دخل المستخدم، وزّع فناجين القهوة، ثمّ خرج، فتابع الرجل حديثه:
تعلمون أننا دولة متخلّفة، أقصد: دولة نامية. بعد أن نجح الانقلاب، أقصد الثورة.
توقف عن الكلام، أشعل سيجارةً، وأخذ رشفةً من قهوته، واعتدل في جلسته، وهو يلقي نحو ضيوفه نظرةً متمهّلة، وتابع من جديد:
إذن، بعد أن انتصرت الثورة، وقتل من قتل، واعتقل من اعتقل… توقّف عن الكلام من جديد، مصّ نفساً آخر من سيجارته، فكّر، وهو يجيل نظره على ضيوفه الجالسين على مقاعد توزّعت على أطراف غرفة المكتب الواسعة: "ملعون أبو المشروب، ثلاثة فناجين قهوة حتى الآن، ودماغي لا يزال مشتتاً!" نبّه نفسه للتركيز على كلماته القادمة، وتابع بهدوء:
كنت أقول: بعد أن انتصرت ثورة حزبنا المجيدة، وتمّت محاكمة رموز السلطة البائدة محاكمات عادلة، فأعدم المجرمون مصّاصو دماء الشعب، وسجن من يستحقّ السجن، وهرب من تمكّن من الهرب، كان أمام قيادة الحزب مهمّة إعادة بناء الدولة، وتصحيح ما خرّبته الطغمة الفاسدة، كان قرار القيادة الحكيمة أن يتمّ اختيار رجال الدولة الجديدة بناءً على مرتكزين: أولاً، ألّا يتقلّد المناصب، أقصد المسؤوليّة، إلا مناضلو الثورة الحقيقيّون، وثانياً، ضمان ولاء المسؤولين للزعيم الجديد… أقصد: الولاء للحزب والدولة.
صارت كلماته منسابة، منضبطة، وصار راضياً عن نفسه، غطس في كرسيّه، وهو يرى أثر كلماته مرتسماً في ابتسامات ضيوفه، رمق بطرف عينه الصحفيّ الشابّ الذي يجلس على كرسيٍّ جانبيّ، ثمّ أشاح بوجهه سريعاً عنه. كان الوحيد بين ضيوفه من الصحفيين الذي لم يبتسم، يجلس على كرسيٍّ جانبيٍّ، ببنطلون جينز وقميصٍ أبيض، تجاهله، وأكمل وهو ينظر نحو الآخرين:
شُكِّلت لجنة ثورية لوضع المقترحات اللازمة، اختلف أعضاء اللجنة، فكما تعلمون، لا يوجد ميزانٌ نستطيع، من خلاله، أن نحكم على ولاء الأشخاص للزعيم الجديد. توقّف لحظة؛ لكنّه تابع دون ارتباك، مصحّحاً: وبالتالي الولاء للحزب، والقائد المناضل هو رمز الحزب والدولة. القائد المناضل، بحكمته وحنكته السياسيّة، وجد الحل.
اشرأبّت نحوه أعناق ضيوفه، ورغم أنه لم يقل شيئاً يزيد عن المفردات المكرّرة في كلّ وقت، وعلى لسان كلّ مسؤول، إلا أنّ أسلوبه في الحديث هو الذي لفت انتباههم. استرق نظرةً نحو الصحفيّ الشابّ: ما يزال جامداً على كرسّيه، وملامحه ما تزال جامدة، يلقي إليه نظراتٍ مباشرةً أغاظته، أشعل سيجارةً جديدةً بهدوء، وتململ في كرسيّه، واسترخى قليلاً، ووجّه حديثه نحو الصحفيّ الشابّ، وهو يكتم غيظه:
أعتذر منك، فقد تأخّرت في الردّ على سؤالك؛ لكن كان لا بدّ من توضيح هذه النبذة من تاريخ ثورتنا المجيدة، التي لا يعرفها الكثيرون.
ابتسم الصحفيّ الشاب، ابتسامةً لا تكاد تُلحظ، فهذه "النبذة التي لا يعرفها الكثيرون" كرّرها المسؤول نفسه، في كلّ لقاءاته الصحفيّة منذ أن استلم المنصب، غير أنّه تابع الاستماع إليه بنفس الهدوء، والملامح الجامدة.
لكنّي سأجيب عن سؤالك حالاً -تابع الرجل كلامه وعيناه مصوّبتان نحو الشابّ- من حقّ الصحافة أن تسأل كما تشاء، ومن حقنا، كمسؤولين، أن نجيب كما نشاء أيضاً، تلعثم قليلاً؛ لكنّه تدارك دون توقّف: بعيداً عن الشعارات والخطابات الرنّانة.
