عرف القرنُ المنصرمُ دراساتٍ عديدة حول المخيال l’imaginaire وتأثيره على الفرد والجماعة. وإن أول مَن تطرَّق إلى المخيال، في الحقيقة، هو أرسطو، معبِّرًا عنه بكلمة phantasma؛ وقد أخذه عنه الفلاسفة العرب، كالفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، وعبَّروا عنه بكلمة "فانتاسيا". أما الفلاسفة المعاصرون الذين اهتموا بهذه المسألة فنذكر منهم كانط وفيخته وشلِّنغ وغيرهم. ومع تطور علوم النفس والدراسات الأنثروپولوجية، توسعت الدراسات وظهرت بحوث جديدة، كتلك التي قام بها جان پول سارتر وجلبير دُوران. وقد أولى المفكر اليوناني كورنيليوس كاستورياديس الموضوعَ أهميةً خاصة، حيث خصَّص له كتابًا بعنوان التأسيس الخيالي للمجتمع.
ما المخيال؟
يقول ابن رشد شارحًا أرسطو: «محال أن يكون الخيال [= المخيال] ظنًّا أو حسًّا أو علمًا أو عقلاً، وعمومًا، أيًّا كانت من ملكات العقلانية. فهو ليس متركبًا من الظنِّ والحسِّ، كما يقول بعض القدماء. [...] فجلي أن الخيال ليس ظنًّا مقترنًا بحسٍّ ولا بملكة مركَّبة من الظنِّ والحس. إذن الخيال ليس إحدى تلك القوى ولا مركبًا منها»(1). ويقول في مكان آخر: «إن المعاني الخيالية هي محرِّكة العقل، لا متحركة. [...] فالخيالات هي ضروب من المحسوسات عند غياب المحسوسات. [... إذن] فالإيجاب والسلب في غير الخيال. [...] فالعقل يجرِّد التصور ويخلقه»(2).
أي أنه يجعل الصورَ التي تتخيلها النفس psyché معقولةً، وهذا بخلاف ما يفعله العقل القابل أو العقل المنفعل. وأرسطو، في كتاب النفس، تطرَّق إلى المخيال: فهو يرى أن "الفانتاسمات"، بالنسبة إلى النفس العاقلة والمفكِّرة، هي مثل الأحاسيس عند غياب الأحاسيس؛ ولذلك يستحيل على النفس أن تفكر من غير "فانتاسما". وإذن فالمخيال، في نظر أرسطو وابن رشد، شيء مخالف للإثبات والنفي، الصواب والخطأ.
الإنسان كائن بيولوجي نفسي اجتماعي تاريخي. هناك مَن يحاول اختزال هذه المستويات إلى جانب بعينه، كأن نتصور أن التفاعلات الكيميائية أو البيولوجية العصبية neurobiologiques تحدِّد سلوك الأفراد، أو أن الجينات تحدِّد الصفات والخاصيات، إلخ. فرويد يعتبر أنه حتى إذا أمكن للإنسان اكتشاف الأسُس العصبية والبيولوجية للظواهر النفسية كلِّها فإن ذلك سيسمح لنا، على أحسن تقدير وفي أقصى الحالات، بمعاينة المواقع localisations الخاصة بهذه الظواهر وبتحديدها، لكنه لن يعطينا البتة فهمًا لـ"معنى" sens هذه الظواهر؛ إذ إن تركُّب المستويين الاجتماعي والنفسي على المستويين البيولوجي والكيميائي لا يسمح لنا باختزالهما وربط ذلك بمفهوم وظيفي.
إنَّ "المخيال الجذري" imaginaire radical يتجاوز الجانب البيولوجي: فهو منبع للتخيلات والإرادة والمُهَج affects؛ وهذا ما يميِّز الكائن البشري عن الحيوان. لذا يستحيل القبض على المخيال الجذري للفرد واختزاله إلى الدلالات المخيالية الاجتماعية المهيمنة. فهو يتمثل الأشياء ويصوِّرها، لكنه لا يتوقف على ما فيها من دلالات معهودة ومألوفة؛ وهو يعيِّن من جديد، ومنه ينبثق الآخر والمغاير. فكل تفكير هو تمثُّل وصياغة، ولا وجود لعقل دون مخيال، أو كما يقول الفارابي: "لا وجود لعقل دون فانتاسيا." وهذه الأخيرة لا تعرف الحدود ولا تستقر على أيِّ تحديد عقلاني:
الفانتازما لا يريد الحياة الوهمية، بل إنه يخلق عالمه الحقيقي. [...] فنحن نقول هذا سلوك إنساني [...] ولا نقول ذلك عن الكلب مثلاً، والمسألة تتجاوز البلاغة أو اللعب على الألفاظ. إننا نخلق إنسانيتنا، والعقل وحده [مختزلاً إلى عقلانية ومنطق خالصين] لا يجعل منَّا بشرًا(3). فالعقل والمخيال صنوان، ولا يمكن لنا الفصلُ بينهما وفَرْزُ ما هو راجع إلى "العقل الخالص" مما هو مخيالي: لقد أثبتت الدراسات البيولوجية العصبية المعاصرة أن مراكز المنطق مرتبطة مباشرة بمراكز التخيل والإرادة والإحساس. لذلك لا يستقيم الحديث عن العقل السياسي، مثلاً، كنقيض للمخيال السياسي أو عن معقول عقلي كنقيض للامعقول العقلي(4). لأن ذلك يفترض وجود عقل خالص شفاف وعقلانية مجرَّدة من كلِّ مخيال.
لا يمكن، إذن، فصل العقل عن المخيال: فهما وجهان للعملة نفسها. بيد أن الإنسان ينشئ الدلالات المخيالية والرموز، لكنه يتوهم أن هذه الدلالات متعالية أو هي حصيلة قوانين موضوعية تاريخية؛ إنه ينشئ الدلالات المخيالية ويحيلها إلى قوى خارجة عن إرادته، فيصبح أسيرًا لها. إن الإنسان بمفرده غير قادر على الحياة؛ والنفس لن تقدر أن تتحول إلى فرد إلا بقدر ما تخضع لسيرورة اجتماعية، بدءًا من الأم ومرورًا بسائر المؤسسات الاجتماعية. فالعالم الاجتماعي أو المجتمع هو عالم دلالات ومعانٍ يضع ويؤسِّس من عدم. وعندما نقول ذلك فنحن لا نعني أن هذا الخلق غير مشروط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية، أو أنه يقع بغضِّ النظر عما هو موجود ومتوفر وعن الماضي، بعيده وقريبه؛ إلا أن هذه الشروط لا تفعل في عملية الخلق هذه فعلاً سببيًّا. فالشروط نفسها يمكن لها أن تؤدي إلى إمكانات تاريخية متباينة.
