بعد حصولنا على مركبة خصوصية، وضعنا أنا وزوجتي برنامجاً ترفيهياً كي ندفن ضيم سنوات الجوع، قررنا في نهاية كل شهر بعدما تمتلئ جيوبنا بالمعاش، أن نستمتع بسفرة سياحية قصيرة، كي نكنس أوضار الواقع المتراكم فينا، ومن جهة أخرى نستكمل نواقص بيتنا من حاجيات رديئة اجتاحت أسواقنا، معظمها كماليات، وغالباً ما كانت زوجتي تملئ حوض المركبة الخلفية بالألعاب ودمى الأطفال والمنمنمات النازفة للنقود، فهي تمتلك ولعاً قديماً بتبديل أماكن الموجودات والديكورات كل أسبوع، مما يسهل ذلك عملية تدميرها مبكراً وتوفير فرصة حاسمة لمزاجها المتذبذب بتبديل الأثاث.
كلما تسمع هبوط أشياء جديدة إلى الأسواق عبر ألسنة زميلاتها، دم جسدها ينتفض، يضيق أفق فكرها، تفقد تركيزها، تتحرق شوقاً لمجيء نهاية الشهر كي تستلم راتبها وتهرع لشراء تلك الأشياء الجديدة، كي تبز زميلاتها في العمل من جهة ومن جهة أخرى تخمد نيران فضولها.
زوجتي لها طبيعة إلقاء الأشياء القديمة إلى القمامة، مهما كانت درجة فائدتها، كثيرة هي الموجودات التي رمتها، كانت سليمة، بإمكانها أن تصمد لسنوات أخر أمام زحف الموضات المتلاحقة.
تلك الطبيعة لفتت انتباه صبيان الزقاق، راحوا يقفون لها بالمرصاد، وتوصلوا إلى نتيجة محسومة، ضبطوا ميقات تطعيمها قمامة الزقاق بأشياء منزلية ثمينة، يحملونها ليبيعوها في سوق (السبت).
يترقبونها نهاية كل شهر، وكلما كانت تسحل كيساً مملوءً بأشياء نافعة، تحدث مشاحنات وعراك بينهم، قبل أن تتدخل هي وتجد لهم الحل المرضي أمام حشد من أهل الزقاق، تفتح الكيس وتوزع ما فيه عليهم وفق مزاجها، وتعود بوجه ضاحك ممتلئة حبوراً كأنها عاشت ليلة زفافها.
لم تنفع جهودي الحثيثة لتغير استراتيجية عقلها، الأمر الذي دفعني أن أحل حبل غاربها على هوى مزاجها، متوقعاً أن بصيص أملاً ضعيفاً سيلوح في لوح المستقبل القريب، كي أتحرر من كابوس مرضها، لكن أيامنا سريعة تمضي، أزمنتنا تتشابك، ومرضها بات مزمناً.
***
ذات ظهيرة عادت من مدرستها، كنت في أرجوحة المنزل أقرأ في كتاب (ما بعد الحياة) لـ(كولن ولسون)، وقفت أمامي تلهث فرحاً.. قالت:
ـ استلمت الراتب!
ـ حسناً.
ـ غداً لدي(أوف) نذهب إلى (السليمانية).
ـ لكنها بعيدة، سترهقنا الرحلة!
ـ زميلاتي قلن؛ أنّ هناك أشياء جديدة وردت إلى الأسواق.
ـ لا مانع لدي ما دمت تسكنين مهجتي.
ـ أفضل الذهاب اليوم عصراً.
ـ كما تأمرين.
بعد الغداء توجهنا إلى مدينة (السليمانية)، كانت المصادفة أن فندق (أوسكار) في شارع (سالم) الذي سكناه، بجواره سوق كبير للدمى وألعاب الأطفال، بعد العشاء دخلنا إليه، امتعضت كثيراً لحظة وجدت زوجتي تصر على شراء دمية غريبة، تحتشد أمامها مجموعة نساء وأطفال تغمرهم لهفة عارمة.
قال عنها شاب يقف وراء طاولة الحساب:
ـتتكلم كلما يمر من أمامها شخص!
قالت امرأة:
تفيد الأغنياء، كي تحرس أملاكهم من اللصوص.
كلامها أصبح رأس مال لزوجتي وأطفالي، دفعت الحساب وحملتها إلى المركبة.
***
في الليل قلت لها:
ـ بدأت أشعر بالغيرة؟
ـ من الدمية؟
ـ أليست تتحدث؟
ـ بضع جمل لطيفة تم حشرها في قرص مضغوط يعمل بالبطارية!
ـ لكنها دمية تشبه رجلاً كبيراً؟
ـ آه.. منك يا (سالم) ، أنها دمية وهل يعقل أنها تنافسك علي؟
ـ عيناها مخيفتان.
ـ عيناك أجمل يا (سالم)!
ـ لا أدري بدأت أشعر بشيء يعصر قلبي.
ـ لا تفكر في الموضوع دعنا نستمتع بسفرتنا.
بعد يومين عدنا، كانت الدمية جالسة مع الأطفال، كانوا فرحين وهم يداعبونها، وكانت تطلق جمل مريبة، كنت أختلس النظر إليها، وجدتها ترمقني بنظرات منتصر في معركة عنيفة، كدت أن أفقد تركيزي في السياقة لولا تدخلي السريع:
ـ أرموها إلى الحوض الخلفي قبل أن أعمل حادثاً.
ألقوها بشيء من التردد، وحين عدنا.. قلت:
ـ لا تضعوها أمامي؟
قالت زوجتي:
ـ سأضعها في صالة الضيوف كي ترحب بهم.
لم أحر جواباً، متوقعاً أنها لن تعيش طويلاً معنا، لابد الأطفال في انتظارها قرب القمامة في القريب العاجل، سترميها كما رمت عشرات الدمى والألعاب السليمة.
تبدل مزاجي، بدأت أشعر بضيق في تنفسي، كأن كابوساً جثم على صدري، حاولت أن أشغل نفسي بالكتابة، أن أقرأ أشياء تحررني من مضاعفات الهم المتواجد في البيت، كنت كلما أهبط من غرفتي وأمر من أمام باب الصالة، أسمع صوت الدمية:
ـ هلووووووو..!
وأحياناً تطلق جملة نابية:
ـ قبلنييييي أرجووووووك..؟
وجدت حياتي بدأت تسلك مسلك الغيرة، فكرت أن أجد لنفسي حلاً يريحني، كي أتحرر من الكابوس الضاغط، وأنشغل بأمور الكتابة.
***
لا أعرف بالضبط لم خرجت في تلك اللحظة، كان الفجر يتقدم حثيثاً لكنس بقايا الليل، وكان الأرق قد لازمني منذ يومين، مذ دخلت الدمية معنا ضيفة ثقيلة بالنسبة لي، كون زوجتي وأطفالي اندمجوا معها في لهو عقيم، أسمع قهقهاتهم، لا أمتلك وسيلة تكفلني انتزاع نفسي من الفوضى الحاصلة، كنت ممتلئاً بالرغبات، لكن دخول الدمية العجيبة على حد زعم زوجتي، أماتت في رغبات كثيرة كنت أمارسها بشكل متواصل.
رغبة التجوال بمركبتي مساء لتعبئة ذاكرتي بمواقف حيوية تحصل على أرض الواقع، بوادر مواضيع أقتنصها لتكملة مشاريعي الروائية المعطلة، تفاصيل دقيقة تحدث، رؤيتها تنشط خيالي وتزيدني عزيمة للكتابة.
رغبة القراءة المتواصلة، كلما أنتهي من كتاب ملهم، أتمعن طويلاً في الرفوف المرصوصة أمامي في مكتبتي، كتب كثيرة لم أقرأها لأسباب قد تكون معظمها واهية، أقنعها أيجاد أوقات أكثر هدوءاً وصفاء للذهن، من أجل استيعاب المضمون بشكل سليم.
رغبة تكملة أحدى رواياتي المنتظرة داخل ذاكرة (اللابتوب)، روايات تتلبس خيالي بحرارة غير معهودة، أبدأ بكتابتها بحماسة، قبل أن تشرق مواضيع أخرى من محراب خيالي، تقاطعني منتصف الكتابة أو في ثلثها الأخير، عندها أجد خيالي يتوقف عن التجوال ويخضع للفكرة الجديدة الضاغطة.
رغبة تلبية دعوة تلفزيون (جلبلاء) لأجراء حوار مطول معي بمناسبة صدور تسعة كتب دفعة واحدة لي في (عمّان ودمشق ومصر)، فكرة لحوحة تم طرحها علي مرات من قبل أحد الزملاء الفنانين، لكنني كنت أرجأ اللقاء لسبب أنا أجهله، ربما الوضع المتردي للأمن في بلدتي (جلبلاء) يلجم رغبتي بسلاسل الكسل.
رغبة التحضير لندوة أدبية موسعة في كلية الآداب في مدينة (خانقين) لمجابهة طلاب وطالبات الكلية، وإلقاء محاضرة عن تجربتي القصصية والروائية، مع قراءة نماذج قصصية حديثة الكتابة، وجدتها فرصة مثالية أن أكن مع الجمهور وجهاً لوجه، تفاعلت الرغبة وألهمتني بشحنة أدبية دفعتني كتابة سيرة قلمية موجزة عن مسيرتي الطويلة في دنيا الأدب.
فترت عندي رغبة أخيرة، كنت أمارسها بين الحين والحين، كلما أبغي استعادة نشاطي المعهود في الكتابة، كنت أنهمك بإعادة قراءة نصوصي القديمة، قصص وروايات ومسرحيات مخزونة في ذاكرة (اللابتوب)، كتب أخرى مكتوبة باليد تعود لزمان الفقر، أيام كنّا نقرأ ونكتب بحرارة غير طبيعية تحت ضوء الفوانيس والشموع، وكلما أروم تنضيدها أجد الرغبة فاترة لا تصالحني، ومزاجي غير مؤهل لاستدراج حرارة لحظة كتابتها، ودائماً أجد نفسي فاقداً تلك الحماسة العمياء التي كانت أخت الجوع فيما مضى، لا سبيل أجد سوى أرجاء الرغبة لفرصة مناسبة ربما لن تمتثل مطلقاً.
كنت كلما أمسك كتاباً أجدني أتنافر معه من السطور الأولى، على عكس أيامنا المنصرمة حيث كنت أمسك الكتاب لست ساعات من غير توقف، وكانت ذاكرتي تلتهم الكلمات كنار تأكل الهشيم، وتنشد مع المواقف المثيرة التي ما زالت تتلبسني بحرارة لا توفرها كتب اليوم.
***
حاولت أن أتصالح مع موهبتي، قررت الجلوس إلى(الكومبيوتر) في انتظار الغيمة الذهنية للكلمات، تمر الدقائق والساعات قبل أن تنفر الكلمات من رأسي، تتناهبني موجات متواصلة من النعاس، تدحرجني إلى فراشي لأواجه صمت الغرفة وعتمتها، تأخذني الصفنات العميقة وتسرقني الساعات العقيمة، ويداهمني الفجر من خلال أصوات المساجد وهي تعلن انبلاج الفجر عبر التسبيح ورفع مراسيم الآذان.
***
فكرت أن أمشي خارج المنزل، زرت أماكن طفولتي، عبر كل الأزقة التي تبدلت، حيث البيوت تجاوزت حدود الأخلاق واستحقاقات المواطنة، وانقضّت ـ بلا رحمة أو التفكير بالمستقبل الغامض لمن يتجاوز على حرمة القانون ـ على بقايا الممرات المضغوطة التي كنا نتخذها مساحات فرح أيام شبوبنا، عندما كانت المراهقة وقودنا الدافع نحو تكحيل خيالاتنا بوجوه الفتيات الواقفات أمام أبواب المنازل، أو الواقفات على سطوح البيوت الطينية، يلقين إلى دنيا(جلبلاء) نبضات قلوبهن العاطفية، غاسلات وجه النهار من الكسل المستتب، ببسمات ثغور تحاول صناعة الحب لكل شاب وسيم يمر، يمسكن كتبهن المنهجية، ضاغطات بلذة على نهودهن لإخماد وخزات النمو المتواصل في صدورهن.
جربت السير بمحاذاة الوادي الكبير للبلدة، على الرصيف الترابي للشارع الرئيس المتآكل، في الجانب الأيسر للوادي تحديداً، ذلك الرصيف قيل أن مقاولاً(لطش) الفلوس المخصصة لتعميره، سرق الفلوس نهاراً، وغادر من غير وجود عيون قانونية ساهرة تلاحقه لتعاقبه، مرور المركبات والسابلة والغبار المتصاعد، كلها صارت كوابيس متضاعفة راحت تزيد من ضراوة الاختناق الذي بدأ يضغط على صدري، لم أشعر بشيء يدل على وجود وعكة صحية، كل شيء في جسدي سليم، لهفة البحث عن الطرائد الأدبية متواصلة ومتفاعلة في مخيالي، أنظر بعيون مسرورة، شهيقي لا يعتوره ضيق رغم نتانة الهواء ومغبوريته (هواء ممزوج بالغبار)، لكن الضيق الكامن في صدري، أعرفه، سبق أن مررت به، أدمنته، ضيق يوحي لي أنني مقبل على عمل أدبي صادم، ربما رواية أو مسرحية، وغالباً ما أهيئ المستلزمات الخادمة والضرورية لتكملة المشوار الأدبي من غير توقف، أهيأ نفسي ذهنياً وبدنياً واضعاً في البال ساعات الكتابة، رغم تواجد مفاجآت تعكر مزاجي وتميت حرارة الكتابة في نقطة ما، تحديداً عندما ينقطع التيار الكهربائي، وتكون المولدة الكهربائية عاطلة عن ضخ التيار البديل إلى ظلام المنازل، جراء تحايل صاحبها متذرعاً ارتفاع سعر الكازولين.
***
كان الوقت صباحاً قبل طلوع قرص الشمس من وراء التلال الشرقية للبلدة، عدت من المسجد، وجدت نفسي في ضيق تام، بعدما عكر مزاجي صوت الدمية:
ـ لا تمر من غير تقبيلي يا سيد..!
خرجت كي اكنس فوضى السهر وترسبات الأرق المستفحل من جسدي، فكرة عابرة قادت مركبة جسدي للمرور من زقاق لم أمر به سابقاً، رغم تواجده على مقربة من بيتي، كان حديث العهد ولد بعملية قيصرية وبعد عراك لساني دون أن يتطور إلى اشتباك يدوي بين الجيران، تدخل رجل صاحب خطوة وكلام مسموع، وأنهى العراك الدائر للنسوة عبر كل ساعات النهار تقريباً، بسبب تجاوز كل بيت لمسافة غير معقولة، فتلاطمت الحيطان الخلفية للبيوت، حيطان متفاوتة في الارتفاع ومتعرجة، تدخل بعض الشبّان وحدث تلاسن حاد مشحون بالشتائم والوعيد، قبل أن تشتعل المعركة لتعم معظم البيوت المتراصة على هيئة نسق متعرج في خطين طويلين.
فاعل الخير جاء في الوقت المناسب، تجمعت الحشود من حوله.. قال:
ـ كلكم متجاوزون، بالله عليكم كيف تنظفون مياه مجاريكم لو تلاصقت جدران منازلكم؟
فاعل الخير أجبر كل بيت أن يتراجع نصف متر من الجانبين، فعلوا ذلك وتراخت فيهم حماسة الغضب، وحب العراك الفارغ الذي شاع بين أهالي البلدة بعد زوال السلطة، ودخول القوات متعددة الجنسيات لإشاعة فوضوية العيش وحياة بلا قانون.
لقد كان مجرى ماء المجاري للبيوت يمر بين صفي المنازل، ولولا ذلك الرجل لسادروا في غيهم، وتركوا مياه مجاريهم تتحرر في الأزقة، من غير شعور بالمسؤولية ومن غير وجود رحمة بالآخرين.
سلكت الممر، رغم رائحة المجرى ووجود أكياس أزبال مقذوفة من وراء الجدران، في منتصف الممر سمعت صوتاً غريباً، توقفت، كانت هناك جراء خائفة، لم يكن الصوت الغريب صادراً من تلك الجراء، صوت كائن خائف ومخنوق، مشيت بعدما خلت أن مصدر الصوت لم يكن سوى أنيناً هارباً من أغواري، عبرت الممر وعند نهايته توقفت أستطلع، وجدت الجراء في حالة فوضى، عاينت الجدران لم أجد رأساً بشرياً أو نافذة يتخذها صبي لإقلاق تلك الجراء الحائرة، وجدت فرصة مثالية للتخلص من كابوسي، عدت ووقفت عند جراء هلوعة راحت تلوذ بي، تلتف حولي وتحك نفسها بقدمي، في تلك اللحظة وجدت كيساً من بين الأكياس المرمية يتحرك، أو خلته تحرك، شيء من هذا القبيل تخاطر إلى ذهني، توقعت أن فأراً ما، وربما جرذاً لقوة الحركة تسلل إليه، لكن ظنّي خاب فجأة.. لحظة صدر صوت مخنوق:
ـ سالم.. أنقذني..؟
صوت بشري صادر من مكان غير متوقع، أغمضت عيني وسحبت شهيقاً وزفرت حرائق أغواري دفعة واحدة، كان الضجيج المتواصل في رأسي جراء سهري لليلتين متتاليتين مهيمناً على صفاء ذهني، خلت جسدي المرهق ما زال يصدر أوامره،لكن الصوت واصل نداءه:
ـ لا تقف حائراً.. دع إنسانيتك تتغلب على مشاعرك، الأديب في يومنا هذا وحده صاحب الضمير الحي المتبقي داخل الشعوب المقهورة.
ولد في رعب مفاجئ، بعدما قر يقيني أن الذي يحصل لم تكن مزحة مزاجية، أو مفاجأة من مفاجآت أحلام اليقظة، فالذي يستصرخني بشري في ضيق، النداء واضح الجرس، والصوت يرجع لإنسان ما يسكن قلب محنة ما، والجراء تبدو مرعوبة من هول ما يحدث، برعشة جسد تقدمت من أكوام الأكياس المتراكمة، رغبت استعادة توازني وتحرير جسدي من الرجفة المباغتة، بمقدمة حذائي بدأت أركل الأكياس، كيساً تلو كيس، ركلت خمسة أكياس محشورة بمهملات وبقايا أطعمة، قبل أن يصطدم حذائي بكيس ثقيل، ندت منه صرخة:
ـ آآآآآآآآآخ..!
تراجعت خطوتين، وصوت بكاء خافت بدأ يتحشرج، أبعدت من ذهني فكرة طارئة، أن امرأة ما جاءت ليلاً، وألقت في هذا الدهليز الخانق ثمرة خطيئة نمت في أحشاءها تجنباً للفضيحة أو النحر، كما يحصل بين فترة وأخرى، خف صوت البكاء، سمعت صوتاً واضحاً:
ـ يا بشر.. أما تخاف الله؟ الميت له حرمة! أرجوك.. أخرجني من هذا الكفن؟
يد خفية دفعتني، رفعت الكيس وفتحته، وجدت رأساً بشرياً جميلاً، مفتوح العينين، صاح بوجهي:
ـ لا تعلن هذا الموقف جهراً؟ خذني سراً لأكون نديمك حتى موعد أجلي؟!
ـ ولكن أنت مجرد رأس، يجب دفنك!
ـ كلا.. كلا.. أرجوك.. أنا رأس حي، لم أمت بعد!
ـ كيف..؟ ربما بعد دقائق أو بعد ساعة ستهمد وتتعفن!
ـ هذا ليس صحيحاً! أنا أعرف نفسي كما تعرف أنت نفسك!
ـ يجب أن أخبر الشرطة عن وجودك، كي يقوموا بالإجراءات اللازمة حسب القانون!
ـ أيّاك أن تفعل هذا! أنا حي! خذني معك؟ أنت تعيش حالة غيبوبة! أنت تحتاجني كي تسترد صفاء روحك القلقة!
ـ أين آخذك؟ هل تريد أن تروع زوجتي وأطفالي؟
ـ خذني سراً؟! أعاهدك أن أكون رهن طلباتك، حين تحتاجني سأبادلك كلاماً مفيداً.
ـ أي كلام تبادلني؟ أنت مقبل على الهمود، ستتعفن وتندلق رائحتك البغيضة، هناك حيوانات تنحر تبقى أرواحهم عالقة بأجسادهم لدقائق أو لساعات قبل أن تستسلم ليد مصيرها.
ـ أنا أختلف يا (سالم)!
ـ سالم..؟ هل تعرفني؟
ـ أعرفك منذ فترة طويلة!
ـ لكنني لم أرك من قبل؟ وجهك غريب.
ـ كنت أقرأ ما تكتب على صفحات الجرائد وأتابعك على مواقع الانترنت.
ـ أحقاً كنت من قرائي؟
ـ كنت أتابع كل صغيرة وكبيرة عنك!
ـ حسناً من أنت كي أوصلك لذويك؟
ـ أرجوك لا تفكر بكل ما يطرأ بذهنك؟ خذني معك تلك هي رغبتي!
ـ لكن أخذك يخالف الشرع والقانون ومركزي الاجتماعي.
ـ أنا لم أمت بعد كي تخالف الأعراف.
ـ أنت رأس فقط!
ـ رأس حي ما دمت أمتلك حرية الكلام.
ـ ماذا لو لم أمر من هنا! كنت حتماً ستهمد.
ـ ستمر..! شئت أم أبيت، ستمر، كنت أبتهل كي أكحل عيني بك وتحققت أمنيتي الأخيرة.
ـ أجبني؟ بدأت الشمس تطرد الناس من منازلها، قبل أن أجد نفسي في محنة سياسية بسببك.
ـ لا توجد أية محنة، لساني سيذود عنك.
ـ ما العمل أذاً؟
ـ لا خيار أمامك خذني معك! وهناك في بيتك تحديداً في غرفتك الخاصة ستعرف كل الأمور العالقة بذهنك.
ـ غرفتي الخاصة؟ وما أدراك به، وعن أية أمور عالقة تتحدث؟
ـ كتبت عن غرفتك مقالاً جميلاً، كان آخر مقال أقرأه لك قبل عزلي من الجسد الذي كان ملتصقاً بي، أبحت أيضاً أنك بصدد كتابة رواية غريبة عن الواقع الأليم لبلدتنا (جلبلاء)!
ـ يبدو أنك من المتابعين الشغوفين لما أكتب!
ـ حين أكون معك في غرفتك العلوية، هناك سأمدك بفيض معلومات كافية لكتابة روايتك الجديدة.
خضعت لضعف دهمني وأخرجني من طور الرهبة، حملت الكيس وبدأت أخطو كمجرم يحمل دليل جرمه، تنتهبني هواجس مقلقة، كيف أواجه زوجتي؟ ماذا لو رأتني وعرفت ما أحمل؟ حتماً ستملئ الزقاق صراخاً، حتماً سأكون أنا القاتل أو الذابح لإنسان بريء، يبدو من محياه شاب يحمل صفات نادرة، طالما كان يعشق الأدب ومتابعاً حريصاً لكتاباتي، حاولت أن أجد مبررات مقنعة كي أدافع بها عن نفسي لو اكتشفت أمري.
وصلت البيت، فتحت الباب ومضيت على رؤوس أصابعي، خائفاً مرتجفاً، ما أن وضعت قدمي على السلم المرمري كي أصل إلى غرفتي العلوية.. صاحت زوجتي:
ـ أين تأخذ الصمون!
تجمدت أوصالي، تذكرت كلامها في الليل، طلبت مني أن أجلب صباحاً صمون حار للفطور، لم أجرأ النظر إلى عينيها.. واصلت صياحها:
ـ سالم ماذا دهاك!
ـ لا شيء.. لم أذهب إلى الفرن بعد!
ـ وما هذا الكيس الذي بيدك.. خلته صموناً!
