"عشق مختلف عن العشق، يُزْهِرُ في ظل العشق ذاته'' (سيدوني كوليت).
"أنظرُ إلى استحالة أن يكتفي العشق بالبقاء ثابتا'' (تيريز الأفيليَّة).
صامويل دوك: نصل إلى فيليب سوليرز. الثنائي الذي شكلتموه رفقته منذ عشرات السنين، أبهر الإعلام، لكنكما أدركتما كيفية الحفاظ على خصوصيتكما، وإن أجّجتما، بالرغم منكما، لدى الجمهور فضولا حيويا. كان حاضر جدا، بين صفحات رواياتكم، وانعطف من خلال شخصيات عديدة. هل بوسعكم أن تصفوا لنا لقاءكما الأول؟ وكيف تأسست هذه العلاقة؟
*جوليا كريستيفا: درب الحياة هذا، مثلما دفعتموني إلى إعادة بنائه، عزيزي صامويل، منذ قدومي إلى فرنسا، لم يكن في وسعه قط التبلور ثم يصيرا واقعا ملموسا، لو لم ألتقِ فيليب ويرافقني. باعتباري مناصرة مقتنعة للقضية النسائية، وقد أكدتم على مجهوداتي بهذا الخصوص، دون الوقوف عند دوره البارز. كما أخبرتكم سابقا، حدثني جيرار جينيت ورولان بارت، عن هذا الكاتب الشاب الذي أبدع الرواية الجديدة، لكني انتظرتُ بضعة أشهر، مدة زمنية طويلة كفاية، قبل المبادرة إلى الإتصال بـ"الشخصية الشهيرة"، لأن منحتي الدراسية لاتسمح لي سوى بسبعة أشهر من البحث في فرنسا! بالتالي، لم يكن اسمه يعني شيئا بالنسبة لمخطط برنامجي، مادمتُ ملتزمة بإنجاز العديد من الأشياء وكذا اكتشاف باريس! كنت أعيش بين مقهى''لوبول ميش'' وغرفتي المتواجدة في مدرسة الصورة بجوار منطقتي "شباتي" و"نيللي" الباريسيتين، كما أشتغل في المكتبة الوطنية، شارع ريشوليو، وأنا أحذو حذو: حكاية "الصغير جيهان دو سانتري"، التي دلَّني عليها أراغون، هل تذكرون إشارتي السابقة إلى ذلك … إذن، قرأت، في مجلة: كلارتي. حوارا مع فيليب سوليرز، تؤثته صورة. مظهر شخص يحيل على أسرة آل بوربون على طريقة ماركيز دوساد، وسيم جدا، جذاب، بحيث يستحيل اليوم العثور ثانية على صورة شبيهة. فضلا عن ذلك، يطرح سوليرز أفكارا تعيدني إلى تلك المتبناة من طرف المستقبليين الروس والسورياليين الفرنسيين، لكن وفق توازن عمودي فلسفي جديد وساحر. يؤكد في الجوهر باستحالة تغيير أي شيئ، إذا لم نبادر إلى إحداث تحول يهم اللغة، وطبعا الرواية.
راسلتُه كي يحدد معي موعدا. فجاء جوابه سريعا جدا، مقترحا تاريخا بعد انقضاء عطل عيد الفصح. وصلتُ في اليوم المحدد لفضاء دار النشر "سوي"، صعدتُ الأدراج الحزونية، كان منتظِرا داخل مكتبه الصغير. شرحتُ له طبيعة ما أقوم به، استحضرتُ باختين، تناقشنا طويلا ثم ذهبنا لتناول وجبة عشاء. بعد الانتهاء، رافقني إلى محطة قطار الميترو، توخى الجميل الفاتن تقبيلي! "لكن سيدي!" وامتنعت. لم يكن حقا يتوقع ردّة الفعل تلك!.
*صامويل دوك: ثم، تخليتم عن الأمر!
*جوليا كريستيفا: صحيح، بعد أن صمد فيليب سوليرز لفترة معينة! اتصل متوخيا الاستفسار عما أعتزم القيام به في فرنسا. أجبتُه، وأنا أكرر ماقاله ماركس عن البروليتاريا، أنِّي غير متشبثة سوى بالتخلص من قيودي. اهتمَّ كثيرا بهذا المختصر. خلال تلك الحقبة، لم يتواجد كثير من المثقفات الشابات المستقلات، ثم لسن ''هَيِّنات'' ولا "خاضعات" . فضلا عن ذلك، أن يكن قادمات من شرق أوروبا.
* صامويل دوك: هل رفع الكلفة معكم منذ الوهلة الأولى؟
*جوليا كريستيفا: أبدا، لأنَّنا أصلا احترمنا الصيغ الرسمية داخل جماعة تيل كيل. سؤالكم جيد، فقد خاطبنا بعضنا البعض مدة طويلة بصيغة الجمع. لكن فيليب كَسَّر حاجز الكلفة بيني وبينه عندما غادرنا جزيرة "ري" Ré ، بعد أولى عطلاتنا معا، تحققت الألفة، وبكيفية حتمية.
* صامويل دوك: اتسمت بعض فقرات رواياتكم بإثارة جنسية ساطعة!
*جوليا كريستيفا: قلتها مرارا، وكررنا ذلك في عملنا المشترك: "الزواج باعتباره أحد الفنون الجميلة'' (كتاب مشترك بين كريستيفا وسوليرز)، "لايمكن التعبير عن الحب سوى مجازيا". فالاعترافات، والشكاوي، والمدائح، لاتلمس هذا الجوهر الملتهب. إذن سعيا، للاقتراب منه، أبدع البشر أشكالا وأجناسا أدبية، مثل الموسيقى، والفنون. في حين فضل آخرون الروحانية، ارتحال الروح وجهة الله، حيث تسامى دانتي بالكوميديا في جهنم، والمَطْهَر والفردوس. بحكم انغماسي المستمر في الثرثرة مع ابني دافيد وأعيش ثانية بالفرنسية طفولتي على الأريكة، سيظهر لي تقمصي داخل اللغة الفرنسية حساسا بما يكفي، فحاولتُ بدوري الحديث عن الحب في الرواية. بداية، لم يمتلك التقاء اغترابنا المشترك أي حظ كي يصمد، سواء ما تعلق بي كطالبة بلغارية قادمة من صوفيا، منتمية إلى أسرة ثائرة وأرثوذوكسية، أو لدى فيليب سوليرز، الكاتب الشاب المنحدر من بورجوازية كاثوليكية تنتمي إلى مدينة بوردو، وآنيا حي "كوكلوش سان جيرمان –دي- بري". لكن انجذابنا الفوري، ثم تحقق التناغم الجسدي، الشفهي، الجنسي، جعل جسدينا متلازمين، مادام الاتفاق الفكري فرض نفسه، ثم استمر الوضع ونحن نتجدد. وحدها الرواية، تلامس هذه الخيمياء. بالتالي، حضر فيليب بين صفحات رواية الساموراي، خلف شخصية "إيرفي دو مونتلور"، الملقب ب "سانتوي''. أيضا، استثمرتُ بعضا من قسماته، المتمثلة في الوسامة، الغضب، الضجر وكذا قراءاته، بالنسبة لشخصيات أغلبها مركَّبَة تجسد المغرمين بالبطلة الرئيسة أو رَاوية نصوصي الروائية الأخرى، وصولا إلى "تيو باسمان''، عالم الكونيات الذي يعيش في السماء، ضمن صفحات رواية: ساعة الحائط المبتهجة. رواياتي، التي يقال عنها، فلسفية لازمتها أيضا الإثارة، الرهانات الإيروسية، لذة الرجل والمرأة، وقد أصبتم بإشارتكم سابقا إلى هذا المعنى.
*صامويل دوك: كتب سوليرز روايتين، أهداهما إلى امرأتين، عاش معهما شغفا جارفا … تعلمون ذلك؟
*جوليا كريستيفا: لاأحد يجهل هذا المعطى! فعندما ولجتُ حياته، كانت تجربته غير قابلة للمقارنة وأكثر ثراء قياسا لتجربتي. فيما يخصني، عرفت بامتياز الإثارة العاطفية، أكثر من الشبقية، التي كُبِحَتْ نتيجة تربيتي التقليدية. لكن فيليب، جعلني أعيد خلق جسدي، الخاص بي، الانصهار ثم الانفصال، قوة الحياة والفراغ، الذي ليس لاشيئا.
دون أي شعور بالإثم، فقد كنتُ مطمئنة منذ أولى انتشاءاتنا الجنسية المشتركة. بالتالي، ليس الزواج من وَطَّد عزيمتي: بل فرض نفسه تجنبا لوضعية أن أصبح ''بدون أوراق''. لا، لقد استسلمتُ لهذا الاستهلاك الجنسي ببراءة طفولية، بل حيوانية، مع الإحساس به وفق أخوَّة مطلقة، مادمنا تقاسمنا على الفور أيضا، وحدة شعورية فكرية.
*صامويل دوك: ''تشارك''؟
*جوليا كريستيفا: ليس التعبير بالقوة المطلوبة كي نختزل فضولنا المتماثل أو المتكامل، قراءاتنا المشتركة لهيغل، نيتشه، فرويد، جويس، باطاي، ثم طبعا، بارت ولاكان… الفارق فقط، أنَّ فيليب يقرأ بنهم وأسرع مني، فبينما لاأزال عند نهاية الفقرة الأولى، يكون قد أدار الصفحة. شكَّلت لنا الموسيقى، وستظل دائما، سماءنا. في هذا السياق أيضا، يعتبر فيليب الموجِّه، لأنَّه علمني كيفية تذوق بساطة الطبيعة، والعشب المشبع باليُود على الساحل الأطلسي، الذي تحيط به نباتات الغرنوقيات، ثم مداعبة الإوز، وطائر مالك الحزين المهاجِر، ونحن نصغي إلى جورج فريديريك هاندل وجوزيف هايدن: ألحان متفردة تتسم بضبط ساعاتيّ، دقة اللحن، نبض الإيقاع. رغم ذلك، لم يختف إحساسي بالاغتراب.
