يكتب محرر باب سرد بـ(الكلمة) في هذه الرواية القصيرة زخم لحظة الإعدام رميا بالرصاص للهاربين من التجنيد إبان الحرب العراقية الإيرانية وكوابيسها، بصورة تحيل هذه القصة الطويلة إلى رواية قصيرة، حينما تكشف اللحظة الفردية إرث العنف العراقي الجمعي المعقد والكامن في ثؤر الروح منذ سقوط الحسين في كربلاء.

رواية قصيرة

في ساحة الإعدام

سلام إبراهيم

 

منذُ ذلك الصباح البعيد دلفَ إلى باحة صمتٍ. استكن مخذولا في وسط الباحة يتأمل امتدادات جهاتها الراسخة في فضة غبش قديم، غبش يصطخب بصياح الديكة وزقزقة العصافير وغناء البلابل وهديل الحمام على سدرة الله الناثرة خضرتها في قاع العينين السوداويين الواسعتين المحبوستين في عتمة القماش. استكن عاجزا يشعر بالضآلة وهم يشدونه إلى عامود خشبي طويل، يرتكز وسط الساحة بين الصف الطويل للأعمدة المنتصبة في باطن الصباح، المشوه بضجة أحذية العسكر، وقعقعة البنادق المصوبة نحو الأجساد الناحلة، العارية الصدور، والهلاهل المخلوطة بصياحٍ كنواحٍ ينطلقُ من الجموع الحاشدة على الأدراج المحيطة بالساحة، والتي لا يميز ملامحها المضببة من وقفته المخذولة وسط الحرس، حيث نزع أخر المعاني.

ليسَ وهناً ما أصابهُ لحظةَ قراره تسليم نفسه للسلطات العسكرية، بل يأساً وعدم جدوى، جعلاه ينصاع انصياعاً تاماً إلى قدرهِ، غير آبه باحتمالات مقتله الممكنة، شأنه شأن الكثيرين بعد أن ضاقت به السبل، وملّه الأهل والأقارب. هو الأخر ملَّ شعور الذل الذي ينسحق تحت وطأته، وهو يتحاشى وجوه الأحبة المتضايقة، المرعوبة، والكارهة حضوره المربك الخطير.

وجد نفسه يطيل التفكير بأخيه الصغير المختفي منذ سنوات ثلاث، والذي لم يتسلل فيها لأيٍ من بيوت الأقارب أو الأهل متحملا فظاعة المخاوف التي يبعثها شعور المُطارد. أكان يدرك طبيعة المأزق دون تجريب؟ أَتراه قدَّر ما يخلفهُ الهلع من تشوه في مشاعر الأهل والأحباب؟ لكن أين يذهب عندما تنسدُ أمامه المنافذ، ولا يجد سقفاً يأويه من رعب خطواتهم الجائبة قفر الشوارع في الصحو وفي ليالي البرد والمطر؟ كان يغصّ عند تخيله المشهد، ففي أخر ملجأ اضطر إلى اللجوء فيه مغامرا باحتمال فقدان أخته الكبيرة" ساجدة" التي بمثابة أمه، والساكنة في "تكريت" تلك المدينة المطلة على هضاب البادية الشمالية، حيث لا يعرفه أحد، ذاق طعم عذاب مختلفٍ؛ فهو لم يخش هناك أن يراه أحد من الجيران كما كان يعاني في مدينته، ولم يلحظ أمارات ضيق وبرم في قسمات أخته، بل أخذ يعاني من شعور احتقار شديد لذاته، ولدّه حسن الاستقبال، وتوارد أنباء يأتي بها الزوج المستسلم لقدره عن حوادث إعدام تتكاثر لعوائل بأكملها تسترت على جنود فارين. صار شديد الارتباك والحرج، يلوذ أوقات طويلة من النهار وحيداً في الغرفة الخالية، ويأرق طوال الليل متخيلاً مشهد القبض على العائلة، وسوقها إلى المجهول، فيدفن رأسه بالوسادة، وكأنه يود لو يتلاشى في قطن الفراش، ويخلص من هذي النفس الجالبة للآخرين الفزع والرعب وأفق الموت.