اصطنعت بسمة وبادلتني ببسمة مشتعلة، هزّت رأسها ولم تعقب، تحررت في تلك اللحظة من كابوس واقعي، لو اكتشفت أمري لربما عاطت من هول المشهد، وصرختها معروفة عند نساء الجيران، فهي كثيرة التذمر والتشكي جرّاء حركات الأطفال، مزاجها ضعيف لم يحتمل أدنى صوت أو إثارة، حتماً لو صاحت لجعلت نساء الجيران يهرولن خارج بيوتهن والمجيء إلينا لمد يد العون لمصيبة صباحية غير مرتبطة بالأطفال كونهم نائمين، صعدت درجات السلّم ودخلت غرفتي، فتحت الكيس، وجدت العينين مغمضتين، وضعته على الطاولة قرب جهاز (اللابتوب) مرتعباً، سحبت كمية من الهواء وحررته، باغتني شعور بالراحة، حين خلت الرأس قد همد، سهّل هموده علي القضية، فكرت أن أعيده إلى مكانه، هناك بين صفي البيوت حيث ممر المجاري، عندها يمكنني أن أشعر الشرطة بوجود رأس مقطوع، رغم خطورة التبليغ، كون المبلغ غالباً ما يتعرض إلى مسائلات قانونية، وقد يعيش أياماً تعيسة في السجون، قبل تحريره كائناً متعباً تحت المراقبة، وقد يحصل أن يعطى كنيته كاملة للفئة التي تعمل الفساد في المجتمع فيقتص منه كما يحصل دائماً، فالواشي يشاع أسمه بين الناس، لأن الألسنة لم تعد تمتلك الحصانة الأخلاقية، ولا تتعاطى قدسية الأسرار، أستغرق تفكيري بضع دقائق قبل أن أسمع صوت شخير يتعالى من منخري الرأس، سادني ارتباك ورحت أقرب أذني منه، تأكدت من الشخير، هاتفني ظن أنه يستغرق في نوم عميق، قلت أنه لم ينم طيلة فترة تواجده بين أكياس القمامة، رفعت رأسي بحثاً عن مكان أمين يجنبني المتاعب، رغم أن غرفتي محرمة على كل البشر، عهد اتخذته مع نفسي، ووافقت عليه زوجتي يوم تحاببنا، فرضت رغبتي على قوة عنادها، كون الكتابة الأدبية تحتاج إلى طقوس خاصة أشبه بالتمرد والتطرف والعزلة، يتوجب على الكاتب الناجح، ومن يروم إعطاء الحياة أشياء مفيدة، أن يعتزل العالم لحظات الكتابة، كي يتأمل بصمت، ويفكر بصفاء ذهن، ويستخلص الكلمات الصادمة والنافعة لتكوين النصوص الأدبية الخالدة.
جاءت هذه الفكرة بعد سلسلة أخفاقات ونتائج غير مرجوة عبر نصوص كانت متعبة، كنت أكتب والضجيج يختلط بمزاجي، ضجيج الأطفال وصرخات زوجتي التي لا تنتهي من غير دوافع، كانت ترغب بالصياح دائماً، شعور غريب يتملكها ما بين الحين والحين لملأ الدنيا صراخاً، وكنت أريد تفسيراً لتلك الرغبة المتوالدة فيها منذ طفولتها، أقنعتني أنها رغبة مجهولة، تشعر أن في أغوارها رياح تهب تبحث عن نوافذ كي تخرج، رياح ملغومة بحرائق الأعصاب وبؤس الحظوظ الملازمة، وأشياء كثيرة كانت أحلام بناتية لم تتحقق، ربما هي على حق، لكل امرأة مزاج خاص، لها حرية التعبير عن خلجاتها أو تنفيساً لحرائقها، فنساء المرحلة محرومات من كل شيء، حتى رغبات الليل ما عادت تشكل سوى مقت وجهد بلا دوافع عاطفية، الحروب المتكررة تركت في أجساد الرجال الخمول واليأس، ونسفت في عروقهم قدسية العلاقات الجسدية، جعلتهم قرب بلا أحلام، فواكه بلا طعم، غيوم بلا ماء.
فكرت أن أضع الرأس بعد تخليصه من الكيس داخل أحد الكراتين المتراصة فوق المكتبة، هناك سأجعله يغط في نومه، متمنياً أن يهمد كي أتخلص من الشرور المتوقعة جراء فعلتي اللاإرادية، أخرجته بصمت ونقلته إلى الكرتون بعد تفريغ محتوياته من أوراق ومشاريع كتابية تعود لسنوات مديدة، قفلت غرفتي وهبطت درجات السلّم وخرجت من البيت، مشيت من نفس الممر، كنت أنظر إلى الأكياس بشيء من التوجس، شيء يشعرني أن للرأس صاحب، مثلما الكمأ لا ينبت من غير أصحاب من حوله، توقعت أن هناك رأساً أو رؤوساً أُخر مقطوعة بلبابة ولطف وموضوعة بعناية رحيمة داخل أكياس نايلون، بدلاً من كراتين الموز بعدما فرغ سوق البلدة من تلك الفاكهة، بسبب غلق المنافذ الحدودية حتى أشعار آخر، قرار سياسي تم العمل به فور حصول انفجارات دموية متلاحقة في العاصمة، للضغط على دول الجوار كي يمنعوا المتسللين لزعزعة أمن البلاد.
كان الرأس المقطوع ملقى في ذلك المكان لسبب لا يعرفه إلاّ السيّاف، وربما لإثارة الفزع بين الناس كما شاع عبر وسائل الأعلام، وجدت الجراء خالدة للصمت وغارقة في النوم، عرفت أنها تأكدت من سلامة جبهتها من الطارئين، لذلك هنئت بنومها كما هنأ الرأس المقطوع بالنوم في غرفتي، ذهبت إلى فرن الصمون، اشتريت وعدت لم أرغب أن أسلك ذات الممر، خشية أن أوقظ الجراء من نومها، وصلت البيت، وجدت زوجتي واقفة في الحديقة، حائرة، تكاد أن تنفجر في صيحة من صيحاتها العظيمة، نذر الرعب يرتسم بوضوح في ملامحها، زفيرها حريق.. صاحت:
ـ أسمع صوت كلب ينبح في غرفتك!
ضحكت، ومررت يدي على وجهها، شعرت بنار غضبها يحرق أصابعي، هدأت وأضافت:
ـ ماذا تعمل بالكلب الذي جلبته؟
ـ أي كلب؟
ـ الجرو الذي كان في الكيس!
ـ أنت تحلمين يا زوجتي العزيزة!
ـ أي حلم، رأيتك من النافذة تدخل إلى ممر الجراء!
ـ هوني عليك ولا تدعي الأطفال يرتعبون أنت واهمة يا زوجتي.
ـ حسناً دعني أدخل غرفتك!
ـ والشرط الجازم الذي أبرمناه!
ـ أصبحنا زوجين لم تعد الشروط نافذة المفعول بعد زواجنا.
ـ لكننا تعاهدنا على أن تكون غرفة الكتابة محرماً على الجميع ما دمت أعيش بينكم.
ـ كان ذلك قبل فترة التغيير السياسي في البلاد.
ـ وهل يجب أن نقلب حياتنا رأساً على عقب مع انقلاب الحياة السياسية في بلادنا؟
ـ يجب أن نعيد ترتيب الأمور من جديد وفق مجريات الحياة الجديدة.
ـ حسناً نحتاج لجلسة حوار هادئ، لوضع شروط جديدة قبل أن نحنث بقسم اتخذناه بيقين صادق يوم الحب.
ـ أرجوك؛ قل لي ماذا تعمل بالجرو؟
ـ أي جرو أنا أمقت الكلاب؟
ـ ولم كتاباتك مليئة بالكلاب والأشياء المرعبة؟
ـ يبدو أنك نسيت أنني أرمز لنوع من البشر بالكلاب لتوافق صفاتهم مع صفاتها.
صمتت وخفت حدة توترها، عادت البسمة لروحها بعدما طبعت قبلة على خديها وقبلة ممطوطة على ثغرها، تناولت مني الصمون ودخلنا إلى المطبخ، جلسنا وتناولنا الفطور، كنت أتجنب النظر الكثير إلى عينيها خشية أن تكتشف بقايا رعب أو حيرة مترسبة في عيني، تخلصنا من الفطور، دنت مني.. قالت:
ـ الأطفال نائمون!
ـ سهروا طويلاً دعيهم يرتاحون.
ـ لم لم تأتِ إلي؟
ـ آه.. كنت بشوق مضطرم لك، حين تجنبتِ تحرشاتي، تركتك ومضيت إلى غرفتي.
ـ التعب أخذني، فخسرت ليلة معك.
ـ آه.. أنت تثيرينني!
ـ لندخل إلى صالة الضيوف.
ـ كلا! سترانا الدمية وربما ستقص على الضيوف عملنا.
ـ حسناً لنعملها هنا في المطبخ!
ـ هذا المكان لم نفعل فيه من قبل.
ـ ليكن فعلنا الأول.!
قضينا نصف ساعة ما بين المزاح والفعل، توجهت إلى الحمّام وأزحت أوضار اللعبة القدرية، والتي جبلنا عليها كون الصباح يوفر لنا النشاط الجسدي والذهني، كنت أشعر بضراوة الرغبة في الكتابة، كلما أمارس نشاطي الجنسي صباحاً، أغتسل وأدخل مشغل الكتابة ممتلئاً، مثاراً بسيل جارف من الأفكار النافعة.
توجهت إلى غرفتي بعدما أشعرتني هي بوقت الكتابة.. قالت:
ـ حان وقت العمل!
ـ آه..كدت أن أنسى.
ـ لا تكتب عن الكلاب كثيراً خشية أن يستفيقوا من غيهم وينبحون بوجهك.
ـ الكلاب كلاب! سيبقون كلاباً طالما ينهشون لحوم الفقراء.
توجهت هي إلى الحمّام ودخلت أنا غرفتي، جلست خلف الطاولة، فتحت جهاز (اللابتوب) وبدأت أداعب الأزرار وعيني على الكرتون، كان الشخير متواصلاً، لم أجد رغبة في الكتابة، كانت الموهبة متعطلة، سحبت كتاباً ومضيت أقلب أوراقها، كتاب جميل قرأته سابقاً وجدته يستحق القراءة ثانية، كونه أنشودة شعرية ممتعة، خطها يراع قلم أستحق عليها جائزة نوبل 1956 ، أنا وحماري للكاتب الأسباني (خوان رامون خيمنيث)، وجدت ملكة القراءة متحفزة هذه المرة خلاف اليومين المنصرمين، بدأت أقرأ وأدون بعض الملاحظات المهمة، والأفكار العابرة، والتي من الممكن أن تغدو مشاريع لقصص قصيرة، قبل أن ينادي الرأس:
ـ أخرجني من منامي!
نحيت الكتاب جانباً، تقدمت من المكتبة، أنزلت الكرتون وأخرجته، كان مفتوح العينين، متورد الوجنتين.. قال:
ـ لن أنسى معروفك.
ـ لم أعمل شيئاً سوى تلبية رغبتك.
ـ منحتني وقتاً استعدت فيه راحتي.
ـ كادت زوجتي أن تعول وتلم الناس علينا.لولا إغراقها بفيض عواطفي.
ـ وهل علمت بي؟
ـ تحركت مشاعرها لمعرفة ما في الكيس لكنها ترددت فجأة.
ـ إياك أن تعلمها بي! المرأة كائنة ضعيفة لا تحتمل المواقف المرعبة.
ـ لكنها أصرت أنها تسمع نباح جرو في غرفتي.
ـ ربما تشربت روحي أصوات الجراء وصرت أقلدها في النوم.
ـ إياك أن تفعل ذلك ثانية.
ـ سأحاول لو تعاملت معي بصدق وحسن نية.
ـ قل لي من أنت؟
ـ لا يشكل ذلك عندك شيئاً سواء عرفتني أم جهلتني، الأمر سيّان بالنسبة للقضية.
ـ لما لم تعلمني بقضيتك! كي أعيدك لذويك، ربما هم يبحثون عنك الآن، كي تعلمهم بما جرى لك.
ـ أنا نحرت من قبل فئة ضالة تعمل على روع الناس.
ـ أتعرفهم؟
ـ لو رأيتهم سأصرخ بوجوههم.
ـ كيف نحروك؟
ـ تلك قضية طويلة، ستعرف لاحقاً القصة الكاملة لنحري.
ـ حسناً؛ أنت تقودني إلى مصيبة تاريخية.
ـ ربما ستجني منها منفعة كبيرة.
ـ أية منفعة ترجى من رأس مبتور؟ إلاّ إذا كانت الجائزة المرجوة السجن المؤبد أو الشنق أمام الناس بتهمة إشاعة الإرهاب.
ـ حسناً؛ أنت تورطت حسب اعتقادك، عليك أن تواصل رحلتك التورطية حتى يحين أجلي.
ـ وهل هذا خيار أخير؟
ـ لا مفك من هذا الخيار، الموت وحده سيحررك من خوفك المتنامي.
ـ حسناً لنتصارح في حوارنا.
ـ أنا صريح، الرأس حين يغادر الجسد يتحرر من الآثام، الجسد هو مستودع الخطيئة، الرأس قبطان ممتلئ بالصفات الملائكية، حين يحدث التلاحم ما بين العضوين، تحصل تفاعلات حيوانية، غالباً ما يكون الجسد هو المهيمن، لذلك كمية الصفات الحيوانية في العالم هي الغالبة بسبب تهور الأجساد وإلغائها الدور القيادي للرؤوس الحكيمة.
ـ هل كنت رأس مثقف فيلسوف.
ـ كل رأس فيلسوف!
ـ ولم كل هذه الفوضى في العالم؟
ـ قلت لك الجسد مستودع الشرور والشهوات، هو الغالب كونه يمتلك وسائل التدمير، أعني الشهوة، مستبد بقوة نفسه، يقتحم من غير اللجوء إلى قبطان موجه، أعني الرأس.
ـ حدثني عن جسدك الراحل؟
ـ تحتاج لمزيد من الوقت كي أحدثك عن جسد شاذ، سقط جراء تهوره تحت مقصلة العقاب.
ـ حسناً ألم تشعر بالألم والخوف؟
ـ الرأس يفرح حين يعتزل الجسد المليء بالآثام.
ـ أنت الآن سعيد.
ـ سعادتي اكتملت حين تحققت رغبتي برؤيتك.
ـ وماذا كانت رغبتك؟
ـ أن أوفر لك مادة روايتك القادمة، روايتك الخالدة.
ـ لكنني أشعر بملل من الكتابة، فهي ما عادت تنفع في يومنا هذا.
ـ إياك أن تجعل هذا الهاجس يميت موهبتك! الكتابة قناديل مزروعة لمستقبل مشرق قادم، لا تربط ما بين الذي يجري من حولك وبين موهبتك، أجعلها وقود ضارية لتأجيج حماستك في تدوين الوقائع الجارية قبل أن تنفلت من شبك مخيلتك.
ـ حسناً رغبتي متواصلة لكنني منذ يومين أشعر بفتور وإملال.
ـ قل صحوة! تمهيد لعمل نافع، تلك فترات راحة تفرضها الموهبة، كونك لا تعطيها أجازات وفواصل استجمام، كي تأتي إليك نشيطة كما تتهيأ الزوجة لزوجها حين ترغب الفراش.
ـ حقاً ما تقول، كنت أواصل العمل بلا راحة، بلا أسفار، بلا قراءة.
ـ سأعوضك عن كل ذلك، الآن يجب أن لا تفلت هذه الفرصة التاريخية معي، أجعلها مادة خصبة لرواية غرائبية تثير أسئلة كبيرة في الوسط الأدبي.
ـ قد يكون الموضوع صادماً، غير مقنع، ذائقة اليوم متعبة، مسكونة بصدمة صدام الطوائف ،ونهوض تيار السلفية، ووسائل الإلغاء، والشعوبية على أيدي عابثة تلهث لتدمير العالم.
ـ لا تيأس من الغرائبية! أنت الآن تعيش في عالم متقلب المزاج، الناس من حولك أشباح فاقدة توازنها، تراهم في كل لحظة تتبدل أهواؤهم، لا يقر بهم قرار، هؤلاء سمعتهم مرة، يبغون جلب نهاية البشرية وتقريب (الساعة)، وهمٌ يداعب عقولهم، على اعتبار منطقي ومقنع بالنسبة لهم، أن الحياة تنتهي على البسيطة عند انتهاء مصادر الطاقة، لذلك يخططون على تدمير كل مصادر الطاقة، كي تعم الفوضى، وتسود الحياة البدائية والفطرة والعودة إلى العصور الحجرية الأولى.
ـ هذه إفرازات تتحملها المرحلة الحرجة من حياتنا، كون أصحاب السيادة يحولون مسار عجلة الحرية عن طريق السلام، لمنافع شخصية ورغبات شهوانية تسكنهم.
ـ هذا الموضوع شائك وعقيم، عليك أن توظف الواقع ممزوجاً بالخيال كي توازن طبيعة كتاباتك بما يجري، أو ما يطلبه المستقبل منك، الروائي يدون التأريخ الأدبي لعصره، وهو يتحمل مسؤولية نقل الوقائع إلى خانة المستقبل بأمانة وصدق، قبل أن يغدو شبه كاتب مفتعل وكاذب وغير مرغوب فيه في قطار الخالدين.
ـ أنا أكتب كل ما هو واقع، من غير تردد، أو تمرد، ولا خوف، وأنت قرأت كل ما كتبت على ما أعتقد.
ـ أعرف شجاعتك! وعدم ترددك من مقارعة الظلام وزبانيته، قرأت كل ما كتبت، أنت الوحيد الذي كان يثلج صدري بقصصه ورواياته ومسرحياته ومقالاته.
ـ حسناً؛ قل لي ما العمل كي لا أتورط بجريمة أنا لست مرتكبها، وأنت تذهب لقدرك من غير لغط، وربما الخضوع لمشارط التشريح في الطب العدلي.
ـ أترك هذا الأمر أرجوك! ليس قبل أن يأتي أجلي.
ـ ولكن الآجال بيد الله.
ـ أنا رأس وفي الرأس يوجد أسرار الحياة المعلنة والخفية.
ـ أنا أيضاً لدي رأس لا يخمن ماذا سيجري بعد لحظة.
أطلق الرأس المقطوع ضحكة مخنوقة، أثارت دهشتي، قبل أن أشعر بخوفٍ من خشية أن تسمع زوجتي ضحكته شبه الهستيرية، لو سمعتها لظنت أن هناك حالة غامضة تجري في غرفتي، ربما ستعلن أنها ستكسر قرار الفيتو على غرفة كتابتي، ستقتحم بصرختها المعهودة مكاناً ظلّ يحمل قدسيته نادرة مذ تزوجنا، لم يحصل أن طلبت الدخول إلى مشغلي، كانت ملتزمة، وتمدني بفيض من التشجيع كي أكتب الروايات، وتكون هي ناقدتها الأولى، ومصححة بارعة للغتي حين تحصل أخطاء عابرة.
كانت عيناي على باب الغرفة، متهيئاً كنت لمباغتة غير محمودة، قبل أن يتوقف الرأس عن الضحك.. قال:
ـ أذا أردت أن تتعلم الأسرار الكبرى في الحياة عليك أن تفصل رأسك من جسدك.
من غير شعور مددت يدي وطوقت رقبتي.. قلت:
ـ أعزل رأسي من جسدي!
ـ الجسد بيت الشيطان، الرأس مملوء بنور الرحمن.
سمعت وقع خطوات على السلّم، عرفت أن زوجتي صعدت تطلبني لأمر ما، وربما هي فعلاً سمعت الضحكة الغريبة، طالما هي تعلم أنني إنسان غير ضحوك.. همست:
ـ كف عن الكلام أنها قادمة!
ـ أطمأن سأغمض عيني فأنا بحاجة إلى نوم طويل كي أستعيد شريط الماضي، وأحدثك عن الذي جرى بناء على رغبتك.
أغلقت الكرتون واتخذت الصمت، سمعت نقرات على الباب، توجهت وفتحته، كانت قد هبطت ثانية، حالة متفق عليها بيننا، هبطت إليها، رأيتها قلقة، حاولت أن أطبع قبلة على خدها، تراجعت رافضة، لم تكن عادة مستحدثة، كثيراً ما كانت تتصنع الغضب قبل أن أغزل في أذنيها بضع جمل غزلية ترطب أحشاؤها، وتلين من طبيعتها، تسترخي وتقع مائعة علي، عندها تتأجج الرغبة وننساق تحت عجلة الشهوة القاتلة، نعيش لحظات سامية، ونعود كما كنّا أحباباً جمعتنا الصدفة في رباطنا المقدس.. قالت:
ـ ماذا كان في الكيس؟
ـ أي كيس!
ـ الأسود!
ـ آه.. كانت أوراق مهملة أردت أن ألقيها على المزبلة لكنني تراجعت.
ـ ولم تراجعت؟
ـ قررت أن أحرقها بدلاً من ألقائها في القمامة، كونها تحمل كلمات قد يتم تفسيرها بشكل خاطئ، لو وقعت بيد فضولي أو بيد مخبر سرّي.
ـ هل تعلم ماذا يجري في الزقاق؟
ـ كل شيء هادئ وأنا أواصل الكتابة براحة تامة.
ـ شرطة (جلبلاء) كلها في الزقاق!
ـ ربما هناك عبوة ملقاة.
ـ أية عبوة؟ يقولون؛ رأس بشري مقطوع تم إلقاءه في الزقاق.
ـ رأس بشري؟ ومن قال هذا الكلام؟
ـ الشرطة يقولون؛ أن مجهولاً أتصل بهم وأعلمهم بوجود رأٍس مقطوع.
ـ ربما أخبار كاذبة! ألم يتصلوا بهم قبل يومين ويخبرونهم بوجود عبوة ناسفة في قمامة الزقاق.
ـ ربما كان الخبر لإيهامهم قبل أن يلقوا بالرأس المقطوع.
ـ أرجوكِ دعِ الوساوس والظنون!
ـ سنرى ماذا سيحصل لنا في هذه البلدة الغريبة.
ربت على كتفها، سمحت أن أقبلها وخرجت إلى الزقاق، كانت مركبات الشرطة واقفة، والناس متراجعين إلى مسافة آمنة، وجدت شرطياً منبطحاً على الأرض، أشار لي أن أبتعد.. قال:
ـ أستاذ يرجى عدم المرور!
ـ ما الذي يجري؟
ـ هناك إخبارية على وجود رأس مقطوع في هذا المكان.
ـ ولم كل هذا الاحتراس! أنا مستعد إن كان هناك حقاً رأساً بشرياً سأتقدم منه وأجلبه لكم!
ـ أستاذ المتوقع أن الخبر أيهام، يريدوننا أن نتجمع كي ينفلق علينا الرأس المفخخ.
ـ وهل وصلوا بنذالتهم إلى تفخيخ الرؤوس البشرية.
ـ ألم يفخخوا الكلاب والحمير؟
ـ كل شيء ممكن وجائز في البلدة، بعد فقدان زمام الأمور وحصول الشرخ في الصفات النبيلة جراء فقدان الرشد ونوم البصيرة.
تراجعت ووقفت أنتظر نهاية المشهد، رغم حظر التجوال المفروض على الأشخاص والمركبات من المرور عبر الزقاق، تولدت في الرغبة لاقتحام الممر وجلب كل أكياس القمامة إليهم، لكن الرغبة تعطلت ما أن ظهرت الهمرات الأمريكية وهي تعلن حضورها الثقيل، نزل رهط جنود، أرسلوا ربوطاً آلياً يمشي ببطارية مربوط بسلك موجه، وجدت الجراء تولي هاربة، وكنت أضحك في سرّي، عاد الربوط حاملاً بشارة الأمن، أندفع جنديان وغربلا الأكياس وعادا، تم فك الحظر وانسحبت الهمرات ومركبات الشرطة، وحدث هرج ولغط بين الناس، عدت وقلت لزوجتي:
ـ كذبة أخرى!
ـ خشيت أن تكون هناك عبوة منصوبة لإحداث كارثة في الزقاق.
ـ لا أعتقد المكان يليق بأهداف أصحاب العبوات، فـ الهمرات لا تسلك ممرات زقاقنا.
سكتت ومضيت إلى غرفتي، سمعت صوت الشخير من داخل الكرتون، مع وجود رائحة نوم ثقيل نتن، فتحت النافذة المطلة على السطح، سحبت كتاب أنا وحماري ورحت أقرأ بتمعن، براحة ما وجدتها من قبل، وعلى أنغام الشخير المتذبذب غرقت في سعادة لا توصف.
***
منتصف الظهيرة، تصاعدت من مئذنة الجامع نداء صلاة الظهر، توقف الشخير فجأة، سمعت همساً يرتفع من الكرتون، قمت نحوه وأنزلته، كان فاتحاً عينيه مبتسماً.. قلت:
ـ نوماً هنيئاً أيها الرأس المحير.