وكما أنه لا يمكن اختزال الاجتماعي إلى النفسي والنفسي إلى البيولوجي، فإن المخيال الاجتماعي كذلك لا يمكن تلخيصه في مجموع الإفرازات المخيالية الفردية. فعندما يتعلق الأمر بمجتمع بعينه فإن المسألة تتخذ بُعدًا أكثر تشابكًا وتعقدًا. فالدلالات المخيالية لا تنحصر في تمثلات représentations أو مفاهيم أو أشكال، بل هي إفراز تاريخي متواصل يبني المجتمعات والثقافات. والدلالات لا تحيل إلى أيِّ واقع أو فكر عقلاني محض. تتجسد عملية خلق المجتمعات وتأسيسها، إذن، في وضع دلالات significations مخيالية تفلت من كلِّ تحديد عقلاني صرف، ترتبط بالكائنات والأشياء والمجتمع بعلاقات رمزية، فتحدِّد الغايات وتعطي لكيانها معنى وتختص بميول عاطفية ومُهَج.
تأسيس المجتمع يهدف، في الأساس، إلى الحفاظ على اجتماعية النفس وإنتاج أفراد يتطابقون مع هذا التأسيس ويندمجون فيه. إن الدلالات المخيالية الاجتماعية تعبُر نفسية الإنسان، تطولها في عمق أعماقها، وتكيِّف سلوك الفرد، سواء تعلَّق الأمر بمعتقداته، بنشاطه الفكري والعلمي، بعلاقته بالناس والمحيط والكون، أو بمواقفه من الحياة والموت. إلا أن هذا التأسيس هو، في حدِّ ذاته، تغيير، بما أن وضع الدلالات المخيالية نفسه يفترض تجاوزًا لدلالات أخرى. فالتأسيس الاجتماعي لا يمكن له أن يقبض على النفس الفردية ويدمجها كليًّا في المجتمع على نحو تطابُق تام. فلا بدَّ للمجتمع من أن يسمح للفرد بإيجاد معنى للدلالات الاجتماعية المؤسِّسة؛ كما أنه يترك للفرد حيزًا خاصًّا ويفسح له حدًّا أدنى من المجال للنشاط المستقل والإرادة:
فالمجتمع لا يمكن له أن يقبض على النفس بصفتها مخيالاً جذريًّا(5).
وكما أن النفس لا يمكن اختزالها إلى الدلالات الاجتماعية فإن هذه الدلالات لا تحيل رأسًا إلى النفس. فالعلاقة بينهما جدُّ معقدة ومتشابكة. المجتمع يسمح بمجال خاص للنفس؛ وذلك شرط من شروط تكيف الثانية مع الأول واندماجها فيه. فمع أن ظاهر المجتمعات هو التواصل والتكرار فإن الحقيقة العميقة هي أنها تعيش يوميًّا تغيرات وأنها حُبلى دائمًا بالجديد والمغاير. فلا وجود لتأسيس نهائي ونمط تنظيم مكتمل البناء. هناك تفاعل بين المخيال الجذري المؤسِّس وبين المجتمع المؤسَّس، بما أنه لولا ذلك المخيال الجذري لما وُجدت مؤسَّسات وقوانين ودلالات. المخيال الجذري، الذي يتمثل الأشياء ويصوِّرها، لا يتوقف على ما فيها من دلالات معهودة ومألوفة؛ فهو يعين من جديد ومنه ينبثق الآخر والمغاير.
المخيال بين المجتمعات الهيتيرونومية ("المكبَّلة") والديموقراطية:
يقودنا الحديث عن المخيال وعن دوره في تأسيس المجتمع والتاريخ إلى مسألة أخرى، ألا وهي المجتمعات "التقليدية" traditionnelles. نرمز بهذا المصطلح إلى المجتمعات التي تؤسَّس على قاعدة مرجعية مطلقة يستمد منها النظام السياسي–الاجتماعي شرعيته ويعتمدها كمصدر للتشريعات والأخلاق والعلاقات:
باستثناء المجتمعات اليونانية الغربية فإن المجتمعات تأسَّست على قاعدة الانغلاق ومبدأ السياج الكامل. فالمجتمع المنغلق يعتبر أن نظرته إلى العالم هي وحدها صحيحة وذات معنى. كل المواقف الأخرى تبدو غريبة، أقل قيمة، غير متماسكة، غير مقبولة، عديمة. «[... وحتى وإن] تمكَّن بعض أفراد هذا المجتمع من فهم بعض سمات المجتمعات الأخرى فالسبب في هذه "العالمية" [أو الانفتاح على المجتمعات الأخرى] لا يعود إلى العقلانية، بل إلى قدرة هذه الأفراد على التخيل الخلاَّق»(6). أي إلى قدرتهم على تصور شيء مخالف ومغاير وغير معهود. ولكن مادامت هذه هي مميزات المجتمعات التقليدية المنغلقة على ذاتها، التي ترفض أيَّ تأويل مخالف للنظرة السائدة فيها ولا يندرج ضمن دلالاتها، كيف نفسِّر الشروخ التي أصابت هذه الدلالات وأدت ببعضها إلى الانهيار؟ بماذا نفسر، مثلاً، انهيار سلطة الكنيسة؟
كما سبق أن قلنا، لا يمكن للدلالات المخيالية الاجتماعية أن تقبض على النفس. فوجود علاقات رمزية مع الموجودات يعني أن هذه الأخيرة لا تتطابق مع الدلالات. كما أن هذه الأخيرة، يبقى السؤال مفتوحًا حول مدلولها. نسوق هنا، على سبيل المثال، السؤال الذي مافتئ يحيِّر أفراد المجتمع: هل الإنسان مجبَر في أفعاله أم مخيَّر؟ المخيال الجذري للأفراد لا يكتفي بالتقبل والاندماج، بل يتجاوز ذلك إلى تخيل الجديد والمغاير وابتكاره. إن الأثر الفني والفكري والثقافي العربي الإسلامي، على سبيل المثال، من بناء ونحت ومعمار وشعر وأدب وفلسفة، لا يتطابق تمامًا مع الفكر الرسمي، بل يتعارض معه أو يستقل عنه في بعض الأحيان.
إن الحاكمين الذين يسوسون الدولة والأمة يقومون بذلك بصفتهم بشرًا، لهم رؤى ومصالح خاصة – لا تمثل المصالح الطبقية سوى أحد أبعادها –: مصالح فردية، قبلية، عشائرية، طبقية، جِهوية، ورؤى عصبية، مفاهيم وتأويل للأصل المؤسِّس متضاربة. ذلك كله يجعل الدلالات معرَّضة للاهتراء والتآكل وقابلة للتجاوز. لكن ذلك لا يقع بصفة آلية وفق قانون تاريخي معين؛ فهي ليست بمواد بيولوجية قابلة للتحلل biodégradables! إن ذلك ليس قدرها المحتوم: فكل تغيير للدلالات مرهون بتأسيس جديد وخلق بشري مغاير؛ ومادام هذا الخلق لم يَرَ النور فإن هذه الدلالات المخيالية يمكن لها أن تُستعاد وتُستحضَر في صيغ وصور مختلفة.