وما جعلهُ يصمم على الاستسلام بشكلٍ نهائي؛ هي تلك الليلة المهولة التي قضاها وأخته ساهرين في عتمة الصالة المطلة على حديقة البيت الصغيرة والشارع الواطئ، متقطعي الأنفاس لاهثين يراقبان دوريات التفتيش تمشط البيوت بيتاً بيتا. كان يتمنى لو ينشق البلاط كما في الحكايات الخرافية ويبتلعه، وهو يلاحق الرجال السائرين بصمت، الموزعين، المتجمعين النازلين الصاعدين من والى سيارات فخمة غامقة الزجاج، والواضحين تحت أنوار المصابيح المتدلية من أعناق أعمدة الكهرباء، سامعاً اختضاض جسدها القريب المترسب في قعر العتمة، والصمت المريب المطبق على أرجاء البيت. كان ينصت بألمٍ لحفيف خطوها المتقطع، وهي تتسلل بهدوء متحاشيةً أشياءَ الحجرة الغاطسة بالظلام، كي تلقي نظرةً على أطفالها الخمسة الغارقين في نومهم، والمبعثرين في سكون الغرفة الأخرى، لتعود محبوسة الأنفاس ثانية إلى جلستها خلف النافذة الأخرى المطلة على مساحة أخرى من الشارع العريض. مع انبلاج الفجر انسحبوا، مخلفين مرارة في القلب وقدراً من الغبطة بالخلاص، لم يستمر وهو يلاحظ عند الظهيرة احتقان عينيها وإحمرارهما، أثناء تحضيرها الغداء للأطفال العائدين من المدرسة، فتيقن من استحالة بقائهِ. في ذلك المساء الذي، سبق الصبيحة التي سلم نفسه للسلطات العسكرية غير آسف.

ليس جبنا ما أصابه، وهو يقف محاطاً بالحرس المدجج بالسلاح، يرمق صف الأعمدة الخشبية المتقاربة، الحائلة، المغروسة في تراب الغبش المضطرب، وفي أسفلها رُبِطَتْ الأذرع إلى الخلف ناحلةً، سمراءَ بيضاء، ينفرك المعصم بالمعصم في ضيق حديد الجامعة الفضية. ليس جبن..ا ليس جبنا.. بل إحساس بالعجز والضآلة، ولا جدوى من الهرب، بل لا معناه وبالتالي لا معنى لوجوده.

* * *

كان ينزلق بصمت وبطء نحو قعر السحر الداكن. تبعث برودة صخور الأسيجة الواطئة الفاصلة بين بيوت الناس، قشعريرة تنبثق من أعماقه مرجفة الجلد المنكمش. تكّوَمَ أسفل حائط قديم يحدق بقلق في نثار النجوم المرمية في مجاهل الظلمات، ومنصتاً لتخافت الحفيف الخفيف الذي انبعث من احتكاك قميصه ببشرة الصخور. لبث في تكومه يحبس دوي أنفاسه الفائرة، ويصغي إلى خرس الصمت المحكم، الواشم عشب الحديقة وأشجارها، شبابيك البيت والأبواب، الزوايا والشرفات، رذاذ الفضة المتساقطة في الآفاق وشحوب الدكنة. اصطبر في انطوائه بباطن حلكة صمت السحر المريب مشلولاً برعبه، غير قادرٍ على التركيز لربط ما مر به من أحداثٍ متسارعة لا يتذكر سوى عنفها:

- ما الذي أتى به إلى هذا المكان؟!.

- ما به يجوب بيوت الناس وهم يغطون بسباتهم؟!

- إلى أين يقصد؟!

- ماذا يبغي؟!

- من أين جاء؟!