ـ لا يجب أن ننام عندما يرتفع النداء!
ـ وما علاقتك به!
ـ الرأس مستودع الخير، يستمد حياته من هذا النداء الكريم.
ـ أتدري ما الذي حدث قبل قليل؟
ـ أعرف أن شرطة (جلبلاء) تبحث عني.
ـ وما أدراك بهذا الأمر؟
ـ أنا رأس أحمل حضارة الدنيا كلها، أنا الآن معزول عن الجسد مستودع البلادة والخمول، أنا استشرفت حياتي القادمة وأعلم متى سأفارقك.
ـ متى يتم ذلك؟
ـ ليس قبل أن أجبيك على سؤالك!
ـ أي سؤال؟
ـ طريقة وسبب نحري ومن أنا!
ـ ربما لم أعد بحاجة إلى ذلك.
ـ أنا رأس؛ والرأس لا يعرف التردد، التردد من صفات الجسد مستودع الشهوات والغرور.
ـ حسناً يمكنك أن تجبني كي أتفرغ من هذه الورطة.
ـ أتسميها ورطة؟ أنا جئت بناء على رغبة تحققت وبقي الشطر الآخر من رغبتي.
ـ وما هو المتبقي؟ يمكنني تحقيقها لك.
ـ كنت أبحث عنك كي أستودعك قضيتي لتكتبها رواية.
ـ لكن الرواية تحتاج إلى أمور كثيرة كي تتشكل، الرواية ليست عريضة ممكن كتابتها في جلسة سماع واحدة.
ـ قصتي لا تحتاج إلى وقت طويل، أكتبها بلغة (الأنا) كونها طريقة سهلة للروي، أسلوب يوفر شاعرية ملهمة، كونها وافرة بالهواجس وزاخرة بإسقاطات الذات.
ـ على ما يبدو لي، أنك تعرف مجاهيل وأسرار الكتابة.
ـ كل رأس مسكون بعلوم الحياة كاملة، لكن الجسد هو من يتسبب في تدمير المواهب وتحويل الحياة إلى جحيم جراء الشهوات وحب الاستحواذ.
ـ حسناً لدي متسع من الوقت كي أصغي إليك بصفاء ذهن ويقظة حواس، كي نخرج من هذه القضية من غير خسارات بيننا.
ـ ليس الأمر على مزاجك، أنا من يحدد ذلك، ثم أنا الخاسر الأخير، أنت ستربح مادة غريبة لروايتك القادمة.
ـ حسناً؛ هل يمكنني أن أعرف المدة تحديداً أو تخميناً كي أبرمج سير أموري.
ـ كلا..! أنت عليك أن تواصل حياتك الطبيعية كما كنت، أنا سأعلن ذلك حين يزف موعد رحيلي الأبدي عن هذه البلدة وربما خلودي فيها.
ـ تقديرياً؛ أيطول علي ذلك أم مجرد ساعات!
ـ ربما لا.. وربما نعم.
ـ ماذا لو تم تفتيش منازلنا من قبل الحكومة بحثاً عنك.
ـ ليست هناك بوادر تفتيش في هذه الأيام تحديداً، الحكومة منشغلة بتشكيل نفسها، الناس لا يشكلون هاجساً أمام أطماع ذاتية هي أكبر من حقوق الناس وأحلامهم.
ـ أنت تقول كلاماً خطيراً أيها الرأس.
ـ كلام عادي يعرفه القاصي والداني.
ـ وكيف عرفت هذه الأمور؟
ـ أنا رأس! أنسيت أن الرأس مستودع الحياة السابقة والحياة القادمة.
ـ حسناً لنفترض الحياة الماضية وقائع تم دفنها في الرؤوس، ما قضية الحياة القادمة.
ـ يا لك من كاتب أبله!
ـ أبله..؟ أتهينني في داري وفي غرفتي!
ـ أستميحك عذراً، لم أكن أعني أهانتك، فقط أردتك أن تخرج من سطوة الخوف، من ملابسات خيالك، كن متوازناً، أنت في الواقع، عليك أن تستمد من هذه القضية مادة روايتك القادمة.
ـ لكنك تفوهت بما لا يرضيني.
ـ آه.. كنت أقصد أن الحياة القادمة نعلمها من خلال الخيال، من خلال الحاسة السادسة.
ـ التنبؤ يعني؟
ـ الآن فهمت مقصدي.
ـ لو عرفت رأس من أنت في بلدتي لربما هانت قضيتك.
ـ رأس قرروا قطعه، لكن الأعمار بيد الله، حصل خطأ في تقرير المصير لي أو للجسد الملتصق بي، والخطأ وارد في حسابات الموت، الملائكة خطاءون أيضاً.
ـ لا أفهم كلامك!
ـ حسناً؛ كان القرار عزلي يوم غد تحديداً، تم اتخاذ القرار والتوقيت المناسب، لكن دافع شيطاني جعلهم التسرع ونكث القرار، صعدت روحي وعادت وحين لم تجد الجسد قررت أن تسكن في الرأس.
ـ أنت تتفوه بتخاريف يا رأس!
ـ وأنت تتجاوز على العلوم الغيبية بلسان سليط يا حي!
ـ وأين راح الجسد؟ هل طار؟
ـ كلا..! حين رموه، تقاتلت عليه الكلاب الضالة والتهمته.
ـ وأنت؛ ذدت عن حرمتك بلسانك؟
ـ كلا..! أنا كنت داخل الكيس، لأن العملية كانت مبادلة رأس برأس.
ـ برأس من.؟
ـ رأس لم ألتقِ به، ربما رأسك! وربما رأس شخصٍ ما من رؤوس البلدة، وربما رأس من بلدة أخرى، وربما كانوا يقصدون رأس.. مال، أنت تعرف أن هناك كلاماً شائعاً يقول أن فئات خارجية تدفع أموال طائلة مقابل قطع رؤوس منتخبة، المهم كانت القضية واضحة بالنسبة لي، عرفت أنني مطلوب من قبل جهة ما مقابل رأس ما مطلوب من جهة قطعتني، كنت أسمع الحوار الدائر بين أشخاص ملثمين، كانوا يهاتفون جهة ما حول تحقيق الغاية، ولم أعد أعرف ما الذي حصل، كنت نائماً من هول النحر، لم تكن السكين حادة، أو بالأحرى المنجل الذي استخدموه لقطعي، شعرت بمرارة الألم، ندت مني غرغرة مختنقة وحشرجة طويلة قبل أن أكتشف نفسي طائراً في سديم مهول، كأنني صاروخ موجه إلى جرم بعيد، عبرت طبقات غيوم متراكمة، وموجات غازات عديمة اللون والرائحة، في سجن كبير سقطت، قبل أن أركل بقدم وانطلقت ككرة بسرعة البرق إلى واقعي، وجدت نفسي داخل كيس، قرب مزبلة أو مياه مجاري، سمعت أصوات جراء خائفة، قبل أن تأتي أنت وتنتشلني من الضياع، أو ربما أرجعوني لتكملة حلمي الكبير، أو رغبتي المثالية، أن ألتقي بك.
ـ هل كان جسدك يعمل في جهة ما، شرطة، جيش، حزب ما؟
ـ كلا..! كانت ممتلئة شهوات، أغلظها شهوة النكاح.
ـ لكنهم غير مهتمين بالمبتلين بهذه الشهوة.
ـ كل شيء مستهدف طالما هو خارج فلك الشريعة وقوانينهم.
ـ ربما إستراتيجية جديدة لهم.!
ـ لكم حاولت أن أنئه من سكة أطماعه، كان متهوراً، يندفع صوب كل فرصة سقوط.
ـ تلك مصيبة أبتلي بها الكثير من أبناء البلدة والبلاد وربما العالم الثالث.
ـ الجسد الملتصق بي، كان سبّاقاً لكل فرصة سعادة، كان يؤرقه الحب، قبل أن يتحول إلى حب تدمير الذات، من خلال اقتحام دهاليز الانحراف.
ـ الذي أعرفه؛ أن الرأس هو قائد مركبة الجسد، أنت تحكي أشياء لنقل معكوسة، ألم تقده؟ ألم تشعره بالمزالق والمهالك المتواجدة أمام أفعاله إن كنت محقاً في قولك على أنك تعلم حضارة الحياة القادمة أيضاً؟
ـ لا.. لا.. لا.. لا تحرف الكلمة! أنت أردت أن تقول مغلوطة.
ـ لا فرق بين الكلمتين!
ـ حسناً؛ ستناديك زوجتك الجميلة على الغداء، تذكرني حين تأكل.
ـ جميلة..؟ هل رأيتها..؟
ـ الصوت الجميل ينم عن ملاحة وجه وقلب واسع ورغبات كبيرة.
ـ حسناً؛ علي أن أذهب للمسجد، إيّاك أن تتصرف بشكل غير لائق، سأتصرف بجنون لو بدرت منك ما يشعر أو يشيع الهلع في المنزل.
ـ لا أحتاج لوصية، أنا أكثر منك احتراساً، بعد غدائك سيشغلنا كلام طويل.
أغمض عينيه، نقلت الكرتون إلى موقعه، أغلقت الباب وهبطت درجات السلّم، وجدت زوجتي واقفة، مستغربة.. قالت:
ـ بدأت تكتب بطريقة صائتة!
ـ أنا..؟!
ـ تكتب وكأنك تحاور شخوصك وهم يرفضون أفكارك.
ـ آه.. أنا أنفعل أثناء الكتابة.
ـ لكنك لم تكن كذلك من قبل!
ـ الموضوع الذي بين يدي ملهم وعجيب، أكاد أن أتحول إلى كلمات جرّاء الإلهام الذي يستعمرني.
ـ هيّا.. لا تتأخر عن الغداء.
خرجت إلى الجامع، أديت الصلاة وخرجت، وجدت الناس في تجمعات يتقولون عن حدث غريب، ناداني ملاّ المسجد.. قال:
ـ رجل غريب جاء يسأل عنك!
ـ غريب..؟ وهل هو من أهل البلدة؟
ـ كان مرتبكاً، سأل ومضى.
جعلني كلامه في حيرة، كون منزلي يفصله عن المسجد خطوات، لم أشعر بضيق من الكلام، قدر ربط رحيله من غير تكلفة نفسه لطرق باب منزلي، الغرباء دائماً يأتون إلي من أزقة البلدة ومن البلدات الأخر، يأتون من أجل مد يد العون مادياً ومعنوياً لهم، منهم من يأتي يطلب بعض كتبي بعدما شغف بأسلوبي من خلال مواقع الانترنت، لكن أن يأتي غريباً ويرحل من غير تحقيق غايته شيء يستحق التوقف.
عدت وتناولت غدائي، جلست لنصف ساعة حائراً في حديقة المنزل، كانت العصافير تتقاتل فيما بينها، تذكرت أن ذلك يعني في عرف أمهاتنا، أن ضيفاً سيأتي، جاءت زوجتي تحمل كوبي شاي، جلست قبالتي.. قالت:
ـ سالم.. أنت مرهق.
ـ الكتابة عمل مضني يستنزف طاقة الجسد.
ـ نحتاج لسفرة استجمام.
ـ متى؟
ـ سنقرر ذلك بعد صلاة العصر.
ـ كما يروق لك.
احتسينا الشاي، تحاورنا لبعض الوقت، نهضت وعدت لغرفتي، سمعت نشيجاً يشيع في الغرفة جواً كابوسياً، تقدمت من الكرتون وأنزلته، وجدته دامع العينين، صفرة حادة تكسو الوجنتين.. قلت:
ـ وهل الرأس يبكي؟
فتح عينيه، متألقاً بالدمع الجاري كالينابيع الصافية.. قال:
ـ مثلك ومثل كل حي يضحك حين تمرون بيوم ميلادكم.
ـ وهل هذا يوم ميلادك؟
ـ في مثل هذا اليوم، وتحديداً في مثل هذه الظهيرة، خرجت قبل الجسد الملتصق بي من سديم خانق.
ـ حسناً سنحتفل من أجل سعادتك.
ـ كلا..! الفرح لا يليق بالميلاد.
ـ كيف؟
ـ تكرار الميلاد يعني أنك تنزف أوراق تقويم بقاؤك حياً وتدنو من نهايتك.
ـ هذا يعني أنك تدنو من الرحيل!
ـ قدر مقدر على الجميع.
رفعت الكرتون ووضعته على طاولة الكتابة، ذاب الدمع، فتح عينيه على سعتهما.. همس:
ـ هل مررت بتجربة حب؟
ـ كل إنسان يمتلك رغبة عاطفية جامحة في يوم ما.
ـ أنا أعني هل مررت بتجربة العشق؟
ـ قد يكون هذا الكلام خطيراً لو تطرقت إليه عبر كتاباتي.
ـ ولم..؟ الحب نعمة كبرى من صفات أهل الأيمان، القلوب تكون قاسية لو لم يمسها نور السلام ونفحات الشعر.
ـ وهل أنت مررت به؟
ـ أنا رأس..! الجسد هو من يبادر نحو تلك الرغبات.
ـ يعني أن الجسد الملتصق بك مر بهذا النشاط!
مر مروراً كبيراً، كان لا يتورع من ملاحقة كل أنثى مهما كانت درجة جمالها، كان جسداً غريباً يندفع نحو كل شيء يمنح سعادة الجسد.
ـ هل يمكنني معرفته؟
ـ لا يضيف لك ذلك شيئاً، أنصحك نصيحة أدبية، لا تكتب عن الأشياء التي تعرفها كاملة،
أكتب عن غوامض الأمور، كونها يعطيك زخماً واندفاعاً ومجالات واسعة للتأويل والتنقيب.
ـ هذا طبعي فيما أكتب.
ـ الجسد الملتصق بي، عشق فتاة واحدة قبل أن يزل معها، أغلق على نفسه منافذ الحب وفتح أمام شهوته دهاليز الفناء، وصار يتعبد في محراب الشهوة قبل أن يسقط في بئر حتفه.
ـ هل يمكنني أن أعرف تلك الفتاة؟
ـ لا يهم ذلك! ربما ستأتي إليك حين تنهي روايتك.
ـ قد تسهل علي بعض الجوانب الغامضة.
ـ لا تكن صحافياً في كتابة رواياتك، دع مخيلتك تبتكر وتخلق الأشياء النافعة.
ـ مجرد هاجس ربما لن أتخذ به لو عرفتها.
ـ قل لي هل أحببت زوجتك؟
ـ كل الحب! رأتني وطاردتني حتى أسقطتني في حديقة المسرات الدنيوية.
ـ أرجوك؛ الصراحة مطلب في الكتابة، الكتابة المغمسة بدم الصراحة تكون عمرها أطول وأنفع للأجيال اللاحقة.
ـ هل كنت ناقداً؟
ـ كل رأس ناقد لا يخطأ، لكن سلطة الجسد هي الغالبة، يعتمد النقد على قوة الشهوة داخل مركبة الجسد.
ـ لكن النقد هاجس، لن يتشكل ما لم يتشرب الرأس بثقافة واسعة، وذهناً متقداً، وبصيرة نافذة، تستشرف عمق الأشياء.
ـ كل ذلك تحت سطوة الجسد، الجسد هو من يفرض على العين تحقيق رغبته، الرأس مجرد قنباص للتوجيه والقنص ليس إلاّ.
ـ أنت تعكر خيالي، تخلخل مفاهيمي، لو كتبت هذه الأمور سيضحك علي القارئ، وربما سيهجرني من غير رجعة.
ـ ليس بقارئ من يهجر الكتاب، في كل كتاب شيء نافع، عليك أن تقرأ حتى الأشياء المنافية للواقع والعقل، كونه يعطيك فرص أخرى لكشف الجوانب الغامضة للعقل البشري.
ـ أشعر بتعب يهد جسدي، لا رغبة أمتلك لمواصلة الحوار، أنا تعودت على قيلولة الظهيرة، إن لم أنم، ليس بوسعي أن أواصل الكتابة ليلاً.
ـ حسناً؛ يمكنك أن تنال قيلولتك، الكلام الحاسم بيننا موعده الليلة.
أغمض عينيه، أغلقت عليه فم الكرتون ووضعته على المكتبة، عدت إلى سريري وألقيت بجسدي، وجدت سقف الغرفة شاشة غائمة، تلوح أشباح تحاول تعكير مزاجي، انقلبت على بطني كي أنعم بساعة نوم، لم أجد فرصة ملائمة كي أفقد صلتي بالعالم، قررت أن استحم، تجربة نافعة مررت بها ونعمت بنوم هانئ في أيام الأرق، دخلت الحمام، لحظة خلعت ملابسي سمعت نقرات خفيفة على الباب، عرفت أن زوجتي رغبت أن تشاركني الرغبة، جلست على المقعد الكونكريتي وسمحت لها العمل، غالباً ما تقوم بتدليك جسدي وتمنحني راحة جسد وقوفاً كما أشتهي.. قالت:
ـ سالم.. أنت غير طبيعي هذا اليوم!
ـ ما حصل في الزقاق شغل فكري.
ـ لكنك لم تنشغل مثلما انشغلت هذا اليوم.
ـ أشعر أن هناك رغبة كبيرة تستوطنني لكتابة عمل روائي مختلف.
ـ أرجو أن لا تتركه كما تركت عشرات المشاريع السابقة.
ـ أرجو ذلك، الذي يستولي علي أكبر من كل الفرص التي مررت بها.
أكتفينا وانهمكنا بنشاطنا الجسدي، وخرجنا.. قالت:
ـ لا ترهق فكرك كثيراً، كي تنجز العمل من غير تأجيل.
اكتفيت بابتسامة، هبطت هي درجات السلّم ودخلت أنا إلى غرفتي، لم يكن هناك شيء، الصمت يخيم على الغرفة، احتبست نفسي كي أتأكد من نديمي إن كان يشخر أو ينشج، لا شيء سوى الهدوء، ألقيت بجسدي على السرير ونمت.
***
صوت مكبرات الصوت للمسجد أنهضني من قيلولتي، ارتديت بنطالي على عجل ٍوخرجت إلى المسجد، صليت صلاتي جماعة، خرجت وسلكت الطريق نحو سوق البلدة، مررت بمكتبة عماد لشراء الصحف، أخبرني المكتبي أن الصحف لم تصل اليوم بسبب انقطاع الطريق لوجود عبوات مزروعة على جانبيه، وجدت جمهرة شبّان يتناولون في حوار مشحون قضية الرأس المفقود، تفاعلت لدي رغبة إصغاء لمعرفة تفاصيل نافعة تقربني من هوية الرأس المقطوع المتواجد في غرفتي، لإيجاد الحل الملائم كي يجنبني المتاعب، لكن الحوار بين الشبّان فجأة توقف لحظة تقدم شرطي مدجج كامل القيافة، شاهراً سلاحه نحو الناس، صائحاً بهم كي يتحركوا سريعاً، اندفعت ماشياً وجدت مركبات أمريكية تشق أحشاء الشارع الرئيس للبلدة، وصلت وادي البلدة، في تلك اللحظة أبطأت في سيري، كان المساء يدنو كعادته، مغبراً، ضجراً، يوحي بقدوم ليلة أخرى مظلمة لوجود إعطاب في المحولات الكهربائية، شغلت نفسي بحثاً عن وسيلة تخلصني من عواقب فعلتي، فكرت أن أحمل الرأس ليلاً وألقيه في مكانه، وجدت الفكرة ملائمة لمزاجي، لكن الخوف ظل يعدم كل فرصة وليدة، ترددت، قلت؛ ربما ستكتشفه امرأة ما من الزقاق عندها ستعيط وتسرع الشرطة إلى المكان، حتماً سيتكلم الرأس ما عنده ومن أخذه وأعاده، عندها أكون داخل شبكة معقدة من متاهات قانونية عقيمة، كوني لم أخبرهم بالقضية، وتهمتي ستكون متستر على عمل إرهابي، فنساء الزقاق يلقين أزبال منازلهن في ذلك الممر، ويبقين للحظات وهن يقلبن أحشاء المزبلة بحثاً عن شيء ينفع تلقيه عائلة ميسورة جراء التبدل الحاصل في أثاث المنازل بسبب تعافي رواتب الموظفين، وغالباً ما كنت أجد واحدة تنظف مجرى الساقية وهي تشق كل كيس ملقى وتدلق ما محشور فيه، وضعت الفكرة، جانباً كوني قد أحكمت على القرار الختم بالشمع الأحمر.
وصلت البيت مع الغروب، استبدلت ملابسي ومضيت أصلي المغرب جماعة، عدت من صلاتي وجدت زوجتي وأطفالي ينتظرونني على مائدة العشاء، شاركتهم العشاء، لم أجد رغبة في تناول الشاي، أرجأت ذلك لما بعد صلاة العشاء، صعدت إلى غرفتي، جلست إلى الطاولة، ناداني الرأس:
ـ أكاد أختنق!
توجهت وأنزلته، كان ينظر إلي بريبة، خشيت أن أطيل النظر فيه، بدا معاتباً، كأنه علم بما عزمت عليه.. قلت:
ـ أرجو أن تكون هذه الليلة حاسمة كما أفصحت.
ـ كل شيء مكتوب.
ـ ألم تقل أنك تعلم الزمن الآتي.
ـ هذا الموضوع شائك، وربما لن يقنعك كلامي، لنترك الأشياء تتداعى على نظامها المقرور.
ـ حسناً لو علمت من أنت، ربما تولد لدي فكرة استبقاؤك طالما أنت حي تنبض.
ـ بقائي مرهون بما أحمل من مواقف تخص الجسد الملتصق بي.
ـ قل لي؛ ألم تشعر بالجوع؟
ـ الجسد هو من يجوع!
ـ والرأس أيضاً يمتلك غذاؤه.
ـ غذاء الرأس كتب ومواقف ومشاهد.
ـ أتدري على ما عزمت، ولدت لدي فكرة أن أأخذك إلى الحمّام كي أرطبك بماء منعش.
ـ لا داعي التفكير بهذا! أنا رأس لا أحتاج إلى النظافة، أعني الاستحمام، الجسد هو الذي يطلب ذلك، هو من يقحم نفسه في مستنقعات الرذيلة والفضيلة لذلك يشعر بنتانته.
ـ كلامك يخالف الواقع.
ـ ثق يا سالم؛ الجسد هو كل شيء، أنت تحتاج لسنوات أخرى كي تعلن صواب كلامي، أنظر إلى العالم من حولك، كل شيء هو الجسد، المسرح أوّل من وعى ذلك وتوصل إلى فكرة الاشتغال على الجسد كحالة تعبيرية تحايث الواقع، الجسد صار الوسيلة الملائمة لتغيير مسار الإنسانية، الفنانون وضعوا الجسد فلكاً وراحوا يصبون أفكارهم حوله.
ـ أدرك هذا ولكن ليس كل محدث يديم حداثويته.
ـ الكل ينظر إلى المرأة من خلال الجسد، لا أحد يهمه الرأس، لم يعد الجمال يشكل هاجساً معتبراً، صار الجسد الأنثوي الشعلة الملهمة للمغامرة.
ـ لكن لا قيمة للجسد من غير رأس.
ـ أنا لا أنكر دور الرأس في بلورة الحياة وتكملة القيافة البشرية، وربما قيافة الأشياء في الوجود.
ـ لكنك تركز على الجسد وتحاول إلغاء دورك الحيوي في الوجود.
ـ يا أخي سالم؛ الكلاب التهمت جسدي، الحيوانات المفترسة تبدأ بالتهام الجسد أولاً، أما الرأس، يتخذونه وسيلة لهو بعدما يشبعوا من الجسد.
ـ مسألة طبيعية، الجسد يتكون من لحم والرأس من عظم.
ـ ربما لن تفهم ما أعني، أنا أعني الجسد محور الوجود البشري.
ـ الجسد كجزء من عالم متكامل أسمه الإنسان.
ـ تذكر أن العضو حين يتألم، يتألم له سار الجسد، وليس الرأس.
ـ حديث نبوي شريف.
ـ نعم أدرك هذا وقرأته مرات.
ـ قل لي كيف تواصل حياتك؟ كيف تعيش؟ ألا تشعر بالجوع، بالعطش؟
ـ كلا..! أنا أتغذى على نفسي.
ـ الإنسان بلا قلب كائن عاطل عن الخدمة، ميت.
ـ القلب مضخة لتنقية الدم، أنا لا أحتاج إلى تلك الآلة كون دمي يبقى طاهراً طالما تخلص من الجسد مستودع الشهوات وموطن الآثام.