* صامويل دوك: مؤلم؟
*جوليا كريستيفا: تتمسكون بهذه الكلمة! ليس تحديدا. نوع من التنبه، والتيقظ، والحيوية، تجعل الابتهاج صحوا. مسارنا، دائم التغير. بالنسبة إلي، كنتُ ولازلتُ سلافية slave رومانسية، فذلك مكوِّني ''العُصَابي" مثلما قلتُ، يصبو إلى كمال عاطفي مستحيل. على العكس، يمتلك سوليرز، سلوكا ننسبه في المعتاد للملائكة. سأفاجئكم؟ صنف هذه الكائنات، مثلما تعلمون، يكشفون عن وجه إنساني، بحيث يخلقوا معنا قُربا قويا جدا، لكنهم في ذات الوقت، إلهيين مادام بوسعهم الغياب كليا. تجعلهم هذه الثنائية مرغوبا فيهم، جذابين، يُحْدِثون الاستئناس، بل، الارتباط السرمدي. ثم يفرضون علينا ثانية الشعور بالابتعاد والعزلة، وضعٌ لايشعر الملائكة بأي معاناة لأنها كائنات غير مولودة.
* صامويل دوك: وبالطبع، غير جنسانية؟
* جوليا كريستيفا: تماما. لاجنسانية، لأنها غير مولودة. معضلة فيليب – نعم، تسكنه معضلة، رغم الكمال، الذي استحضرتُه لديه غاية الآن- إنَّه ملاك مولود بالتأكيد، وحتما جِنساني، بل ومشتهٍ لأفراد الجنس الآخر، لكن نزوعه لاينتمي للزمن الحالي. علاوة على غموض الملائكة، يمتلك فيليب تشكيلة لاعب مولود. يجسِّد خلاصة تسوية وجوه عديدة، بحيث يُخفي الواحد منها الباقي ويذود عنه. بحسبه، تعتبر طريقة الوجود تلك، طفولة دائمة، بينما نحن باقي البشر مجرد أطفال محبطين. حقيقة، لايصقل فيليب جل هذه التعددية التي تغذيه، فيلقه من النزوات، سوى مع تعدد أصوات الكتابة. بخصوص جانبي السلافي slave /أو العُصابي، يحدث معي أن لا أميّز داخل العلاقة الغرامية سوى وجها واحدا، الذي أحتاجه، هنا والآن، دون الوجوه الأخرى. إذن صادفتُ هذا الفرنسي الفريد جدا من نوعه: يكشف عن شخصية ملائكية، لكنه قد يصير كذلك بهيميا. إذن ماذا؟ لقد استلزم الوضع زمنا كي أمسك بهذا الترابط، وأفصل بين حدود التعددية، بحيث "يؤدي كل جانب دوره"، مثلما قال سلفا مونتين عن ذاته.
*صامويل دوك: نحس جدا بذلك ضمن تكاملية مشروعكم بحيث تستسلمون متى كان ممكنا إلى الدفاع عن احترام الغيرية.
*جوليا كريستيفا: حاولتُ شيئا اعتقدتُ أنِّي عاجزة عنه: إظهار مزايا مكون الاغتراب، ومعايشته باعتباره ورقة رابحة . قبلتُ البقاء أجنبية، خلال العامين الأولين لإقامتي في فرنسا، وبالتأكيد حضور شخصية فيليب. حتى ولو أنَّ جانبا منه أدمج اغترابي بين طيات عالمه الخاص غير المألوف، وقد حدث هذا الانتماء إلى مناطقه الخفية، بفضل تعاقب وتحوير مقرَّرين وثابتين سلفا، مثل موسيقى متسلسلة. وجدتُني مجددا على كوكب آخر، فيليب من جعلني أختبر وأتأمل مزايا هذه الوضعية، بالتأكيد هي نِعْمة وحظّ . لم أُطْرح جانبا، بل الأجنبية التي كنتُها وستظل، بقدر تجليها، بين ثنايا هذا الإحساس بيني وفيليب، ثم اغترابه الذاتي وكذا تضمنه لاغتراب الآخرين. يتعلق الأمر بالنسبة لكل واحدة من خصوصياتنا المتبادلة العثور على موقع، وهذا ما نواصل تكريسه. بتعميق مشاعر التعاطف ثم الحفاظ أيضا على تناقضاتنا، التي هي كذلك حرياتنا.
استطعتُ وفيليب تأسيس ثنائي تخلَّص من ثِقَل زِنا المحارم . كانت أمامي إمكانيتان، قياسا لنوعية التوافقات داخل أسرتي. إمّا عدم مصادفتي لرجل يرتقي غاية المستوى الخطير لارتباطي بأبي ثم لأجله، بالتالي أكتفي بحياة العزوبية. وإمّا أخلقُ ثانية تلك الكمَّاشة وأُستنزف ضمن ثنائي الإبنة/ الأب، التابوت الحجري لنرجسيات محنَّطة. لا هذا ولا ذاك. فقد اخترنا مجاراة اغترابنا. لكن بما أنّ بصمة زِنا المحارم تتأجَّج وتهدد حتما الشغف، نتيجة شهية الإثارة الطفولية التي لا تُقهر ثم جراء القساوة المدجَّنة للاهتمام المشترك، فقد غمر ذاك الانحراف الأصلي زواجنا.
هكذا دعمني "الثنائي" الذي خلقناه معا، فيما يتعلق بحياتي المهنية. وقد أعلنتُ سابقا، بأن المجتمع الفرنسي، مهما كانت تبايناته وكذا تمرده، لا يتماسك ويلتحم ثانية سوى ضد الأجنبي، والأخير يشعر بذلك على نحو أكثر قساوة مقارنة مع بلدان أخرى. يتقن الفرنسيون، بجانب الرفض المباشر، إضافة إقصاءات أخرى، يسهل تفعيلها أكثر وماكرة. اقتضى السياق ضرورة أن أجد لي مكانا داخل الجامعة وخارجها، كي أتموقع هنا وهناك. الاضطلاع بالدور المسند إلي، حتى لو كان غير الذي توخيتُه، وأعتبره مناسبا، مبررِّة: هذا الموقع؟ إنه هائل سلفا، هكذا يجري الأمر، ممتاز! من باب التطلع نحو تقديم الأفضل، والسعي (خيلاء يصعب تبريره!) بالأحرى كي أكون موجودة وليس مجرد ديكور. هذا الموقع عند الجبهة، يستعيد قواه باستمرار، مسائلا الجواني والبراني، ثم الذات نفسها.
*صامويل دوك: من هنا مفهوم ''إعادة النظر الجذرية في القيم''، الذي توظفونه غالبا.
*جوليا كريستيفا: دهشة أفلاطون، إذا أمكن القول! وإن كنّا لا نعبر بما يكفي حين قول الفيلسوف يندهش، مادام غريبا عن الجماعة: ''تعتبر الحياة النظرية حياة غريبة'' كي تفكر، لا يجدر بكَ الانتماء. بل الأولى لك أن تظل على الهامش! قد يتمثل هذا الهامش في الجنسية المثلية والكاتب لدى بروست؛ ثم الرواقي، كما الشأن مع زينون من مدينة سيتيوم في قبرص، الذي أبدع في أثينا نظرية' 'جديدة''، حول علم العلامات، أول درس سيميولوجي. أيضا قد يكون هامش فيلسوفة تثور ضد اضطهاد "الجنس الثاني"، كما الحال مع سيمون دي بوفوار؛ أو كاتبة على شاكلة سيدوني كوليت التي أعادت ثانية رسم الحدود بين ''النقي والملوث". يعتبر هذا التموضع في الجبهة خصبا قدر كونه مجازفا: بحيث لا ينبغي لكَ كمناضل ساخط، الإحساس بالسأم، أو الاستسلام، بل ولا مجرد أن تعتلَّ صحتك. لكن بما أننا نرعى ذلك بين ثنايا الحب نفسه، تبتعد هذه المخاطر. رولان بارت، أول من استوعب موضوعي، وسبقني في هذا المضمار، من خلال مقالته المعنونة بـ"الأجنبية'' التي أهداها إلي. حتما لأنه بدوره جَسَّد شخصية مغتربة، وفق الدلالة ''الهامشية'' للمفهوم.
* صامويل دوك: ارتكز لقاؤكم بفيليب سوليرز على الديمومة، وبفضل أيضا، ما وصفتموه بتلك القوة الدافعة، التي اهتدت بأحدكما صوب الثاني. فهل أكون محقّا إذا أستحضر نعت: ''وميض علائقي"؟
*جوليا كريستيفا: قبل المتعة نفسها، تجلى فورا ذكاء على مستوى الجسد، الصوت، الإيقاع، مما أضفى ديناميكية على الفكر، وجعله محسوسا. حينما تعرفتُ على والداي فيليب، لاحظتُ شبهه الكبير بأمه! يحضر لديه جانب أنثوي، ليس على مستوى سلوكه أو حديثه، الجازمين، الساخرين، الصارمين، اللذين يعكسهما أيضا حسب قدر كبير من الودّ واللطف. يمتلك هذا الجسد السريع والحيوي للاعب كرة قدم شيئا من الليونة، غير ملتح ولا خشن، نوع من النعومة تجعلني مرتاحة، مثلما أيضا بهوية متحفظة، ثم فجأة يغدو بركانيا حتى يطبع حدود موضعه. ويذكِّر بالفكر اللاذع للأخلاقيين وكذا كتَّاب الرسائل إبان القرن السابع عشر الذين تألقوا خلف سحر الأم تلك السيدة السعيدة. من جهتي، لستُ متخلصة سيكولوجيا تماما من وصفة ثنائية جنسية، نتيجة تماثلي مع أبي الذي أشبهه جسديا. إذن، في النهاية، سوف أشكل صحبة فيليب زواجا رباعيا.
*صامويل دوك: أشعر بأن الرجال الذين أحاطوا بكم تجلى لديهم جانب أنثوي واضح.
