مع كلِّ انقلابٍ جذريٍّ في النظام السياسيّ في العراق يتغيّر البناءُ الطبقيّ للمجتمع العراقي نفسِه؛ فتقفز إلى الواجهة طبقاتٌ أو فئاتٌ اجتماعيةٌ، وتختفي، أو تنكفئ أخرى. وهذا حال كلِّ بلد يخضع فيه المجتمع والاقتصاد، الاقتصاد الرَّيعي تحديدًا، للنظام السياسي. فتعيش طبقاتُ المجتمع العليا على رعاية النظام السياسيّ لها، أي النظام الزبائني، وتكون ضمن حاشيتِه وزبانيتِه، وعسكرِه، وسياسيّيه، وجهازِه الوزاري والإداري والدبلوماسي، والحزبي أيضًا، والمسيطرين على اقتصاد البلاد، والمنتفعين بخيراتها.
هذا ما حدث مع مجيء النظام الملكي، فتكونت، أو كوَّن، حوله طبقة من المتنفذّين، وجلب معه شخصيات بعضها ليست عراقية وبعضها كانت تعيش خارج العراق، بل إن رأس السلطة نفسه لم يكن عراقيًا، كبروا مع الوقت، وصاروا يسمَّون (أو يسمّون أنفسهم) أرستقراطيّين، أو برجوازيّين، يَنعَمون بهِبات الحكم، والحكم يستعملهم لمصلحته، فأُقطعوا الإقطاعيات، وأسَّسوا أحياءً ومناطق تخصّهم: إنّه نظام سياسي أوليغارشي. ولكن ما أن سقط هذا النظام السياسي نفسه بانقلاب (ثورة) تموز 1958 حتى تلاشت الحاشية والزبانية، واندثرت عوائل "أرستقراطية" وانزوى، ولو إلى حين، إقطاعيون. وكذلك مع انقلابَي 1963، وعام 1968، فلقد تغيرت تركيبة الحزب الحاكم الجديد (حزب البعث) طائفيًا، ثم تكثفت مناطقيًا. وعند سقوط النظام عام 2003، حدث الأمر نفسه، فانتقل (ولم يختف) زبانية النظام السابق إلى مواقع جديدة: بعض غادر البلاد، وبعض تصالح مع الاحتلال، وبعض تحول إلى "المقاومة." وقفزت إلى سطح السلطة مسمّياتٌ جديدةٌ، وألقابٌ جديدةٌ، ومناطق جديدة كانت آنذاك متواريةً في المهاجر أو السجون، أو الصمت، أو "العبودية." ولكن التغيّير الأخير مختلف عن جميع ما سبقه من تغييرات من جهة أصول رجالات النظام الجديد الطائفية.
استثمرت الانقلاباتُ السياسيّةُ الحادةُ، وصنعت أيضًا، صراعاتٍ اجتماعيةً مستوطنة، كانت تتناوب، عَبر تاريخ العراق خلال القرون العديدة الماضية، بين الظهور والكمون. وصراعاتٌ اجتماعيةٌ طويلةٌ وجذريةٌ كهذه تولِّد كراهيةً اجتماعيةً حتمًا. واليوم صار الأدبُ أيضاً يشارك في "صناعة" أو "رسم" تلك الكراهية. وقد تخلق عملية تصنيع الكراهية هذه ثيمات شتى، إحداها ثيمة صراع السادة والعبيد، وهذه هي الثيمة أو الموضوعة الرئيسة لرواية "أيام التراب" للكاتب العراقي زهير الهيتي (دار التنوير، ط1، 2016).
تسرد هذه الرواية جانبًا من صور التغيّير الجذري، الذي كان قد بدأ أصلًا "بانقلاب 14 تموز عام 1958،" وبلغ ذروته غير المسبوقة في العام 2003، من خلال سيرة عائلة "أرستقراطية" (وتسمى أحيانًا برجوازية) تمتد جذورها إلى العصر العبّاسي الثاني على الأقل (ولهذا الانتساب التاريخي دلالته في الرواية)، تسكن قصرًا منيفًا في منطقة البتّاويين ببغداد. لم يبق من العائلة غير الجيل الأخير: أربع أخوات وأخ وحيد. اثنتان منهما تعيشان مستقلتين خارج القصر، ولا يحضران في الرواية إلّا حضورًا هامشيًا، وأخرى كانت قد هربت مع حبيبها الشيوعي يناضلان في أماكن بعيدة، والعائلة طوت صفحتها، وألقتها في النسيان. أما من بقي فهو الأخ سلوان، الذي سقط في عالم الجنون إثر الأهوال التي عاناها على طريق الموت في حرب العام 1991، والأخت "غصن البان،" وهي الراوية، بطلة الرواية.