ـ أتجوع؟
ـ كلا.. لدي ملايين الخلايا، أنها تطعمني.
ـ ستنفد!
ـ إذ.. ذاك سنفترق، أنا أذهب إلى عالمي الآخر، وأنت ستتفرغ لكتابة روايتك.
ـ قد أبكيك.
ـ ردة فعل جسدك.
ـ لكنني سأستخدم عقلي وفكري وخلايا مخي كي أحتوي الحزن الذي سيلازمني.
ـ قل عروق جسدك هي التي تشعر بضغط الفراغ الذي سيتوالد جراء فراقنا.
ـ آه.. بدأت أشعر بوشائج ودودة تتشكل بيننا.
ـ الوشائج تشكلت منذ فترة، عندما كنت تنثر كتاباتك لنا، كنا نتفاعل معها ونشرب حروفها بتروي كي تعيش فينا كما الأحلام.
ـ حسناً؛ هل يمكنك اطلاعي على أسرارك، أعني كل ما فيك من أحلام وأشياء قد تكون ذات أهمية بالنسبة لي.
ـ بدأت تعجبني بطرحك هذا السؤال الحيوي بالنسبة لي، أنك تمنحني فرصة جديدة لحياة طويلة، حسناً؛ أنت هيأتني لقدري، وفرت لي فرصة مناسبة لقول ما أخزن في دسكات مخي من مشاهد، أنت حقاً بدأت تكتبني رواية، ذلك كان حلمي الكبير في الحياة قبل رحيلي.
***
الآن لم أعد أشكل علاقة متجانسة مع جسد غادرني أو غادرته استجابة لقدر لا رجعة فيه، كان الجسد الملتصق بي، متخوماً بشهوات متلاطمة، قذفته يناضل ليل نهار لإخماد حرائقه، لا يقر به قرار، يخرج ليلاً، يتسكع لاهثاً، يتجول عبر الأزقة الخانقة، في الأماكن المشبوهة، مستفزاً، يتصيد كركرات نسائية تهرب من غير خوف أو خجل من وراء جدران المنازل الطينية، أو من خلل النوافذ غير المحصنة، يتوقف لساعات حسب درجة الصمت والأمان المتوفر، يندمج، ليُسكر خلجاته بشهوة الصوت الأنثوي الجارح، يتفاعل، يذوب، قبل أن يمارس نشاطه الجسدي، تلك اللعبة غير المشرّفة للكائن العاقل، كان من غير شعور منه يلهث ضاغطاً على أعصابه كي يغمض عيني، مستدرجاً الذروة العاطفية، وحين يذوي داخل عربة الراحة القاتلة، متثاقلاً يجرجر نفسه، كائناً فاقداً هويته، خائفاً يواصل رحلته إلى منامه، كي يهرب من نفسه أولاً ومن العالم أيضاً، أحياناً يفشل في أيقاظ أفاعي شهوته، تبدو محاولاته يائسة من غير نتيجة مثمرة، لا يتورع من خوض لجة المغامرة، متشجعاً بتسلق الجدران الواطئة، يركب سقوف المنازل الطينية المتلاصقة، يمشي كحيوان يتربص بقنيصة، يتلصص بحثاً عن جسد أنثى عارية، أو نائمة تحت جسد ضاري يفح مكهرباً الليل بنثار آهاته.
لم يستطع ذات ليلة إطفاء غليونه المتوقد أبداً، وجد جسد أنثى نائمة، عربة رغبة من غير مالك، ظل يعذبني بطول تمرده على القيم والأعراف المعروفة، بدا جرأته فوق كل سد منيع أو سور رادع، جاوز حدود عقله، ناسياً القوانين والعقوبات وكل إشكالات العواقب الوخيمة المترتبة على من يتجاوز على حدود الشرف العزيز للآخرين، رغم إدراكه أنه مقبل على دخول حرب دامية بلا سلاح أو تجربة سابقة، أندفع يزحف، كان مسكوناً برائحة الجريمة، جريمة الخروج من جلده البشري، كثعلب وجد دجاجة في قن مفتوح الباب، رغم وجود حرّاس لا يتورعون من عمل كل شيء للذود عن الشرف النائم تحت سطوة الوهم، بدا الجسد الملتصق بي لا أبالياً، ناسفاً فكرة إسقاط نفسه في مستنقع الفضيحة، كون وقائع مماثلة حصلت، جرّاء البلادة وربما الوهم، وربما كانت هناك رغبة عارمة اتخذت من الليل ستاراً لتمرير العواقب، لذلك غامر وراح يزحف كأفعى نحو فريسة غافلة، شعر بحرائقه تفوق استيعاب جسده، لهاثه لهاث غريق في أنفاسه الأخيرة، زحفاً وصل الجسد الممدد تحت سماء مزدانة بالنجوم، ووحدة من غير وجود مبرر، كون الأجساد غالباً ما تنام معاً لصقاً أو على مقربة من البعض، لكن هذا الجسد المتكشف أنفرد ربما القدر قرر ذلك، أو حصل مشادة داخلية وربما لغيّاب الجسد المكمل قيافة العائلة السعيدة، الجسد الممدد كان يخلد لراحة تامة، ربما بعد نهار شاق من أعمال بيتية مضنية، أو ليلة بدأت بعاطفة واسترخى لاستكمال مشروع الحياة في حلم مأمول، كان فاتحاً ساقين ناصعين، لم يرغب بغطاء يستر العورتين، الجسد الملتصق بي بدأ بإرسال يدين مرتجفتين، وصلتا إلى الجسد السكران في بحيرة النوم والأحلام، تململ الجسد النائم، ربما أفاقت الرغبة الليلية، النشيد الخالد للحرية، وقد حصل التوهم المتوقع، غالباً ما ينساق جسد الأنثى لرغبة جسد الرجل في وقت غير متوقع، لا رغبة للنهوض، فالنوم سلطان قاهر، يسترخي الجسد الأنثوي وينقاد لعاصفة الجسد الذكوري، ربما من هذا الباب المفتوح خلد الجسد للرغبة، كل التوقعات لا تذهب خارج فلك البيت حيث الرجل يزعل ويصالح في وقت ما حين تكون الشهوة قاتلة، فالجسد الأنثوي دائماً مهيئاً في الليل لغارات النصف الآخر كي يتلاحم كلما تنهض حرائق الرغبة، الجسد الملتصق بي أنطلق من هذا المبدأ من غير تردد، دون أن يتدارس الوحدة التي تشمل الجسد النائم، دون أن يكون هناك توقعاً بأن الجسد الشريك ربما هو خارج البيت، ألغى كل المتعلقات التي تثير رغبة التردد، كان مثاراً منفعلاً مسكوناً بزهو الانتصار، أكتشف بئر ظامئة، بئر جف ماؤها، وجد الرغبة منسجمة، ليس ثمة موانع تصد السعادة المتوالدة، الجسد الملتصق بي صعد التل اللحمي المتراخي، وبدأ عزف الحياة العاصف، اللهاث المشترك، الأنين الجارح للغريزة، النشيد الكوني للسقوط، كان الجسد الآخر أسير نشوة مباغتة، ربما حلماً عابراً، لم يرغب المكاشفة، وجد السعادة غامرة، لا يمكن أن تعوض هذه الغيمة الماطرة في ليل مزحوم بالأرق، كان الليل يستر الجسدين بنجوم ساهرة، أغمضت عيني بعيداً عن الإثم المتواصل، كنت أعبئ ذاكرتي بمفردات الغزل غير الطبيعي، بمواجيد العاطفة المنفلتة، الثغران مشتبكان في معركة شرب ماء الأغوار المتدفقة، الأيدي تتشابك في عراك مسالم، ربما ستقول الجسد هو من أجبرني أن أغمض عيني كي يواصل زراعة حرائقه في جوف الظلمات المشتعلة بعواصف مرعبة، تلك هي من أحكام الخلق، في جسد كل كائن أعصاب تسمونها عضلات أيضاً تقوم بوظائف شتى، أنظر إلى الأفعى مثلاً حين تتربص بفريسة، تهيأ جسدها الطويل لتحقيق غايتها، وظيفة جسدها تبدأ بالالتواء على جسد الفريسة، معركة جسدين، تملك أعصاب تعمل عمل الطواحين، تقوم بتهشيم جسد الضحية كي تتأهل لتكون لقمة سهلة، الراقصة على المسرح ترقص، تهز جسدها، لا أحد يهمه النظر لملاحتها، الكل مشدود الأعصاب إلى جسد مرن يهتز ويهز المشاعر المتأججة، تمر الفتاة، الكل ينظر إليها من الخلف، وهي تهز عجيزتها أو ساقيها، الكل متوتر الأعصاب، مستثار الشهوة، الجسد الراقد تحت لهاث الجسد الملتصق بي مات بآهة مديدة نازفة، همود أشبه بالموت، كون الأجساد حين تمطر عواطفها تغط في غيبوبة الإرهاق، سكرة النشوة الخالدة، خلد الجسد الملتصق بي أيضاً لموت سعيد، بعدما فرغ من فيضان عروقه، تحرش بأنامل متراخية بالجسد الضحية كي يوقظه، رغبة توالدت لفك اشتباك الغموض المتواجد بين الطرفين، ليستمر هذا العطاء الليلي الدائم، لكن الآخر رفض أن يكشف النقاب عن هيئته، راح يدفع الجسد الملتصق بي، يحاول إلغاءه، أن ينئه من عواقب متوقعة، ربما وجد الحلم حقيقة حاصلة في لحظة غيبوبة، هنا يشتغل الجسد، ينئ عن نفسه ضوء الانتشار، تسمونه مثلبة الفضيحة، ظل خالداً متلفع بعباءة الليل، وقبل أن يهل الفجر، قرر الجسد الملتصق بي أن يغادر أرض العاطفة السريعة، تسمونه العابرة، بعدما فشل في التحقق من هوية الجسد النائم باعث فرحه، هبط من السقف الطيني وراح يمشي منتشياً كأنه فتح قلعة مصادرة، أو أعاد مجد بلاد ضائعة، بخيلاء منتصر يمشي، موفور النشاط، رافعاً لواء مجده على عالم يغط في أمواج تعاسة كاسحة.
***
عاود الجسد الملتصق بي في الليلة اللاحقة تأجيج نار رغبته، وجد جسد رجل ينام في تلك البقعة، ظل متمدداً على أرضية سقف الغرفة، أراد أن يدرك سر التبدل الحاصل، هل حقاً حقق ما حصل أم كان حلماً عابراً ترك رماده في ذاكرته، لم يهتد لنتيجة ما لم يتصل بي عبر الومضات السرية الذائبة في خليج دمه، كنت الشاهد المدون لكل سكناته، أقنعته بصدق القضية، دفع عاصفة توالدت فيه، خرجت من فمي زفيراً حريقاً، عرفت أنه أستعاد حيويته لمواصلة تكحيل نفسه أو ترطيب عروقه بنسيم عواطفه، شعر باليأس يتغلغل إليه، فشل أن يذعن الليل لتوفير فرصة خادمة، كي يستطلع أمر جسد الليلة المنصرمة، قرر البحث عن مخابئ مماثلة، نيرانه تدفعه، دائماً يتصور أن الأجساد المتوهمة تعج بها منازل البلدة، حيث الأمان متواجد، تلك البيوتات المتواضعة والغارقة في شعبيتها، هناك الأجساد متداخلة، لا توجد بينها أطماع، لا توجد نيران شهوات خارج أفران الأوعية الجسدية المغلقة على مفهومية الحلال، لا حرام يلوح طالما المنازل متراصة برباط الأخلاقية الفطرية للعوائل.
الجسد الملتصق بي، قرر أن يمشي متأججاً بالفحيح والأرق المتصاعد من مساماته، جسد لا يذعن للفتور ما لم يسكب ماء أحزانه عبر أي شق ممكن، لا يركن أو يخضع للهزيمة ما لم يصول في متاهات الرذيلة.
وصل الوادي الكبير، منتصف البلدة، لا شيء سوى كلاب ضالة تنبح، مصابيح كابية تحاول مقاتلة العتمة، في تلك اللحظة، في أوج غضبه، في ذروة التوتر التام لأعصابه، طلت البوادر الأولى للفجر، الجسد الملتصق بي لم يحصل إن عاد ذات تجوال من غير تحقيق حظوته، فهو غيمة حابلة أينما كان، وكلما يفشل لرش مشروب سعادته في أيجاد مهبل عابر، يخضع لقانون الفناء، يمارس عادته الوقحة، عادته العلنية، تسمونها أنتم سريّة، في ظل جدار أو قرب نافذة مغلقة تمرر شخير نساء نائمات، يلهث، يسكب مطره في بقعة عفنة، حيث العتمة، أحياناً يهبط من الشارع ويتخذ الجسر الكونكريتي مكاناً آمناً لسكب مشروب سعادته، بعدما يفشل الحصول على أنغام كركرات أنثوية أو تأوهات جسدية في لحظة جماع، تنفلت من الغرف الطينية، يستدرج من مخي صورة قديمة لهيئة جسد امرأة بعد تعريتها بناء لمتطلبات شهوته، يندمج معها في حوار وهمي عاصف قبل أن يفش كبالون فقد هواءه.
الجسد الملتصق بي، وجد جسداً يقف قرب حافة صخرية، تحت ظلال صف أشجار تمد المنطقة بظلال مضاف، حيث القمر قد استرخى أمام جيش النار المتململ من وراء الأفق الشرقي خلف التلال المحيطة ببلدة (جلبلاء)، توقف يستطلعني، أغمضت عيني كي أفقده الرغبة، وجدته عصي الطاعة، لا يرضخ لمطاليبي، بينما كان يجبرني أن أكون أداة تحقيق أحلامه، قبل أن يتوجه نحوه، علمت نيته، رأيته هذه المرة قادماً ليفعل منكراً خارج نطاق الحقيقة، يريد أن يدخل عالماً منافياً لدستور الحياة، أندفع كأعمى شعر بخطر مباغت، كجائع سقط على صحن طعام فجأة، مسكوناً بنار سلبت بشريته، دعته سكراناً، فاقداً صلته بالعالم من حوله، أغمضت عيني كي لا أتجرع سم المشهد، فجأة التصق بالجسد الواقف، لم يكن يشبه الجسد الملتصق بي، كان يمتلك أربع قوائم قوية، ظلّ مستغرباً لما يحصل له، يدير رأسه، يريد أن يستطلع أمر هذا الكائن الغبي الملتصق بمؤخرته، يدغدغ مهبلها بشيء دافئ نحيف وقصير، ربما عاش حلماً واقعياً، رغبة تطفأ نيران أحشاءها كبقية إناث العالم، وربما نشد تكوين جنيناً يلبط في رحمها، كي يشعر بحيوانيته، لذلك خلد للصمت ورضخ لمطاليب الجسد الملتصق بي، وربما قرر أن يكون الجنين القادم خليط سوبر كائن، إنسا.. حمار، الجسد الملتصق بي لهث عالياً، قبل أن يتراخى مشلولاً للذة دهمته بعد مثابرة ونزيف ماءه، حرر مشروب سعادته، سحب نفسه ومشى إلى البيت كما مشى ليلة أمس، كائناً بلا شعور، يتأرجح كسكران، شاعراً بأنه غرق في مستنقع نتانة بغيضة بغض الضالين.
***
الجسد الملتصق بي، يمتلك ذاكرة خصبة، جبل على النضال من أجل مواصلة نشيده الخالد، متمرداً يواصل حياته، هذه الحيوية المتواجدة فيه، دفعت أصحاب النظريات الحداثية استلهام الطاقات المخزونة في القوام البشري، وجدوا الجسد منبراً للعطاء الدائم، منجماً لدرر تزيد رغبة العيش خارج أفلاك اليأس والكوابيس الخانقة لكثير من الناس، صدمتهم الحياة بلا جدواها، مثلما هو الجسد مستنقع السقوط الأخلاقي، وجدوه ذخائر حية لا تنفد تنفع لضخ العزيمة في روح البشرية الحائرة، بحثوا عن القدرات التعبيرية له، أمكانية توظيف طاقاته لترسيم آفاق جديدة للعقل، وسبل جديدة لتأجيج الحياة بطاقات تمدها بزخم مضاف كي لا تهمد، كما تفعل المؤسسات العلمية في بحثها الدائب عن مصادر أخرى للطاقات، كون الطاقة المستخدمة من الوقود آيلة للنفاد، بدئوا بتوظيف الطاقة الشمسية والمائية كبدائل ممكنة في مستقبل البشرية، من هذا المنطلق وربما من باب الإبداع وثورة التحديث المتواصلة، بدأت قوانين ملهمة تتشكل ـ رغم وجود نفور وتعارضات ـ وتعمل لتصهير الجسد لصالح الفكر، الرقص رغم كونه نشاطاً رياضياً ومعرفياً، وفر سبل أخرى لضخ الحياة بمفردات جمالية راقية، خذ مثلاً البانتومايم ، التعبير الأكثر ملائمة لروح العصر، يمكنك أن تقول أشياء نافعة بالجسد، طريقة تحويل الكلام إلى تلاوين وحركات أوكروباتيكية تنسف ترسبات البلادة وتركة المواريث البالية المتواجدة في الجسد، أنظر إلى العناكب كيف يغوي الذكر الأنثى، يقوم برقصات تشبه رقصات الأسبان، قبل أن تثار رغبة الأنثى وتندمج في اللعبة الخالدة للوجود، كذلك الطيور وسائر الكائنات الأخرى، ألم تر كيف يهز الكلب جسده كي ينال رضاك.
الجسد الملتصق بي، خرج من فلكه، جاوز حدود صفته، وأسقط نفسه في دهليز الحيرة، أكتشف أن الكلاب هي من اكتشفت التكلم بالجسد، وجدت الرقص وتحريك الجسد يجلبان السعادة المرجوة، تتحرك كنابض و تتلوى لكسب الود، لذلك وجد اللعبة الجديدة لتخليد عروقه في بوتقة السعادة متعة تضاهي تلك المتعة الليلية المنفلتة من أحابيل المفاجآت، راح يبحث ليلاً عن أماكن تلك الأجساد الخالدة لقوالبها المسكينة، وجد رغبته في محلها، كون تلك الأجساد لا تحفز الجسد بعواقب وخيمة متوقعة مما يهمد من ضراوة الرغبة، تسلل عبر الأماكن التي فيها حدائق، هناك تستودع الناس حميرها، تسلل إلى حديقة على طريق عام، بعد تجوالات أتعبته، كان هناك شبّان يجلسون قرب الحديقة، كلما تلصص، وجدهم يغرقون في الضحك، شعر أن الضحك يعنيه، لابد أنهم رصدوه يحوم في المنطقة، وربما استطلعوا أمره وما جرى له في الوادي، ضاق شهيقه، أبى أن يتقهقر، تفاعلت فيه حمّى التحدي للنيل منهم لإنقاذ كرامته وبريق كبريائه، ظل مصراً على أنجاز رغبته، حام وعاد، وجد المكان خالياً منهم، توقع منهم كميناً، ربما فعلوا ذلك كي يلقوا القبض عليه متلبساً بالجرم المشهود، ماذا يفعل لو حصل ذلك، مرر الرغبة عبر مخي، لم أرغب تشجيعه، ولم أمتلك فرصة لثنائه من عزيمته، كان دائماً صاحب القرار، توقع أنهم كادوا له كيداً محبوكاً، سيجعلون العالم يضحك طويلاً عليه، ظلت بذور التحدي تنمو طردياً مع درجة الخوف فيه، أخيراً أقتحم كليث جائع قطيعاً صامداً، وقف بظل الجدار، يتلصص، أحكم على توترات أعصابه، أراد نأمة صادرة، شهيقاً خافتاً، لم يجد ما يفاقم هلعه، تسلق الجدار وأسقط نفسه وراء الحائط، وقع في كومة غائط طري، لم يبال بسقوطه في أكوام براز الحيوانات تجمعها النسوة ويجففنها كحطب للشتاء، لم تحجمه الرائحة العنيفة، كان محترقاً منتفضاً متوتراً، وجد جسداً يرمقه، تقدم وألتصق به، مارس نشاطه وفرغ من لظى الزمهرير، جسد ليس كجسد الذي أقتحمه، جسد بقرة ليست أنثى، يا للمصيبة، شعر أن النتانة التي أحاطته برعايتها، بقذارتها بدأت تمزقه، لم يحتمل نفسه، مشى صوب نهر البلدة، كان الليل عميقاً يغطي العالم بسواده، وصل النهر، هبط مع أسماله، خرج وراح ينشف أسماله، عادت له روحه البشرية، ضيق أبدي يخنقه، وجد نفسه يختلف عن سائر أصدقائه، فهم مثله يمتلكون أجساد مترعة بالأحلام والرغبات، لكنهم يمتلكون عشبة ترويض عواطفهم، لم يشعر بهم أنهم يمارسون الطقوس الشاذة، لم يرصد فيهم التكلم بكلام حول الشهوة، كانوا يتحدثون عن أجساد الفتيات، عن ساعات الالتحام بهن، عن اللذة التي تساوي امتلاك مال العالم كله، كان يتحسر في إصغائه، كونه فشل في تجنيد أنثى في معسكر مراهقته، رغم محاولاته ووقوفه الدائم على رصيف شارع البلدة، عند مرور الطالبات إلى مدارسهن، عند عودتهن، لم يجد عين أنثى تستهدفه، وجدهن يضحكن، تصلبت عروقه من ضحكهن، وجدهن يضحكن عليه، ربما لا يمتلك سحراً جاذباً، ربما لا يجيد فن صياغة الحب، فالأنثى جريحة منذ ولادتها، تحتاج لطبيب ماهر يرأب تصدعاتها المتواصلة في مجتمع منغلق، مخنوق الحرية، رغم فشله واصل إلقاء صنارة حظوظه في الأزقة، يخترق الدروب الضيقة بحثاً عن نظرة ود، عن ابتسامة محبة تعيد تشكيل إنسانيته المعذبة بشهوة لا إنسانية، نار تسكنه، زلزال يروم زلزلته، شيئاً فشيئاً فقد تلك الرغبة الشبابية فيه، وجد الخروج ليلاً قد يوفر له ملاذاً مريحاً، يخلصه من عذابه القدري، صال وجال قبل أن يستفحل مصيره ويدعه مغامراً يقتحم بسخاء ممالك العماء.
***
الجسد الملتصق بي، سقط في فخ الضحك، كان الليل يواصل مشواره، سار مخترقاً الأزقة، كما يفعل ليالي الشهوة، عندما يبدأ جوفه بإيقاد نار العذاب المستمر، سار سالكاً دروباً جديدة، نشد جسداً يتشابك معه، فقد صلته بالواقع، تخلص من حزام الزمن، صار في الحلم، أنفه تدرب على اقتناص الشهوات الهاربة عبر مسامات الليل وجدران المنازل الواطئة، لم يهتدِ لشهوة عاقة، وجد حلمه الأخير، واقفاً مستفزاً، أقترب منه، بادله تحية رغبة، هز الكائن أذنيه، ربما تلك هي علامات السعادة ودليل الترحيب.
الجسد الملتصق بي كان على عجالة من أمره، خلاف كل الليالي عندما كان يجوب أحشاء الأزقة من غير التفكير بعمر صولته، ومدى نجاحه في تحقيق حلمه، لا مكترثاً بالتعب، غير شاعر بلظى الجوع والظمأ، ألتصق بالجسد الخالد للذهول، وراح يطرد همومه عبر زفيره الصائت، وقبل أن يشعر بغليون سعادته على وشك ضخ مائه في الظلام الدافئ، يد مسكته من رقبته، همد وأنتظر مصيره، لم يحرك ساكناً، وجد رجلاً يلقي القبض عليه، قاده كحمار مطيع إلى باحة حوش، تم ربطه بحبل متين، سكب عليه جردل ماء مثلج، بدأ الرجل بسكب الماء من ( أنا)، لم أبالي ببرودة الماء، تعرف هذا جيداً، الرأس يمتلك وسائل دفاع ضد كل الطقوس، صاح الجسد الملتصق بي من فرط البرد الذي جمد أوصاله، وخلد لصمت مميت، خرجت أنثى من غرفة مظلمة.. قالت:
ـ يا له من حرامي غبي.
قال الرجل:
ـ ليس بحرامي!
ـ ولم قبضت عليه يا رجل؟
ـ وجدته يعاشر الحمار!
ـ يا له من مسكين أما يخجل من نفسه!