ولأن اليونان، ومن بعده الغرب، تجاوزا، عن وعي، هذه المؤسسات التقليدية، ونفيا وجود مرجعية مطلقة يستمد منها الجهاز السياسي والاجتماعي والثقافي سلطانه وشرعيته، كانت الديموقراطية، وكانت المساءلة والعود إلى الذات ومراجعة المسلَّمات، وكانت الفلسفة، ونُزِعَتْ عن المؤسَّسات الدينية قدسيتُها:
إن نزع القدسية عن مؤسَّسة المجتمع قد حصل في الرأسمالية منذ القرن التاسع عشر. فالرأسمالية هي نظام يقطع ظاهريًّا كلَّ علاقة ورابطة بين المؤسَّسة الاجتماعية وأية سلطة خارجة عنها. الرأسمالية لا تعترف إلا بالعقل la raison الذي تعطي له مفهومًا خاصًّا. لكن وجهة النظر هذه مشوبة بغموض كبير حفَّ بثورات القرن الثامن عشر والتاسع عشر. فمن ناحية، هناك اعتراف بأن قانون تطور المجتمعات ينبع من نشاط المجتمع ذاته [لا وجود لقوانين متعالية وقدر محتوم وقوة خفية خارجة عن إرادة المجتمع – المجتمع مسؤول عن اختياراته ومؤسساته وهو منبعها]، ومن ناحية أخرى وفي الوقت نفسه، يستند قانون تطور المجتمعات إلى طبيعة عقلانية أو "عقل" طبيعي يمتد على كامل التاريخ [هناك قانون يحكم تاريخ المجتمعات وتطورها، "عقل تاريخي" ينسحب على الفترات كلها]. إنه الوهم الماركسي نفسه. فأن يكون التاريخ قَدَرًا تقف وراءه قوى خفية متعالية أو قوانين تاريخ موضوعية فهذا يعني أن التاريخ يُملى على البشرية(7).
لقد كانت الثورة الديموقراطية الغربية تجاوُزًا لسلطة الكنيسة، أعيد فيها اكتشافُ الديموقراطية اليونانية والأوتونوميا autonomie (الاستقلالية الذاتية). لقد حملت هذه الثورة دلالة مخيالية جديدة لم يعرفها اليونان من قبل ولا حضارات العصور الوسطى: إنها وهم التحكم العقلاني اللاَّمحدود في الكون والطبيعة. لقد امتلكت الإنسانية فكرة السيطرة على الكون وعلى التاريخ وتوجيهه الوجهة التي تؤول إلى "التقدم" و"النمو" ومراكمة القوة، وصولاً إلى إخضاع الطبيعة والمحيط؛ فكانت الحاجة إلى سلطة مركزية وظهور "وهم الدولة–الأمة". وإذا بالإنسانية جمعاء مطالَبة – طوعًا أو كرهًا – بأن تسير في حركة خطِّية متصاعدة موحَّدة. فالدلالة المخيالية التي تقول بالتحكم اللامتناهي للعقلانية على الكون وإخضاعه لا تعترف إلا بالحساب والتحديد الكمِّي. من هنا كان على الشعوب "المتحضِّرة" و"المتقدمة" أن تعمل على "تحضير" الشعوب "المتخلِّفة" لتُلحِقَها بالمسيرة الإنسانية؛ ومن هنا ظهرت المغامرة الاستعمارية وصعود الفاشية.
نحن اليوم، وبالأخص خلال الثلاثين السنة الأخيرة، نعيش ارتدادًا لدلالة "الأوتونوميا" وشيوع وتقدُّم وتغلُّب الدلالة الداعية إلى التحكم في الكون وإخضاعه لعقلانية rationalisme تحولت إلى "عقلنة" rationalisation، وذلك بفضل ما تسمح به التكنوعلوم التي تُعصَم من كلِّ نقد وتُنزَّه وتقدَّم على أنها محايدة وأنها "ملاذنا الأخير" ووسيلتنا لتحقيق مجتمع الرفاه والحرية.
إن أزمة الديموقراطية وما يسمِّيه كاستورياديس بـ"صعود اللاَّمعنى" (وهو عنوان كتاب) يقدَّمها بعض الأصوليين أو المفكرين التراثيين العرب ذريعةً لكي يستنقصوا من الديموقراطية، مدَّعين أن «[...] لكلِّ مجتمع نمطه وآلياته الخاصة في ممارسة السلطة والحرية(8)، ومشكِّكين في حقيقة التجربة الإغريقية–الغربية، مصرحين بأنه [...] قد تم اختراع اليونان المعجزة وفق نموذج التأصيل الغربي»(9)، أو بأن حضارة الغرب هي حضارة القوة والصراع وتسلط الإنسان على الإنسان. [...] إنها حضارة جباية وحقد وعدوان. [...] بينما نرى حضارتنا حضارة إنسانية، حضارة رحمة وحبٍّ وهداية واحتساب واعتراف بالآخر، وليست حضارة حقد وصراع(10).
بيد أن تتحول الدول الصناعية إلى قوى استعمارية هيمنية لا علاقة له بالديموقراطية في شيء: فالذين يرفضون الديموقراطية بدعوى أنها مفهوم أتت به البورجوازية الصاعدة في الغرب لبسط نفوذها وسيطرتها يخلطون بين الديموقراطية والديموقراطية الشكلية. [...] فتقدُّم الديموقراطية لا يعود إلى نزعة تحررية لدى البرجوازية، بل إن هذه الأخيرة جهدت وعملت ما في وسعها لوضع حدٍّ لنموِّها وتوسعها. ففي القرن التاسع عشر، عملت البرجوازية على تحديد وتعيين ما سمته بخيرة المجتمع la bonne société داخل الشعب الواحد، هذه الفئة المؤلَّفة من أناس لهم القدرات والشرف. [...] لقد قاومت الاقتراع العام وحرية تجمُّع العمال(11).
الديموقراطية هي تخلُّص المخيال الجذري من أيِّ تحديد خارجي، هي اعتراف ضمني وصريح بأن الفرد والمجتمع هما المنبع ومنهما ينبثق المعنى. ومن هنا يبرز الاستقلال عن المرجعيات والوثوقيات وحرية الاختيار والحكم والقرار. وهذا ما يفصل المجتمعات الديموقراطية عن المجتمعات التقليدية.