وهناك كائنان آخران يعيشان معهما، هما: الخادمة "مملوكة" والكلب "جيفارا." ومملوكة، والاسم دال جدًا ومُختار بعناية، تصفها لنا الراوية: "تتحرك .. في الوقت المناسب وبتوقيت مدهش. عندما نكون بحاجة إليها تصبح ملء السمع والبصر، وغير ذلك هي غير موجودة! تلتقط ذبذبات احتياجاتنا وتفاجئنا! بينما من الصعب جدًا أن نعرف احتياجاتها أو رغباتها، حتى تكرَّس لديَّ اعتقاد بأنها بلا احتياجات، بلا رغبات، بلا طموح .. إنسانة آلية مخلوقة فقط لخدمة الآخرين.. الذين هم نحن!" (ص164). أما الكلب "جيفارا" فلم يحمل اسمه اعتباطيًا، إنما تيمنًا بسميّه "الثائر الجميل" (ص185).
زمن الرواية حقبة ما بعد العام 2003، تُروى بصوت واحد، صوت الراوية غصن البان، التي قرّرت أن تكتب، بعد أن تلقت مظروفًا يحتوي على رصاصة محززة باللون الأحمر. "تكتب كل شيء ... لكي أتخلص من ضغط الخوف من التهديد، ربما لأني الأخيرة من سلالة في طريقها إلى التلاشي" (ص 38). و"الكتابة هي جلدي الأخير الذي يمنحني القدرة على المواجهة، والكلمات هي المشاجب التي أعلق عليها صورة تاريخ مضى وتمنحني قدرًا مريحًا من الإنسانية المفتقدة في هذه المدينة المقززة .. منذ زمن تحتمي عائلتنا بالكلمات، بسحرها، بأحاجيها، بأسطحها المتراتبة، ببلاغتها المدهشة" (ص 201).
- الكتابة سبعة أيام، هي المهلة التي أعطيت لغصن البان كي تفهمَ الرسالةَ وتنفذَها. وقسَّمت كتابتَها على سبعة فصول؛ كلُّ فصل يعرض جانبًا من تدحرج الأحداث السريع. ولفهم ما يجري حولها ولتسليط الضوء عليه، تستعين بسبع لوحات معلَّقة في صالة القصر، علّقها الجد أيام الحكم الملكي، لتكونَ، كما خطط القدر، شهودًا على ما سيأتي من أحداث، فهي "لها دلالات على ما آلت إليه أحوال أسرتنا" (ص 30). واللوحات هي: "محاولة القديس أنطونيوس" لماكس إرنست، و"جزيرة الموتى" لأرنولد بوكلين، و"شمشون ودليلة" لماكس ليبرمان، و"ذبح يوحنا المعمدان" لكارافاجيو، و"مارس" لفيلاسكوز، و"حديقة المتع" لهيرونوموس بوش، و"طيران الساحرات" لِغُويا. وفي كل فصل تُقرأ إحدى هذه اللوحات، ويحمل كلُّ فصل عنواناً مستوحىً من اللوحة نفسها، فتكون عنوانات الفصول حسب تسلسل اللوحات في أعلاه: الهذيان، والاختفاء، والحب، والعَتمة، والهزيمة، والجحيم، والغموض.