ـ لو كان يخجل لتزوج وخلّص نفسه من جحيم صلبه.
ـ كلكم هكذا أيام الشباب!
ـ وماذا تعنين بكلامك؟
ـ الكل يلتجئ للحيوانات أيام المراهقة، ألم تكن تفعل ذلك قبل أن يرميك القدر علي؟
ـ لا تقلبي ظهر المجن يا امرأة!
ـ ولم مسكته، هل كان يسرق؟
ـ ممارسة الشواذ أشد من بلاء السرقة.
ـ أنت أيضاً كنت تمارسه أحياناً!
ـ حين تمتنعين من معاشرتي أفقد صوابي قبل أن أجد منفذاً لقيء جحيمي.
ـ ربما هو أيضاً غضبت زوجته منه فخرج يبحث عن شقوق كي يتخلص من جحيمه.
ـ ماذا نعمل به؟
ـ أطلق سراحه!
كان الجسد الملتصق بي خاضعاً لغيبوبة، مرتجفاً، وكانت المرأة واقفة مشتعلة غيضاً، الرجل الذي أمسك به يتحرك من غير توقف، فجأة أقترب منه، أنهضه وساقه إلى الخارج، وقبل أن يحرره صفعه بغضب، وقذف كومة بصاق سقطت على وجهي (أنا)، وحين تحرر لم يترك لحظة واحدة تنفلت منه، تسارع في خطواته هارباً لا يدري أين يقود نفسه، ولم يمهلن فرصة كي أصحح مساره.
الجسد الملتصق بي لم يكن يمتلك وعيه، كان أسير مباغتة قفلت ذاكرته، بدا كائناً بليداً، لم يكن يدرك أنه كان بين يدي تلك الأنثى الليلية التي ألتصق بها على السطح، ربما المرأة عرفت ذلك لذلك حررته، ففي ذهنها ظلت صولة تلك الليلة واحدة من ألذ صولات لياليها، لابد أنها عرفت الجسد الملتصق بي، حررته كي يفهم القضية ويعاود المجيء في الليالي التالية، أعطته حريته مقابل منحها تلك السعادة الليلية، وربما المرأة ندمت لأنها نسته بعد تلك الليلة، وظل يجيء ويحوم قبل أن يفقد صمام أمان عاطفته ويجد ذلك الكائن المبتلى في حياته خير قمامة تستوعب قيحه، هذا التأويل على ما يبدو أكثر قرباً من الحقيقة، ربما خافت أن يتحول المشهد إلى قيامة خاطئة، كون الفضيحة في البلدة ممكنة، سريعة كالنار في هشيم يابس، لذلك أستيقظ فيها هاجس السيطرة التامة على مستودع عواطفها، خشية الانفلات وحدوث ما يحدث، ربما ندمت لأنها أضاعت فرص نادرة تعوض خساراتها الجسدية، كونها كانت على ما يبدو من خلال الحوار المتصادم مع شريك حياتها محرومة من فاصل الإشباع، كان يجب أن تنام بمفردها طالما الجسد المكلوم يحوم في منطقة عذابه، فهي امرأة لم تكن على وفاق تام مع رجلها، هذا ما فسرته من خلال تلك المشادة الكلامية بينها وبين بعلها.
الجسد الملتصق بي شهوته أفقدته بصيرته، كان يجب أن يدرك سر تحريره من قبل المرأة، دليل واضح على أنها تمتلك رغبة ضارية ورغبتها غير متوافقة مع رغبة بعلها، ونسى أيضاً أن البيت الذي ساقه الرجل إليه كان نفس البيت الذي مارس نشاطاً فوق العادة على سطح أحدى غرفه الطينية في ليلة سعيدة، غابت كل الأشياء النافعة من تضاعيف عروقه جرّاء المباغتة، لم يرعوِ، فهو جسد غير خاضع لقائد يفكر، مثل سفينة تائهة في عرض بحر هائج من غير ربّان، مثل طائر يطير فقد فجأة عينيه، ظل يبحث عن مكان يرد له الاعتبار، أراد أن يعود لمكان اعتقاله، شممت الرائحة منبعثة من عروقه، ربما تغابى، كان ضغط الرغبة يقوده، فجأة قرر أن يهبط من الشارع إلى أسفل الجسر الكونكريتي، هبط وانغمر مجنوناً فاقداً أحاسيسه الواقعية، منهمكاً في عادته العلنية، تسمونها أنتم عادة سريّة.
***
كثيرة هي مصائب الجسد الملتصق بي، لا يتورع من خرق حقول الألغام من أجل شق يحرره من مياه عذابه الدائم، جبل على نار الرغبة فجأة، بعدما أدمن التعامل مع الكتب، حاولت أن أعيد بناء هيئته العصبية، أن أروض سكناته وأمنحه طاقة كامنة تهيمن عليها أعصابه، كي يتخذ شكلاً مناسباً لعصره، كان يمشي صوب كل مكتبة، يدفع نقود ويحمل ما يريد من كتب، كنت فرحاً كونني سأمرر الكلمات إلى مستودع مخي، قبل أن أهيأ على إيقاعات الخبب مستلزمات تشكيل هيئته البشرية، أعني بحيوانيته السادرة، كونه كان متمرداً لا يصغي لوخز الضمير الذي أشعل في ربوعه قناديل الحقيقة، ناشطاً ملهماً كان وهو يلقي بالكتب بعد تقليب منظم لأوراقه، لكنه تبدل فجأة بعدما ألتهم روايتك (قفل قلبي)*. ولم يعد يلازم غرفته، صار يخرج في أوقات متأخرة من الليل، يتسكع هائماً كما يتسكع الشاعر بحثاً عن كلمات تؤرقه بغية التخلص من فكرة مقلقة، لم أرصد فيه ما ينافي طبيعته، كان همه إخماد حرارة نامية بدأت تنهض فيه، تقلقه، تعذبه، تدفعه خارج البيت من غير الانتباه للوقت، خال التجوال رياضة عقلية وجسدية نافعة، ستروض أفاعي القلق المتوالد عبر عروق جسده، لكنه سقط فجأة في بئر أوّل رغبة شبه مباغتة، كان هائماً يصطلي بلظى جوفه، قبل أن يدرك البيت، سمع كلمات فوق الذوق، كلمات أنثى تتأوه، وخوار رجل يفح كبقرة متخومة بالطعام، ظلّ بظل الجدار تتشرب مسامات جسده المستفز عصير الرحيق المنسكب من وراء نافذة بائسة الأحكام، توترت أعصابه، فقد الصلة بي، وبدأ يلعب بيد خجولة، بدأ يلهث بأنفاس مفضوحة، فجأة تراخى نازفاً آهة طويلة، أنتزع نفسه من مسمار الغيبوبة وراح يلهث صوب البيت، بالطبع لم يشعر بالنوم، وجد نفسه مستفزاً، يعيش في عالم لذيذ، السعادة المتواجدة فيه مجانية، من غير دفع وعطاء، يمكنك أن تعيش في قلب الفرح، من غير جواز عبور أو سيطرات مانعة، دافع يدفعه، يلقيه خارج حساباته الليلية المألوفة.
قام من فراشه، وجد نفسه في لحظة فيضان عارم، شيء يزلزله، تسلل إلى الليل، توجه نحو تلك البركة السعيدة، وقف لصق الجدار، قرّب أذنيه من النافذة، رائحة أجساد فاقدة صلاتها بالعالم، شخير مبحوح، دفقات حرارة تهب، أراد فرصة أخرى، أصاغ السمع، الليل يرعب العالم بنباح كلاب لا تسكت، نهيق حمير متراسل، أصوات غريبة، مبهمة، مجهولة المصادر تتوزع على ليل البلدة، لم يكن هناك حوار دافئ، أو صراخ أجساد متشابكة، كان متوتراً لا حاجز يمنعه من مواصلة لعبة علنية وفرت له خذلان جميل، مارس نشاطه مستدرجاً حوارات مستنسخة، خالية من وخزات التعذيب السعيد للمشاعر، نزف روحه وعاد ليستكمل المشروع الروحاني الجديد، هناك في فراشه خلد لتدقيق كامل للمشروع، وجد السعادة مطلب حيوي له، قر أن تلك اللعبة نشاط ذهني يوفر له مستلزمات السعادة الأبدية، لم يجد الليل في تلك الليلة راحة للأجساد، بل وجد تشكيل العلاقة الدائمة مع لعبة الأقدار الضائعة مطلب يخدم لا يهدم، كون الشحنات الكهربائية تتوالد بتسارع داخل أوعية الجسد، مارس النشاط المعلن أكثر من خمس مرات، أظنه ست مرات تحديداً، وكان جسده يرتقي سلّم السعادة لذلك وجد اللعبة سر غير مكتشف من قبل الأطباء كونهم كانوا يطلقون كلامهم من خارج نطاق الخدمة، أعني من غير تجريب، لو جرّب أي طبيب ذلك النشاط العلني تسمونه السري، وتمعن عميقاً في تضاعيف السعادة المتوالدة لربما نسف كل الأفكار السلفية لأطباء ولدوا في أزمنة مظلمة، لذلك جاءت مكتشفاتهم العقلية والتي تخص الأجساد مجرد دعابات متخيلة ليس غير.
***
خذ مثلاً النساء تحديداً، إناث الوقت المحتضر، إناث هذه البلدة متذمرات، غير راضيات عن أنفسهن، أعصابهن في ذروة التأجج، غير راضيات عن قسمتهن، يلعن في كل لحظة اليوم الذي تزوجن فيه، رجالهن مجرد دمى تفتقر إلى مبادئ سعادة المرأة، يلمن أنفسهن كونهن اخترن بالخطأ شريك حياة هامد، سقطن بمحض إرادتهن في فخ المصير العاق، كونهن أعجبن بالأجساد، وجدن أجساد جميلة طويلة عملاقة تمشي، قلن: هو ذا الشريك المناسب! . قلن: هو ذا الرجل المزحوم بالرغبات غير المنتهية! . وافقن وسقطن في برك ضحلة، أزواج غير مؤهلين لمد أغوارهن بمطر السعادة، تلك هي أسباب الفشل البشري عبر كل العصور للوصول إلى أسرار الحياة الناجحة، لأن العصور كلها تراكمات أخطاء، وكل عصر يأتي لا ينسلخ من عباءة القرون السالفة، لو أصغوا للرأس لكانت الحياة الآن الفردوس الخالد، لأن العقول التي قالت الحكم ونشرت دساتير الوعي وعبدت ممرات ومسالك الخير، لم يولوها الاهتمام الواجب، كانوا يقولون عن الأدباء والحكماء والفلاسفة: مجانين..! . كانوا يقولون عنهم: فارغون..! ؟. أحرقوا كتبهم، زجوا بهم في الزنازين، قتلوهم، شردوهم، لذلك ولدت الحياة خاوية من الينابيع الصافية للسعادة، ذلك لأنهم انساقوا تحت رهبة الأجساد العملاقة، وجدوا فيهم أساطير ستقدم لهم السعادة، وما دروا أن وهج السعادة لا يشع ما لم يحصل اتحاد خالد ما بين الرأس بيت الخلود، والجسد بيت الهمود.
***
مرة سمعت امرأة من هذه البلدة، تقول لبائع هدايا وهو يسألها لأخذ وردة لزوجها، كون اليوم الذي جرى فيه الحوار يوم الحب، لم تخجل المرأة المثقفة، كانت معلمة، تربي أجيالاً. قالت: عاب زوجي..! . كيف نأمل الخير من امرأة متعلمة أن تهيأ جيلاً يعي الأخطاء ويصلح الفساد البشري المتراكم، إذا كان ردها عنيفاً وأمام بائع جاهل لردة فعل نفسها تجاه شريك حياة ربما ضحية لظروف مماثلة، أنا أريد أن أقول لك أن إناث الوقت مجردات من القائد الحكيم لعربة رغباتهن، فيهن مقدرات السعادة الخالدة، لكنهن سقطن أو أسقطن أنفسهن تحت سطوة الجسد، لو أصغين لصوت رؤوسهن لربما وجدنا نسبة السقوط الأخلاقي في البلدة، وبلدات العالم نسبة ضحلة من المعيب أن تذكر.
***
الجسد الملتصق بي، سافر عميقاً صوب النبع المتوهج حديثاً، راح يصول ويجول عبر الشقوق، شق يلقيه في شق، ناسياً رأسه، أعني الومضات التي كنت أبعثها في ربوع جسده، لاغياً كل الأشياء الروتينية لتيسير الحياة، النوم والعمل والغذاء، ترك مدرسته، ترك غذائي، أعني القراءة، وحب الكتب، عشق عالمه المتنقل، التجوال النهاري تحول إلى تجوال ليلي، أعصابه ملتهبة، أشغلني لتحقيق مكاسبه الشهوانية، ومضت أيامه كلها كفاح ومثابرة من أجل إخماد حرائق أعصابه، تسمونه أنتم شهوات.
***
سكت فجأة وأغمض عينيه، وجدت بضع قطرات دمع انحدرت من بين الرموش المنطبقة، مسحت الدمع وبدأ يشخر، في تلك اللحظة تصاعد من مكبرات صوت المساجد النداء الساحر لأداء صلاة العشاء، وضعته في الكرتون ورفعته إلى فوق المكتبة، أغلقت الباب وهبطت متوجهاً نحو المسجد، كنت مسكوناً بنشيد متفاقم يضج في رأسي، وجدت مشاهد كثيرة تتفاعل وتضغط كي أكتبها، تلك الحمى التي تدفعني أكتب من غير هوادة أو هوان، قبل أن تهمد الرغبة ويموت فعل الكتابة، وغالباً ما كانت زوجتي سبباً دائماً لوقف مشاريعي، تذكرت القول السائد (وراء كل عظيم امرأة)، قلت وراء كل تعيس امرأة أيضاً، فالرأس سرد لي أمور لم تكن حاضرة في كل كتاباتي السابقة رغم وجود دوافع تجعلني أتهجم على الكثير من صفات إناث الوقت، فإناث الوقت رحن يفضلن طرح أجسادهن على مسارح الواقع من خلال ارتداء ملابس رجولية، أليست تلك أدلة على سقوط الحياة في بركة التمظهر الزائف، والتملص من منابع الحكمة، أعني من سلطة الرأس، آه لو عرفن النساء لم همدت الرغبة الذكورية في العالم أجمع، أنا واثق أن الجواب لا يستطيع أن يكتشفه أحد غيري، ربما يهذون ويتكلمون كثيراً لكن الجواب واضح من غير لف أو دوران، سبب خروج الإناث من قالبهن المعروف، أي أيام كن متلفعات غير مكتشفات مثل قارة كنوز غامضة، كانت العيون تطارد هذا الغموض وتتفاعل الشهوة طردياً، واليوم تعرت المرأة وأصبحت كالرجل، صارت في عيون الرجال مجرد صورة معروفة أو بالية، مثل طعام شائع معروف الطعم والفائدة، هذا الخروج دمر الذوق البشري الفطري، مما عبدت الطريق لخلافات وتمردات عند الكثير من النساء، لقد أيقظ في الكثير من الأسئلة ممكن أثارتها عبر روايتي القادمة.
وصلت المسجد، وجدت رأسي مزحوماً بأشياء كثيرة، شتت من تركيزي، لا أعرف كم كنت مندمجاً في صلاتي، أم كنت مشغولاً بالتفاعلات الروائية في ذهني، خرجت من المسجد، متوقعاً أنني سأسهر الليل على حكايات مثيرة، وتوالدت في رغبة التجوال، تلك التقليعة الشبابية التي كانت بدايات موفقة لبناء هرم الأدب في ذاتي، كنت أتجول بين الأزقة، تحت المطر، لا أعرف لم، هناك حرارة تتوالد في أعصابي وتدفعني المشي في كل طرقات البلدة، فكرت أن أعيد النشاط الخامد، لكن سطوة قضيتي منعتني، فالرأس لابد أن يعرف موعد قدومي، سينهض وينادي، وربما تكتشف زوجتي مجمل القضية، هناك دافع آخر، هاجس فقدان الأمن في البلدة، ففي الليل يكون الماشي مرصوداً من قبل عيون تبحث عن ماشين غفّل لإلصاق تهم باطلة بهم من أجل الفوز بقليل من الدولارات، الأمر الذي دعا قيادة أناس إلى السجون كانوا ماشين عن طريق المصادفة بطرق حصلت فيها انفجارات، رغم وجود قناعة، أن هناك من يتأهب لزراعة عبوة مترصداً مرور ماشي كي ينأى بنفسه من التهمة.
فجأة تقدم مني شخص غريب، لم يكن من روّاد المسجد، وجدته جريئاً، تقدم مني.. قال:
ـ أحمل رسالة لك!
ـ ممن..؟
ـ لا يحق لك أن تعرف.
ـ أنت تعرف من تخاطب.
ـ أعرفك!
ـ لا يجرأ أحد في هذا الزمن الوقوف بوجهي.
ـ نحن نقف بوجه الجميع.
ـ الكلاب وحدهم يجابهونني أحياناً، لكنهم يتخاذلون لصلابتي.
ـ أتسمينا كلاب؟
ـ كل من يعترض سبيلي كلب أبن كلب إلى آخر الدنيا.
ـ أنت تتجاوز حدودك، ستعرض نفسك للقصاص.
ـ ومن قال أني أخاف القصاص.
ـ نعرف أنك جريء ومحظوظ ولكن عليك أن لا تتجاوز علينا.
ـ أنا أتجاوز على كل عاق وكل ظالم وكل متجاهل للحقيقة وكل كلب ينبح بوجه النور.
ـ لدينا منهجاً أخلاقياً لتغير لون الحياة.
ـ حين تكف الكلاب عن النباح ستغدو الحياة فردوسنا المفقود.
ـ ليس لدي وقت أطيله معك، جئت أبلغك أن تكف عن كتابة روايتك القادمة.
ـ وهل أنت شرطي رقابة؟
ـ أنت تحاول تعريتنا.
ـ أنا أعرّي المنحرفين.
ـ كتابك القادم يمسنا إيّاك أن تنشره!
ـ أنا كاتب البلدة، يسموني مؤرخها، لن يوقفني أحد في نشر أي موضوع مهما كانت العواقب.
ـ لدي تفويضاً أن أساومك، سأعطيك المبلغ الذي تجنيه مقابل نشره.
ـ وهل تظن أني أبيع أفكاري، أن ما أكتبه ليس ملكي، أنا فقط أنقل أمانات إلى الأجيال اللاحقة.
ـ هناك مبلغاً كبيراً مرصوداً لك مقابل التوقف عن كتاباتك الجارحة لمنهجنا.
ـ أبحث عن شعراء تعساء، أنهم متأهبون لبيع ما يكتبون.
ـ أنت الوحيد القادر على ملاحقتنا، نحن نتابع كل كتاباتك، أنها لا تعجبنا، بل تضعفنا.
ـ تعرفني جيداً.
ـ ربما لن نرحمك كما كنّا نفعل.
ـ الرحمة هبة ربانية.
ـ كلام أخير لك! روايتك (بعل الغجرية) ، والتي تروم نشرها كما أشرت إليه أمام زملائك، يمكنك تغير الفصول التي تمسنا قبل نشرها، هذا ما نبغي وعش حراً سالماً محترما.
ـ روايتي تحت الطبع، لن أحذف حرفاً واحداً منها.
ـ هذا كل ما لدي! فكّر قبل أن تتغير نظرتنا لك.
استدار ومضى، لم أضع فرصة واحدة للتفكير بطارئ جاء يشيع الذعر، خلته شخصية عاقة أقتحم فصلاً من فصول رواياتي وضاع في مزبلة النسيان.
عدت ودخلت البيت، وجدت زوجتي أعدّت لنا صحني فاكهة.. قالت:
ـ الفاكهة تمد ذاكرتك بذكرياتنا الجميلة.
ـ آه.. دائماً تزجينني في قلب حبنا.
ـ يجب أن نستعيد تلك الأيام القديمة كي يستمر حبنا كما ولد.
ـ حبك كتاب محفوظ في ذاكرتي، كل يوم أتصفحه وأختار منه المناسب لكتابة رواياتي.
ـ لكنك تحشر رواياتك وقصصك بالكلاب أيضاً.
ـ الكلاب حيوانات غريبة جداً بالنسبة لي أو هكذا أشعر بها.
ـ وما الغرابة فيها؟
ـ كانت مصدر رعب لكثير من لقاءاتنا.
ـ كلاب حيوانية كانت.
ـ وبشرية أيضاً!
ـ مهما حصل حققنا وحدتنا واندمجنا في بيت واحد.
ـ تلك المواقف لن أنساها.
ـ دعنا من تلك المواقف، هيا شاركني الفواكه كما كنت تفعل أيام الحب.
ـ أنا بحاجة إلى فاكهتك أنت.
ـ يجب أن لا نغير العهد المبرم بيننا، كما كنا نفعل أيام الليالي السعيدة، كنا نأكل الفواكه قبل أن ننهمك بتناول فواكه عواطفنا.
ـ آه.. يا لك من حبيبة فوق العادة.
ـ كلا.. لست كما كنت، الحياة تبدلت وتركت فينا أشياء غير حميدة تولد خلاف أمزجتنا، كنت مفتوناً بقوامك الرشيق، كنت أنظر إليك وأنت تمشي، وكنت أتخيل أنني بين أحضانك بدلاً من الكتاب الذي كنت تحمله.
ـ واليوم لم تعد تلك الرغبة متواجدة.
ـ لا أعرف أعصابي هي التي هيمنت على رأسي، كل دقيقة هاجس غريب يدفعني أن أعمل شيئاً، أن أصرخ، أن ألم الدنيا على نفسي.
ـ مجنونة!
ـ ليت كنت مجنونة لتخلصت من عذابي.
ـ وماذا كان بوسعك أن تعملي؟
ـ أكتب روايات.
ـ وما علاقة الرواية بالجنون.
ـ الرواية بحد ذاتها نتاج عقل ملوث بالجنون.
ـ قد يكون الجنون دافعاً لقول أشياء خارجة عن إرادة العقل، الجنون يمنح الشجاعة في القول.
ـ ثق يا سالم.. كل كاتب مجنون.
ـ وأنا منهم؟
ـ بل أكثرهم جنوناً.
ـ يا لها من تهمة غير مقنعة.
ـ اليوم اكتشفت جنونك الحقيقي.
ـ كيف..؟
ـ بدأت تكتب وأنت تصرخ.
ـ ما زلت تتهميني بهذه الخطيئة.
ـ لا وقت للجدال هيّا كل.
تناولت بعض الفاكهة، نصف موزة ونصف تفاحة ونصف برتقالة، والتهمت هي الأنصاص الأخر، نحت صحني الفاكهة جنباً وألقت برأسها على كتفي.. قلت:
ـ لنترك هذا لليل1
ـ تعرفني جيداً عندما تهيج عواطفي لا وقت أمتلك للتأجيل.
ـ ربما الأطفال يداهموننا.
ـ غرقوا في نومهم المبكر.
رضخت لمطلبها، تمددنا داخل المطبخ وعملنا بحرارة ولهفة، وحين انتهينا.. قالت:
ـ اشتقت لعادتنا المنسية.
ـ آه.. يا للمصادفة لقد خطر ببالي تواً.
ـ هيّا لنستحم معاً.
قمنا وتوجهنا نحو الحمّام، أجلستني وراحت تدلك جسدي بعنف، سبحنا وهبطنا.. قالت:
ـ أرجو أن تنام باكراً لا تسهر طويلاً.
ـ حسناً حين أنهي فصلاً واحداً من الرواية سأهبط إليك.
طبعت قبلة على خدي وصعدت إلى غرفتي، كانت لدي رغبة متوقدة لكتابة فصلاً مستقلاً، فكرة طرأت بذهني أن أغير منهجي في الكتابة، لأتمكن على أقل تقدير من المواصلة وعدم ترك الرواية في نقطة ما، بسبب طارئ قاتل، كون الفكرة الجديدة ولدت جراء تلك التوقفات المتواصلة لي أثناء الكتابة، قلت أكتب فصلاً مهما كان موقعه من النص ككل، فيما بعد أعيد ترتيب الفصول وفق التسلسل المستحق، جلست خلف الطاولة، في تلك اللحظة ندهني صوت مخنوق، تقدمت من المكتبة، أنزلت الكرتون وفتحته، كان يرمقني بغرابة.. قال:
ـ كان يجب أن تأتي بسرعة، أعطيتك الفرصة الكاملة لأداء فريضة صلاتك.