المخيال والتاريخ:
الظواهر المعاصرة كلها تشير إلى أننا نمر بمرحلة حافلة بالتقلبات، محفوفة بالمخاطر، تستوجب منا التوقف وإعمال الرأي ومساءلة التاريخ. في خضم هذا الغموض والفوضى تتعالى أصوات، بعضها يدعو للرجوع إلى الماضي، فيما يطالب بعضها الآخر بعقلنة المسيرة البشرية وضبطها بأخلاقيات وقوانين، ويعلن بعضها الثالث "نهاية التاريخ" (فوكوياما)، مبشرًا بانتصار ساحق للنيوليبرالية الفاحشة.
إننا اليوم أمام سؤال تاريخي لا يقبل بأنصاف الحلول والأجوبة: إلى أين نسير؟ هل هذا الاتجاه محتَّم على البشرية؟ ألا يحق لنا أن نساءل الماضي، القريب والبعيد والحاضر، لكي نضيء طريق المستقبل؟ هل ننفض عنا غبار الماضي ولا نعبأ إلا بما سيحل ويأتي؟ هذه التساؤلات كلها تحيلنا إلى قضية واحدة: ما معنى التاريخ؟ ما تاريخ الشعوب والحضارات والأفكار والفنون؟ كيف يخلق الإنسان تاريخًا ومؤسَّسات ومجتمعات وحضارات؟ هل نجزم، كما فعل هيغل، بأن التاريخ يتقدم في اتجاه العقلانية ويخضع لمنطق؟ – فإذا بنا أمام جدلية تاريخية، وإذا بالاختلافات بين الحضارات والثقافات والأفكار ليست سوى أوجُهًا للعقل، ويصبح "كل ما هو واقعي عقلاني"، بحسب عبارة هيغل نفسه. هل يسير التاريخ في خطٍّ تصاعدي، بحيث تكون أفكارنا السابقة حالاتٍ خاصةً لأفكارنا الحاضرة، وينتج عن ذلك تماثُل وتطابُق بين مسيرة العقل الإنساني ودرجة تعقُّد المواضيع التي يتوجَّه إليها فكرنا؟ هل التاريخ تواصُل واستمرار؟ هل هو تقدم نحو الأرقى أم هو استئناف للحظة توقف بعدها التاريخ وظل يجتر فيها نفسه دونما تجديد، فنأخذ بيده ونسوقه إلى حيث يجب أن يتجه ونصالحه مع العقل؟ أم أن التاريخ انتهى ولم يعد موضوع درس إلا لمن بقلوبهم مرض وعلَّة وحنين؟
في الحقيقة، منذ أفلاطون، مرورًا بالليبرالية المعاصرة، وصولاً إلى الماركسية، فإن الفلسفة السياسية قد تسمَّمت بمسلَّمة مُفادها أنه يوجد نظام عام و"عقلاني" للعالم قاطبة، منه يمكن استنتاج نظام ordre للشؤون البشرية، ونسمي ذلك بالأونطولوجيا التوحيدية – هذه المسلَّمة تخفي الحقيقة الجوهرية وتزيِّفها، ألا وهي أن التاريخ البشري هو خَلْق لولاه لما كان هناك تساؤل وإصدار أحكام، ولما تحدثنا عن اختيار، سواء تعلَّق الأمر بالأمور الموضوعية أو الذاتية. كذلك فإن الاعتقاد في نظام يحكم تطور المجتمعات يعني إلغاء المسؤولية. إن هذه الأونطولوجيا التوحيدية، مهما كان تمظهُرها وسواء تنكَّرت بهذا القناع أو ذاك، ترتبط أساسًا بالهيتيرونوميا hétéronomie [عكس الأوتونوميا]. ففي اليونان القديم ارتبط انبثاق الأوتونوميا برؤية غير موحَّدة أو توحيدية للعالم، تشهد على ذلك الميثولوجيات الإغريقية(12).
ولكن إذا كان المنطق يحكم تطور التاريخ، كيف نفسر ظهور الأديان والفلسفة والديموقراطية والتوتاليتارية والفاشية؟ إن التاريخ هو المجال والميدان الذي يخلق فيه الإنسانُ أشكالاً أونطولوجية، بما فيها تاريخ الإنسان نفسه وتاريخ المجتمعات(13). فالتاريخ خلق بشري إنساني لدلالات وضوابط ومعايير؛ ولا وجود لتاريخ خارج الإرادة الإنسانية أو لتاريخ تحكمه قوى متعالية وقوانين تاريخية موضوعية أو اقتصادية خفية. فها هي ذي قوانين التاريخ التي وضعها ماركس (المادية التاريخية) تتحطم وتتبخر على وَقْع الأحداث التاريخية؛ وذلك ليس من جراء سقوط "البيروقراطية السوڤييتية" وحسب، لكنه بالأخص نتيجة لانصهار الطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي وانسياقها وراء مجتمع الاستهلاك. ثم ها هو ظهور الفاشية يؤكد مرة أخرى أن "لا براءة للتاريخ"، وأنه "مازال لدينا ما نفعله ... ولا ضمان للتاريخ" (كاستورياديس)، وأن الفعل البشري والمساءلة والتقييم الذاتي ستظل مسائل قائمة.
التاريخ خلق. إنه خلق ذاتي autocréation، تأسيس اجتماعي تاريخي. التاريخ لا يخضع لمنطق عقلاني وقوانين ثابتة، بحيث "ننتقل من مرحلة منطقية إلى أخرى، وكلها يخضع لحتمية منطقية"، كما يقول محمد عابد الجابري. طبعًا لا يمكن لأيٍّ كان أن يشتغل على موضوع تاريخي دون اللجوء إلى منطق السببية، لكن [...] الاجتماعي–التاريخي يفترض اللاَّسببية أيضًا. ويبرز ذلك على مستويين: مستوى سلوك الأفراد مقارنةً مع ما هو سلوك طبيعي ومتلائم مع ما هو معهود ومألوف [...]، وبالأخص مستوى السلوك غير القابل للتكهن، ألا وهو السلوك الخلاَّق للأفراد والجماعات والمجتمعات. [... فبخلاف الميكروبات] فإن ردَّ الكائن التاريخي، أي الإنسان، على الأوضاع الجديدة يتجاوز حدود الكائن الطبيعي الذي يغيِّر أجوبته وردوده. فالإنسان يتجاوز ذلك التأقلم إلى خلق أوضاع جديدة فذة لا يمكن التكهن بها(14). ذلك كله لا يخضع لحتمية ولا لقانون تاريخي.