*جوليا كريستيفا: ربما، وبطريقة مختلفة، كما يحدث عند الجميع. بيد أن الذين نتكلم عنهم، يدركون ذلك ويعبرون عنه حسب طريقة تفكير متفردة، ضد المجرى العام للتقاليد.
*صامويل دوك: في رواية الساموراي وصفتم بشكل خاص حقا، تبنيكم من طرف أسرة الزوج، وقد بدأ تدريجيا، ثم تحقق الانجذاب فالاحتضان . تبدو فعلا حقيقية، المواقف التي أشرتم إليها، إنها موجودة. لكن هل جرت الوقائع مثلما جاء وصفها؟
*جوليا كريستيفا: نعم، بالضبط. لم يتغافل الاستثمار الروائي عن أي شيء يتعلق بذهنية هذه الأسرة الكاثوليكية، الديغولية، والتي أجبرت أطفالها على الاستيقاظ حتى ينشدوا أغنية: ''ماريشال، هانحن!". هكذا كان السياق! فلا أظن أنهم تصوروا زواج ابنهم من طالبة بلغارية. أين تقع بلغاريا هذه؟ بالكاد معروفة اليوم، فتخيلوا معي الأمر سنة 1966! لم يحضروا مراسم زواجنا في دار البلدية، الدائرة السابعة. لكن، بعد انصرام أشهر، بادرت والدة فيليب إلى دعوتي كي تهنئني، بعد سماعها الأستاذ رولان بارت يمدحني على أثير أمواج إذاعة ''France-culture"، ثم همست نحوي بكيفية لطيفة، إن كنت أحبُّ الأحجار الكريمة؟ وبعد فترة وجيزة وصلني منها خاتم الماس بديع. إنه خاتم الخطوبة، الذي أرتديه غاية اليوم. امرأة استثنائية، فاتنة، ودودة، صاحبة سلطة جذابة لم يكن في وسعها ممارستها على ابنها الذي كانت استقلاليته ذات شهرة عمومية. وفيما يخصني، تحولت لدي إلى سحر واهتمام. فرنسيتها المتميزة بقدر عذوبتها، ثم دعابتها غير المبالية برياء وسطها.
ثم قراءاتها حيث تبدي بهذا الخصوص عن تذمرها دون تسامح حيال تواضعها المزعوم كي تجعلنا نضحك: أحس كما لو أن نَفَس مدام دي سيفينيه (أو الماركيزة دي سيفينيه إحدى أديبات القرن السابع عشر) يغمر المكان. مقابل ذلك، كان والد فيليب، متحفظا يُبقي على كل شيء في دواخله، يفصح عن كلمات قليلة، أمينا لأقربائه وكذا حديقته. عندما حصلت على رخصة السياقة، بادرت بالتوجه صوب جزيرة ري "Ré''على متن سيارة رونو مستعملة . مائة وعشرون كيلومترا في الساعة. لم أغادر بعد مدينة أورليان، فإذا بالسيارة تتدحرج نحو وسط واد. فقط بضربة حظ، انتشلت نفسي من ذلك مع رضوض في الأضلاع. لن أنسى أبدا المجيء السريع لوالد فيليب بعد تلقيه الخبر من طرف رجال الدرك، وكذا سخاء رعايته طيلة شهر، فترة مكوثي في جزيرة "ري". لم أعرف طيلة حياتي فترة نقاهة أكثر نعومة.
*صامويل دوك: مع ذلك، تقولون اقتضى الوضع ''استحقاق'' هذا الاحتضان الفرنسي. على مستوى العلاقة الزوجية ؟ وأسرة الزوج؟ وكذا بالنسبة ل "الفكر الفرنسي"؟ .
*جوليا كريستيفا : في كل مكان ودائما، مع ذلك يلزم تبيُّن التفاصيل الدقيقة. بالتالي، لنبقى عند فيليب. لقد أطَّر لقائي بفيليب توافق جسدي وفكري يتحقق خلال اليومي ويمتد زمانيا عبر النقاش. واتسم نقاشنا بالإفراط في التسلية. بالتأكيد، كما الشأن مع جل الثنائيات الصلبة، يتقمص أيضا كل واحد منا أثناء الحوار، دور الأب والأم، الطفل والطفلة، الأستاذ والتلميذ. لكن، إبان تناظرنا، تتعقد الأشياء. أبذل قصارى جهدي كي أفهم وأبرهن، ينخرط فيليب في اللعبة، ليس تماما، يطرح مختصرات، دعابات، ثم أعيده إلى الصواب، يسرع في إظهار الإيماءات، تنضاف موضوعات جديدة إلى السجال، ثم يصير النقاش متعدد الأصوات. تلامس خلاياه العصبية الهائجة حقولا جديدة، تصريحا وتضمينا، ربما فقدنا الخيط الرابط، ليس بهذا المعنى تحديدا، بل يكون التناول أفضل. ثم نضحك في النهاية! ألا يعتبر الأكثر وضوحا قياسا لباقي التجليات؟ هل تتابعون كلامي؟ مع هذه المجابهة وجها لوجه، تضمحل الهويات الاجتماعية، السيكولوجية والجنسية، وحدها الحركة تهيمن على السياق. لا تعتقدون بأن هذا المنطق، يتبدد مع انتهاء وجبة الطعام. بل يعضد طريقة تفكير تميز فيليب، الذي يأسرني، يشعرني بالبهجة، ويعلمني أن أصير أكثر ليونة.
*صامويل دوك: يلزم امتلاك ميكروفون من أجل توثيق "هذا الأسلوب في التفكير" أثناء النقاش…
*جوليا كريستيفا: يمكنكم الوقوف على ذلك عبر حوارات عديدة أجراها فيليب، بحيث صدرت في نسختها الأصلية، دون تنقيح تقريبا، لأنه يكون مرتاحا جدا عندما يتحدث وفق هذا الأسلوب الفرنسي. مثلا لنتأمل نموذجا يوثق لطبيعة إجابته على حوار بخصوص فولتير. مع أن الأجوبة عن الأسئلة تمت كتابتها، فسنلاحظ نفس الارتجاج الذي يسود الذاكرة، يسرع بالزمان، يصادم الاستشهادات، مقتحما الفضاءات ثم يمزج الجدي بالهزلي، حينما يحدثني وهو يرتشف شرابه، بينما يتظاهر أربعة مليون فرنسي ضد الهجمات الإرهابية على صحيفة شارلي إبدو وكذا محلات ماركت كوشير، وارتفاع مبيعات كتاب فولتير رسالة في التسامح:
"الصحفي: مع ذلك يعتبر فولتير ربوبيا، وقد عتب عليه اليسار ذلك بما يكفي. ألا يشكل الأمر تناقضا؟
سوليرز: بالتأكيد، بل هاجم المتعصبين والناسكين أكثر من الله. ومع نهاية عمله رسالة في التسامح، يتوجه فولتير بصلاة إلى الله، قائلا: "لم تهبنا قط قلبا كي نكره وأيادي نذبح بها". ثم يضيف، بسخريته المتفردة: "إذا لم يكن الله موجودا، فينبغي لنا أن نخلقه". تلك فرضية جريئة قياسا للحقبة، التي لا تتكلم أبدا عن وجود الله. إنها فكرة ''الدين الطبيعي" التي دافع عنها بعض الموسوعيين، معتبرين دليل ذلك مثل ''نور طبيعي". في نفس الوقت، يكرر فولتير بأن هذا الدليل حظي دائما، بإقرار عدد قليل جدا من المناصرين، سيتعرضون باستمرار للاضطهاد. إنه متشائم جدا. وساخر دائما. في منطقة فيرني، عمل على هدم كنيسة خاصة، مجاورة لقلعة، بهدف توسيع بنايتها. لكن جراء الاحتجاجات، بادر إلى إعادة بنائها ثم نقش على لوحة في المدخل العبارة التالية: يشيد فولتير من أجل الله. هنا أيضا، أيّ سخرية، بحيث يستخف فولتير بالله من أجل الله. عبارة غير مألوفة كثيرا. تخيلوها مكتوبة على ورقة نقدية كما الشأن بالنسبة للدولار في الولايات المتحدة الأمريكية".
*صامويل دوك: وأنتم الشخصية الجادة جدا، والرسمية جدا والمتمكِّنة، أتصوركم بجوار فيليب، قد فقدتم قليلا جانبكم الوقور. بحيث تصبحون فتاة صغيرة مع هذه الابتسامة المميزة جدا التي لا ترسمونها سوى في وجه فيليب، أحدس حينئذ شخصية تنعم بسعادة عفوية، متألقة، مسرورة. هل بوسعكم أن تحدثوننا حاليا عن زواجكم، وكذا مراسيم الاحتفال؟ كيف تعاملتم مع ذلك؟ ماذا يمثل بالنسبة إليكم؟ وكيف عشتم اللحظة؟
*جوليا كريستيفا: اعتقد فيليب بأنه لن يتزوج أبدا، "فقط مرة واحدة'' وقال: "لما لا؟ " خاصة أن ذلك سيشكل الوسيلة الوحيدة من أجل إضفاء الشرعية على إقامتي في فرنسا. حضر نفر قليل إلى دار البلدية في الدائرة السابعة (كنا نقطن شارع بوررويال): جاءت أختي إيفانكا من بلغاريا، ثم الكاتبين مارسلينن بلينيت و جين لوي بودري، عن هيئة تحرير مجلة تيل كيل، باعتبارهما شاهدين. غياب للآباء. ثم توجهنا جميعا إلى مطعم "لابوشري"، على ضفاف نهر السين، كنت وفيليب نتردد عليه. مفاجأة: تواجد لحظتها في عين المكان، أراغون وإلزا يتناولان غذاءهما بهدوء. لم نلتقيهما قط سابقا هنا! تبادلنا التحايا، لا تفسيرات، فالزواج لم يكن في حاجة للإعلان. إجمالا، لقد فهما بأننا ''نتواجد معا'' ونحتفل بشيء ما.
*صامويل دوك: ليس في وسعي تخيل زواج متكتِّم جدا بالنسبة للثنائي سوليرز- كريستيفا، ولا كذلك صخب زواج بورجوازي. لقد تحدثتم عن لحظة بسيطة، جميلة، وزاهدة.