ـ كنت مشغولاً لبعض الأمور.
ـ لا تكذب!
ـ أكذب؟
ـ أعني لا تحاول تمرير أوهامك علي.
ـ حسناً انشغلت مع زوجتي بتناول الفواكه.
ـ اعرف.
ـ تعرف..؟ ولم تسأل؟
ـ أنت تكرر هذه اللازمة في كثير من كتاباتك.
ـ آه.. حياتي سلسلة متصلة من الحكايات، تتداخل أحياناً وتتلبسني في حياتي العملية.
ـ كلنا روايات لم تكتب بعد، حتى لو متنا هناك من يأتي ويكتبنا روايات.
ـ معلوماتك الأدبية مرموقة.
ـ ألم أقل لك، كان الجسد الملتصق بي يمدني بكل ما تكتبه، وكنت أشرب كلماتك كما أشرب سائل الغذاء المذاب في الدم.
ـ ألم يجرب صاحبك الكتابة؟ فمن يقرأ كثيراً يغدو ناقداً أو كاتباً.
ـ الجسد الملتصق بي، تنامت في أعصابه حمى غريبة، راح يتجول في الطرقات بحثاً عن مدينته الفاضلة، فسقط في مدينة الرذيلة.
ـ نحن أيضاً تسكعنا، ولكن تسكعنا كان من أجل استكمال المشروع الأدبي المذاب فينا.
ـ هو أيضاً خرج من أجل مشروعه، لكنه أنحرف لقوة أعصابه وسقوطه في شرك الرذيلة.
ـ آه.. كلنا نسقط أيام تسكعاتنا.
ـ تلك هي فلسفة الحياة، الظروف هي التي تختار ضحاياها.
ـ حدثني عن مصيبتنا!
ـ أية مصيبة يا حضرة الأديب؟
ـ مصيبتي معك، كيف السبيل لوضع نهاية مقنعة لكلينا.
ـ لا تفكر بهذا! النهاية تأتي من غير تخطيط، فالروايات العظيمة هي التي تجبر نهاياتها على عقلية الكاتب عند الكتابة.
ـ حسناً؛ ماذا بقى عندك من كلام؟
ـ يبدو أنك على عجالة من أمرك.
ـ الرواية حرب ضاغطة، يجب أن أهيّأ دفاعاتي الصلبة قبل أن تباغتني وتنام.
ـ فشلك المتواصل آن أن تستثمره الآن.
ـ حين تتركني يمكنني أن أبدأ مشروعي المتعثر.
ـ حسناً.. حين أنهي ما لدي من كلام نافع، يمكنك أن تبكيني، عفواً، أعني أن تسكب دمع قلمك على خدود الورق لي أو علي.
ـ عرفت كل شيء عن الجسد الملتصق بك، إلاّ كنيته، ربما ستعرقل سير الموضوع.
ـ أنت لم تعرف سوى نصف قضيته.
ـ وما هو نصفه الآخر؟
ـ ستعرف.
ـ لا يهمني أن أعرف، ربما أنا من سيضع النصف اللائق به.
ـ عندها ستكون رواية مفتعلة.
ـ كل الروايات تكاد تكون مفتعلة.
ـ هذا سبب فشلك المتواصل لتكملة رواية واحدة من رواياتك النائمة تحت أكداس الغبار.
ـ هل بوسعك أن تسمعني البقية.
ـ ليس قبل أن يصفو ذهنك.
ـ وما أدراك بما في ذهني؟
ـ وجهك يبرز ما يسكنك.
ـ أنا دائماً أبدأ الليل بشيء من القلق.
ـ لكنك تبدو مسكوناً بخوف كبير.
ـ خوفي ولد جرّاءك.
ـ حين أنهي كلامي سيزول خوفك الجسدي.
ـ وهل هناك أنواع أخر من الخوف؟
ـ ربما!
ـ حسناً؛ هات ما عندك من كلام مفيد قبل أن تخلد لنومك الأبدي.
سكت، وجدته يغمض عينيه، رغبت أن أغلق فم الكرتون وأرفعه إلى مكانه كي أخلو للحظة صفاء، باغتني من غير أن يفتح عينيه:
ـ ليس بعد، أني أسترجع الشريط الشائك المتواجد في مخي.
ـ حسناً لي مزاج رائق، بإمكاني سماعك حتى الصباح.
ـ كلا..! ما عندي لك محدد الوقت، أنت فقط تصغي، دع ذهنك يكتب.
ـ حسناً؛ سأفتح مخي جيداً كي لا أضيع كلمة واحدة يحررها لسانك.
***
هل كنت السبب القاتل لما حصل له؟ القانون الوضعي سيلقي باللوم الكامل على الرأس، باعتبار الرأس مصدر الإلهام ومستودع العقل، مركز النور لو أخذنا بنظر الاعتبار الجسد موطن النار، والرأس يحوي المخ مرايا النشاط البشري، وكما تظن أنت أيضاً أنّه الربّان الحكيم لسفينة باذخة يطلق عليها جسد.
قد أكون متهماً كوني أمرر له المحسوسات المثيرة المتعلقة بالنشاط العاطفي، لكن كنت دائماً أفرز سائل الرهبة وأضيء له في نهاية كل رغبة الضوء في فانوس الرعب. قلت لك أن نشاطه الجسدي عبر قوة أعصابه، كان يميت كل بادرة تخويف أبثها في ثنايا عروقه، لذلك تركت حبله على غاربه.
***
الجسد الملتصق بي، وجد حائطاً يمكن اجتيازه من غير بذل جهد، كان حائط مدرسة بنات، كان يمشي عائداً إلى منزله، لم يكن قد أبتلي بنار الجوف القاتل، رغم تواصله قراءة الكتب المثيرة، رأيت بنت واقفة تمرر عينيها إلى نقطة غير مرئية، الجسد الملتصق بي، توقف، دعاني أستطلع أمر البنت الواقفة تنظر والبسمة لا تفارق شفتيها، كانت ترفع يديها وتهبطانها بشكل لا مدروس وربما كانتا تنثران ما في لسانها من كلام ليس بوسعها إيصالها ما لم تستعين بهما، ربما نست أين تقف، كانت على ما ظهر مسكونة بحمى عاطفة عنيفة، نقلت له خبر البنت، وجدته ينتفض، كجسد منحور، مشى ووقف قرب جدار راغباً بالتقاط الصور الممكنة للمشهد عبر عيني، من زاوية ما ظهر جسد شاب يتبختر في مشي متكلف، أقترب من البنت الواقفة وراء الحائط، تبادلا بضع كلمات سريعة، لم يكملا الحوار.
الجسد الملتصق بي خرج يمشي نحوهما، الولد ذاب في لحظة والبنت وقفت ترتجف، وقف الجسد الملتصق بي قبالتها، كانت عروقه نابضة تقذف عرق شهوته.. أجبرني القول:
ـ سأحكي لأبيك ما رأيت!
توسلت البنت، كادت أن تبكي.. قالت بصوت مختنق:
ـ أطلب أي شيء مني سأفعله لك، أرجوك أبي حقير سيذبحني.
ـ لا.. يجب أن أخلص البلدة من البنات العاقات، أنتِ تستحقين الرجم في الوادي.
ـ أرجوك؛ أي شيء تريده أنا أعطيك.
ـ حسناً؛ أنا لا أريد منك شيئاً، أريد منك أن تأتين إلى البيت ورائي.
ـ أنت تريد أن تورطني ويذبحني أبي.
ـ لا تخافي.. لدي كلام خاص أقوله لك.
ـ ومتى؟
ـ الآن..!
ـ لدينا درس أخير، سآتي عصراً.
ـ سأنتظرك إذا تأخرت هيئي رقبتك لسكين أبيك.
انسحبت البنت من وراء الحائط، وعاد إلى البيت مزحوماً بشيء لا مألوف، لم يتناول غداءه، بحث عن فكرة تخدمه لإخراج أمه من البيت، وجدها نائمة، أنهضها.. أجبرني الكذب:
ـ خالتي متعبة.
ـ من قال لك هذا الكلام؟
ـ رأيت امرأة من القرية أخبرتني بذلك، قالت هي تطلبك الذهاب ليها.
ـ حسناً؛ غداً سأذهب إليها، أنا مشتاقة لرؤيتها.
ـ لكنها طلبتك اليوم، وضعها مقلق.
ـ الساعة تقارب الواحدة من بعد الظهر، ربما لا توجد مركبات في كراج النقليات.
ـ سأرافقك إلى الكراج.
ـ لما لم تأتي معي؟
ـ لدي عمل لا ينبغي تركه.
رضخت أمّه للكذبة وضغط إلحاحه، خرجت من غير أن يرافقها، ذلك الخروج كان النقطة الحساسة لتحول حياته التالية، لم يكن يعلم أن الكذبة التي حشرها على لساني كانت مفتتح لمآسي لاحقة ظلت تلازمه حتى لحظة فصلوني عنه، كانت أمّه مرتبكة، تتناهبها الظنون والهواجس، مشغولة بأختها، أبنها لم يسبق أن قال لها مثل هذا الكلام، توقعت أن القضية أكبر مما سمعت، لابد أنها ماتت وأراد الولد أن يخفي الخبر عليها، فهي تعرف أن أختها تعاني من مرض مزمن، ضغطها في ارتفاع دائم مع صعود نسبة السكر في دمها:
ـ كانت منتصف الشارع لحظة أرادت أن تجتاز إلى الجهة الأخرى، كانت مشغولة الذهن، لسانها يهذي، فجأة وجدتها تحت فرامل مركبة حوضية سريعة! هكذا وصف شاب الحادثة.
الجسد الملتصق بي كان نائماً، وصله الخبر عبر طرقات غير عادية على باب البيت، نهض، خال البنت التي رآها تتكلم مع شاب غريب أتت حسب الموعد المبرم.
كانت امرأة جارة.. صاحت بوجهه:
ـ أمّك ماتت!
لم يعِ صرختها، ظل يتأمل الفراغ الحاصل بينه وبين فمها المفتوح.. صاحت مرة أخرى:
ـ أمّك سحقتها سيّارة!
ـ وجد نفسه مجنوناً، خرج يركض نحو الشارع، وجد كل شيء يخلد للسكون، ليس هناك أمّه، ليست هناك مركبة، أو ناس يتجمعون، عاد وطرق باب تلك الجارة، خرجت المرأة:
ـ أين أمّي؟
ـ في المشفى.
ـ المشفى؟
ـ أنهم يشرحونها الآن.
أستعاد وعيه، فهم الأمور كلها، هرول ثانية نحو المشفى، وجد غرفة التشريح مغلقة، وجد طبيباً واقفاً في باب غرفته، تقدم منه.. قال:
ـ دكتور أمّي؟
ضحك الدكتور.. قال له:
ـ دكتور أمّي..؟ لست أمّك أو أميّا يا معتوه.
لم يمتلك لساناً يوصله لغايته، عاد متعباً، وجد البيت يغص بنساء الجيران، وجد رجال الزقاق متهيئين لانجاز مراسيم الدفن، فهم القضية كلها، بكى قليلاً قبل أن تربت على كفتيه كفوف تواسي وتمنحه شعوراً بالصبر، ألقى سبب موت أمّه على تلك البنت، كونها تسببت في خسارة أمّه، قرر أن ينتقم لرحيل أمّه.
بعد أيام وجد البنت تمشي نحو مدرستها، أوقفها بصرخة، ارتعبت البنت وهي تقف.. صاح:
ـ قتلت أمّي؟
ـ وما دخلي أنا، أمّك كانت مجنونة.
ـ ستدفعين الثمن غالياً!
ـ أرجوك؛ جئت في الموعد المحدد وجدت البيت يغص بالناس.
ـ حسناً يجب أن تتبعيني!
ـ ولكن المدرسة!
ـ تفو على المدرسة ومن أسسها.
ـ لم لا نؤجل هذا إلى وقت آخر؟
ـ لن أؤجل ذبحك لحظة واحدة.
ـ حسناً؛ سأتبعك ولكن فقط ربع ساعة لدي امتحان في الدرس الثاني.
لم يفه بشيء، سار ومضت تتبعه، اخترقت أزقة خانقة، دخل البيت ودخلت وراءه، وقفت أمام باب الغرفة، وجدته يرتجف.. تشجعت:
ـ قل كلامك ليس لدي وقتاً.
ـ أنا أحبك!
ـ أمن أجل هذا دعوتني؟
ـ كلا.. !
ـ هل ممكن أن تكتب ما عندك في ورقة لي؟
ـ لا أحبذ كتابة الرسائل!
ـ وهل تريد جوابي؟
ـ كلا.. !
ـ أنت متعب، تحتاج إلى راحة.
ـ هل تمنحينني الراحة.
ـ الراحة ليست شيء يمكن إعطاؤه لليائسين.
ـ في الكتب وجدت راحة الرجل عند المرأة.
ـ ذلك عندما يكون هناك زواج بينهما.
ـ حسناً لنتزوج!
خنقت البنت ضحكة، رمقها بعينين غاضبتين.. قالت:
ـ وهل الزواج لعبة صبيان؟
ـ وما الفرق، أنا الآن ملك نفسي، وأنت تستطيعين أن تكوني ملك نفسك.
ـ وهل تريد أن يرجمونا داخل الوادي.
ـ عندما نتزوج يكون كل شيء بيننا شرعياً.
ـ ومن قال أبي المجنون يوافق عليك؟
ـ وهل يوافق على ذلك الشاب الذي وقفت من أجله؟
ـ كل إنسان لديه آمال وطموحات قد لا تتحقق.
قام وأقترب منها، وقف أمامها، مستفزاً، شيء ما يضغط في عروقه، ظلام دامس يهيمن، هجم عليها، حاولت أن تتملص منه، خشت أن تصيح، سحبها إلى الغرفة، نام فوقها، لم تمتلك وسيلة كي تمنعه من تمزيق ملابسها، وجدت نفسها عارية، ووجدته مجنوناً يروم ارتكاب جريمة، ماعت في تعب وغثيان، وحين وعت رأته غارقاً في نوم شاخر، وجدت فخذيها منقوشة ببقع حمراء، ارتاعت رغم وجود لذة تسري في أحشائها، أنهضته.. قالت:
ـ أخرجني من هذه الورطة؟
ـ ماذا أعمل؟
ـ أذهب إلى السوق وأجلب لي ثوباً.
ـ حسناً؛ لكن لا تتركي البيت.
وجد نفسه في حالة جديدة، وحين أصبح في الزقاق، نادته الجارة، توقف مرتجفاً.. قالت:
ـ ماذا فعلت بالبنت؟
لم يحر جواباً، تخاذل وكاد أن يموت.. قالت أيضاً:
ـ لدي كلام معك فيما بعد! أين تذهب؟
ـ أجلب لها ملابس.
ـ لدي ملابس فائضة لابنتي سأجلبها لك.
ـ ربما لا تناسبها.
ـ جربها!
دخلت الجارة البيت واتت بكيس ملابس، وجدت البنت ملابس مناسبة لها.. قالت:
ـ سأراك فيما بعد كي نفكر بمصيرنا.
خرجت وتركته حائراً، قبل أن يسمع طرقات على الباب، وجد الجارة واقفة، دخلت من غير أن يتكلم، توجهت إلى الغرفة، جلست، ظل واقفاً عند الباب.. قالت:
ـ هنا حطمت حياة البنت.
لم يتكلم.. أردفت:
ـ تعال أقترب!
متخاذلاً تقدم وجلس قبالتها،دنت منه..قالت:
ـ لم لا تتزوجها؟
ـ كيف؟
ـ أنا سأقنع أباها المجنون.
ـ أكون شاكرة لك.
ـ لا تخشى حتى لو حبلت لدي وسيلة أن أنقذها من أجلك.
ـ أنت تقدمين خدمة كبيرة لي.
ـ ليست خدمة، أنا كنت مثلها، والدك المرحوم فعل معي ذلك، امرأة جارة قدمت معروفاً لي وزوجتني من رجل متواضع العقل لخنق الفضيحة.
ـ أي شيء تريدينه أنا حاضر.
ـ لا أريد شيئاً سوى خنق هذه الفضيحة إكراماً لأمك زميلتي.
خرجت المرأة الجارة وبقى وحيداً غارقاً في سديم يتسع ويبتلعه، بعد يومين جاءته الجارة.. قالت:
ـ لم يرضخ لمطلبي، قال أنا لا أعطي أبنتي لواحد غريب.
ـ وهل أنا غريب؟
ـ يعتبرك غريباً كونك كردياً.
ـ وما العمل؟
ـ اتفقت مع البنت أن تأتي معي كي أخلصها من بذور القضية في أحشائها، هناك امرأة تخيط البكارات المفضوضة أيضاً.
ـ أشكرك.
خرجت، ظل يقلبني بحثاً عن حل مناسب، لم أكن أنا الرأس الحزين للذي جرى أمتلك بصمة صحو، أو نقطة ضوء كي أنير الظلام المتوالد في عروقه، بعد مرور شهرين على القضية تم تزويج تلك البنت من أبن عمها، ومضت القضية من غير دخان أو نار.
***
هل للجسد سلطة مخبوءة؟ تلتجئ إليها الأعصاب لسبب ما، في وقت ما، جراء ضغط فعل خفي، يبغي إحداث تغير كامل في الصفات المدسوسة، داخل العروق والأوعية الدموية.
الناس تبدأ سيرة حياة روتينية، غالباً ما تكون تقليدية، كون الصغير يرى الكبير ويعيد ما يبديه من أعمال تتكرر وحركات روتينية تتواصل، قبل أن يمتلك شخصيته وتتفاقم فيه الرغبات وتزدحم الأحلام، تراه يندفع لتغيير دفة الحياة الخاصة به، قد تكون للظروف تأثيرات سلبية أو إيجابية على التغير الحاصل، فالمرء حين يكبر تتسع رؤيته، تتوسع مداركه، حاجاته الجسدية تنمو وتطلب ما يناسبها، يعيش تحت ضغط الصور الحياتية المتراكمة في أرشيف الرأس، ربما يتبادر إلى الذهن سؤالاً وجيهاً، فعل التغير من المسئول عنه، الجسد أم الرأس، وهل وظيفة الرأس تنظيم متطلبات الجسد، يقوم مقام المؤرخ والتمويني ومستقبل الخبرات المتوالدة يومياً، ومؤرشف الحوادث، والمدافع حين يساق الجسد للشهادة أو الأعراف بالذنب، وناقل الحقائق لمن يريد الثقافة الشفاهية المتراكمة لحياة مضت، وبقية الأشياء الأخر القائمة لتكملة كوميديا الحياة على مسرح الوجود.
***
الجسد الملتصق بي، بدأ حياة مثالية، سلطني على ضوء لم أره، بل توقعته من خلال توجهاته وبدء سيرته بحب الكتاب، خلته يروم مكانة اجتماعية مرموقة، فمن يعشق الكتاب لابد أن تسكنه رغبات ودودة للعطاء في حياته اللاحقة، لكن كيف تغير، لم سار عكس رغباته الأولى؟. من المسئول عن انحداره؟. هل كان الجسد مليئاً بفواصل الخير قبل أن تتغلب عليه فواصل الشر؟. هذا الاحتمال وارد، كون الجسد البشري قِربة تتساوى فيها كفتي الحياة، ما هو خير وما هو شر، وأبقى أنا، أعني الرأس، الفيصل لمراقبة التأرجح المتواصل، يحاول منع حصول انفلات في المعايير كي لا ينحرف إلى جهة ما، هذا ما كان يشغلني عندما سقط الجسد الملتصق بي، لم أمتلك الصولجان كي أعيد التوازن، مالت كفة الشر وبقيت مثل فزاعة أدمنتها الطيور، وراحت تحتمي بها بدل الهروب منها.
***
الجسد الملتصق بي، وصله خبر زواج تلك البنت، شعر بشيء ثقيل يتحرر منه، لم يحزن، لم ينفعل، ظهر أكثر فرحاً، كمجرم تخلص من برهان جريمته، وصار بعيداً عن أعين القانون، رغم أن القانون في البلدة والبلاد يقولون عنه أعمى، تلك البنت تم تزويجها لرجل ساذج، عشقها من أول نظرة، كان مزحوماً بشهوة متفاقمة، كل النساء عنده هيئة جاهزة لتقبل فعل الليل، لم يعرف أن هناك فرقاً بين البنت والمرأة، هذا الفرق عنده مميز حسب عقليته، كون البنت لا تلبس عباءة والمرأة تلبس عباءة، هذا هو الفرق بين البنت والمرأة في بلدة لم تتحرر من ثوابت قديمة، أما الجسر الموصل بين جبلي اللحم أسفل البطن في ذلك التجويف المخيف، الدهليز الرطب لاستمرارية الحياة لدى كل الكائنات الناطقة والعاوية، الحاجز المخاطي الرقيق، إذا ما خدش نفر دم البراءة ليلة فقدان العذرية، لم يكن يعرف أن هذا هو الفيصل بين أن تكون الأنثى بنت أو امرأة، طار سعادة وقبل بتلك البنت المتمردة زوجة دائمة العطاء، لكن شيطنة البنت دعتها اتخاذ جانب الحيطة، قبلت برأي المرأة الجارة وذهبت معها لممرضة تعمل العجائب، قيل أنها تخيط غشاء البكارة لكل فتاة تزل، وتجهض لمن أخطأت بسريّة دائمة، خاطت للبنت غشاءها المسحوق، وتهيأت لليلة فتقها من قبل زوج غشيم تسكنه شهوة عمياء، تم الزواج بخير، وبعد مرور أيام جاءت الجارة للجسد الملتصق بي، وجدته متكاسلاً يسترخي على حصيرة سعف وسط حوش البيت، كان الباب مفتوحاً، دفعته ودخلت، حين رآها نهض، كان ملقياً ملابسه الخارجية، شعر بخجل وندم لأنه لم يغلق الباب، لم تدعه يدخل الغرفة لارتداء ملابسه.. قالت:
ـ حر هذه الأيام قاتل، الواحد لا يعرف كيف يقضي الظهيرة.
ـ الكهرباء مقطوعة منذ الصباح الباكر.
ـ لعنة الله عليهم، لا رحمة فيهم، الله ينتقم منهم.
ـ يقولون إيران هي التي قطعت الكهرباء.
ـ كلام مسئولين لتخدير أعصابنا.
ـ يقولون سيستمر حتى ثلاثة أيام.
ـ قل لي ماذا تعمل؟
ـ اشعر بفراغ كبير.
ـ هل اشتقت لها؟
ـ عشت في رعب هذين اليومين.
ـ خلصتك من الورطة أكراماً لأمك صديقتي العزيزة.
ـ لا أعرف كيف أرد الجميل لك.
ـ لا أريد شيئاً سوى راحتك.
توقف الكلام، كانت تنظر إليه، امرأة في الستين، تبدو متماسكة، نظراتها لا تهزم، وكان هو جالساً بسرواله الداخلي وتي شيرت قديم، خجل أن يواصل النظر إليها، قامت من جلستها وتوجهت نحو الباب، قام وتبعها، توقفت عند العتبة، وقف هو أيضاً.. قالت:
ـ سأجلب لك الغداء.
لم يحر جواباً، وجدته يمد يديه ويمسكها من كتفيها، لم تتحرك الجارة، خالت القضية تقديم مزيداً من العرفان والشكر بسبب تخليصه من الورطة الأخلاقية، لكن الجسد الملتصق بي تفاعلت فيه العروق وصعدت الحرارة، جذبها إليه.. قالت:
ـ ماذا بك؟ أنت تحاول البكاء!
ـ أنا أحبك!
ضحكت الجارة.. قالت:
ـ لم أسمع كائناً ذكرياً يقول لي هذا الكلام.
ـ أنا أحبك يا عمتي.
ـ لكنني كبيرة يا ولد.
حملها، كانت الجارة تضحك فوق كتفه، تكاد تطير، أدخلها الغرفة وألقاها فوق حصيرة ونام عليها، لم تمانع، بكت الجارة.. قالت:
ـ منذ عشر سنوات أنا محرومة من هذا!
ـ سأعوضك الخسارة.
ـ لنكن حذرين!
ـ وهل هو لا يملك مثلما أملك.
ـ كان يملك أفضل وأكبر ولكن الحرب سلبته رجولته.
ـ هل أصابته شظية؟
ـ الأطباء قالوا له؛ جسدك تعرض إلى أشعة كيماوية قتلت رجولتك.