ليس لديه أجوبة .. هاهو يتكور رقعة هشة ذابلة، منسية اقتلعت من أصلها لتلقى في الفراغ، ومثلها يتمنى الآن أن تبقى الأشياء كما هي جامدة لا صبح ولا ضجيج. كان مستأنسا للأمان المرتبك، الذي يبعثه رقود البشر، شحوب السحر، الصمت، وانزواء جلسته أسفل الجدار المرتفع بمقدار قامة ونصف، متخيلاً وقوف جريان الوقت، وخلو المدينة من البشر. اهتز في تكوره حينما انبعث ضوء خافت متراقص من باطن نافذة غرفة قريبة. ازداد التصاقاً بصلابة الآجر العاري البارد، وطفق يرتجف هلِعاً. ارتجافاً ازدادت شدّته ليتحول إلى اختضاض مجنون، فجعلت أسنانه تصطك فيتعالى صوت اصطكاكها في الصمت. بحث بأصابعه المعروقة في عتمة العشب الندي. تلمس خشبة صغيرة سميكة جافة. قبضها ودسها بين أسنانه، علها تخفف من جنون الجسد المفزوع. حطم الضوء المرتجف خرس الرأس، مزيحا ستار العتمة المطبقة، مما جعله يستعيد طرفاً من إحداث جرت له وكأنها كابوس. أحداث مبهمة في أمكنة غامضة وأوقات أكثر إبهاماً. ها هو يرى بوضوح من فجوة حُفرت في سياج بناية شاهقة، حيث يكمن مرعوباً كيف أحاطوا بأخيه المطارد من كل الجهات، بقاماتهم الطويلة وقسماتهم القاسية، وكيف كبلوه بالحديد وهو يتلفت باضطراب، ممرراً عينيه المطفأتين على موقعه خلف شرخ الحائط، دون أن يركز وكأنه يلقي نظرته الأخيرة دون أن يجلب انتباههم إلى مكان اختبائه.

- لكن متى كان ذلك؟! وفي أي مكان؟!.

لا يتذكر شيئاً سوى أضواء مصابيح الشارع العالية والمتدلية من أعناق أعمدة شاهقة وهي محنية تعكس ضوءها على إسفلت الشارع العريض الخالي المبتل، الرائق مثل بحيرة ساكنة، وصفوف البنايات العاليات الغارقة نوافذها، بعتمة شديدة، يبرزها سقوط ظلال أضواء الأعمدة، المصوبة مصابيحها إلى الأسفل، بواقيات معدنية تحجز النور عن الجوانب باستدارتها حول المصباح، أما ما حدث بعد ذلك، فلا يتذكر كأنه أنقذف في فضاءات وعتمات وسماوات لينزلق بذلك البطء الشديد مخرساً مرعوباً متكوماً على عشب حديقة بيت غريب.

أنه يتذكر ما جرى منذ قيامه من تكومه، فقد ظل يدور في متاهة من حدائق بيوت غريبة، ينفذ إليها عبر أسيجة بعلو قامته، إلى أن أدركه التعب، فتهالك منهكاً في هذا المكان أسفل جدار السياج الفاصل بين حديقة بيت وأخرى. لم يزل يحدق في بصيص الضوء الراجف، الذي تزايد وجعل يتسرب من النافذة، مطيلاً قامات ظلال أشياء الحجرة المتمايلة، ومنيراً طويات الستائر البيضاء المزاحة والمائدة على إيقاع الضوء الرامش. ومن عمق الغرفة تسامق ظل شبح فارعٍ، على الجدار المرئي، راح ينود فيرتمي جذعه الأعلى على سقفها الخفيض، تضخمه الأنوار النارية المنبثة من أرض الحجرة. أهلعتهُ بوادر الغبش الذي تدفق خطوطا واهية، تغلغلت في هلامية ألوان السحر موقناً من انكشاف أمره حال حلول الضوء. تابع الأشياء وهي تطلع من دهاليز العتمة، مظهرة للضوء الهزيل حواشيها وحوافها الآخذة بالالتحام متشكلة بكتلها من جديد كحالها في فجر كل يوم.