في كتابتها تعبّر غصن البان عن وجهة نظر طبقة أرستقراطية عمّا حدث ويحدث في العراق من أحداث وأهوال، وعن ذكرياتها وعن حفلات العائلة وأيامها الخوالي، وتصور هذياناتِ الأخ سلوان (الذي ستقتله هي نفسها عندما تبلغ الأحداث ذروتها كي يسهل عليها الهرب من دون تحمّل عبئه!)، وتكتب عن علاقة صداقة خارج أجواء القصر الساكنة كادت أن تشذ مع مومس في حي البتاويّين، وتبوح بتفصيلات علاقة حميمة غير شرعية استمرت سنةً ونصف السنة أيام كانت طالبةً جامعيةً مع قسّ مسيحي (والرواية تخطئ في تحديد زمن هذه العلاقة، إذ تمدها إلى أيام الاحتلال بعد العام 2003، بينما كان من المفترض أن تنتهي أوائل الثمانينات في أقصى الأحوال).
تطفح الرواية بازدراء طبقي صريح ومباشر ببقية الناس: فغصن البان من سلسلة عائلة "لا تؤمن بتمازج الطبقات" (ص 112)، لها لغتها وأخلاقها وطبائعها النقية: «عندما نخرج من القصر ونضطر للاختلاط بالآخرين، نسمع لغة مختلفة فيها الكثير من الكلمات البذيئة والنابية. دائمًا كانت تدهشني قدرة الآخرين على تمرير مثل هذه القذارة على ألسنتهم بدون إحساس بالذنب أو الضعة، أو حتى الحرج! عندما أسمع كلمة من تلك الكلمات ينتابني إحساس غير مريح، كالتصاق الأوساخ بي، أحس بأنها أوساخ تريد أن تحولني إلى واحدة منهم، لكن ما أن أعود إلى القصر وألتقي بدائرتي المختارة من البشر حتى يعاودني الشعور بالنظافة من رقي اللغة التي نستعملها والتي أصبحت عملة نادرة في شوارع المدينة. لغة التخاطب عندهم لم يعد فيها أي أثر للاحترام» (ص 15).
ومدينتها بغداد، تختلف عن بغداد الآخرين: فبغداد"ها" التي تراها وتعيش فيها تختلف عن بغداد"هم" (ص78). بغداد"هم" هي بغداد الرعاع، والأمّيين والمنافقين، مدينة القطيع والريفيين والغوغاء، لهم روائحهم النتنة، ووشومهم الدالة عليهم. وهي لا تريد أن تمنحهم حتى الكراهية لأنّ الكراهية تجمعها بهم، إنهم "آخرون" (ص81). أو بكلمات سارتر كان الآخرون لها جحيمًا ولكن ليس وجوديًا فحسب، بل جحيم طبقي.
ينقسم تاريخ العراق، حسب الراوية على قسمين: الزمن الملكيّ والزمن الجمهوري (بعد انقلاب 14 تموز 1958). في الانقلاب العسكري الدموي، الذي استهلّ قيام الجمهورية، جرى "سحل الملك الشاب، مع عائلته وبعض رجالات حكمه، في شوارع المدينة بطريقة وسمت تاريخ البلد بالبربرية إلى الأبد" (ص11). وسيكون تاريخ هذا الانقلاب الفاصلَ بين الخير والشر، والجمال والقبح، والمدنية والبربرية، والشرعية السياسية والاغتصاب السياسي، واللغة الراقية واللغة النابيّة البذيئة، والزمن الجميل والزمن القبيح. وهذه الثنائيات هي بالضبط ما يحكم وجهة نظر هذه الرواية.
ولكن ينضاف إلى هذه الثنائيات تمييزٌ يظهر صريحاً واضحاً حتى للكتابة الروائية العراقية: التمييز الطائفي. فأولئك الآخرون ليسوا رعاعًا فقط، أو أميّين، أو منافقين، أو خونة، بل هم أيضًا "علقميّون جدد" (184، 196، 265). فالآخرون، إذن، ليسوا من حيث الطبقة حسب، بل من حيث الطائفة أيضًا. لا يُستعمل تعبير "علقميون جدد" في التواريخ الرسمية والإعلام العربي عموماً والخطابات الطائفية لتسمية مجموعة قتلة، أو نهّابين، بل لتسمية الطائفة الشيعية ككل، في أي مكان وزمان. فالشيعة، حسب هذا التوصيف، خونة، كانوا ومازالوا وسيظلون هكذا أبداً! لذلك لا تتردد الراوية في ربطهم بحدث تاريخي سابق، هو سقوط بغداد على يد المغول، ترويه مصادر التاريخ الرسمية. والرواية التي بين أيدينا ليست بدعًا في ذلك، فالخطاب العربي، الإعلامي والديني والسياسي والتاريخي، والثقافي، والشعبوي، غاصٌّ بهذا التعبير.