ـ وماذا يعمل؟
ـ ينام فوقي جسداً لا روح فيه، مسكين.
توقف الكلام، الجسد الملتصق بي وجد حرارة جديدة تتناهض فيه، نام عليها هذه المرة وقتاً أطول، وحين فش ونزف عرقه سقط على السرير يشخر، قامت الجارة وخرجت.
***
الجسد الملتصق بي لم يخرج من مستودع البول مرتين، كما دأب الكثير من البشر الخروج مرتين من مكان البول، هناك من يخرج مرة واحدة، كون خروجه الثاني يكون عبر عمليات قيصرية يخرج من شق آخر، وهناك حالة جديدة نتاج العصر الراهن، يتم زراعة النطفة في مختبرات طبية، تزرع في رحم الأنثى، وحين تحصل ولادة عسيرة يخرج الجنين بشق البطن.
الجسد الملتصق بي، كان خروجه الأول عبر المختبرات الطبية، يوم شاع خبر إمكانية أنجاب العاقر، هب الأب لتحقيق حلم حياته بعد كثير من المراجعات الطبية والأعشابية لتقوية سائله المنوي، سمع الخبر وطار فرحاً لبلاد بوريا، عذراً هذا الاسم ليس من بنات أفكاري، سمعت امرأة تقول لامرأة:
ـ ضربونا بوري!
كانت تلك الكلمة كما تعرف، شاعت بين الناس جراء استشراء ظاهرة الفساد الأخلاقي، والتحايل في عمليات التجارة، وفي كل التعاملات الأخرى، تلك المرأة كما أباحت لزميلتها أن رحلتها إلى بلاد بوريا كانت ممتعة، تخلصت لأشهر أربعة من فوضى البلاد، من هزات الانفجارات، من الظلام الليلي جراء انقطاع الكهرباء، لكن العملية التي أجريت لها لم تتكلل بالنجاح، ما أن عادت إلى البلاد وقررت أن تخلد لراحة طويلة كي ينمو في أحشائها الجنين، سقط في الشهر الخامس، اتصلت بالطبيب الذي قدم خدمة لها مقابل أجر أقل هذه المرة، المرأة الزميلة أجابتها:
ـ نحن اكتشفنا للبشرية ظاهرة البوري، كيف انتشرت ظاهرتنا في بلدان الجوار؟
ـ لدينا أربعة ملايين نفس مشردين هناك، لابد أنهم نقلوا تراثنا معهم!
ـ إيّاك أن تذهبي مرة أخرى إلى بلاد بوريا!
ـ أسم جميل يليق بهم!
الجسد الملتصق بي، تم زراعته في رحم أمه، كون الأب كان يشكو من ضعف طويل في سائله، قبل أن يجيء الخبر عبر نساء البلدة العاقرات، وسارع للفوز بولد صالح يحمل أسمه بعد رحيله، جاء بعد تسعة أشهر من مكان البول، وحين شب شعر بحريق أول عندما توفي أبيه، شعر بفراغ كبير قبل أن يكتشف العلاج عبر مطالعة الكتب، كان يسهر الليل، منهمكاً، متفاعلاً مع الشخصيات الورقية، ورغب أن يكتب ذات مرة شيئاً ما، رواية أو قصيدة، مسك القلم وخط بضعة كلمات متعثرة قبل أن يضع القلم جانباً، بعدما أخبرته أن الكتابة موهبة، وأنها مجموعة آلام وأحلام متداخلة، تحتاج لمعالجة فنية لفك الاشتباك الحاصل بين معسكرين متناحرين، رضخ لإرادتي، وراح يلتهم الكتب، قبل أن يسقط ضحية تلك البنت وحدث الذي حدثتك به.
***
الجسد الملتصق بي، وجد الجارة خير منبر لإطلاق موهبته الحيوانية، شراهته أسكرت الجارة، راحت تتسلل كلما كانت تمتلك فرصة، لكن فرحة الجسد الملتصق بي لم تدم طويلاً، بعد شهر وجد نفسه مرتجف العروق، ضاغطاً علي كي أحرر مطر أغواري، كانت الجارة مسجى وسط باحة الحوش، وكانت نساء الزقاق يولولن ويبكين، كان يقف فوق سطح البيت، ينظر متراخياً إلى ما يحصل في بيتها، رافق الحشود لمواراتها الثرى، كان اليقين يسقيه برحيق أحلام ممكنة التحقيق، ساده التصور أن كل جارة ستخدمه طالما كانت أمّه صديقة لهن، بدأ يلقي صنارة شهوته أمامهن، يتودد بشكل مفتعل قبل أن يسمع واحدة تكلم واحدة أخرى:
ـ يمكن تخبل!
ـ أنا أيضاً أقول هذا الكلام.
ـ ليلة أمس رأيته فوق سطح البيت يمارس عادته العلنية.
ـ كلما أنظر أليه يمد يده ويداعب سلاحه.
ـ شقيقتي رأته مرة يخرج سلاحه لها.
ـ وما العمل يا عزيزتي؟
ـ لا أعرف!
ـ ربما سيرتكب حماقة لو سكتنا.
ـ وما العمل؟
ـ سأقول لزوجي.
ـ أرجوك دعي الأمر قليلاً.
ـ بيتنا ملاصق لبيته، أخشى أن يهبط علي في الليل عندما يكون زوجي خفيراً.
ـ لا أعتقد أنه يرتكب مثل هذه الحماقة، كوني وجدته يبحث عن متنفس لشهوته، يوم أمس رصدته من النافذة كان يروم إدخال حمارة دخلت الزقاق إلى البيت.
ـ يا له من ولد قذر.
ـ قلبي ينفطر له، لو كانت لدي بنت لزوجتها به.
ـ أتعطين هكذا بشر زوجة؟
ـ ولد وسيم ولديه راتب والده وبيت ملك.
ـ لكنه شهواني.
ـ سيتغير حين يمتلك زوجة.
ـ لم لا نزوجه ونخلص من شرّه.
ـ فكرة معقولة، يا ترى من نختار له؟
ـ سنفكر بالموضوع!
الحوار سمعته ونقلته إليه عبر عروقه المتصالبة، خلد لخوف مباغت، ومن لحظتها راح يتسكع بحثاً عن أمكنة تعطيه راحة عابرة.
***
خلد لنوم مفاجئ، أغلقت فم الكرتون ونقلته إلى مكانه، عدت وفتحت النافذة، كان ليل (جلبلاء) موحشاً، الغبار لا يترك الفضاء، المصابيح خجولة تشق أحشاء الظلام، أبخرة خانقة تحررها مولدات كهربائية تلوث الهواء، نباح كلاب تتواصل، من تلك الوقفة وعبر التوليفة الفوضوية لليل كنت أستمد العزيمة للكتابة، أتشرب برائحة الرغبة، أعود لطاولة الكتابة، سرعان ما أجد الكلمات تنهمر كمطر شتائي عارم، لكن في تلك اللحظة وجدت البلدة مصادرة، أشباح عملاقة تهبط للشوارع، مركبات غريبة تشق أحشاء الأزقة، تشوش فكري، خلت القضية أكبر من تصور الخيال، فهذا الرأس المتمرد عن الموت يخبئ لي كارثة، لابد أن القضية تتعلق بتلك القصة التي كتبتها (مزرعة الرؤوس)*، هل كان رأساً منسياً؟ شيء بدأ يتحرك في، بدأ يثير قلقاً، فأنا حين كتبت تلك القصة، استندت على حكاية نقلها لي صديق، أن قصاباً تفاجأ ذات صباح برجال غرباء يسوقون رجلاً إليه كي ينحره، حين لبى أمرهم اختفوا، مات القصّاب بعد أيام جراء حمى عنيفة سكنته وقتلته، كان الواقع الأليم يضغط بعنف على خيالي، يحاول تمرير وقائع تحصل يومياً عبر تلك القصة، فجاءت كما جاءت وحققت لنفسها مكانة مروعة لدى من قرأها، تواصلت ردود أفعال كثيرة من قرّاء واصفين لي الرعب الذي عاشوه بعد قراءتها، وهناك قصة أخرى (مزبلة الرؤوس البشرية)*، كتبتها تكملة لمشروعي القصصي الذي سلكته، أثارت أقلام بعض القرّاء، وذكرت لي فتاة أنها ما تزال تشكو من كوابيس ليلية لا ترحم مذ قرأت تلك القصة.
فهذا الرأس يمتلك مخيال متقد، يتكلم بلسان سلس، ما سر بقاءه متعلقاً بالحياة، الرأس حين ينفصل من الجسد يهمد، لما لم يهمد هذا الرأس المتواجد في غرفتي؟ رأس من هو؟، تواصلت الأسئلة، لم أجد جواباً يقنعني، جلست إلى الطاولة، لم أجد دافعاً يحررني من الصمت، رحت أنظر إلى الكرتون، فجأة اندفعت إليه، أنزلته وأخرجته، كان فاتحاً عينيه، ابتسمت فارغاً شحنات جسدي من الغضب الذي توالد، لم يبتسم، ظل يمتلك صرامته في التحديق، أخرجته ووضعته أمامي.. قال:
ـ لا ينفعل كاتب الرواية حين تسكنه فكرة ما.
ـ غضبي متوالد جرّاء الغموض الذي تفرضه علي.
ـ لا تحتار؟ أنت اخترت هذا النوع من الكتابة.
ـ الواقع فرض علي ذلك.
ـ لا ألومك، كل كاتب غير متفاعل مع واقع ووقائع بلدته، كاتب جبان.
ـ لكن الخوف من القصاص هو الذي ينئيهم من التعامل مع الوقائع من غير اللجوء إلى الرمزية.
ـ أنت سلكت الدرب الصحيح، لا تحيد عنه، كن متماسكاً، فما يجري لا يصلح القلم الفاسد التعامل معه.
ـ أعرف هذا.
ـ أنا نتاج خيالك، أنت تبحث عن الغرائب كي تثير بها الذائقة.
ـ لكنك تبدي غموضاً أكثر مما يجب.
ـ عليك أن تبني تصوراتك الواقعية بما يكون مألوفاً لدى الذائقة.
ـ البعض يرى التعامل مع هذه المواضيع حساسة، لم يئن أوانه بعد.
ـ لا تصغي لمن يمتلك بذور الجبن، كن شجاعاً، فالكتابة مهنة الشجعان، ومن لا يمتلك شجاعة محض فقاعة زائلة، أنه ككلب فقد شراسته الحيوانية وراح يهدد اللصوص بالنباح فقط.
ـ تشبيه جميل.
ـ ربما ليس بوسعك أن تقول هذا، كون الكتّاب يفتقرون إلى محرك فعل الكتابة فيهم، أنهم يثارون، ميالون للمجاملة، ينتفضون حين تجابههم بالحقائق.
ـ أعرف هذا، كونهم ضحايا شيطان الغرور.
ـ تواضعك أنقذك من سرطان النسيان.
ـ التواضع سر الحياة كلها.
ـ أحسنت.
ـ والآن ماذا لديك بعد؟
ـ الكلام كثير، نحتاج لجلسات طويلة كي نستكمل قيافة الجسد الملتصق بي.
ـ وكيف أقحم أشياء ربما غير جديرة به داخل الرواية.
ـ أعطيتك الأساسيات وعليك البناء وتكملته.
ـ ستحتاج الرواية لوقت طويل.
ـ الرواية كتبناها معاً، أنت تحتاج فقط للخاتمة.
ـ وكيف تكون حسب قناعتك.
ـ النهاية مكتملة فقط تحتاج إلى صبرك وتشغيل مخك.
ـ لا أفهمك، ما زلت غامضاً معي.
ـ حسناً؛ حدثني عن أشياء أخر؟
ـ سأكف الحديث عن أي شيء.
ـ هل هذا عناد أم تمرد.
ـ لا فرق بين العناد والتمرد.
ـ لم لا تحكي؟
ـ قلت لك عليك أن تستكمل القيافة، أنا بزّاز أعطيتك القماش، أنت خيّاط عليك أن تقوم بالخياطة وفق براعتك.
ـ حسناً الخياطة مثل الكتابة تحتاج لفكر صافي.
ـ في زمن قديم حين كان الرأس البشري مطارداً، منبوذاً، تحاربه الملوك، تقطع وترمى في الطرقات أو تصلب على رؤوس الرماح، كان الجسد يستولي على الحياة، البشري الطويل غالباً ما ينال فرص حياة مثالية، هم القادة وبناة القلاع وحرّاس الملوك. حدث أن تفرغ رأس توهج بالنور لتحرير العباد من الظلام الدامس المحيق بهم، كان يحرر دستور الخلود، يطهر الأبدان من الآثام، كانت أنثى لعوب متمردة على بنات جنسها، تستغل جسدها للتعبير عن خلجانها الشهوانية، تكافح لإرضاء الشيطان، قبل أن تشعر بوجود ضوء قاهر يربك وظيفتها، لم تتورع من تركيع الملك لتلبية طلبها، قام الملك الغفل بفصل الرأس المملوء بالنور ووضعه على طبق من ذهب أمامها.
ـ أنت تحكي عن نبي مرسل من أنبياء الخالق إلى البشرية.
ـ ليست الغاية هنا.
ـ وما غايتك؟
ـ عندما يشعر الجسد بوجود خطر يهدد شهوته يتمرد ويثور على الخصم.
ـ حتى لو كان الخصم الرأس متصل به.
ـ نعم.
ـ كيف؟
ـ التمرد على الفكر والعقل انتحار.
ـ وكيف يحصل ذلك؟
ـ الشهوة الحيوانية تتغلب على السلطة العقلانية، فيسوق الجسد نفسه إلى المقصلة.
ـ أعرف من هذا الكلام، أنك كنت ضحية غلبة الحيوانية على الجسد الملتصق بك.
ـ ربما هناك دوافع أخر.
ـ سأبحث عن هذه الجوانب الغامضة في كتب الفلسفة.
لم يفه بشيء، أغمض عينيه وغط في موت مؤقت، نهض.. قال:
ـ حسناً لدي الفاصل المهم من الحكاية..!!
***
بلدة (جلبلاء) ثعبانية الهيئة، تنحني مضغوطة المنازل ما بين نهر (دلبلاء) المنقرض ماءه، وتلال متلاصقة هي أذناب منفلتة من سلسلة جبال (حيران) المارة بمحاذاة الجهة الشرقية، تشكل البلدة قوساً مع تفرعاتها المتشعبة، تنشطر البلدة لقسمين، يشطرهما الشارع الرئيس، تتشابك الأزقة وتتداخل بسبب عدم وجود مخططات عمرانية تهندس البيوت وفق أنظمة تؤهل العيش بلا فوضى، أو قوانين رادعة تعدم فرص تدمير خارطة البلدة من قبل أصحاب نفوذ وأيدي طويلة تدهن السير خلف الكواليس، تتعرج الأزقة لتشكل ممرات مختنقة تشق أحشاء منازل واطئة، طينية، يتعذر المشي فيها نهاراً، وفي الليل تغدو أمكنة تثير الشكوك والفزع، كون معظمها تنتهي نهاية مبتورة بمنزل منفرد أو وادي يسوق المرء نحو الجبال.
***
كان الجسد الملتصق بي يمر بالمسالك المتعرجة بين الأزقة، شيء بريء لكنه ضاغط يدفعه في شق أحشاء الأمكنة الخانقة، ربما شهوته كانت متفاقمة راحت تنير له تلك المتاهات المرهونة بالمفاجآت غير السارة، يمشي بحثاً عن علاج سريع يحرره من ضغط الشهوة، بسمة فتاة، جسد امرأة فارعة تبرز مفاتنها، نظرات ذات مغزى، ثغر ينفرج عن أسنان ناصعة، تلك الأشياء تهدئ أعصابه وتدعه مسروراً يغطس في لذة وحلم، رغم علمه بضحالة فرص البحث عن موطن نازف للأرق الذي يخنقه في هكذا أماكن مخيفة، فالقاطنون ناس هجرت قراها وجاءت لتبني منازل متجاوزة على القانون، ناسها تتطبع بالخشونة وعدم التآلف بيسر، تفسر الحالات العابرة وفق ضيق أفكارها، فالغريب المار بهم يعتبروه طالب حق جاء يقتص من مطلوب.
بدأ سبر أغوار تلك الأمكنة القديمة تطفح على سطح الرغبة، وجدها فرصة لتكملة التطورات التي حصلت للبلدة، فلابد من وجود إناث مشحونات بالرغبات، رغم تبديل وضعية الناس جرّاء الظروف العصيبة للبلد، بدأ يمشي غير واضع في البال كل ظرف طارئ يصدمه بمحنة عاقبتها وخيمة، مرات عديدة كان يمشي نهاراً في تلك الأمكنة، أشياء لم أعيها أنا، كونه كان يتصرف من غير تفكير لذلك كنت أجهل رغباته، كنت أرى نساء كأنهن رجال يدخن ويعملن الخبز وسط الأزقة، لا شيء يبرز فيهن أنوثتهن، أسمالهن خشنة، متلفعات الرؤوس، عيونهن خلف نقّاب.
حدث أن سمعت كلاماً عابراً بين امرأتين:
ـ هذا الولد رأيته قبل يومين يمر من هنا.
ـ ربما بيته في المنطقة.
ـ شكله حلو لا أعتقد أنه من هنا.
ـ يبدو عليه الخجل، لم يرفع رأسه حين يمر.
ـ هكذا بشر يجب الاحتراس منهم.
ـ وما الداعي من الخوف؟
ـ يبدو عليه متورماً من شهوته.
ـ وكيف عرفتي؟
ـ رأيته وهو يمشي يفرك كائنه.
ـ لابد أنه يرتبط بواحدة في منطقتنا.
ـ وأنا فكرت بهذا الموضوع.
ـ يا ترى من هي؟
ـ سأطلب من أبني متابعته ومراقبته.
الجسد الملتصق بي، ظل بعناد يمشي عبر تلك الممرات، لا مكترثاً، ناسفاً في باله الشبهات المتوقعة، توقع أن واحدة ما ستعلن عن نفسها، جريحة عاطفة، ظامئة، ستدعوه بإشارة أو غمازة عين، عندها سيندفع بلا تردد ليكون في قلب محنته، لم يحصل أن وقع على فريسة أو صيداً ليلياً ولا نهارياً يريحه من مصيبته، قبل أن يفاجأ بشاب يوقفه، لم يعره أذناً صاغية لصوته، مشى قبل أن يسمع صوت أقسام بندقية يجبره التوقف، تقدم الولد منه، وضع فوهة البندقية على صدغي ( أنا )، ولم يضعه كما يفعل البعض على ظهر الجسد الملتصق بي.. همس:
ـ أمشِ من غير حركة!
سار معه، لم يبد خوفاً، خال القضية مزحة مثلما حصل له من قبل رجل تلك المرأة التي نام معها فوق سطح البيت، يوم كان ملتصقاً بجسد غير بشري، سار غير راغباً بالكلام، ممر يوصله لممر آخر، وصل زقاقاً ضيقاً، تذكر أنه مر به، بل توقف فيه ذات ليلة وسكب مشروب سعادته بعادة علنية، عند النهاية المعتمة للزقاق، وجد باباً خلفياً لمنزل قديم، مفتوحاً، دفعه الولد بمقدمة بندقيته، دخل، كان بيتاً موحشاً، وجد أنفار مسلحة متأهبة، لم يهتد لمعرفتهم، كانوا ملثمين، ساقوه نحو غرفة مظلمة، دخل عليه ولد من الشلة المتأهبة، صاح بوجهه:
ـ حقير تتجسس علينا.
ـ أنا..!
ـ راقبناك لأيام وأنت تمر من هنا، لمن تتجسس؟
ـ أنا لست جاسوساً.
ـ نعرف أنك كاتب روايات، بدأت تخرج من ثوبك المعروف.
ـ أنت متوهم، أنا لست كما تظن.
ـ أتريد أن توهمنا.
ـ صدقوني أنا لست هو، صحيح أننا متشابهان في كل شيء.
ـ أنت هو، جئت تبحث عن أسرارنا لتكتبها في رواياتك بذريعة الكتابة عن مدينتك الخيالية (جلبلاء).
ـ هناك خطأ في التقدير، أنا مبتلى بهمومي وأحلامي.
ـ مبتلى برصد أعمالنا وفضحنا بطريقتك الماكرة.
ـ لكنني لست كما تظن صدقني.
ـ لا يهمنا ذلك، أنت بدأت تتجاوز علينا في كتاباتك الأخيرة.
ـ أسأل عني، كل أهالي الأزقة يعرفونني.
ـ كنت تقول الحقائق بلا تردد في كل كتاباتك، أراك الآن خانعاً.
ـ أرجوك؛ تحرى جيداً أنا لست هو، صحيح لا فرق بيننا، من يرانا يظننا توأمين.
ـ بعثنا لك موفدنا وأخبرك بعدم نشر روايتك الأخيرة (بعل الغجرية).
ـ أنا لم أكتب في حياتي، رغم أنني كنت متلهفاً لصدور الرواية وقراءتها.
ـ هي الآن تحت أسنان المطابع في مصر، كما وردنا خبرها عبر اتصالاتنا.
ـ سمعت بذلك وكنت متلهفاً للحصول على نسخة.
ـ هذا يعني أنك لم تدع فرصة واحدة للتحاور بيننا لنصل إلى حلٍ يرضينا ومنحك الأمان.
ـ أنا مستعد للتحاور معك.
ـ لكنك كنت تتباهى كونك لم تغير كلمات نزفتها أناملك على الورق.
ـ لم يحصل هذا.
ـ أمّا نحن فلن نغير قراراً اتخذناه شورى بيننا.
ـ وماذا لديك بعد؟
ـ فرصة أخيرة أن تسحب روايتك (بعل الغجرية).
ـ صدقني لست كاتب روايات، ربما أنا شخصية مؤهلة أن أغدو بطل رواية.
ـ هذا الكلام لن ينفعك.
ـ قلت لموفدنا أنك لن تساوم على رواية باتت ملك القرّاء، ستدفع حياتك ثمناً لذلك.
ـ أرجوك أنا ميت منذ زمن طويل.
ـ لا تتفلسف علي.
ـ حسناً؛ أنا أمقت الاحتلال وأقف بقوة ضدهم كي يرحلوا عن بلادنا.
ـ كل الذين اصطدناهم قالوا هذا الكلام من فرط جبنهم.
ـ لكنني معروف بشجاعتي من خلال تجوالاتي الليلية رغم حظر التجوال المفروض على البلدة.
ـ لا أحد يقرأ كي يدرك أنك تهذي بتخاريف وأراجيف مرفوضة شرعاً.
ـ حسناً؛ ما دمت تعتبرني كاتب البلدة وكتاباتي محض أراجيف لم تطلبون وقف نشر رواية (بعل الغجرية)، أليس من الواجب الاحتفاء بهذا المنجز الأدبي.
ـ في الرواية كشف أحد حلولنا المطروحة في حربنا المقدسة ضد السلطة.
ـ لكنه مجرد توقع وهذا لا يعني أن الرواية استشرفت مكامن أسراركم.
ـ الرواية منحت السلطة فرصة للانتباه، ستجعلهم يتخذوا التدابير اللازمة لمعالجة أي خرق من قبلنا.
ـ ومن قال أننا سنعيش حتى حلول موعد تلك النهاية التخمينية في الرواية.
ـ أنت بالنسبة لنا شخص يقف على حافة الهاوية، موتك بين أيدينا.
ـ ما كتب لي لابد أن يقع رغم أنكم توهمتم كثيراً بسبب عدم التركيز وضعف البصيرة.
ـ حسناً؛ يمكنني أن أرجأ موتك.
ـ وذاك بيد الخالق أيضاً.
ـ أسمع لديك فرصة أخيرة، أسحب روايتك من الطبع كي تعيش مسالماً.
ـ أنا مسالم رغم سقوطي في مستنقع كل الانحرافات الحاصلة لتدمير الحياة، لو مت بيدك لابد القضية سيتحمس لها كاتب (جلبلاء)، ويجعلني رواية ستعيش طويلاً من بعدي.
ـ كانت هناك فكرة أن نتخذك ماركيزنا.. تعرف ما أعني.
ـ أنا تجعلوني ماركيز؟
ـ أنت معروف وكلمتك مقروءة، لابد أن تجد أذناً صاغية لكلامك عندهم.
ـ لكنني لم أكتب في حياتي.
ـ ألم تقل هذا الكلام في مقال لك، ليس هناك من يصغي لعقل الأديب.