إذن كيف نقيِّم التاريخ؟ بادئ ذي بدء، إن إقرارنا بجعل الماضي موضوع درس وفحص ونقد ومراجعة هو، في حدِّ ذاته، موقف خاص. فالذين يعتبرون التاريخ تعاقُب حوادث مقدَّرة وأن الزمان يخفي أسرارًا تمتد إلى المستقبل لا يكلِّفون أنفسهم عناء البحث. فنظام الفكر الذي ينضوون في ظلِّه مريح ومطمئن، وهم في حالة اكتفاء ذاتي وفي حلٍّ من المشاقِّ والمتاعب. أما إذا اعتبرنا أنه "لا ضمان للتاريخ"، وأن هذا الأخير مسرح للتراجيديا والمخاطر، وأن التقدم التاريخي "المضمون" محض وهم؛ أما إذا اعتبرنا أنه لا يمكن لنا الحكم على الماضي بأنه ترهات، لأننا بذلك نكون قد حكمنا على كلامنا بالنسيان والتفاهة بمجرد مرور اللحظة التي نطقنا فيها – حينئذٍ فقط نقر بمسؤولياتنا تجاه التاريخ ونرفض الاستقالة والانصياع للأحكام والقوانين.
عندما نقر بأن التاريخ خَلْق لمعنى فذلك يعني أن لا وجود لتفسير لهذا الخلق. فجميع الذين حاولوا تفسير نشأة الحضارات والأديان والديموقراطية، وقرنوا ذلك بأسباب، غاب عنهم أنه للقيام بذلك لا بدَّ من تمثل المخاييل التي سادت تلكم العصور، وبالتالي، وضع أنفسهم في دائرة مخيالية سابقة – وهذا ما يعجز عنه كلُّ مفكر. ما يمكن القيام به هو فهم هذا التاريخ وحسب، لا تفهُّمه، وذلك بعد عملية الخلق الاجتماعي والتاريخي، لأنه لا وجود لاتجاه ومعنى للتاريخ إلا ما يخلقه الإنسان والمجتمع ويتمثَّلانه. فالمعنى يُخلَق.
إذن كيف يكون الماضي حاضرًا في الحاضر والمستقبل؟ إنه حاضر بما يعطيه له الحاضر والمستقبل من معنى ودلالة(15). أما محاولة بعضهم استخراج المعاني والدلالات من النصوص على أن في هذه الأخيرة "إمكانًا لا ينضب وقابلية للتأويل لا حصر لها" (علي حرب)، بحيث يُنطِقوها بما لم تنطق بها، فذلك هراء لأن النصوص ليست هي التي نطقتْ، لكنهم هم الذين نطقوا وصاغوا أفكارهم ونسبوها إلى النصوص. فالحصر والتفكيك هروب من المسؤولية. إن الماضي يعيش فينا، هو جزء من مقدِّمات فكرنا؛ لكننا، ككيانات حاضرة، غير مسئولين عما وقع، ولا نقدر سوى على تقييمه ونقده ومراجعته بما أدى إلى هذا الحاضر:
فلا يمكن لنا أن نعطي أفضلية وحظوة للحقيقة التاريخية الماضية. فما الماضي والحاضر غير مادة خام لا قيمة لها إلا بقدر ما نهضمها بصفة نقدية. [...] فالماضي ليست له قيمة أفضل من الحاضر، وهذا الأخير لا يكون مثالاً أو نموذجًا، بل مادة. فالتاريخ الماضي لا يمكن اعتباره طاهرًا ومقدسًا، بل قد يكون هذا التاريخ ملعونًا لأنه استبعد تواريخ أخرى كانت ممكنة التحقيق. فهذه الإمكانات التاريخية لها الأهمية والمكانة والقيمة نفسها بالنظر إلى مواقفنا العملية وبالنظر إلى التاريخ الفعلي(16).
من هذا المنطلق، نتخلص من كلِّ نزعة تقريظية أو احتقارية للماضي، ولا نتغاضى عن نقد الدلالات والمؤسَّسات التي شكلت إطارًا ومرجعًا للفكر والممارسة. وهذا هو الخطأ الذي سقط فيه كبار المفكرين: فهيغل لم ينطق شيئًا عن الملَكية الپروسية، وماركس سكت عن التكنيك واعتبره محايدًا، وماكس ڤيبر اعتبر البيروقراطية المعاصرة تجسيمًا للعقلانية وسمة من سماتها الجوهرية التي لا تقبل المساءلة.
المخيال والتاريخ: الفكر العربي المعاصر والموقف من المخيال:
كما سبق وأن قلنا، لا يمكن لنا أن نفرز ما هو راجع للعقل مما هو راجع للمخيال؛ وبالتالي، فجميع المحاولات التي استهدفت استخراج "الجانب العقلاني" أو "الجانب المادي" أو "النزعة المادية" (حسين مروة) من أيِّ فكر كان، كالفكر العربي الإسلامي، باءت بالفشل وأدت إلى استنتاجات عبَّرت عن آراء أصحابها أكثر من أيِّ شيء آخر. من ناحية أخرى، فإن اعتبار معظم مفكِّرينا المعاصرين أن التاريخ يخضع لمنطق ونظام خارج عن الإرادة البشرية يُسقِطُهم في أحكام خاطئة، وينعكس ذلك على رؤيتهم للحاضر والمستقبل. حسين مروة على سبيل المثال يعتبر أن «لتاريخ الإنسان الواقعي [...] حركة تطور وسيرورة مستمرة لا تنقطع إلا جزئيًّا وظاهريًّا. [...] فما قد حدث من انقطاع أو ما يشبه الانقطاع [... يعود] إلى فترة التسلط الخارجي الاستعماري التركي العثماني الغربي. [... فالمطروح هو] تبنِّي الموقف الذي يرى حاضرنا شكلاً حركيًّا تطوريًّا للماضي [... فـ] ـكما كان ظهور الإسلام تلبيةً صارخةً لحاجات هذا الواقع الاجتماعي وتعبيرًا عن تطلعات الفقراء وعن الحتميات التاريخية التي اقتضاها تطور العلاقات الاجتماعية الناشئة» (17)، كذلك فإن النهضة القومية تصبح حتمية هذا العصر. يدعونا حسين مروة إلى "استكمال المسيرة من نقاط انقطاعها"، وذلك حتى يكون حاضرنا شكلاً حركيًّا تطوريًّا للماضي! فيما محمد عابد الجابري يعتبر أن [...] التاريخ هو تاريخ العقل والفكر. فالعملية التاريخية في صميمها عملية منطقية. فالانتقال من عملية تاريخية إلى أخرى هو انتقال من مرحلة منطقية إلى أخرى في سياق الزمن. إذن فالأحداث التاريخية لا تحدث مصادفة، بل تخضع لحتمية منطقية. ومن هنا فكل ما هو واقعي فهو عقلاني، بحسب عبارة هيغل(18).