* جوليا كريستيفا: تأسفت بالتأكيد لعدم حضور الآباء، رغم ذلك كانت لحظة جميلة، حميمة تقريبا.
*صامويل دوك: ربما هي طريقة كي يُختزل إلى أقصى حد حضور ''المجتمع'' بينكما معا؟ كيف تعاملت أسرتكم مع سوليرز ؟ وكيف استُقبل في بلغاريا؟
*جوليا كريستيفا : للحسرة لم يذهب فيليب قط إلى بلغاريا. بدعوى، أنه اذا جازف نحو القيام بمغامرة، من هذا القبيل، سيلقى به هناك في معسكر للاعتقال أو في سجن مثل أي منشقّ (ضحكات) .
*صامويل دوك: آه! لماذا؟
* جوليا كريستيفا: صحيح كان يمكنه إثارة فزع الدوغماطيقيين، وكذا الشرطة نفسها، نتيجة حريته في الإفصاح عن آرائه، وكذا طبيعة مواقفه "اليسارية"، التحريضية. أظن خاصة، بأن ذلك عَكَسَ طريقته لتأكيد استقلاله ضد العادات العتيقة التي تلزم الخاطب كي "يطلب يد" زوجته أو "يلحق بها'' عند "أهلها''. فضلا عن قراءته للأرثوذوكسية المسيحية والأدب المستلهم لها أو المتجرد عنها، اتسمت بكونها لاذعة جدا، حتى لا أقول مدمِّرة، حينما يستسلم إلى أوج سخريته الفولتيرية. كذلك، مع أني لم أكن حقا ممثلة نموذجية عن الذهنية الأرثوذوكسية (بوسع أبي تقديم الدليل القاطع بهذا الخصوص!)، ولا حتى لروح العنصر السلافي Slave، فقد شعرت جدا بهسيس سخرية صاحب رواية نساء (المقصود هنا سوليرز). أيضا يتهكم من طقس كرسه بعض الكتَّاب الفرنسيين لصالح زوجاتهم الأجنبيات القادمات من الشرق. يتجه تفكيري نحو بول موراند، مع شعيرته الجنائزية الأرثوذوكسية؛ من خلال مزيج رماد لمدينة تريستا (الإيطالية) وكذا رماد زوجته، الأميرة الرومانية سوتزو؛ ثم تطلع لوي أراغون، إلى عيني إلزا والشيوعية.
لقد أحب والدايّ فيليب، بل كثيرا، كذلك الشأن بالنسبة لأختي إيفانكا. كان اقتحام الستار الحديدي معقَّدا؛ بعد رفض منح التأشيرة غير ما مرة، نجحت مساعينا أخيرا، بفضل التماس أسرة فيليب، المساعدة من جاك شابان دلماس، عمدة مدينة بوردو وأحد المعجبين بالكاتب سوليرز، هكذا صار في وسع عائلتي المجيء إلى فرنسا … كل ثلاث سنوات! في باريس، فضل أبي الاستغراق متأملا كنيسة نوتردام دو باري، وكان على وشك التحول إلى المسيحية! تعزف أختي الكمان لفيليب، ثم يروم حين انتشائه، مازحا بكيفية ساخرة من التكوين المتين لإيفانكا في معهد موسكو للموسيقى كاشفا عن نزوعاته إلى الأسلوب الباروكي. بينما أضحت ابتسامة أمي، أكثر صفاء. كانت أختي تتكلم سلفا فرنسية ممتازة، فلغة فيكتور هيغو (متداولة جدا في بلغاريا) هكذا استعادتها تدريجيا ذاكرة والدايّ، لاسيما في جزيرة ري Ré وبوردو، حيث تعرفا على أفراد أسرة فيليب.
من بين الصور التي لازالت عالقة في ذهني من تلك الفترة: عاد أبي، مفعما بالغبطة وسلة ممتلئة، بعد قضائه فترة يصطاد السمك في حوض لتربية المحار، توفر لنا خلال تلك الحقبة. فقد صادف "أقصى حالات الجزر''. لم يعاين لحظة من هذا القبيل، سوى في البحر الأسود والأدرياتيكي، بحيث تبيَّن له من خلال انحسار المحيط على مسافة مئات الميترات أن الأمر يتعلق برؤيا قدر كونه معجزة! كاد يطير فرحا لأن ابنته أتاحت له فرصة حضور هذا المشهد، ولو مرة واحدة في حياته! لا يتواني أبي المخلص لقناعاته، عن ضمِّي إلى الظواهر.
*صامويل دوك: تعتبر جزيرة ري مأوى لكم. فردوسا خاصا، وملاذا.
*جوليا كريستيفا: يعود توقيع العقد التوثيقي لهذا الفضاء إلى لويس السادس عشر. أحد أشقاء والد جدِّ فيليب، كان بحارا، أسدى خدمات للتاج. تكشف صور تعود إلى بداية القرن العشرين، بيتا ريفيا ثابت الأركان، يدير ظهره للبحر وتحيطه أسوار، تكسوها أشجار مدارية. خلال تلك الفترة، اهتم سكان جزيرة ري أساسا بالاحتماء من الريح ولم يكترثوا بتأمل المحيط. أرضية المنزل مرتفعة إلى حد ما، لذلك لم تدمرها الأعاصير والفيضانات المتعاقبة: لم تكتسح سوى جانبا من الحديقة ثم توقفت أمام الشرفة. غير أن البيت الريفي سيدمره الألمان الذين أفزعهم نزول الحلفاء في لاروشيل. حصل والدا فيليب على تعويض بسبب مشروع إعادة البناء، بحيث زحفت البنايات الجديدة ، لكن تظل ماثلة روعة مشهد قبة جرس الكنيسة وكذا لحظات غروب الشمس. أحببت هناك تقاسم هدوء ضيفي، طائر البجعة البيضاء، الصديق الأمين منذ سنوات، وقد سميته ليبنتز في رواية ساعة الحائط المبتهجة، لأن المنحى الأبيض لعنقه يطوي لانهائية السماء عبر لانهائية الماء. يجلس جدّ فيليب على الدكَّة الحجرية، إلى جانب المكتب الحالي لحفيده، متحينا فرصة التربص ببطَّة من أجل طعام العشاء. غير أن عالَم البيئة فرض منحى آخر، لأنه يحظر حاليا اصطياد الطيور المائية … ثم، وأنا أشتغل، أرى من وراء نافذتي، عائلة صغيرة من البط البري مستسلمة للهدهدة على ذراع البحر الذي يغذي المستنقعات المالحة.
تقريبا، أصبحتُ جزءا من هذه الجزيرة. ذات ظهيرة، وصلتُ البيت الريفي ثم بقيت وحيدة بينما توجه فيليب إلى البريد. فأتاني حارس الحقل، مصحوبا بامرأتين تحملان سطولا مملوءة بالمحارات، قائلا: "لقد وجدتهما عند حوض تربية المحار". ابتسمت في وجهه، بحيث لم أتبيّن أي مشكلة في ما حدث. ثم كرر ثانية إقراره. فانتهيت إلى سؤاله: "ماهو المبلغ الواجب دفعه ؟ ". أعلم جيدا أنه لدينا حوض لتربية المحار، لكن غاب عن خيالي – أنا القادمة من الشرق الأوروبي- إمكانية أن يكون البحر، الغابة، المحارات مِلكية خاصة! رجع فيليب، ثم طمأن حارس الحقل، المنذهل جراء ردة فعلي، مقترحا عليه إجبار المخالفتين على تأدية غرامة لصالح أطفال عمال البحر. تذوقنا المحارات، لكن انسابت إشاعة مفادها أن الشاب السعيد (فيليب) اختار زواجا سيئا.
*صامويل دوك: أدى موقف فيليب سوليرز، إلى تتويجكم بكيفية ما، مما يجعلني أشعر بأن التلميذة تجاوزت أخيرا الشخص الذي اعتبرته أستاذا. أنتما تشكلان موضوع اعتراف وطني ودولي كبير. ألا تحدث هذه الصورة العمومية نوعا من التنافس بينكما، بل والغيرة؟ أحيانا، أشعر بوجود "تفرع ثنائي" إلى جماعة كريستيفا وأخرى تابعة لفيليب سوليرز، كما لو تحتم الانتماء إلى هذا الجانب أو ذاك. السعي نحو هدم هذا الزواج "مستحيلا''. فهل أحسستم برغبة مجتمع الفرجة كي يسلط الضوء على خلاف ضمن طيات تفاهمكم؟
* جوليا كريستيفا: نعم، ينتشر ضجيج، ومنظومة "صور'' مثلما أشرتم : يكره خصوم سوليرز كريستيفا، وأصدقاؤه وصديقاته لا يحبونني، أيضا نفس التقييم بالنسبة لبعض أفراد المحيط القريب مني. خلال فترة إقامتي المرضية بمستشفى كوشين، صدرت مقالة في جريدة اليمين المتطرف تعتبرني أشتغل لصالح المخابرات السوفياتية (ك. ج. ب). وظهر، بأن الفكرة، تعود لصاحبها جان إدرن هاليير، لم يكن يعرفني، فقط ''نكاية'' في سوليرز. ثم هل من الضروري التعليق على محاولة التخريب البئيسة لسوكال وبريكمونت، اللذين ارتكبا خلطا بين استعارات الرياضيات التي وظفتُها (مثل أخرى كثيرة) مع نماذج علمية، انتقادات دحضها كليا الفيزيائي مارك ليفي لوبلون؟
أو يلزمني التذكير بتلك الشتائم الفاحشة والمعادية للسامية الصادرة عن مدعيات لنصرة قضايا النساء إعلاميا، يفترض أنهن متحمسات للكتابة الطليعية؟ أقول لكم ذلك مثلما أفكر فيه: أمكن هذا الوحل أن يثبط همتي خلال لحظة. لست غير مبالية، بل أغض الطرف. أتوخى في الحقيقة البقاء متماسكة. ثم أنعطف مختلفة نحو آفاق جديدة ومتعددة. لكل واحد منا عالمه الخاص. أضحى عالمي متعددا. يتضاعف كل يوم، حتى آخر العمر. لذلك، لايهم'' أن يتكلم هذا! ثم أكثر إضرارا وإنهاكا للجسد ''أن يراقبك ذاك''!. لقد عبَّدتُ الطريق، ويستمر السفر. لأنّي وفيليب على اتفاق، بأن الحياة تكتب، وبأن الكتابي يمثل الحياة. نحن ثنائي يؤلفه أجنبيان متناغمان. أصوات، رؤى، كتابات مختلفة. توافقات تتطابق باستمرار وتتجدد. وحدنا، مع الزمن، الذي يضفي إيقاعا على التجربة.