ـ لا لم أقل مثل هذا الكلام.
ـ ماركيز.. كان الطرف المحاور بين رجال العصابات وحكومة كولومبيا، كتبت عن هذا الموضوع في مقالة.
ـ قرأت هذا المقال.
ـ ولما لم تنفذ هذا المشروع الكبير بالنسبة لنا لتكون كاتب البلدة.
ـ أي مشروع تعني؟
ـ مشروعك الروائي بخصوص رغبتك في تقمص شخصية وسيط بيننا وبين السلطة.
ـ نحن نعيش في بلاد خائفة، بلاد تمشي بعكاز، نحتاج لأجيال كي تكون للكلمة مكانة مقدسة بين الناس، ويكون الأديب محترماً على أقل تقدير، هذا ما جاء في المقال.
ـ مرات كثيرة خططنا وهيأنا مستلزمات الفوضى، لكن وجودك المتواصل وعن طريق المصادفات دعانا أن نحترمك ونؤجل أعمالنا إلى أوقات أُخر، إكراماً لمكانتك الشعبية.
ـ ربما أنتم تقدسون الكلمة ومن يتعاطاها.
ـ هذا ليس من شأنك، لم تعد تشكل لدينا شيئاً يذكر مذ بدأت تعلن عن روايتك (بعل الغجرية) في مواقع كثيرة على شبكة الإنترنت.
ـ لكنني لست كاتبها، أنا مجرد شبيه الكاتب، وتمنيت مرات كثيرة أن أذهب إليه وألتقي به لكن رغبتي كانت تفتر من غير سبب.
ـ لا تتهرب! اعترفت أنك كنت تحلم أن تكون ماركيز البلدة.
ـ أنت تتهمني بشخصية لكم حلمت أن ألتقي بها وأحاورها.
ـ لم تعد تمتلك فرصة واحدة للنجاة.
قال كلامه وخرج، دخل شابان إلى الغرفة، كان الجسد الملتصق بي يتصبب عرقاً، تقدم أحدهم وألبسني كيس نايلون، ربط الآخر يدي الجسد الملتصق بي من الخلف، سحبوه إلى خارج الغرفة، مشى الجسد الملتصق بي مدفوعاً، حملوه ووضعوه داخل صندوق فيما بعد عرفت أنه صندوق مركبة لأنها راحت تمشي متعرجة جرّاء سواقي المجاري، توقفت المركبة، حملوا الجسد الملتصق بي، فكوا رأسي من الأسر، كان الظلام دامساً، أنفار واقفة، فجأة طرحوا الجسد الملتصق بي، ظل يكافح للتخلص منهم، لكن سكين غير حادة أو منجل صدأ فصلني من الجسد الملتصق بي، قبل أن يضعوني في كيس ويسيروا بي مسافة طويلة، عرجوا بي وألقوني في المكان الذي مررت بي.
***
سكت ولم يحر جوابا،ً خلته نام، لكن الذبول الذي طرأ على وجنتيه، والتحديق المتواصل جعلاني أرتجف، مررت أناملي بخوف، أنزلت رمشيه، خلته غط في نوم عميق، تركته على الطاولة، فجأة بدأت رائحة نتنة تنهض منه، وبدأ شعره يتساقط، أغلقت النافذة، بحثت عن معطر الجو، اندفعت إلى الحمّام وجلبت المعطر، أكملت القنينة ولم أسيطر على الرائحة البغيضة، بدأت أشعر بغثيان، كادت أحشائي أن تندلق، هرعت مرة أخرى للحمّام، سكبت الماء على وجهي، شممت عطراً وعدت، وجدته ذابلاً من غير رجعة، وأنزاح الكابوس الجاثم على صدري، هبطت إلى المطبخ، كانت زوجتي غارقة في نوم عميق، أخذت كيسين نايلون وزجاجة عطر وصعدت، أدخلته إلى الكيسين بعدما رشيت العطر عليه، فكرت بطريقة التخلص منه، وجدت فكرة الهبوط وإلقائه في مكانه ربما سيخلق للزقاق متاعب أمنية، ستأتي المركبات ويحصل التفتيش العام لبيوت الزقاق، وربما ستكتشف الأجهزة الحساسة الرائحة في غرفتي لحظة التفتيش، كل شيء ممكن ووارد، أستقر بي الموقف أن أأخذه بعد صلاة الفجر إلى مكان ما ودفنه، وجدت الفكرة ملائمة، وضعته جانباً، وألقيت بجسدي على السرير، لم أرغب بالنوم، وجدت شيئاً ضاغطاً يرجف قلبي، تحول إلى رغبة بكاء، بدأ الدمع ينحدر، تركته يسلك مسامات وجهي بحرية تامة، بكيت وقتاً كافياً، مسحت الدمع، ورحت أستعيد كلام الرأس المقطوع، حزن مباغت تغلغل إلى بدني، تأسفت لموته، لقد وجدته خير أنيس لي، لم أجد رأساً بشرياً ينشغل بأمور الكتّاب منذ فترة بعيدة، كل الرؤوس كانت تندفع وراء شهوات أجسادها، هناك استثناءات طفيفة، ثمة أنفار قليلة ما تزال تحتمي بالكتب، تقرأ وتكتب رغم نيران الواقع، عاد لذهني كلامه بخصوص رأس النبي (يحيى) كيف قطعوه إرضاء لغانية،ها هو رأس متنور بالثقافة رغم فلتان جسده وانغماسه في الشهوات،بتروه كونه كان يشكل وفق قناعات تلك الجهة المسلحة خطراً عليهم، تزاحمت أفكار كثيرة في ذهني، وجدت رغبة الكتابة مطلب لا يمكن تأجيله، لم أرغب الكتابة مباشرة، سحبت دفتر ملاحظاتي وقلماً، بدأت وضع الخطوط الرئيسية لروايتي، كان العنوان حاضراً، لم يشكل لدي هاجساً، وجدت (حكايتي مع رأس مقطوع) عنواناً ملائماً لفكرة الرواية، رغم إثارته، قسمت المقاطع، وضعت النهاية من غير تلكؤ، شعرت بنعاس حاد، وضعت الدفتر على الطاولة ونمت.
***
مع تصاعد أصوات المآذن نهضت، كان جسدي مرهقاً، مرت كوابيس كبيرة في منامي، كانت كلها قاسية، أنهكتني، لم أعد أتذكر شيئاً سوى كابوس واحد.
[ كنت أمشي في صحراء، أحمل كيس بصل، بدأ البصل يتعفن، كان علي الوصول إلى البحر، هناك سفينة راسية تنتظر وصولي كي تأخذ مني البصل قبل أن أعود إلى مكاني، كان الرمل يشوي أقدامي، كنت عارياً، حافي القدمين، وكان الظمأ يفتت لساني، أقف أحياناً، أبحث عن شوكة كي أقتلعها وأمتص ماء جذورها، قبل أن أسحب رأس بصل وأدسه في فمي، يمدني ببعض القوة والرغبة في مواصلة سيري، كانت هناك ذئاب صحراوية تتبعني، على ما يبدو لا تمتلك شجاعة للفتك بي، لمحتها تنتظر موتي كي تنعم بلحمي، أمشي وأسقط والذئاب تتبعني لاهثة، خاس البصل فوق كتفي، لم أعد أحتمل الرائحة البغيضة المنطلقة،ليس بوسعي التخلص منه، لسبب أجهله كونه كان حلماً كابوسياً، وجدت نفسي أحمل كيس بصل وأمشي في صحراء لا منتهي للوصول إلى البحر وإعطاء الكيس لسفينة راسية، وسط السقوط المتكرر لي والجوع المتنامي للذئاب، فقدت توازني، سقطت، تركت كيس البصل المتعفن، بدأت أفكر بطريقة تنقذني من أنياب الذئاب، بدأت تتقدم بعدما لاح لها استسلامي، كنت أشعر بأنفاسها الحارقة، وبريق عيونها الوامضة، وكنت أفقد الرؤية، قبل أن تهجم الذئاب دفعة واحدة علي وراحت تمزقني ]
نهضت من سريري، ألقيت نظرة على الرأس، كان غارقاً في موته، مضيت وتوضأت وخرجت إلى المسجد، وجدت تابوتاً وحوله مجموعة شباب، بعضهم يبكي، كان في التابوت رجل ميت جراء عملية فاشلة لتخليصه من البروستات، أدينا الصلاة وطلب منا الملاّ أن نصلي على المغفور له، في تلك اللحظة وجدت فرصة كبيرة جاءت تنقذني، كانوا منشغلين بالصلاة على الميت، وكنت أنمي الفكرة في ذهني، خرجت من المسجد ودخلت البيت، وجدت زوجتي قد أنهت صلاتها.. قالت:
ـ أعددت لك الفطور!
ـ لا رغبة لدي بتناول أي شيء.
ـ أراك مرتبكاً.
ـ يوجد ميت في المسجد أرغب مرافقة الدفّانة.
ـ تناول فطورك ربما ستتأخرون على المقبرة.
ـ حين أعود سأتناول فطوري.
صعدت إلى غرفتي، حملت الرأس المقطوع ووضعته داخل كيس كبير، انتظرت حتى سمعت زوجتي تغسل بعض الأقداح داخل المطبخ، كانت تلك رحمة كبيرة جاءت تنتشلني من نظراتها، هبطت على رؤوس أصابعي ومررت عبر الصالة وأصبحت خارج البيت، وجدت المركبات بدأت بحمل الناس لمرافقة الميت، صعدت إلى سيارة حوضية، هناك في المقبرة بدأت أبحث عن فرصة ملائمة كي أتخلص من الرأس المقطوع، وجدت الناس ينتشرون حول القبور، ينهمكون بقراءة سورة الفاتحة على أموات تربطهم بصلات مختلفة، منها صلات رحم وصلات جيرة وصحبة أو رفقة عابرة، وحين جاء موعد الدفن تسارع الجميع نحو الرمس لتلقينه ومواراته وإلقاء حفنة ثرى عليه، وجدت نفسي وجهاً لوجه مع قبر محفور متروك، ألقيت بالكيس فيه وبدأت أدفع التراب عليه، لم يكن القبر حديث العهد، كنت في عجالة من أمري، فيما بعد تذكرت أن القبر حفروه لوالدي يوم موته، لكن التغير المفاجئ لمكان الدفن دعانا تركه، لحظة تدخل أخي وقرر أن يأخذ جدث والدي إلى وادي السلام بناء لوصيته، تحررت من الرأس وعدت متثاقلاً كونه كان مجهولاً من جهة، ومن جهة أخرى وجدته أكثر الرؤوس التي تفاعلت مع كتاباتي، لقد منحني وقتاً ممتعاً من الحوار ومادة خصبة لروايتي القادمة.
في طريق عودتي كنت أنتحب بصمت لشيء عزيز فقدته.
***
بدأت الخطوط الروائية تكتمل، كنت أكتب بسرعة هائلة، منساقاً لكلمات جارفة، كدت أفقد السيطرة على مجرى الأحداث، لولا خبرتي في معالجة تلك الترهات التي تحضر أوان الكتابة، كأن شيطان ما يحاول وقف نزيف الكلمات، كنت أمتلك تجربة في مثل هذه الحالات، أترك الكتابة لربع ساعة تحديداً، أعمل قدح من مشروب شاي كجرات، أحتسيه لأجدد النشاط في خلايا جسدي، من جديد أبدأ الكتابة من غير ترهل وملل.
أنهيت الرواية، قرأتها مرة واحدة، قبل عرضها على سكرتيرتي الأدبية زوجتي صاحبة الذوق الرفيع والملاحظات الدقيقة، فرحت زوجتي وشاركتي في مراجعة لغتها، وجدتها تبكي فرحاً.. قلت لها:
ـ أكره الدموع.
ـ أنا أبكي على الرأس المقطوع الذي كتبت عنه.
ـ لم تكن فكرة مدروسة ومختمرة في بالي، بل فكرة مباغتة بترت رغبتي في تكملة روايتي (فواكه قلبي)*.
ـ رأس يستحق البكاء.
ـ لا أكتمك السر، أنا أيضاً بكيت من أجله.
ـ ليته كان رأساً حقيقياً لنعمت وقتاً بحواراته.
لم أحر جواباً، ولم أجد كلاماً يجنبني السقوط في متاهة.. قلت لها:
ـ سأدفع الرواية للمطبعة.
ـ لا أعتقد أنهم يطبعونها.
ـ سأطبعها في دور نشر عربية.
ـ أبحث عن دار معروفة.
ـ ربما سأختار المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
ـ أوافقك على الفكرة، أنها جهة تمتلك صيتاً وتاريخاً طويلاً.
عشنا لحظة سعيدة تكللت بفراش دافئ، كأننا في ليلة عرس.
***
كنت جالساً على مأدبة الفطور لحظة هاتفني صاحب النقليات، أعلمني بوصول طرد بريدي لي، لم أضع فرصة واحدة، ركبت مركبتي وانطلقت إلى مكتب النقليات، عند الظهيرة وجدته ينتظرني، كافأته على انتظاره بدجاجة محمرة.. قلت له:
ـ أريدك أن تحتفل اليوم معي بين أطفالك.
ـ أستاذ أنت تغرقني بكرمك.
حملت الصندوق وعدت، وجدت الأصدقاء يهرعون إلي، الكل يرغب أن يقرأ ما أكتبه، وزعت النسخ على بعض الأصدقاء، وأبقيت البقية بغية توزيعها على أدباء سألتقي بهم في المهرجانات ومناسبات أخر، للحق أقول رغبت أن أقرأ الرواية مطبوعة خلاف مزاجي، لم أكن أرغب مراجعة رواية أو كتاب قصصي سبق أن طبعت لي، لا أعرف لماذا هذا المزاج، ربما لأن الحكايات متشربة في دمي، لكن رواية حكايتي مع رأس مقطوع وجدتها تجذبني، تغريني لقراءتها، تفاعلت معها وأنا أستعيد الرأس المقطوع، وساعات المتعة المرعبة التي عشتها معه.
في اليوم التالي أخذت عائلتي في جولة سياحية نحو الشمال، كنا سعداء بالرواية والنجاح الذي لازمني لتكملتها خلاف الكثير من الروايات نصف المنجزة، بعد يومين عدنا، واضعاً في البال روايتي (فواكه قلبي) وربما روايتي (النشيد الأخير للقلب)* أو الروايات الأُخر، في حماسة منقطع النظير لتكملتها، لكن الذي وضع حاجزاً نفسياً مدمراً أمامي، خبر غير سار لكل أديب ينتهج منهج نقل الحقائق، جاءني أخي.. قال:
ـ يوم أمس جاءت مفرزة شرطة تسأل عنك!
ـ شرطة وما علاقتي بهم أو علاقتهم بي.
ـ لم يضيفوا شيئاً، قالوا نريد أستاذ سالم، السيد المدير يريده.
تساءلت إن كان شرطياً مختلفاً، ربما يمتلك ثقافة ويريد نسخة من كتابي، خلد ذهني على هذه الفكرة، وفي اليوم التالي وجدت نفسي أمام مركبة حوضية، ساقوني إلى المدير، وجدته شاباً متحمساً، يمتلك نظرات قلقة، يبدو لي أنه لعوب، غير مؤتمن الجانب، لا يصلح لهذه المهنة، كون المهنة تطلب نفراً يمتلك شجاعة في يومنا هذا، أشار لي بالجلوس، جلست، فجأة رفع صورة شخصية لجسد شاب مقطوع الرأس.. صاح بصوت قلق:
ـ ما أسمه؟
ـ ومن هذا؟
ـ تعرفه!
ـ وهل تعرفني كي تسألني سؤالاً بليداً؟
سحب روايتي حكايتي مع رأس مقطوع من درج الطاولة وعرضها أمامي كوثيقة إدانة.. قال:
ـ هنا اعترافاتك الكاملة.
ـ لكنها رواية من بنات الخيال.
ـ قل لي أين دفنته؟
ـ داخل الرواية!
ـ أنا لا أمزح معك، أنت روائي البلدة، يمكنني أن أقف معك، نحن نبحث عن هذا الرأس منذ أيام.
ـ وما النفع من رأس مقطوع؟
ـ والده رصد مبلغاً مالياً كبيراً لمن يأتيه برأس أبنه.
ـ هنا بيت القصيد إذاً!
ـ هل دفنته في المقبرة؟
ـ يمكنكم التحقق من ذلك.
أعد المركبة وأمرني مرافقته، وصلنا المقبرة في تمام الساعة الحادية عشر، أنتشر رجال الشرطة بحثاً عن قبر متواضع أو حفرة فيها كومة تراب حديثة الحفر، مشيت وتبعني الضابط ومرافقيه، وقفت على قبر غير مكتمل .. قلت:
ـ هذا القبر حفرناه لوالدي.
ـ لكنه متروك.
ـ في الرواية افترضت دفن الرأس هنا.
ـ أنت تمزح معنا.
ـ أنا جاد سواء في كتابتي أو في كلامي.
ـ أين هو..؟
ـ ألم أقل لكم الحكاية كلها عبارة عن رواية متخيلة.
ـ لكن هناك معلومات تؤكد أن الرأس المقطوع تم رميه في زقاقكم.
ـ أرجوك لنكف عن هذه اللعبة، ربما هناك مصادفة بين روايتي وحكاية الرأس المزعوم.
ـ أية لعبة هناك جائزة ممكن أن نتقاسمها بيننا.
ـ لو سمعت هذا من قبل لربما أضفته مقطعاً للرواية، أرجو أن تقرأ الرواية بتمعن، الشاب الذي كتبت عن رأسه كان والده ميتاً.
ـ ربما أنت أمته في روايتك لغاية فنّية، لكنه واقعياً حي يرزق، أعلن من خلال مكبرات المساجد ومن خلال شاشة تلفاز (جلبلاء) أنّه رصد مبلغاً خيالياً من ماله لإعادة رأس أبنه.
ـ حضرة الضابط، هذا الموضوع لا يشكل لدي هاجساً، لننهي هذا النقاش، أنا مرهق، حالتي الصحية ليست على ما يرام، لدي حكايات تزدحم بها ذاكرتي، لأنها تطلب استحقاقاتها.
ـ ومن قال أننا سنتركك على هواك ما لم نتأكد من الموضوع بشكل حاسم.
ـ ليس بوسعكم اتخاذ أي أجراء ضد رواية كتبت من وحي الخيال.
ـ لدينا الدليل الكامل عبر روايتك، ولدينا صورة شاب مقطوع الرأس، ولدينا قصاصات ورقية تم إلقائها في السوق تؤكد أن الفئة التي قامت بقطعه، ألقته في زقاقكم.
ـ حسناً وهل سمعت يوماً أن رأساً مقطوعاً يتكلم.
ـ لا يهمنا هذا الموضوع، كل ما جاء في الرواية لسان حالك تجاه الواقع، نحن نريد الرأس، تقول في روايتك، أنك قمت بنقله إلى غرفتك، وبعد موته نقلته إلى المقبرة مع موكب تشيع كي لا يراك أحد، أما مسألة الحوار بينك وبينه مجرد خيال محض لا نعول عليه.
ـ وهل وجدتم مسألة التشيع حالة واقعية.
ـ من خلال تحرياتنا وجدنا أنك قمت بتمرير كذبة داخل روايتك، الصلاة على جنازة رجل كان تمويهاً من قبلك ربما للتغطية على جريرتك،
ـ وهل كانت حالة قطع رأسه في روايتي مشابهة مع المعلومات لديكم.
ـ هناك اختلاف واضح، أنت تقول الشاب كان يتسكع لتحرير جسده من طوفان شهوته، وجدته فئة مسلحة وقطعت رأسه بداعي التلصص وكونه يشبهك، أما المعلومات الواردة لدينا تقول أن الشاب كان خارج البلدة، تعرضت مركبتهم إلى عملية خطف بعدما عرفوه أبن غني البلدة، قطعوا رأسه كون والده رفض إعطائهم المال الذي طالبوه.
ـ أليس هذا دليل على أنني بنيت روايتي على الخيال.
ـ نحن معك، قمنا بإزاحة كمية الخيال من الرواية وتوصلنا إلى خلاصة نافعة، أنك تمتلك ما نريد من معلومات حول مصيره.
ـ ورد لعلمي معلومات أن الرأس الذي تبحث عنه يعود لشاب يختلف عن الذي ورد في روايتي.
ـ نعم شابك كان شاذاً وشابنا كان أبن عائلة ميسورة.
ـ أعتقد حضرة الضابط أنك تريد خلط الأمور، روايتي مجرد حكاية كتبتها دفاعاً عن الواقع الأليم الذي تعيشه بلدتنا العزيزة (جلبلاء).
ـ حسناً؛ نتابع الموضوع، وربما لدينا كلام آخر، يمكننا أن نعود.
عدنا، أمام بناية إدارة البلدة وقف الضابط يتأملني، كنت مرهقاً، لم أرغب الكلام، مد يده يطلب يدي في مصافحة، تلكأت في البدء، لكن تواضعي حضر فوراً وأجبرني مصافحة أول ضابط شرطة يمر بالبلدة، ضغط على كفي.. قال:
ـ أستاذ سالم، قرأت روايتك بمتعة، أنه أولّ كتاب أقرأه لك، حبذا لو أرسلت لي كتبك الأُخر.
ـ ربما ستجد تهم أخرى جاهزة لاعتقالي.
ـ لا يجوز اعتقال الكلام الصريح في حياتنا الجديدة.
في تلك اللحظة نزت من موقي دمعتان، جذبني واحتضنني بعنف.. قلت بحشرجة:
ـ لن تموت بلاد فيها سلطة تحترم الكلام الأدبي الصريح.
ـ الظروف تضغط علينا، لم نعد نمتلك فرصة واحدة لإشاعة الحرية والثقافة.
لم أعد أمتلك كلاماً، كانت الدموع تنحدر، مسحها من عيني بكفيه.. أضاف:
ـ يمكنك الذهاب، لا تنسى أن ترسل كتبك لي.
استدرت وبدأت أسلك طريق العودة، وجدت على جانبي الشارع الرئيس للبلدة الناس يقفون كأنهم في انتظار حدث أو زائر كبير، بعضهم راح يبتسم بوجهي، البعض راح يحييني بكفيه، لمحت من بين الجموع المحتشدة، غلاف روايتي حكايتي مع رأس مقطوع تتسع لتشمل المدى، وصلت البيت، كانت زوجتي خائفة، هرعت واحتضنتني، بكيت معها.. قالت:
ـ أراك تبكي!
تخلصت من دموعي، سحبت نفسي وصحت:
ـ اليوم بدأت معالم الحرية تولد في بلدتنا (جلبلاء)
دخلنا البيت، وجدت طفلتي الصغيرة تضم رأسها بين كفيها، غاضبة من شيء ما.. قلت:
ـ ما بها صغيرتنا؟
صاحت زوجتي:
ـ آه تذكرت، قل لي يا سالم؛ أين رأس الدمية؟
ـ رأس الدمية؟
ألقيت نظرة إلى زاوية الصالة، وجدت جسد الدمية شامخاً كعادته، لكنه بلا رأس، فقدت صلتي بالأشياء، كانت عيون زوجتي تمتلئ بالنيران، تفاقم تعبي، لم أمتلك وسيلة أخرى، صعدت إلى غرفتي ركضاً، بينما زوجتي بدأت تصرخ:
ـ أين أخذت رأس الدمية يا سالم؟
إشارة:
العناوين التي وردت ضمن سياق الرواية، تعود للكاتب.
1ـ قفل قلبي (رواية) صدرت عن دار ـ فضاءات ـ عمّان ـ 2011
2ـ مزرعة الرؤوس (قصة قصيرة) نالت المرتبة الأولى في مسابقة ـ مركز النور ـ السويد ـ الدورة الثانية ـ 2008ـ دورة الشاعر ـ عيسى حسن الياسري.
3ـ مزبلة الرؤوس البشرية (قصة قصيرة) نشرت في الحوار المتمدن.
4ـ بعل الغجرية (رواية) صدرت عن دار ـ كلمة ـ مصر ـ 2010
5ـ فواكه قلبي (رواية) نشرت بعنوان (ليالي المنسية) عن المؤسسة العربية للدراسات ولتشر 2014 ومنعت في الأردن.
6ـ النشيد الأخير للقلب (رواية) نشرت بعنوان قفلي قلبي عن دار فضاءات. كما جاء في الذكر أعلاه.
***
صفحة الفيسبوك ( تحسين كرمياني )