بعد الاحتلال صارت الخادمة "مملوكة" شخصًا آخر: "فجأة" تكتب غصن البان "فُرض عليَّ التعامل مع شخص آخر، إنسان مختلف كأني لم أعرفه يومًا، كأني أتعامل معها لأول مرة في حياتي" (ص165). وتتساءل بغرابة واندهاش: "لماذا كل هذه الكراهية؟" (ص261) (وهو سؤال يذكِّر بسؤال الأميركيين الدائم خصوصًا بعد 11 سبتمبر!) التي تبديها لها مملوكة وأهلها. فترى أنّ الكراهية، وإن لم تكن جديدةً، إلاّ أنها اليوم "صارت صفات الأغلبية، خاصة أولئك الذين تعلّموا ممن أذلّوهم" (ص86).
يقول حنا بطاطو: "إن إحدى الحقائق المثيرة للاهتمام، والنابعة من تجاور الملامح الدينية والاجتماعية للعراق الملكي في العشرينات من القرن العشرين كانت درجة القربى القائمة بين الولاء الطائفي والموقع الاجتماعي" (العراق، ج1، ص 65). تنتمي عائلة غصن البان إلى الطبقة البرجوازية المناصرة للحكم الملكي، وظلت، في العهد الجمهوري، ترتقي مناصب عليا في الدولة دبلوماسية وقانونية وغير ذلك، وإن نأت عن الانضمام إلى المؤسسة العسكرية "بعدما لوّثت [هذه المؤسسة] أيديها بالدم الملكي الطاهر!" (ص26).
في العادة، تولِّد السلطة والمناصب والخيرات والرفاه والسكن في القصور المنيفة المسوّرة بشرًا يرون أنفسهم خيرًا من غيرهم، سادةً والآخرين عبيداً، لكل أخلاقه ولغته: أخلاق السادة ولغتهم الراقية، وأخلاق العبيد ولغتهم المنحطة. أما الخادمة مملوكة، فكانت وظلت مجرد خادمة غير مرئية في العهدين الملكي والجمهوري سواء بسواء. ويبدو أنّ الثورات أو الانقلابات التي شهدها النظام السياسي العراقي الحديث قبل العام 2003 لم يغيّر من موقع "مملوكة" والفئة الاجتماعية التي تنتمي إليها، أو الطائفة التي تنحدر منها.
لن نسمع في الرواية صوت "مملوكة،" ولا صوت أولئك العلقميّين، الذين تكرههم غصن البان. بل تعرض الرواية صوت "غصن البان" حسب، ويصور لنا الجميع من منظورها الاجتماعي الطبقي والطائفي والسياسي. فليس للآخرين صوت، ولا حتى وجود، وكل ما امتلكوه يوماً كان من أفضال الطبقة العليا عليهم، وكانوا يعرَّفون على هذا النحو دائماً، إنهم عبيد. والعبد تابع خاضع يستمد وجوده من سيده، ويحظى بالحياة بقدر ما تقرّره مشيئة السيد. بخلاف ذلك، أي إذا ما تغيرت موازين العلاقة الأبدية هذه، ثمة تحول "غير طبيعي" يطرأ على نظام الأشياء والوجود والحياة.