*صامويل دوك: هل حدث أن اكتشفتم بعض سماتكم ضمن شخصيات بطلات رواية فيليب سوليرز؟ ومن المفضلة لديكم؟ .
*جوليا كريستيفا: تحديدا، متغيرة مع مضي الزمن. أعاين ملامح تشبهني مع شخصيات عديدة مركَّبة. في روايته: نجمة العاشقين، تحيلنا غالبا وباستمرار على فضاء جزيرة ري. خلال، اللحظة التي نتناقش فيها، تبدو لي شخصية ''مود''Maud وكذا "تماسكها الفولاذي" الأقرب إلي:
"تعتقد مود أننا نعيش رواية أبدعتُها، تتعقبني، وتؤمن بي. بدأ كل شيء بفضل عنادها وكذا لطفها. بداية، تجلت الريبة، ماذا تريد هاته، الطالبة، جيد، نعم، طيب، شابة سمراء، جميلة، قصيرة، رشيقة، راقصة، نظرة سوداء تسخر بعمق، لحن، إيقاع، بل العقل نفسه. عفوا أيتها الغبيات … لماذا تلك المرأة؟ ببساطة الطراوة، اللطف . ليس البراءة، لا نحلم بذلك، بل شيئا أكثر استثنائية، وإثارة. كيف نسميها؟ نقاء؟ استخفافا، ضحكات وصرخات مستنكرة . لنحتفظ مع ذلك جانبا بالتسمية، ونرى أمرها فيما بعد. فلا شيء يصدر عنها مثاليا، ولا غشيما، ولا مكبوتا: إنها جوهر أتى من بعيد جدا، أبعد من جسم مادي. لا شيء رياضيا، أو عاطفيا: إنها كثافة معدنية. يلزم وعاء الخبث، الحويصلة المهبليية الصفراوية، التواجد حقا ضمن حيز ما، لكنها حاليا منعدمة. إنها داخل موسيقى الحياة، بين طيات اعتباطيتها السعيدة. لماذا تحبني جدا؟ لأني أثبتت دون قول شيء هذه اللحظة من وجودها. تحتاج الأجساد البشرية إلى هذا الصمت المداهِن، منعزلة عن عظامها، خلاياها، أوتارها العضلية، وفقراتها. هكذا نهتدي حسب مسار نومهم الناجح: يحسون بذلك، ويشكرونكم". (رواية ''نجمة العشاق''، غاليمار، 2012 ، ص : -12 17).
*صامويل دوك: على إيقاع هذا الوصف، أفكر في الشخصيات الذكورية لرواياتكم، لاسيما أحدثها عهدا أقصد اسم "تيو''Théo، ورواية ساعة الحائط المبتهجة، ثم موقع الشخصية ضمن الثنائي الذي شكله مع الرَّاوية.
*جوليا كريستيفا: فعلا، وحسب طابع آخر، هكذا تبدو الحرية في تصور "تيو'' و"نيفي"Nivi: "أنتَ لست بمعبر ولا منفذ. أنا لست أبدا في حاجة قط إلى الضوء، بل إلى الليل فقط، والأوكسجين، وموت صغير، نعم ليس كبيرا. لقد امتلكتُ كل شيء، ولازلتُ أتطلع…. هاأنتَ تمنحيني الآن ما أفتقده، العزلة المطلقة، عزلة زاخرة بك…. كيف أسميكَ؟ سوليس؟ تبدو لي الكلمة شمسية بما يكفي، استثنائية وقاطعة. كي أكون صائبة، لا ينبغي لي المناداة عليكَ سوى أنت، دون اسم، سرّ توأمي، أنا فيكَ، وأنت لي ، يا نيزكي ، وعزلتي الأخرى، وبدايتي. لست في حاجة قط إلى الاستناد على الجزع كي أكتشف بأني أفتقدكَ. أرتجف جراء ذلك باستمرار، ولا أتخلص منه سوى فترات متقطعة. ما الغاية؟ هكذا مجرد لاشيء. لقد اخترتُ المجاني، وأتمتع حاليا بلحظاته أكثر قليلا. تخترقني نظرتك، تنصهر اليدان ملتصقة إحداهما بالأخرى، نتابع هذا الفيلم المسمى عالَما، دون أن نراه. نَفَسُكَ، عِطْرُكَ، صوتُكَ الذي أرتوي منه وأتغذى عليه خارج الزمان: عندما تكون معي، وأنا بصدد الإصغاء لرسائلك الصوتية، أو قراءة أخرى نصية قصيرة وكذا الاليكترونية، أحلم بكَ، أتذكركَ، أعيد خلقكَ. وأنا أخلقكَ. . . حاليا: تجمع اللحظة المتمددة عوالم متباعدة في أزمنة مشتتة. ثم تتعايش أخرى منبثقة وتتميز من خلال اللقاء بين تيو ، ونيفي وكذا ساعاتي الملِك، نتطابق جسدا، قلبا، مستقليْن ومترابطيْن. يندفع الجنون لكنه تحت سيطرتنا الدقيقة. كل شيء ممكن مثلما أن كل شيء يتوارى. اكتمال لما هو خارج اللعبة'' (جوليا كريستيفا، ساعة الحائط المبتهجة، ص16، 17 ، 18).
صامويل دوك: لقد هذبتم الاختلاف في علاقاتكم الزوجية، وبما أن المجتمع النرجسي لا يتحمل قط ثنائيا يعيش هذا الاختلاف، فقد رفضتم الامتثال للعبة المجتمع. مع ذلك، يظهر لي بأن الأمر لا يتعلق فقط باختيار ''سياسي''. بحيث يبدو لي، أن اختياركم سياقا مضادا لسوليرز، كان سينتهي بكم في نظري، نحو طريق مسدود بخصوص تصوركم عن "التداخل النصي": يعتد بحضوره على مستوى تجدد بنائكم الشخصي، كما أن بصماته واضحة بخصوص كتاباتكم، فكان بالنسبة إليكم أساسيا فكريا وعاطفيا.
*جوليا كريستيفا: يعتبر عنوان فيلم ''حكايات عشق وجسور"، لصاحبته تيري وين داميشش (فيلم وثائقي عن كريستيفا، قناة فرنسا5)، دقيقا جدا. انطلاقا من تفاؤلي، فأنا أعيش فترة الثلث الثالث من حياتي، بالتالي يقترب الموت أكثر فأكثر. مخاوف وارتجاف ، بالتأكيد ، وأحس بالفزع نحو النتائج، فأنا مقتنعة جدا مثلما قلت سابقا، مادمت قد نجحت في أن أحوِّل إلى الخيال جوهر هذه ''الأنا'' التي ''تسافر'' و"تتخلص من قيودها". بالطبع، يندرج ضمن ذلك، المثقفة، والمواطنة الفرنسية. في هذا الاطار، لا تمثل عدائية وافتراءات النزعة العشائرية الفرنسية، سوى طريقا مضلِّلا، يمر بجانب هذا ''السفر'' وكذا دوره باعتباره "جسرا''. ليس فقط ''ممرا" بين الحقول الأكاديمية، ومدارس التحليل النفسي، والتعدد الثقافي، والنزاعات الدينية، نفهم من خلالها أوروبا والصين، لكن أيضا بين شخصيتي فيليب وأنا.
* صامويل دوك: شرعتم في مدح السري، منذ رواية الساموراي، انطلاقا من سياق شخصيتي إيدالواي و أولغا: "يلزم بكل بساطة الحفاظ على سرية (تاريخهما)، والعناية به. هذا كل شيء. ليس، لمجرد أن لا صلة لذلك بمكر الخطأ، ثم تستر الخيانة وكذا الوعي الشقي لكوميديا فودفيل…vaudeville فالسر، بمثابة خيمياء يمنحنا حق البحث عن أنفسنا دون جرح الآخرين. الاحتراس الهادئ الذي يعظِّم إرادة القوة ويكبحها . تتحقق المرأة فعليا من خلال السر، بينما يتلف الرجل الأسرار من فرط تجميعها. عندما تتوقف على أن تظل مجهولا بالنسبة لذاتك، فماذا تصير لحظتها؟ حكيما؟ ليس بالضرورة. بالأحرى، مريضا، بل تقريبا ميتا "(جوليا كريستيفا، الساموراي، ص309 ).
*صامويل دوك: أعتقد بأن كل واحد منا تقاطع في يوم من الأيام مع شخصية إيدالواي! بحيث نلج منطقة مضطربة يحدث داخلها شيء شيطاني، حينما نستحضر إشكالية الاختيارات الجاذبة لكما.
