – رواية – دار الشروق – ط1 2018.

[2] - الآية 36 من سورة البقرة.

[3] - الاية 46 من سورة هود.