تقول الكتابة أكثر مما يظن كاتبها، أو ربما غير ما يريده. وغصن البان، التي دونت خلال سبعة أيام روايتها هذه ونقلها لنا زهير الهيتي بكل أمانة، فضحت مضمرات كانت الكتابة العراقية لا تشير إليها، إن أشارت إليها، إلاّ من طرف خفي. رشحت كتابتها عن كلِّ القيح المتخفي وراء غلالة التحضر وحبّ الفن والجمال، وأفصحت صراحتها عن قسوة متجذرة، وعن بشاعة رؤيتِها لمن حولها. وفي الحقيقة، فإنّ كتابة غصن البان تدينها. فهي، مثلاً، لم ترَ في المرأة التي ربّتها غير خادمة مطيعة ليس لها صلة نسب بالإنسانية الحقة. والمدينة التي تسكنها هي ليست المدينة التي تسكنها مملوكة وفئتها، فهذا التجاور المكاني خطأ زماني، ولا يعني البتة أنهم صاروا أبناء مدينة واحدة. كلاهما: غصن البان وفئتها، ومملوكة وفئتها، يسكن وطناً مختلفاً. بغداد"ها"، عاصمة عراقها، تختلف عن بغداد"هم" عاصمة عراقهم. أو بكلام أدق، هم ليسوا بغداديين، هم ليسوا عراقيين. فالسيد عراقي حتماً، أما العبد فله انتسابات أخرى غائمة، تحددها الطبقة العليا حسب حاجاتها. فإن كانوا في الخدمة كانوا "عراقيين نوعاً ما"، وإن صاروا، بغفلة من الزمان، أنداداً، فهم بالتأكيد ليسوا عراقيين!
تظهر لنا الرواية أن ليس ثمة مجتمع واحد، ليس ثمة رأس مال اجتماعي مشترك، وليس ثمة ثقة اجتماعية مشتركة، بل مجتمعات متراكبة متصارعة، تبدو من الخارج حينًا من الدهر موحدةً بفعل قوة القهر والاستبداد، أو ما يسمى بالعنف الشرعي. ولكن ما أن تنحل هذه القوة حتى تظهر الأمور واضحة جلية مأساوية: يطفح الصراع الاجتماعي الذي يغلي في الأعماق مثل بركان. فإن كان "السادة" السابقون مارسوا العنف بصورهِ جميعها تحت ستار العنف الشرعي، فإنه لمن غير المستغرب أن يشرعن "العبيد القدامى" أي "السادة الجدد" العنفَ، حتى يصبح بعد ذلك عنفًا شرعيًا.
وغصن البان، رغم تنديدها طوال كتابتها بكلِّ ما حدث بعد العام 1958، لا ترى نفسها وعائلتها ومنحدرها الطبقي والطائفي في فراق مطلق عن النظام السياسي، الذي ساد طوال الفترة من 1958 حتى العام 2003. وثمة عبارة دالة وكاشفة بهذا الصدد، فهي تسأل مستنكرة، ومتوعدة، عن طموح أولئك الآخرين، أي العبيد، استلام السلطة السياسية: "هل اعتقدوا أن الاحتلال يمكن أن يُلغي كل الفوارق والحدود، ويكرس تقاليد هجينة جديدة يتبوأون فيها مكانة كانت لنا ذات يوم؟" (ص165)
هذا التساؤل الاستنكاري دال وكاشف: إنَّ غصن البان صوت من يرى أنّ للعراق تركيبةً سياسيةً أبديةً واحدةً لا يجوز، بل لا يجب أن تتغير. في هذه التركيبة تقاليد "نقية" تحكمها علاقة السيد والعبد: وهما طرفان يؤديان مهمةً أبديةً، ولا يجب أن تتغير مواقعهما. لذلك، ترى أنّ انقلاب هذه العلاقة أو حدوث أي خلخلة يؤدي إلى الهجنة. و"النقاء والهجنة" ثنائي ينضاف إلى الثنائيات السابقة التي من خلالها ترى غصن البان العراق وبشَرَه وتاريخه. فالهجنة التي تنعت بها آخرين هي هجنة طبقية، ولغوية، وأخلاقية، وطائفية.
تطفو على سطح كتابة هذه الرواية تصنيفات اجتماعية وتاريخية جاهزة، تغيب عميقًا أو تُحيَّد أيام الكتابة المجامِلة، التي تصطنع نفسها، وتصطنع عبر ذلك هوية زائفة تمررها وتعممها على الجميع، ولكنها تنبثق جاهزة للاستعمال عند الحاجة والضرورة كما في حالتنا هذه: كالتصنيفات الطائفية وما يلحقها من تقيّيمات يبدو أنها تأبّدت بفعل هذا التوتر الاجتماعي التاريخي. ومشجب التاريخ عامرٌ بالتصنيفات والاتهامات، ولا يبخل بهباته على الروائي والإرهابي سواء بسواء.