- لابد أن أجد مخرجا ما لوضعي .. لابد!

قال لنفسه وتزحزح تاركاً مكانه. وفكر بتجاوز سياج البيت الخفيض الذي يتمكن من وقفته رؤية الرصيف المقابل. خطا نحوه ماشياً بمحاذاة الحائط بحذرٍ شديدٍ كي لا يصدر عنه صوت، ينبه المستيقظ خلف النافذة التي أصبحت مشرفة على المسافة، التي يتوجب قطعها صوب باب البيت الخارجي. تمهل قليلاً. جرب أن يحني قامته ويسير، لكنه رجع عند أول خطوة لارتفاع سطح الغرفة، فأضطر إلى الزحف. مسح بصدره ندى العشب، وهو يقطع المسافة القصيرة المضاءةِ، بنور النافذة الناري وفضة السماء المنهمرة. اعتدل واقفاً، وتوجه نحو السياج. اشرأبَ بعنقه ومدَّ بصره، فأرتد مذعوراً خلف السور وهو يلهث؛ كان الفجر في الشارع العريض محتلاً، برجالٍ يرتدون الخاكي، مدججين بالسلاح، يسيرون بصفوفٍ منتظمة طولاً وعرضاً داخلين خارجين من والى الأزقة الفرعية، دون أن يصدر لوقع أحذيتهم الثقيلة ضجة، رغم إنهم يرفسون الإسفلت بعنف، قال بصمتٍ مع نفسه:

- هل أصبتُ بالصمم؟!.

اتكأ بكتفه إلى الجدار غارقا بحيرته، فبعد لحظات سيكتمل ضوء الغبش ويعري حدائق البيوت والزوايا من أثوابها الداكنة، وسيوقظ النائمين فيجدونه منتهكا حرمة بيوتهم، أو يضطر للخروج إلى الشارع، فيقبض عليه العسكر مثلما قبضوا على أخيه وأخذوه إلى أمكنة مجهولة. وحتى لو تمكن من تفاديهم، فإلى أين سيذهب .. إلى أين في هذه المدينة الغريبة بشوارعها وسحرها وفجرها وصمتها وخوائها وبيوتها ورعبها ،والتي لم تطأها قدماه في يوم ما قط. ظل ماكثاً، في وقفته جنب السور، مهدود القوى يستند إلى آجره البارد، وَتَلِفه دوامات مستعرة انحدرت به إلى قيعان مقفرةٍ، موحلةٍ، أشد وحشة من وجوده الملتبس الآن، وفيما هو مترسب في قعر العجز والصمت وبقايا السحر اللائذ في الزوايا والشبابيك والثقوب والأقفاص تصاعد لغط خفيف من النافذة السابحة برعشة الأضواء، جعله يصحو من شروده، ويستعيد حواسه المعطلة، شاماً مزيجاً من روائح المسك والبخور وماء الورد والزعفران. انفصل عن الجدار، متتبعاً كمنومٍ، مسار الرائحة، ونبرة اللغط الحنون، الصادر من أحشاء النافذة المشرعة على الصمت وتشابك ألوان السحر بروح الغبش الناثر فضته السماوية، سار بدرب الرائحة بروحه الطريدة المحاصرة، فتوضح اللغط عن تجويد عذب لآيات قرآنية، يضفي عليها صمت الفواصل مزيداً من الجلال والهيبة سكبت في نفسه المضطربة السكينة. اقترب بخطوه الهادئ من حافة النافذة، وتنشق عميقاً من هواء نسمةٍ عابرةٍ شاردةٍ، وهو يلمس خشب إطارها الجانبي، مترددا في النظر إلى باطن الحجرة. التصق بالحائط يصغى لهدجة الصوت الورع اللافظ بحزنٍ مفردات آية حزينة جعلته يوشك على البكاء.