ـ سيدي، قاطعه الصحفيّ الذي بدأ الملل يتسرّب إلى نفسه، أنا سؤالي كان…
ـ نعم، سؤالك هو: كيف وصلتُ إلى هذا المنصب؟… أنا لا أعتبره منصباً، هذه مسؤوليّةٌ لخدمة الشعب، ألقتها القيادة على كاهلي، وأنا سعيدٌ بأن أكون خادماً للشعب… إذن، القائد التاريخي وجد أنّ ولاء أعضاء الحكومة الجديدة يكون بإثبات معارضتهم للنظام البائد، والمعارضة تكون بالنضال، والنضال يكون بالاعتقال، ومدّة الاعتقال تحدّد درجة النضال، وبالتالي: مستوى المعارضة… لا معارضة بدون نضال، ولا نضال بدون اعتقال، ومن لم يعش تجربة الملاحقة والاعتقال ليس مناضلاً، هذه حقيقة تاريخية؛ وقائدنا الملهم، التقط هذه الحقيقة بفكره الثوريّ؛ لأنّه المناضل التاريخي الذي يعلم معنى النضال، وثمن النضال.
توقّف فجأةً عن الكلام وذبلت ملامحه، فقد أوقعه حماسه بسقطةٍ لم تكن محسوبة، تلجلج قليلاً، وحاول تدارك "هذه الغلطة الفظيعة" بنبرةٍ حرص أن تكون متوازنةً، رغم الثقة التي اهتزّت في داخله:
هو قائدٌ رمز، وعدم دخوله المعتقل لا ينفي عنه صفة النضال. النظام البائد كان يعلم جيّداً أنّ اعتقال رجلٍ بوزن قائدنا الرمز سيكلّفه كثيراً، وقد...
تململ في كرسيّه، وارتجفت شفته السفلى، ]وجفّ ريقه، وهو يحاول أن يغلق هذا الموضوع الذي جرّ نفسه إليه، دون مبرّر… ليس لأنّ إحدى السفارات حذّرت النظام من اعتقاله، كما أشاع أعداء الثورة من الطابور الخامس -أكمل وقد فقدت كلماته حماسها- لكن لأنّ ضمان سلامته، هو ضمانٌ لبقاء النظام… ولو مؤقتاً، قال الكلمة الأخيرة بنبرةٍ واهنة، وبدأ يتملكه شعورٌ بالإحباط والقلق، وبدا خائفاً من أمرٍ ما وهو يحاول إصلاح خطأ بخطأ آخر. نظر نحو ضيوفه: كانت العيون مشدوهةً، والوجوه محمرّةً ومصفرّة، إلا ذلك الصحفيّ الشاب، لمح ما يشبه الابتسامة على وجهه، ملأته غيظاً، وأعادته إلى السؤال الذي كان السبب في هذا الخطأ الكبير الذي ورّط نفسه به.
أعود إلى سؤالك، قال وهو يشيح بوجهه عن الصحفيّ، لأنني كنت معتقلاً في سجون النظام، فقد رأت القيادة تكليفي بهذه المسؤولية.
ـ ولكن -يا سيدي- أنا سؤالي كان كالتالي: قبل الثورة كان اسمك حمدان الدايخ، ما سبب تسميتك بهذا الاسم؟ أعاد الصحفي السؤال، وهو يخرج من حقيبته عددا قديماً لمجلةٍ فنّيّة، ما إن رآه الرجل، حتى احتقن وجهه، وتضخّمت رقبته، وفقد ما تبقّى من تماسكه، راح يغطّي انفعاله بحركاتٍ خرقاء: أشعل سيجارةً جديدة، دون أن ينتبه للسيجارة المشتعلة على منفضة السجائر، مصّ منها أنفاساً متلاحقة، ورفع فنجان القهوة يرتشف منه، فلم يجد سوى حثالةٍ ابتلعها مرغماً، وهو يفكر بالنتائج الوخيمة التي سيتركها هذا اللقاء، وما تورّط في قوله، وهو يعلم أنه موضوعٌ حسّاس، لا أحد يجرؤ على الخوض فيه، تمنّى لو كان بمقدوره أن يطرد الصحفيّ، أن يطلب له الأمن... لكن، في المقابل، كان التفكير في ما قاله عن تاريخ الزعيم هو الذي يشغله، وهذا لم يعد بالإمكان إصلاحه، نظر نحو ضيوفه يستمدّ منهم شيئاً من القوّة: كان بعضهم ينظرون إلى أقدامهم نظرة جمودٍ، مشنّفين آذانهم، وآخر ينظر نحوه نظرة خوفٍ أو اعتذار، وآخر ينظر نحو الصحفيّ بعيونٍ واسعةٍ رأى فيها مكراً… "كلّكم منافقون يا أولاد ال…"، شعر بأنّه محاصر، حاول رسم الابتسامة؛ لكنها كانت مجرّد اعوجاجٍ متوتّرٍ في حنكه السفليّ:
ـ حمدان الدايخ!!، بدأ كلامه بصوتٍ خفيض يرتفع تدريجيّاً، وبنبرةٍ أرادها حميمية، لكنّها صارت كأنها ردّ اتهامٍ في محكمة، حمدان الدايخ، لقبٌ أعتزّ به، وأعتبره وساماً، لأنه كان يمثّل موقفي المبدئي المعارض. لعلّك تسأل كيف؟ وأنا سأجيب، حتى دون أن تسأل "يا بن ال… همس في داخله". لهذا اللقب قصّةٌ لا يعرفها الكثيرون، وأنا لا أحبّ أن أرويها، لأنّي لا أحب الحديث عن نفسي… لنعد للموضوع، ما علاقة اللقب بالمعارضة؟ أنا، كما يعلم الجميع، ابن أسرةٍ مكافحة، جئت من القرية قبل الثورة بستّ سنوات، دخلت الجامعة، وهناك لمست الفوارق الطبقيّة بين أبناء الفقراء، وأبناء الأغنياء، أثرياء الفساد، عشت صراعاً فكريّاً حادّاً، رسبت في السنة الأولى مرّتين متتاليتين، ليس لأني كنت أتردّد على الملاهي الليليّة، كما كان يحلو للصحافة الصفراء أن تنشر، وللصحفيّين المرتزقة أن يكتبوا -قال ذلك بحنقٍ، وهو يشير الى المجلة القديمة التي وضعها الصحفيّ الشاب فوق المنضدة الصغيرة- بل لأنّ عقلي لم يحتمل التناقض بين موقفي، وبين بطش النظام المتربّص لكلّ معارضٍ، فكنت أسكته بالخمر. توجّهت بعد ذلك إلى المرابع الليليّة، حيث وجدت ذاتي، التقيت بالفئات الاجتماعية المهمّشة، الذين لا يجرؤون على الجهر بمعارضتهم، رفاقي الحقيقيين!... وطبيعيّ، بعد ذلك، أن تصبح الجامعة ترفاً.
تعرّفت، على الفنانة، الراقصة الاستعراضيّة دلال، وتبعتها… لا أقصد تبعتها بالمعنى الحرفيّ؛ لكنّي اندمجت مع حياتها، جمعتنا المعاناة المشتركة… بطبيعة الحال، السيرة النضاليّة للفنانة دلال معروفة، نشرتها الصحف الوطنيّة بعد انتصار الثورة، كانت تربطها علاقات ... علاقاتٌ رفاقيّة طبعاً! مع كثيرٍ من المناضلين من قيادات الثورة؛ الرفيقة دلال امرأةٌ مكافحة، وقفت إلى جانبي كثيراً، وأنا كذلك وقفت إلى جانبها، كنت أحميها من الذئاب التي تحيط بها… من هنا جاء لقب الدايخ، من الحارة الفقيرة التي كنت أعيش فيها، أطلقه أهل الحارة..."التافهون! تمتم وهو يأخذ نفساً عميقاً"… معذورون، فهم لم يعرفوا أن الشرب كان ملجئي، وخياري الوحيد للتعبير عن رفضي واقعاً مرّاً يغرقون هم فيه، دون أن تهتزّ لهم شعرة.... هذه كانت طريقتي الوحيدة الممكنة للتعبير عن معارضتي… أضعف الإيمان!.
التقط حركةً من أحد ضيوفه، تنمّ عن تململٍ، أو ضيقٍ، وسرت قشعريرةٌ باردةٌ من رقبته حتى أسفل ظهره، تناول منديلاً ومسح العرق الذي نزّ من جبهته، وأسرع في إنهاء حديثه الطويل، الذي لم يعد يعرف كيف يلملمه:
الرفيقة دلال هي التي رشّحتني وأخبرت اللجنة عن اعتقالي تسعة أشهر في سجون النظام، بعد أن ضربت أحد الأوغاد الذين حاول الاعتداء عليها في الملهى، مستخدماً نفوذه لدى النظام البائد.
أنهى الرجل حديثه، وغادر ضيوفه؛ لكنّ قلقاً شديداً انتابه، فالتقرير الذي سيرفع إلى القيادة سيذكر، بالتأكيد، الخطأ الذي ارتكبه، وما استتبعه من أخطاء أخرى للتغطية عليه.
لم تنشَر المقابلة في الصحف، والصحفيّ الشابّ غادر البلد قبل أن تتمكّن منه أجهزة الأمن، غير أنّ وسائل الإعلام كلها، بعد ثلاثة أشهرٍ من هذا الحديث، نشرت فضيحة الدعارة في الشقّة التي تملكها الفنانة المعتزلة دلال، والتي تورّط فيها مسؤولٌ كبير، ثمّ بدأت تنشر ملفّات فسادٍ كبيرة ورد اسمه فيها. طُرد من الحزب، ونُزعت عنه صفاته الرسميّة في الدولة، وانتهت بعنوانٍ صغير في زاوية إحدى الصحف الوطنية عن انتحار الخائن: حمدان هلال، الشهير بحمدان الدايخ.
بون