في مقاطع مكثفة يصوغ القاص المغربي محنة الإنسان في أوطاننا العربية ومحنة الحريات، فالشخصية المنحدرة من عائلة كادحة يجدّ ليدخل سلك التعليم والثقافة والترجمة، ويكون له صوت حرّ، فتفصله السلطات ليعود إلى عمل أبيه في تصليح الأحذية، مما يضطره لبيع قدراته لصديق في عملية إذلال للأصوات الحرة.

الاسكافي

لعميري عبد الجليل


1

هو الان يستخرج من مزود خبرته ما تعلمه ايام الشباب من تلك الحرفة العجيبة .قال له ابوه ذات صباح خريفي بارد :"هذه الحرفة يا ولدي هي التي اطعمتكم وكستكم و حمتكم من التشرد والجوع ... ولكنها تجعلك تنظر دائما الى الاسفل ... الى اقدام البشر لا لوجوههم.

2

انا الان اذكر نصف ما قاله أبي: "هذه الحرفة يا ولدي هي التي اطعمتكم وكستكم وحمتكم من التشرد و الجوع"،اما النصف الثاني فلا يهمني ... فوجوه البشر لا قيمة لها عندي انهم جحيمي، وجوه النعال ارحم.

3

بعد ان نشر ذلك الكتاب الذي سماه البعض "الكتاب الملعون"، انهارت كل السبل امامه، وضاقت به الارض .. جردوه من عمله كموظف في التعليم بحجة انه اصبح خطرا على الناشئة، حرموه من اي تعويض رغم انه عمل لأكثر من عشر سنوات، وصودر الكتاب ثم اغلقت كل المجلات والجرائد في وجهه ابوابها. اصبح ممنوعا من اللقاءات والنشر والعمل.

4

بعد طردي من العمل و محاصرتي في الاعلام و النشر، عدت الى حرفة ابي تحت شعار (حرفة بوك ليغلبوك)، وفي نفس دكانه الصغير الذي ظل مغلقا منذ وفاته لبضع سنوات (وكنت ادفع اجر كرائه)، اصبحت انظر للأسفل بعد عجزي عن دفع كراء مسكني و دكاني. لقد وقتني الحرفة من الجوع و التشرد مؤقتا في انتظار حصار جديد.

5

صديقه القديم كاتب "محترم" لانه عرف من اين تأكل الكتف، اقترح عليه ان يترجم بعض الكتب والمقالات ،لأنه عرف عمق تمكنه من اللغات: الانجليزية الفرنسية العربية. و لكنه حذره من استعمال اسمه المحظور

6

صديقي الموظف الرسمي يخاف على اسمه من لعنتي،هو يعزني لصداقة قديمة و خدمات سابقة، وانا اقدر له مساعدته لي في محنتي من وراء حجاب في وقت عزت فيه مساعدات الاخرين الذين تساقطوا امام الحصار .. لذلك اقترح علي ان اترجم مقالات وروايات باسم مستعار... لعله خجل من ان يقترح علي اسمه، ففاجأته: «لماذا لا اترجم باسمك؟» احمر وجهه و قال: "انت تعرف مستواي في اللغات الاجنبية .."قلت "والاخرون لا يعرفون ... سأترجم باسمك على ان تناولني نصيبي فيفتي فيفتي ...اوكي" فهز رأسه في خجل.

7

أصبح الدكان مسكنه و مقر عمله، عندما تمر أمامه تراه دائما يحمل كتابا او يسود أوراقا على مائدة صغيرة فوقها ركام من الكتب .. عيون تراقبه والناس يتساءلون "كيف يعيش هذا الرجل و لا احد يصلح حذاءه عنده؟

8

صديقي المثقف الرسمي قدم لي خدمة عظيمة، فقد احترم الاتفاق المبرم بيننا، وظل يوصل لي نصيبي وزيادة .. بل لقد فاز بجائزة في الترجمة، وجائزة في الرواية فاكترى لي بيتا في مدينة بعيدة، لأنه ترقى في المشهد السياسي والثقافي. واصبح في ديوان وزير كبير وتدخل لتخفيف الحصار عني بشرط ان اتوقف عن مشاغبة الدولة وكبارها...
لهذا انا الان –تلبية لشرطه-اكتب رواية "الاسكافي" لأفضح فيها كل ما اعرفه ... وليكن ما يكون....


الشماعية