ورويداً .. رويدا قربَّ وجهه من خط الحافة الحجرية، وتجاوزها بناظريه المأخوذين، فرأى شيخاً يجلس متربعاَ على بساطٍ مزخرفٍ يعوم على سطح بحيرة من لهب الشموع الراجف، يقرأ في كتابٍ مفتوحٍ موضوع على مسندٍ من النحاسِ. هبطت لحيته الشيباء حتى سطح السجادة الزرقاء، المحاطة بمباخر تنفث دخان البخور، وأباريق تميل من رفوف معلقة بالحيطان تبث روائحها، وتطل من أعناقها الطويلة على حقول الغزلان الفسيحة والغابات المنسوجة في سجادة من الكاشان الفارسي تغطي الجدران. واجهته عيون ناطقة مفتوحة على اتساعها، تحملق بنظرات عارفةٍ واثقة؛ٍ عيون ثيران وخراف وطيور وديكة تطل من مساند المباخر والشمعدانات وقوائم مسند الكتاب، تركها واستغرق في بشرة الشيخ الصافية رغم الغضون، في صفائها الموحي بالأمان، في استدارة وجهه المضيء، وامتدت ذراعاه من خلل قضبان النافذة، متوجهة نحو الشيخ، وجدَ نفسه يناديه بخفوت شديد، ومن خلفه تجري خيول الفجر، راشقةً الزوايا بفضة حوافرها الخرساء. عاود النداء بصوتٍ شبه مسموع، والشيخُ مرتحلٌ، في رحابةِ السجعِ المنساب في الصمتِ، وهو ينود بجذعه الأعلى على إيقاع التجويد ونغم الحروف. رفع صوته ونادى هذه المرة بصوت واضح، راح يتعالى ويتعالى مع تكاثف ضوء الفجر، وشدو أولى البلابل والعصافير. ومع صياح الديكة وتعالي ضجة الفجر تحول النداء إلى صراخٍ أجوفَ أخرسَ يرن في صرخة النهار دون أن يسمعه. ركبه الرعب. انحلت مفاصله، فتداعى أسفل النافذة منتحباً، تحت الفجر المنبلج، ملتاعاً لضياعِ العمرِ..

انتفض من غفوتهِ لاهثاً، مختنقاً، السيقان والأذرع المتشابكة تحاصره وتضغط جسده المحشور تحت نافذة السجن الخفيضة. ما إن باعد أجفانه حتى سقط في قاع عينيه المصباح المتدلي من السقف الحجري العالي، بضوئه الناري المتذاوي مع تسلل خيوط الفجر من بين قضبان النافذة. لبث دون حراك تحت ثقل الأقدام والأذرع والسيقان ينصت إلى زقزقة العصافير المكتظة على شجرة السدر المعمرة الشاهقة وسط فناء السجن، ذيل لغط منغم يصل ضعيفا من كوة النافذة، شخير الجنود وآهاتهم وصرخاتهم القصيرة المختنقة وهم يصارعون أشباح النوم. استقام بجذعه الأعلى مرتكزاً على ذراعيه المتصلبتين في فسحة من بلاط الأرضية، عملها بإزاحة التحام اللحم الآدمي الحار، وسحب جسده إلى الخلف معدلاً جلسته، ضاماً ساقيه المثنيتين إلى صدره، ومسنداً ظهره إلى الجدار الإسمنتي البارد. أطل على تبعثر أجساد الجنود الغاطسين بالسبات، وأنشأ يتملى بشرود أرديتهم الكالحة الوسخة الممزقة، التحام أذرعهم وسيقانهم الناحتة كياناً خرافياً بأعداد لا تحصى من أنصاف الأذرع والسيقان والرؤوس والأصابع الطالعة من الخصور والأحواض والأفخاذ والظهور. كيان يبدو في غفوته على بلاط الله كأشلاءِ جنودٍ كومتْ فوق بعضها عقب معركةٍ داميةٍ.