*جوليا كريستيفا: يعكس الأمريكي إيدالواي، عشيق أولغا، مزيجا رومانسيا. يمكننا السعي إلى اكتشاف النموذج أو النماذج، ونمارس دور الباحثين. يمكننا اعتباره، مثلما فعلتم ، بمثابة وجه كوني، أو الأقرب إلى النص المستشهد به، يرمز لجيل، بل بنية ذكورية متواترة: الرجل المهووس بكفاءاته، المنجذب إليها، وكذا طموحاته ودقته المصممة بعناية، مثل إيدالواي، صنف يجذبني أحيانا دفعة واحدة، ثم لِماما، بكيفية دائمة. أيضا انفعاليته المضطربة، المصحوبة بالضعف، تثير اهتمامي مثل نجاحاته المهنية التي يحكمها غالبا تسيير شديد التدقيق لكن بغير رؤية. تكشف اليوم الشفافية الإعلامية هذه الأعطاب لدى السياسيين، لاسيما، الذي ضلّوا عن المثال الأعلى الديمقراطي، منخرطين أكثر فأكثر بحيوية، وانفعالات، وهستيريا. بيد أنها حالة تهم كل شخص، من العالِم الكبير وصولا إلى المقاول الذاتي العابر، حينما تتحجر الذكورة ضمن الهوس بالسلطة. يجذبني هذا الاقتفاء الرجولي للسيطرة وكذا الصورة، بحيث يضعف في خضمها الرجال أسرع من النساء اللواتي يظهرن في نهاية المطاف أكثر قدرة، بل "اختراق الدرْعِ" ، أو على الأقل التخفيف من وطأته بفضل حساسيتهن. يعجز صاحب الفكر المتسلط عن الاتفاق، لكنه يتطلع إلى ذلك؛ وحينما يمتلك زمام السلطة، لا يمتنع أبدا كي يتناول الرأي للاستشهاد عن انتصاراته. أنا لا أستهزئ، بل أشفق على هذا النوع من المعاناة التي تشكل جانبا من التركيب الذكوري، واليوم أكثر من أي وقت مضى. ثم يتسع المشهد مع تحرير النساء وكذا إعادة تشكيل الأُسر، ضمن أشياء أخرى، لكن من العبث التأكيد على كوننا نعيش "نهاية الرجل الغربي". الرجولة بصدد التحول، حيث الديمقراطيات بمثابة القوة المتقدمة لهذه التغيرات الأنثروبولوجية . الوضع الذي يقتضي من النساء أيضا، حنكة أكبر بخصوص التشكل إلى اثنين، حتى "لا يموت الرجل والمرأة، كل واحد من جهته'' مثلما أبديا خشيتهما في هذا الاطار أو كشفا عن تخمينهما ، كلا من ألفريد دي فيني ومارسيل بروست. إذن، حسب إعادة تركيب الحب هاته، تسامحتُ جدا فيما يتعلق باختيار السرِّي. أنتَ على حق، نعم لقد مدحتُ السرِّي. هل يعتبر اختيارا أنثويا؟ ربما. أحيانا وليس بالضرورة. لكنه بالتأكيد، يعكس سمة أو حاجة شخصية.
* صامويل دوك: أتابع أفكار تحليلكم. لنعد إلى شخصية ذكورية أخرى، أقصد ''فيسباسيان''.
* جوليا كريستيفا: تكشف علاقة أولغا / إيدالواي عن لاتماثل جوهري داخل الثنائي رجل/ امرأة، بلغ أوجه على امتداد صفحات روايتي: الرجل العجوز والذئاب. لقد ذهبتُ أبعد ما يكون بخصوص التعبير بالكلمات عن العنف بين ''فيسباسيان'' و''ألبا''، حول المعاملة السيئة للنساء فيزيائيا وسيكولوجيا، الملازمة لمجتمع يتحول فيه الرجال إلى ذئاب …ليست متع الرجل والمرأة نفسها، ولا أيضا محطاتهم المجتمعية. أن نتأسف على ذلك ثم نحاول تغييره، هنا تكمن القضية: يقبل المجتمع بسهولة أن يكون الرجل عنيفا والتباهي بمبارزاته وكذا مكاسبه: أنا من اللواتي يعشن متعهن وشغفهن بكيفية أكثر تكتُّما، ربما لأن الجسد النسائي النافذ، نحو الباطني النفساني، أكثر خفية والتواء صوب وجهة الداخل. قد يعود أيضا هذا النزوع إلى طبيعة تربيتي وكذا معاركي. أعتبر بأني أدافع عن عشقي وصداقاتي، عندما أبقيهما جانبا.
*صامويل دوك : اتخذ بسرعة الوجه العمومي لعلاقتكم مع سوليرز، شكل تأمل في نصوصه الروائية: كتبتم سنة 1968 بحثا عنوانه ''إحداث الصيغة" انطلاقا من روايته "أعداد''، ثم دراستكم الأخرى '' التعدد الحواري'' سنة 1977 . هل تفحصون الشخص أم الكاتب؟
*جوليا كريستيفا: أو ''المتمرِّد''، كما يقول عن نفسه. كنت ولازلت دائما مأخوذة إلى كتابة سوليرز، المعادل الصحيح لـ"شخصيته'': السرعة والتكثيف. توخت هذه الحركات، عبر اللغة، العثور على ''كلمة جيدة ، رحبة، طبيعية'' (أفكر في كلمات مالارميه، بين طيات كتابي ثورة اللغة الشعرية)، فتنتج المجاز، جوهر الشعر (على سبيل المثال "الإنسان نبتة مفكرة"، "الأرض زرقاء مثل برتقالة"). يسود لدى فيليب سوليرز، هذا الحجز والتكثيف، الأفكار والسرد. يقتطع جملة، تعبيرا أو كلمة، مثل نسر يهاجم فريسته. ويظهر إمساكه بمثابة الممكن الوحيد، الأكثر إيحاء، بالتالي لا يتوقف عند التفسيرات. هكذا يحدث عند كاتب وخز المفهوم بكيفية حية ، أو في إطار الراهن ، يَرِنُّ مع أخرى، ثم تنبجس مفاجأة جراء هذا التصادم الغريب ظاهريا: تصعقون للوهلة الأولى، لكن سرعان ما يتجلى الإيضاح، ثم يبرز "تأويل '' جديد، وكذا "رؤية أخرى للعالم". تُمارس إضاءة رامبو مثل فن للقراءة، والكتابة، والحياة. هل يتعلق السياق بالفلسفة، التخيل، أو الشعر؟ يبدو له الحكي نهجا تعليميا أكثر مما ينبغي، والسينما، فنا بطيئا جدا: لا نذهب إلى السينما، ليس فقط بسبب حظر التدخين داخل القاعات. لكني أتابع مختلف الأفلام الجديدة، بفضل مبادرات تلاميذي، وكذا أحبائي ماريان وجان فرانسوا رابان، مختصين نفسانيين وعاشقين حقيقيين للسينما، واللذين تمكنت أيضا بفضلهما من اكتشاف سحر السينما اليابانية.
يمنح هذا يوميا، بكيفية غريبة رشاقة دائمة، تؤشر عليها نوبات غضب. مع انسحاب بليغ بخصوص علاقاته بـ''الأفراد'' و''العالم''، حتى وإن "ظهر'' سوليرز غالبا، هنا أو هناك، لكن بشكل أقل خلال السنوات الأخيرة. بيد أن قناع الراحة هذا، لايعني عطالة، بل يكمن تيقظ حاد، خلف الاطمئنان ، بحيث يستحسن سوليرز التحليل النفسي، رغم استخفافه بالمحللين النفسانيين وتأكيده على أن فرويد أضحى مُتجاوزا، بالتالي آثر مقابل ذلك تقديم الرأي السياسي، شريطة التعبير عنه في إطار بصمة للطريقة الفرنسية.
*صامويل دوك: ينبغي أن تنجزوا دراسة حول كتابات سوليرز … لأنكم لم تضيفوا شيئا في هذا الإطار منذ صدور رواية ''أعداد" (1968) وكذا "H" سنة (1973). لقد توقف الصحافيون عن القراءة، ولم نعد نعاين دراسات نقدية جادة.
*جوليا كريستيفا: ستبتسمون … يلزمني الاعتراف لكم ، بأني لست نزيهة. أعتقد بأن كتابة سوليرز، تندرج ضمن السلالة القوية لـ"الأقوال المأثورة'' عن الأخلاقيين الفرنسيين، حيث تتقاطع مفاجآت القصيدة، وسلاسة الطاوية ثم الحضور الكلي لجنسانية تنويرية، إنها كما يقول سوليرز بمثابة حركة ''المتحرك''. من هنا الفارق عن الروائي الاستعراضي، التي تخلق انطباع الجمود، الصمت، أو على العكس، أقصى درجات الإثارة. يلعب سوليرز ويسجل مثل بلاتيني أو زيدان، فلا يضيع أي فرصة نحو ''شباك مرمى'' الخصم خلال المباراة الكبرى للبشر. تجلى سلفا زخم هذا الفوران مع روايات "أعداد" (1968)، "قانون" (1972)، و"H" (1973) ثم جنة (1981). خلال تلك الحقبة، أمكنني القول بأن سوليرز يعتبر ''موزارت منتميا إلى منطقة التيبت''. ثم بالنسبة لأعماله الروائية الأخيرة: "رواية حقيقية" (2007)، "مسافرو الزمان" (2009) ، ''انفراج" (2012) ، "مدرسة اللغز" (2015)، ولاسيما "حركة" (2016)، هكذا تشتغل دائما نفس الحدّة ، التي لا يتخلى عنها سوى في مدينة بوردو أو لحظة احتسائه الويسكي (JB) … لم يغب عن ذهني قط بأن لوي مولينيي، جدّه من جهة أمه، كان بطلا لفرنسا في المسايفة. وبالفعل، فقد عاش فيليب سوليرز وكتب حقا مثل محارب.
*صامويل دوك: بدل الانكباب على قراءة أعماله، يعاتب البعض على سوليرز انخراطه في السياسة، بحيث يصطف عموما إلى جانب هذا الرأي أو ذاك. ما رأيكم في هذا التأويل؟
* جوليا كريستيفا: في الحقيقة، ساهم سوليرز في الحركة، حركة الحياة، الفكر، مثلما تريدون؛ وبما أنه فيزيائيا، وجسديا، يشعر كأنه من جماعة الجيرونديين (حزب سياسي عقي الثورة الفرنسية)، فقد شكلت السياسة، بالنسبة إليه، جانبا متمِّما لهذه الحركة، أي حركته. لذلك، كما تلاحظون، لايقف الأمر عند مجرد"اهتمامه بالسياسة''، بل يتذوق على الدوام من خلالها تشابك الحب والكراهية، بذرة التركيز، وجسد الكتابة. إنه شغوف بها. حروب ثم حروب العصابات بين السياسيين، فيستخلص هذا الوحش حربا للذوق … هكذا يجري الأمر: نعم يخفي المحارب بالفعل وحشا … أما عن اختياراتي السياسية، قد تتلاقى أحيانا مع اختياراته، وتتباين مرة أخرى، بالتالي لايتعلق الأمر أساسا بـ''رأي سياسي جاهز مسبقا"، لكن يتخذ النقاش انعطافا، بوسعنا أن نقول عنه، ميتافيزيقيا، إيستيتيقيا أو سيكولوجيا… .