يتحدث الجابري عن "المعقول الديني" و"المعقول العقلي" و"اللامعقول العقلي"، وهو يتكون من الغنوص والفكر الهرمسي والنظام المعرفي البياني. ويصمت الجابري عن "المعقول الديني" لأنه «لا يمكن ممارسة النقد اللاهوتي لأننا بذلك نقوم بهتك حرماتنا»(19). ويبحث عن "مكونات العقل العربي"، معتبرًا أن هناك مخيالاً دخيلاً – آتيًا من الغنوص الفارسي والهندي – حرَّف المرامي الأصلية وشوَّهها وأن "العقلانية الصافية" نجدها تتجسم في الفكر المغربي الأندلسي – على العكس من الفكر الشرقي العباسي والفاطمي. وتماشيًا مع النظرة التي تقبل بمنطق التاريخ، يدعونا الجابري إلى [...] الحلم في حدود الإمكان [...] الإمكان التاريخي المنطقي(20). فـ...[...] الشعوب لا يمكن لهم أن يستعيدوا على صعيد وعيهم تراثًا أجنبيًّا عنهم، بمواضيعه وإشكالياته ولغته»(21).فالتعامل مع روح العصر [...] يستند على شخصية لها منظومتها المرجعية الخاصة تستند عليها بوعي وتعود إليها بوعي»(22).
أي أن الإطار المخيالي الذي كيَّف الفكر العربي الإسلامي يجب الحفاظ عليه والانطلاق منه وعدم تجاوُزه؛ وكل تحول لا بدَّ له من أن ينطلق من الحدود ومن داخل السياج الذي حدَّدْته الدلالات المخيالية المهيمنة، أي بصريح العبارة: التراث، خصوصًا في جانبه الفكري والسياسي.
أما علي حرب فهو ينطلق من نظرية الاختلاف وفلسفة التفكيك، ويدعونا إلى استيعاب المذاهب والمقالات والملل على أنها تجلِّيات للعقل: «إن اللاعقل [افهم: مخيال] يلابس العقل ولا ينفك عنه. [...] لا بد أن نتفهم التصرفات اللامسؤولة والمجنونة، سواء في تعامل الإنسان مع نفسه أو مع البيئة والطبيعة [...] وما تحصده البشرية من العنف والخراب والتبديد [... فذلك هو الجانب اللاعقلي في سلوك الإنسان] وجل ما نطمح إليه هو إيجاد تسوية بين عقلنا ولامعقولنا»(23). فكل ما هو واقعي عقلاني؛ والتفكيك يفضي إلى [...] تقبُّل الواحد للآخر والاعتراف بمشروعية ما حقَّق وما أنجز(24).
علي حرب يدعونا إلى التفاعل الإيجابي مع العولمة. هو يقر أن الحضارة العربية الإسلامية قد بُنيت من خلال [...] فتح العالم والاستيلاء على معظم دوله وممالكه. [...] ففرضنا لغتنا وأدبنا وشريعتنا على الذين صدَّقوا دعواتنا واستجابوا لرسالتنا أو على الذين خضعوا لسيطرتنا بعدما غُلبوا على أمرهم. [...] فلقد كان تعريب العالم في البداية ابتداعًا وابتكارًا، سبيل انفتاح وتحرُّر ومظهر حضور وتألُّق. [... أما اليوم] فلقد انقلب السحر على الساحر [... ووجب علينا أن نتقبل هذا الواقع] مادام لكلِّ أمر وجهٌ آخر. [...] فالزمان أيام تتداول بين الناس، يُعزُّ أناسًا ويُذِلُّ آخرين(25). باسم الاختلاف يعترف علي حرب بأن لكلِّ حضارة ديموقراطيتها ونموذجها في الحكم: «فالدعوة إلى الديموقراطية في بلداننا هي من قبيل السذاجة لأنه لا يمكن تبنِّي مفهوم غريب عن الحضارة العربية الإسلامية التي كان لها نمطها وآلياتها الخاصة في ممارسة السلطة والحرية»(26).
كل ما هو واقعي عقلاني! ما كان أحسن مما كان!
أما محمد أركون فهو يدعو إلى "منهجية تعددية" تستفيد من كلِّ التراث الفلسفي والنقدي الحديث ومن الأنثروپولوجيا الثقافية (وعلاقة ذلك بالمخيال) في دراسة التاريخ. ويرى أركون أنه [...] لا يمكن إسقاط مفاهيم العصر الحاضر وإشكالياته على الماضي. فعملية ربط الحاضر بالماضي عملية دقيقة تتطلب الكثير من ممارسة البحث التاريخي(27).
إذن بماذا نفهم الماضي؟ بمفاهيم الماضي: «فلا يمكن أن ندحض كلام السلفيين بنظريات الفلسفة الغربية. يمكن لك أن تدحضه بكلام الشقِّ الثاني من التراث الإسلامي: المعتزلة. هذا الشق الذي، بتروٍ، حُذِفَ منه أكثر من عشرة قرون بحدِّ السيف.(28). [...] لا يحق لنا أن ندين التجلِّيات التقليدية والحالية للظاهرة الإسلامية. [...] فكل ما هو واقعي عقلاني، كما يقول هيغل(29).
محمد أركون يدعونا إلى العودة إلى روح الديانات وحقيقة مراميها. فيمكن أن نجد أشياء كثيرة في التوراة والأناجيل ويمكن أن نبني عليها. فالعقل اللاهوتي المسيحي، مثلاً، يحاول أن يسترجع مصداقيته في هذا الجوِّ من الأزمة العامة للفكر(30). فهناك وحدة عميقة للأديان تتمثل في الحاجة الدينية والعامل الديني ذاته(31). وكما أن تقييم التاريخ العربي الإسلامي يستند إلى نظرة تبريرية باسم تاريخانية historicisme ومنطق تاريخي لا يقبل المساءلة والنقاش فإن تقبُّل الحداثة والعولمة، هو الآخر، لا يخضع للنقد والتمحيص. كل ما في الأمر أننا مضطرون إلى ضمان [...] تواصُل المشروع التاريخي للحداثة مع رفع للمظالم وإصلاح المسار(32).
نور الدين أفاية يعتبر أنه بين العقلاني والمخيالي علاقة جد متشابكة: فهما في الوقت ذاته متلازمان ومستقلان أو منفصلان. فالعقلاني يرمز إلى علاقة رصينة، حكيمة، تعتمد الاستدلال؛ أما المخيال فهو يحيل إلى مجال من العلامات والصور والرموز المتفرقة والمتنوعة والمتشعبة. فالمخيال يجتث موضوعه من جذوره ويحرِّف معناه ومدلوله الأصلي واللفظي وحقيقته الملموسة والمباشرة فيحيطه بهالة من الإبهار(33).