انتزع ساقيه بصعوبة من بين اشتباك اللحم الذي ضغطه ولفه مرة أخرى من الجوانب مستعينا بحافة النافذة، واستدار مشرئباً عنقه، ليجول ببصره على ضوء الفجر أرجاء فناء السجن الواسع. في الطرف المقابل، خلف الشجرة، ثمة شرطي يتربع سجادة مفروشة، قبالة باب غرفة المصلى المفتوح، يضئ جلسته مصباح خافت الضوء يتدلى من السقف لايني ينود مجوداً بخفوت آيات من القرآن يحفظها عن ظهر قلب، فتسري نبرته الرخيمة العذبة الورعة مانحةً الغبش مزيداً من الجلال. في منتصف المسافة بين الشجرة والمصلى لمح شرطيا أخر ينحني على حافة حوض إسمنتي صغير يتوضأ استعداداً لصلاة الفجر. تابعه وهو يمسح كوعيه ممرراً الراحة المبلولة، من منتصف الساعد المكسور حتى أطراف أصابع الراحة الأخرى، متمتماً بلغط مهموس، ثم ينحني مبللاً أطراف أصابع قدميه بحفنة ماء غرفها من الحنفية الجارية. أنصت لوقع خطاه وهو يتوجه نحو المصلى ببطء. تضببتْ كتلة الشرطي المبتعدة في عينيه اللتين شردتا بعيداً. بعيداً عن الفناء والشجرة وأكوام اللحم البشري المبعثرة، ملاحقتين حفيف ثوب أمه الخاطرة جوار فراشه في أغباش طفولته، الشبيه بهذا الغبش وهي تبسمل بخفوت قاصدة سجادة الصلاة المفروشة، بمواجهة الباب المفتوح على الحوش الترابي الشاسع، يقطر من ساعديها بقايا ماء الوضوء. كان يلبث تحت الغطاء، مستمتعاً بذلك اللغط والحفيف، الصادر من ثوبها الأسود الفضفاض، أثناء سجودها وقيامها وقعودها. ارتحل متصفحاً أرجاء الدار غرفةً .. غرفة متخيلاً حالها في هذه اللحظة، أشكال الستائر، النوافذ، الأبواب، ثريات السقوف، أمكنة المصابيح، لون البلاط، حنية السلم الحجري، سطح الدار، سماءه، إخوانه وأخواته وأبيه المبعثرين على الأسرة. توقف طويلا عند قامة أخيه الطويلة، الممدودة عند أطراف الفجر، والمحفورة بفراغ السرير المهجور منذُ عدة سنين.

اختنقَ بأسى الفجر كحاله منذ الطفولة، حيث يصيبه مبتدأ الغبش بوهن ينبعث من حبٍ غامر، غامضٍ، مطلقٍ، مستحيل، يتمّلك كيانه ويجرفه نحو الأشياء كلها، شاعراً بودٍ شجنٍ حتى لأعدائه، ينصت ويحملق بالكائنات وهي غارقة في غفوتها، تبكيه رغبة مبهمة مستعرة، رغبة بمعانقة الشجر والجدران، الماء والتراب، الشرطي والحبيبة، الضوء والفيء، العصافير والجنود، رغبة مفعمة غير مثقلة بالأسئلة والمبررات، الأسباب والمعاني .. وسرعان ما تتوارى مع استيقاظ الأشياء وضجيجها.. هاهو الآن مغموراً بسلامِ تلكَ اللحظة، مسكوناً بالأدعية وضجة العصافير، وخرير الماء المنسكب من حنفية الحوض، وصياح الديكة .. يدفق وداً وطيباً. استدار استدارة سكران، ومسح بشجن تبعثر الأجساد المتعبة المكومة على البلاط، الساعية في غفوتها للالتصاق ببعضها. أرخى مؤخرة رأسه إلى النافذة، وأسدل أجفانه كحالمٍ يحاول إحراز أكبرَ قدرٍ من المتعة المستحيلة بعناق كل الكائنات، لكنه خاب مستسلماً لقسوة الحاضر مهدود القوى.