*صامويل دوك: ليست غريبة عنكم ، إذا تجرأت على القول، هذه الحالة الذهنية.
*جوليا كريستيفا: ربما. ينبغي اعتقاد ذلك، وإلا انعدمت الرابطة الجامعة بيننا، ضد الرياح والتيارات. لكن ''تناظرنا'' معا ليس فظَّا، وعلى نحو كبير أقل عراكا، بحيث يعكس في كل الأحوال، تركيزا آخر.
*صامويل دوك: على أية حال لم تكن العلاقة التي نسجها سوليرز مع دومنيك رولان (عشيقة سوليرز فترة شبابه) سهلة الوقع بالنسبة إليكم.
* جوليا كريستيفا: لماذا؟ هي علاقة شغف ترسخت وتشكلت سلفا قبل لقائنا، مع امرأة تنتمي لجيل سبقني. كان لدي الإحساس بأنه موضوع عشق أولي، أمومي. تهم هذه العلاقة والدة سوليرز أكثر مني. لاسيما أني لم أشعر قط بأي غيرة نحو أمي، المقتنعة بأن أبي فضَّلني عليها وقياسا للجميع. حتما، اعتقادي بذلك يؤشر على عَرَض، إن لم يشكل على الأقل قوتي … استحال بالنسبة لفيليب، التخلص من نفوذ العلاقة الأولى، فقد كان ارتباطا جوهريا، ويدين سوليرز كثيرا إلى دومنيك رولان بخصوص المكانة التي يحظى بها اليوم. لقد صاحب فيليب دومنيك رولان بوفاء وكرامة غاية موتها …. ومثلما عَبَّرتُ سابقا، نمثل ضمن حياتنا المشتركة، زوجين-عاشقين: فأنا الزوجة-العاشقة، ثم فيليب بمثابة العاشق-الزوج. كنتُ المتطفِّلة، والشيء الشاذ، ثم المزعجة ضمن سياق الإفراط ذاته. وضعية، جعلت اغترابي استثنائيا لا يمكن تعويضه. غير قابل"للتعويض" يعني، غير مُدانة ولا مُجبرة، بل شعرت أني تخلصت من أغلال ضمير الأنا الأعلى، واستسلمت لخصوصيتي". واتضح بأن الانفراد منبع الحرية. لا تلزمني شبكة معينة ؛بل أرتبط بأخرى جديدة، أشارك، أنخرط، أن يُنظر إلي بعين الاعتبار، أو غير ذلك ، قد تذهب حدود التقدير غاية تتويجي والاحتفاء باسمي، لكني أظل دائما منفصلة و"غير نمطية''. ينطبق نفس الوضع على فيليب، لكن بكيفية أخرى. تحدث هذه التوافقات بين اغترابين صدمة مثل بداهة اللقاء العاشق: هكذا الأمر. دون أن يشكل هذا رأيا، فأنتم تنتمون إلى "شيء ما'' طبيعي وتاريخي كالألب أو فيرساي، تعرفون مدى تذوقي للمجازات الهائلة … خاصة عندما يسمو الاغتراب نحو كونه تجربة وحظا.
*صامويل دوك: هل واجهتما معا، وبكيفية مختلفة، منع ارتكاب المحارم.
* جوليا كريستيفا: أقلية هم الرجال الذين لايخشون المرأة، حدّ تحملهم، أبعد من الانتشاء الجنسي، هذه العلاقة المتبادَلة، ذات الدينامية الحرارية، وكذا بين اختلافين غير قابلين للتصرف فيهما. مع حب متبصر، قد يقوم "بين طيات الحب نفسه''، بالتشديد على كلمة حب، ذلك المتعلق بالأحاسيس المحتشدة، والتي سخرت منها العظيمة غابريل كوليت. الذين يعتقدون بوصولهم إلى ذلك يختبرونها بشكل عام حسب استيهام تدنيس حظر المحارم المُؤَسِّس للبشرية، وشهادة جورج باطاي قوية بهذا الخصوص. ليست حالتي. لأني أتدبر أمر عقدتي الأوديبية الأبوية والأمومية بوسائل أخرى لاتقل إفراطا: يأخذ مناحيه عبر المنفى، والالتزام الثقافي. ثم يكتمل هذا المسار دون نهاية مع التحليل النفسي: تحويل، توضيح، تسامي. بالتالي، أنا من صنف النساء اللواتي يرغب الرجال في الزواج بهن. طبعا، المسألة غير مطروحة، بحيث انتهى الأمر وبكيفية مطلقة. لارجعة فيها.
* صامويل دوك: ورد في روايتكم ساعة الحائط المبتهِجة، بأن الزمن هو الشخصية المحورية للثنائي العاشق.
*جوليا كريستيفا: فعلا. لكن كيف؟ باختلافاته وكذا استقلاليته، فلن يستمر الثنائي سوى إذا صار عنده الاهتمام مقوما جوهريا. لكن دون خلطه بالأمومة . يشكل الاعتماد المتبادل تجربة تقع على كاهل الجنسين. تقوم في قلب التَّأنسن، ولاشيء أقل، حسب اعتقادي!ينبغي الوعي بازدواجية الاندفاعات اللاإرادية وكذا الأهواء: تعلُّق وعدوانية، حب و كراهية، تحويلها إلى صلة، ثم إمكانية التكلم والتفكير. يشتغل الاعتماد المتبادل ضد النفوذ الأمومي، حتى يصبح الانفصال على العكس، ممكنا ويتيح الاستقلال الذاتي لقاءات جديدة. أستمع إليك، تستمع إلي، أصغي إليك، تصغي إلي، وضع يغيرنا. تثق في. أتعدد. أنتَ تنضج. علاج يتجدد. في إطار الاعتماد، تكمن''الثقة'' و''إعادة بدء'' للصلة.
*صامويل دوك: تركزون كثيرا حول الفرادة، بحيث لديكم هذا المفهوم، لكن أي فرادة تقصدون، ثم كيف ترون تلك المتعلقة بكم؟
*جوليا كريستيفا: انتفاء لأي جماعة، أو عشيرة، أو انتماء أو طائفة فلا جدوى من ذلك. أيّ ادعاء؟ أعلم جيدا! وقاء نسجه المنفى. عندما تجدون أنفسكم وسط فضاء مثالي (باريس، فرنسا، مثلا) لكنه باردا، منغلقا، إن لم يكن عدوانيا، تعلمون لحظتها بأنه فقط يلزمكم الاعتماد على ذاتكم. لا أسرة، لا جذور، لا شيء تخسره، ثم بعض الشعارات التي تلهمنا الطاقة والسند: "لا شيء في جعبة البروليتاريا كي تخسره سوى أغلالها'' (ماركس)؛ ثم تأويلي النسوي للمقولة، لا يوجد شيء لدى المرأة لتخسره، اللهم قيودها. أو كذلك: "لا شيء تمسك به اليدان، بالتالي لا شيء تطويه جيوبك'' (سارتر). أو: "لا تعتمد سوى على نفسك'' (ماو). فضلا عن ذلك، كنا على هذا المستوى متشابهين كثيرا، سوليرز (الجيروندي)، ثم أنا (البيزنطية) وسط فرنسا منشغلة بحرب الجزائر، تعيش أوج انهيارها الفكري، وقد أثارته الرسائل الفرنسية لصاحبها أراغون وكذا سيرة غابريل بيري ''أيام الغد العذبة''… بحيث مثلت عناوين ثائرة على التكتلات، أو الشبكات، مثلما نقول اليوم.
إذن بالنسبة لوضعية تفتقد للجاذبية مثل الآنفة الذكر، لا يبقى من خيار سوى التفاني حتى النهاية. تحمس جاف، عفوي، متطرف، خلق لدى البعض انطباعا بأن حلقة ''تيل كيل، مجموعة إرهابيين''. يبقى التأمل ، منيعا وحارقا، لكنه لا يعيبه أن يكون مُقْتسما، وبالتالي مدعوما حسب، هذا المعنى. أحيانا، على قاعدة سوء الفهم، لكن أيضا نتيجة انجذابات عاشقة، نحو لغة دلافين مرموزة ، عويصة بالنسبة لهؤلاء ''المطمئنين''، وأصحاب القرار، ثم المتخاطبين …. كان الاتصال أول بعد ترددات، مع عائلة فيليب. ثم رولان بارت، الذي أبان عن استئناس لا يوصف، وأضفى دلالة جديدة، أوسع، على الغريبة، والغرابة: أيهما؟ غربتي؟ أو تلك المتعلقة بحالة الكتابة، حينما ننغلق ويحدث التقاسم في إطار الحميمي؟ ثم لوسيان غولدمان، ماركسي لوكاتشي، باسكالي ملحد، بنيوي جدلي. وإيميل بينفنست، لساني صارم والموقِّع أيضا على عريضة للسورياليين. والناشر كلود دوران، الأشبه بالإليكترون فيما يتعلق بحرية النشر …. إذن مثلما تلاحظون ركام تناقضات، أخذت طريقها نحوي والعكس بالعكس.