هناك، إذن، معرفة خالصة صرف كامنة في الأشياء ومعانٍ مرتبطة بها، ويأتي المخيال ليحرِّفها. المخيال يعني الأوهام والطوباويات والخرافات؛ أما العقل فهو المعرفة الموضوعية التي لا تشوبها شائبة. إن هذه المقاربة الوضعانية positiviste للمعرفة، التي فندتْها البحوثُ الفيزيائيةُ المعاصرة، وحتى البحوث الاجتماعية والتاريخية، تلغي دور الذات العارفة، التي، وإنْ تكن تقارب "موضوعات مستقلة عنها وملموسة"، كما يقول أفاية، فهي تنشئ المعرفة، تصوغها وتتخيلها.
إن هذا العرض الخاطف لبعض آراء المفكرين العرب حول المخيال يؤكد لنا أن ما يعنيه هؤلاء في الأساس هو المجتمع المؤسَّس؛ وهم لا ينطقون شيئًا عن المخيال المؤسِّس، لأنهم يعتقدون أن التغيير يقع من داخل السياج، إما بإصلاح ما تهدَّم وانخرم وترميمه، وإما بالانطلاق من التراث داخل الحدود التي فَرَضَها الإطار المخيالي المهيمن، لأنه لا يمكن لنا أن "نهتك حرماتنا"، كما يقول الجابري. لكننا نلاحظ أن شاعرنا العظيم أبو القاسم الشابي كان في ثلاثينيات القرن الماضي أجرأ وأشجع عندما احتجَّ على التراثيين قائلاً:
لماذا هذا التقديس والعبادة والجمود؟ [...] لماذا يريدون إطباق أبصارنا عن كلِّ ما في السماء من أشعة ونجوم؟(34).
أزمة التمثل والتماهي:
إن الدلالات المخيالية المشتركة والمميزة لمجتمع ما تكمن، كما أسلفنا القول، في تأسيس رؤية مشتركة للكون والحياة وتحدِّد الغايات، ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به: «هذا مجتمع يحدِّد غاياته في عشق الله وعبادته وآخر في تطوير القوى المنتجة وكهربة البلاد»(35). وتختص بميول ومُهَج. هذه الأخيرة تجعل الفرد يتعلَّق بمجتمعه ومؤسساته تعلُّق الحبيب بحبيبه، فينصهر فيه بكلِّ تلقائية واندفاع وإيمان ووثوقية، سواء تعلَّق الأمر بالإيمان بمُثُل دينية أو وطنية أو بمُثُل المجتمع الرأسمالي في "أوج عطائه"، حيث الشغف إلى الجديد والخلق والعطاء من أجل تحقيق أحلام "التقدم" و"الرخاء". كلنا يتذكر، على سبيل المثال، ذلك الوهج الوقَّاد والحماس الفياض الذي غمر نفوس المواطنين غداة الاستقلال وهم مندفعون بكلِّ تضحية لبناء الدولة المستقلة والوطن.
إن الدلالات المخيالية تخلق إنسانًا خاصًّا، "فردًا أنثروپولوجيًّا"، على حدِّ تعبير كاستورياديس، فريدًا ومميزًا، بحيث يتمثل هذا الأخير ذاته ويشعر بحالة من التوازن والراحة النفسية إلى حدِّ المتعة والانتشاء: أنا العربي، أنا المسلم، أنا اليوناني، أنا الإنسان الغربي المعاصر، أنا الفرد والمجتمع اللذان أريد أن يكونا؛ أنا الفرد الذي يشترك مع الآخرين في صفة ويقاسمهم أفكارهم ورؤاهم ومعتقداتهم وأحلامهم وعواطفهم ومهجهم؛ أنا الفرد والمجتمع المتميزان عن الآخرين.
إن هذا الشعور بالانتماء إلى مجال مشترك ينغرس في المخيالات من خلال الوسائط: الأم والعائلة، اللغة (بصفتها أداة اجتماعية الفرد)، المدرسة، ميدان العمل، المؤسسات الثقافية والنقابية والسياسية، المسكن، إلخ. لكن المجتمع المعاصر قد ذرَّر الأفراد وأضعف من دور هذه الوسائط. فالعائلة، بصفتها عنصرًا هامًّا في التوجيه، فقدت مكانتها من دون أن يبرز ما يعوِّض عنها في عملية إعداد النشء، ونظام التعليم مافتئ يخضع لسلسلة متعاقبة من مشاريع "الإصلاح" التي قد تتناقض؛ بل إن التعليم بدأ يفقد قيمته كوسيلة للارتقاء. لقد انحسر الصراع الاجتماعي، وتحولت النقابات إلى أجهزة فارغة من كلِّ روح، ولم تعد السياسة تجلب ملايين الناس. فلقد ملَّت الشعوب صلف الأحزاب التي صارت الفضائح سمةً عالقةً بها. الوسائط كلها تعيش أزمة بحيث تفتَّتَ النسيج الاجتماعي وروَّج لفردانية individualisme مزعومة وأنانية. هي سمة لا تقل أهمية عن الظواهر السابقة وتعبِّر تعبيرًا صارخًا عن هذه الأزمة: انهيار زمانية temporalité المجتمع في علاقته بتاريخه وماضيه. فهذا الأخير تحوَّل إلى "متحف" لا يخضع لأيِّ نقد ومراجعة، يزوره الإنسان كما يزور سائح موقعًا أثريًّا! فغياب الأهداف يقابله تجاهُلٌ للماضي: «فاليوم تُختَزل العلاقة بالماضي إما إلى سياحة أركيولوجية بخسة الثمن أو في تبحُّر ومتحفية من كلِّ نوع»(36).
إن أخطر مظهر لهذه الأزمة هو افتقاد المجتمعات القدرة على تمثيل ذاتها. لقد غاب ما سماه دوركهايم: "نظرة المجتمع لذاته والفكرة التي يكوِّنها عن ذاته"؛ غاب ذلك التمثل الجماعي الذي لا يمكن اختزاله إلى مجرد وصف وتشخيص أو إلى مجرد مزايدات فكرية؛ غاب ذلك الخلق الفعلي الذي يضع في الميزان القدرات الذهنية الإنسانية كلَّها ويستحضر إمكانات الخيال كلَّها وينغرس في الجوانب الأعمق من عواطفنا ومهجنا(37).
"النحن يتلاشى": تغييب للتمثيل الذاتي للمجتمعات بصفتها منبعًا للمعنى والقيم. عصر المعلومات هو أيضًا عصر تذوب فيه الذات. هو أيضًا عصر انتشار المشعوذين وقارئي الطالع والمنجمين، وعددهم يفوق رجال العلم ذاتهم الذين أثَّرت فيهم هذه الموجة: فنرى علماء متحصِّلين على جوائز نوبل للعلوم يحضرون مؤتمرات حول التاوية والپاراپسيكولوجيا.