علاقات تضامنية عفوية، متقطعة لكنها فعالة، تجاوبت مع هذه الطاقة المسافرة، التي ربما انتهت إلى الاخفاق، لو لم تجد أمامها تلك العلاقات. بفضل تلك الأسماء التي ذكرتها، تطورتُ غاية الوقت الحاضر سواء داخل فرنسا أو خارجها. نماذج غير مألوفة، ولامصنفة، استمرت على هامش أسرهم الخاصة أو جمعياتهم الأخوية: مثليو الجنس خارج جماعة الضغط اللوطية، يهود مستقلون، ماسونيون غير مطمئنين، كاثوليكيون مضطربون. ينتفي "الوسط'': بل، مؤثرات جاذبة تعمل وتضمحل، تغفو وتتأجج. مثلما ترون، تعتز الأجنبية بكونها كذلك. ثنائي (جوليا/ فيليب) غير نمطي ومنعزل، ثم التاريخ المتعدد عبر تجربة الكتابة.
*صامويل دوك: الباعث على الاسترخاء، هذا الانطباع بأن الحياة، الوجود، تجسد مختبركم. مع ذلك، وكما تعلمون، فتأويل أو تحليل إحدى الأعراض لا يقوم دائما، مقام الألم الذي يحدثه. أتذكر من خلالكم فرجينا وولف، المشبعة بالأحاسيس خلال كل لحظة، اندمجت ثم امتدت في الزمان واستحوذت على العالم.
*جوليا كريستيفا: ربط غريب، بحيث أثرتم فزعي! فيرجينيا وولف، الفريدة من نوعها! لا تنسوا بأنها انتحرت. أما أنا فلست بعد مستعدة لذلك. ولن أكون قط كذلك. حاولت "نيفي" الشخصية التي تمثلني في رواية ساعة الحائط المبتهجة، إغراق نفسها، لكن ''تيو'' أنقذها. مع ذلك، أفهم طبيعة حساسيتكم من المنفى المقزِّز، قد يتحول عند المكتئب إلى إحساس قاتل بالدونية، ثم العدوانية، التي تعود إلى الداخل، نحو الذات، حينما لاتتسم بالهمجية ضد ''الأصول البناءة''. بل على العكس، ينصب تركيزي حول الاغتراب المتمرد لفيليب، وكذا اغترابي المنعرج، إذا أمكنني القول: إنه يثور، بينما أتعدد. لا أعتقد بوجود بديل عن إشارتكم بخصوص عرض المرض والألم المترتب عنه. يمكن تفكيك هذه التجارب والارتقاء بها على نحو لانهائي. يوجد عدد من الوسائل لتجنب الاكتئاب المرضي تقريبا، سبق لأرسطو الاستدلال عليها.
هكذا تبرز الدهشة نفسها! عند أساس القلق الفلسفي. ألا تعتبر الحضارات المفتقدة للاغتراب، حضارات ميتة-حية؟ يمثل احترام الاغتراب – سواء اغتراب الآخر أو الذات - رئة، والطريقة الوحيدة للتنفس. في هذا الاطار، أكد السياسيون المتبصرون: أن أوربا غير موجودة قط دون أجانبها. لكن لا يكفي مجرد إعلان عن ذلك، بل ينبغي تجسيده ونعيشه على أرض الواقع. شخصيا، قادني التحليل النفسي الفرويدي نحو اكتشاف فوائد الاغتراب، ثم تطويرها بوسائل جديدة: التسامي، الكتابة. هكذا يستمر السفر. مع ذلك، أعترف أنكم ترصدون الأمور بكيفية دقيقة. لقد ترددت فيما يتعلق بمشروعي المتعلق بالعبقرية النسائية، الاشتغال على حلقة ثالثة مخصصة لفيرجينيا وولف، العمل الذي انغمست فيه، أو الجزء الآخر المخصص لغابريل كوليت حيث نشطت همتي. بيد أني فضلت الزهد الحسي، عندما يقارب إحباطي أقصى مستوياته.
يخاطب مجرى التحولات وكذا الإيحاء المباغت للغامض، رخاوتي الليلية فأتقاسم بعض تأكيدات حلقة البلومزبري (مجموعة من الكتاب والفنانين البريطانيين كانت فرجينيا وولف مركزها): "أن تكتب يمثل سعادة حقيقية، ثم أن تُقرأ يبقى مجرد سعادة سطحية"، "أن تكتشف نفسك رأسا لرأس مع الشعر والفلسفة، يجعل الخيال أفضل''. وأناقش أشياء أخرى: "تقوم عزلة، حتى بين الرجل وزوجته، فجوة؛ وينبغي احترام ذلك طبعا، لكني أجدِّد العزلة وأقفز فوق الفجوة. أو أيضا: ''الحياة حلم، بينما اليقظة تقتل''. ربما، أو العكس: الحياة تيقظ دائم، غياب الحلم يقتل. أرتعش وأنا أقرأ الرسائل الأخيرة لفرجينيا وولف: تسمع أصواتا، تحس بأنها أصبحت مجنونة، و"لايمكنها الاستمرار في المقاومة''.
لكني لا أقاوم سوى ظاهريا؛ بينما ألتجئ جوهريا صحبة كوليت إلى جسد العالم: "الحب، إحدى أكبر الأشياء ابتذالا في الوجود، انسحبْ مما يخصني. أخرجْ من هنا، وسنلاحظ بأن ماتبقى مرحا، متنوعا، متعددا". "تتمثل بالنسبة إلي المأساة الأساسية في هذه التجليات المزهرة ، أفضل من الموت التي ليست غير إخفاق مبتذل''. وأيضا، هذه الشعيرة "الكلمة أكبر من الموضوع''، التي يبثها الملحد المتلهف كي يقنعنا بأنه لا شيء يجدر القيام به سوى الكتابة: "تكفيني كلمة من هذا النوع لإعادة بعث رائحة، وكذا لون الساعات المنقضية، إنها رنانة ومفعمة وكذلك ملغزة مثل صَدَفَة يتغنى البحر من خلالها".
* صامويل دوك: أفكر في مود مانوني (محللة نفسانية)، التي ركزت على ضرورة كبت الغريزة وإنعاش النرجسية.
*جوليا كريستيفا: بالتأكيد، مود مانوني. صديقة كبيرة، كنتُ ضمن أعضاء لجنة مناقشة أطروحتها تحت إشراف بيير فيديدا. بعثتْ إلي أولى الحالات المتعلقة بالعلاج النفسي التحليلي للمراهقين، المنتمين آنذاك لمدرسة اختبارية توجد في منطقة بونوي. لكن يلزمني التأكيد: إن تخلص التسامي بالشعور العاشق بفضل الكتابة من ''ابتذاله'' (الذي تحدثت عنه كوليت)، فإنه يختلف جذريا أيضا، عن خيمياء العلاج. لنقول، من باب الاختزال، أنه مع التجربة التحليلية، فالإثارة الجنسية ''لاتبتذل'' ولا ''تتجمَّل''. لايشبع المعالج النفساني غرائز وكذا رغبات الذات الخاضعة للتحليل؛ بل يؤجلها، ويكبتها وفق هذا المعنى. مع ذلك، بفضل صلة التحويل/ والتحويل المضاد، يرمِّم التحليل النفسي الجروح النرجسية، ويبعث القدرة على الحب. يتأتى هذا، نتيجة التداعي الحر للشخص الخاضع للتحليل وكذا تأويل المحلِّل. النجاح الدائم للتحليل! مسألة نادرة، لكنها واردة.
هذه الصلة النوعية بين المعالِج والمعالَج، التي تخيلها فرويد، بمثابة رواية أخرى عن الحب. بشكل مفارق، لازالت غير معروفة كثيرا لبنات هذه التجربة التحليلية، ولم يتم تطويرها والتنظير لها كفاية. لقد خصصتُ حلقتي الدراسية داخل جمعية التحليل النفسي الباريسية للتأويل؛ وكذا دوره في القدرة على الإحاطة بالآخر. يبدأ بتعاطف المعالِج مع المعالَج، ثم يتواصل بإفصاح الكلمات عن صدمات قديمة وكذا انفعالات حالية: إصغاء، ثم صياغات تقتضي كثيرا من المهارة. الحصيلة، يعمل التحويل على التأليف في خضم هدم المحركين الأساسيين للعلاج، ويصاحب غريزة الموت التي تهدد تكامل المتدخليْن: المعالَج و المعالِج. تهديد اشتكت منه فرجينيا وولف مؤكدة عجزها عن المقاومة. بينما بادرت مود مانوني إلى مجابهته: تعالج ذاتها، عبر معالجة اعتلالات هؤلاء المراهقين وتوقظ إبداعيتهم، لأنها توجد عند الأكثر هشاشة.
*صامويل دوك: النزوع المدمِّر الذي وصفتموه في قلب العلاج يحاكي مانعاينه لدى الطفل، الذي يكسر أشياء من أجل اختبار حقيقة أشكال متعلقة بالقرابة، مثلما أوضح دونالد وينيكوت. ثم كشف عن إبداعية المحركيْن الأساسيين منذ العلاقات المبكرة: أمّ– طفل.
*جوليا كريستيفا: إن تأتى لنا، عزيزي صامويل، إدراك أعماق هذه الحياة النفسية التي يكشف عنها التحليل النفسي، فليس لمجرد انتمائنا معا إلى هذا الحقل. كيف نواصل هذه ''البيو'' التي تبرز مع نقاشاتنا الثنائية، إذا لم نستعد النزاعات العنيفة التي تحرك العولمة وتفرض علينا الذهاب أبعد من السرمدي حيث ينصحنا بـ"احترام الآخر"؟ ''العيش مع الآخرية /الغرابة/ الخصوصية"، المتجلية في التحويل/ نقيض التحويل، موقف يظهر إلى أي حد يجهل العلاج السياسي والتربوي، البعد الوجداني للروابط، ويبقى عاجزا، منحصرا عند سطح الأزمات الأساسية. الحياة الثنائية –أعود إلى التحويل داخل الثنائي- تابعة لأعماقها، ومرتبطة بها. بل تجددها أيضا بإضافة ''التيار الناعم" إلى الاستهلاك الوافر للطاقة نتيجة الإثارة الجنسية. إذن، يأخذ تجاور الحياة والموت صيغة ضمن المفهوم المحتمل عن كائن غير متوقع وعابر، الطفل، القادم الجديد.
مصدر الحوار:
جوليا كريستيفا: حوارات مع صامويل دوك . منشورات فايار. 2016 . ص: 111 -145