في البلدان التي لم تعرف الثورة الديموقراطية والتي فكَّكتْ فيها التنميةُ العلاقاتِ الاجتماعيةَ وأحدثت "صدمة ثقافية"، من دون أن يؤدي ذلك إلى تجاوُز الإطار المخيالي التقليدي، نلاحظ ارتدادًا إلى غياهب الماضي الذي يصوَّر في شكل أسطوري، فيُستحضَر في المخاييل في أبهى صورة، وذلك كتعويض عن الفراغ والتمزق. لكن ردَّ الفعل هذا لا يمثِّل غير بُعد ووجه واحد. ففي الحقيقة هناك مؤشرات على انفتاح هذه الشعوب على الأوتونوميا والديموقراطية.
أما في البلدان الغربية والصناعية عامة، حيث تلوح علامات التفكك الاجتماعي وتتعمق هي الأخرى (الانحراف، انعدام الأمن، تهميش جزء متعاظم من الشعب، التذرر، إلخ) فإننا نعاين في العقد الأخير بروز بوادر وعي جديد وانبثاق أشكال فذة من التضامن الاجتماعي والتعبير والمقاومة لا تمت إلى الأشكال القديمة بشيء، تعبِّر عن حركة مواطنية mouvement citoyen وتتوجَّه بالنقد إلى أسُس مجتمع الاستهلاك وإلى دلالاته، وبالأخص تلك التي تدعو إلى الهيمنة المطلقة على الكون والطبيعة، مستندة إلى الكوارث البشرية والبيئية التي خلَّفتْها ومازالت تخلِّفها. إننا نعيش بوادر وعي عالمي يشبه ذلك الذي سبق الثورات الديموقراطية!
إن الرهان اليوم يشمل البشرية جمعاء ولا يتوقف على شعب أو أمَّة. إن هذه الحركة العالمية الجديدة تقطع مع "الإنتاجوية" productivité و"التسلط" و"الهيمنة"، وتعيد الاعتبار لدلالة الأوتونوميا. فالمخيال الجذري، الذي كبَّلتْه عقودٌ من الپروپاغاندا النيوليبرالية والاستهلاكية، يتحرَّر شيئًا فشيئًا ليصوغ الجديد والفذَّ والمغاير، كما فعل ذلك أكثر من مرة.
(عن معابر)
* * * *
الهوامش
(1) ابن رشد، الكتاب الكبير للنفس لأرسطو، نقله من اللاتينية إلى العربية إبراهيم الغربي، دار الحكمة، 1997، ص 218-221.
(2) المرجع السابق، ص 308.
(3) Edward Boudi, « Quand les conditions ont la force de la réalité : l’unanimité, l’immigration et la cinquième dimension », le Monde, janvier 2001, pp. 26-27.
(4) محمد عابد الجابري.
(5) Cornélius Castoriadis, L’institution imaginaire de la société, Éditions du Seuil, 1975, p. 431.
(6) Cornélius Castoriadis, « La polis grecque et la création de la démocratie », in Domaines de l’homme, Les carrefours du labyrinthe II, 1986, pp. 262 et 265.
(7) Cornélius Castoriadis, « Une interrogation sans fin », op. cit., p. 251.
(8) علي حرب، نقد النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، طب 1: 1993، ص 163.
(9) عمر كوش، "نقد المركزية الغربية"، الآداب 3 و4، 2000، ص 25.
(10) أحمد القديدي، الإسلام وصراع الحضارات، كتاب الأمة، وزارة الأوقاف والشورى الإسلامية بقطر، ص 33.
(11) Claude Lefort, Entretiens avec le Monde, la Découverte, 1982, p. 164 ; voir aussi : Claude Lefort, L’invention démocratique : les limites de la domination totalitaire, Fayard, 1981.
(12) Cornélius Castoriadis, « La polis grecque et la création de la démocratie », op. cit., p. 286.
(13) Cornélius Castoriadis, « Les intellectuels et l’histoire », in Le monde morcelé, Les carrefours du labyrinthe III, Seuil, 1990, p. 103.
(14) Cornélius Castoriadis, « Le marxisme, bilan provisoire », in L’institution imaginaire de la société, op. cit., p. 61.
(15) Cornélius Castoriadis, « Les intellectuels et l’histoire », op. cit., p.104.
(16) Cornélius Castoriadis, « La révolution devant les théologiens », in Le monde morcelé, op. cit., p. 179.
(17) حسين مروة، مقدمات أساسية لدراسة الإسلام في دراسات في الإسلام، دار الفارابي، بيروت، 1987، ص 51-52، 59-75.
(18) محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، المركز الثقافي العربي، طب 1: سبتمبر 1991، ص 98.
(19) المرجع السابق، ص 260.
(20) المرجع السابق، ص 117.
(21) محمد عابد الجابري، نحن والتراث، دار الطليعة، بيروت/المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1980، ص 6.
(22) محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص 117.
(23) علي حرب، "فكر النهضة بين الإحياء والتنوير، محمد حسنين هيكل مثالاً"، عالم الفكر، المجلد 29، مارس 2001، ص 120.
(24) علي حرب، نقد النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1993، ص 162-163.
(25) علي حرب، أسئلة الحقيقة ورهانات الفكر، دار الطليعة، بيروت، 1994، ص 86.
(26) علي حرب، نقد النص، ص 162-163.
(27) محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، دار الطليعة، بيروت، 1988، ص 55 و58.
(28) المرجع السابق، ص 149.
(29) المرجع السابق، ص 192.
(30) المرجع السابق، ص 168-169.
(31) Mohamed Arkoun, Islam et changement social, l’Islam actuel devant sa tradition et la mondialisation, Éditions Payot, Lausanne, 1998, p. 60.
(32) Idem.
(33) Noureddine Afaya, L’Occident dans l’imaginaire arabo-musulman, Éditions Toubkal, 1997. p. 112.
(34) أبو القاسم الشابي، رد على مقال ينقد "الخيال الشعري عند العرب"، مجلة أبولو، العدد 10، يوليو 1933.
(35) Cornélius Castoriadis, « La crise du processus identificatoire », in La montée de l’imaginaire, Les carrefours du labyrinthe IV, Seuil, 1996, p. 127.
(36) Cornélius Castoriadis, « Héritage et révolution », in Figures du pensable, Les carrefours du labyrinthe V, Seuil, 1999, pp. 143-144.
(37) Pierre Thuiller, La grande implosion, Fayard, collection Pluriel, 1995, p. 26.