فجأة أحس برعدة تهزه هزاً، وشوارع عريضة خالية انفتحت أمام ناظريه، متداخلة محشودة برجالٍ مدججين بالسلاح، أحاطوا بجسد أخيه الذي يتلفت مذعورا. استغرب من فداحة عجزه وجبنه، وهو يلوذ خلف شق سور بناية شاهقة. لبث مطبق الأجفان رائياً المشهد مجسماً مرة أخرى بوضوح أشد، فتملى طويلاً في قسمات أخيه الحزينة، وهو يمرر عينيه السوداوين خطفاً على شرخ السور حيث يختبئ قبل أن تضّيعه الأجساد الضخمة وتطرحه أرضاً، ثم ترفعه بأذرعها موثوق اليدين إلى الخلف، لتقذف به في باطن عربة عسكرية معتمة انطلقت فوراً، وغابت في منعطف التقاطع القريب.

باعد أجفانه، لم يزل الجنود يغطون في النوم. التفت نحو النافذة، ورمق صفحة السماء الباهتة ملاحقاً ذيولا انفصلتْ عن جسدِ غيمةٍ مسرعةٍ تائهة. سمع نواح فاختة رغم ضجة العصافير، فذكره ببساتين النخيل البعيدة المحيطة بمدينته الديوانية، والتي طالما تاه بأنحائها في الأغباش والظهاري والغروب. أصغى بكل كيانه، وعيناه تلاحقان بقايا الظلال المتلاشية، وأسوار السجن العالية، التي ترتفع في زواياها، أعمدة تلتف حولها سلالم حديدية، تصعد إلى أبراجِ مراقبةٍ عاليةٍ مدورة، تشرف على فناء السجن وسطحه، وامتداد الهضاب المحيطة. بُوغِتَ بصمت البلابل والعصافير. دَوَرَ عينيه القلقتين في صمت الفناء المريب. بعد أقل من لحظة ضَجَّ الغبش بوقع أحذية الشرطة الثقيلة وهي تركض، صفارات متلاحقة، أصوات تشغيل سيارات، وطقطقة أسلحة جعلت العصافير والبلابل تفر مذعورة، وترف مزدحمة باضطراب أثناء تحليقها نحو غور السماء الشاحبة، لاحقها وهي تستدير قاصدة هضاب البادية الشاسعة المترامية خلف الأسوار. استيقظ السجناء مفزوعين، وشخصوا بأبصارٍ متسائلة إلى حيث يقف جوار النافذة. استدلوا بصمتهِ، فلبثوا جامدين بأمكنتهم، يصغون ويتبادلون نظرات متوجسة:

- إنهم يحمّلون دوشكا!

فسحة صمت.

جاء صوت من الطرف الأخر:

دوشكا من غبشة الله!

تلكأوا طويلا بالصمت، مأخوذين بالرعب الذي استحكم على النفوس، المتأرجحة أصلاً بسماء مخاوفها، ثم أفصح أحدهم عما يجول بداخلهم قائلاً:

- اللة يستر من هذي الغبشة!

جعلتهم الجملة يفيئون إلى أنفسهم، ويهرعون متزاحمين نحو النافذة، ضاغطين جسده الملصوق بالجدار، ملتحمين ببعضٍ، ثم تجمدوا مبحلقين بالأكف الخشنة الماسكة حديد البنادق، بالوجوه المتجهمة التي تفصح عن أرواح مولعة بالعنف، وجوه منفعلة انفعالاً فريداً، شديد الخصوصية يسبق عادة ممارسة طقوس القسوة؛ رجفة في الشفاه، لمعان لذة في العيون، وحزن يحتل التقاطيع للحظات، ليختفي مخلفاً أمارات غضبٍ، سرعان ما تتوارى لتظهر أمارات رعب وفزع تومض وتنطفئ. كان الجنود يحملقون من خلف القضبان بعيونٍ فزعةٍ، فقد أدركوا بالغريزة والتجربة بالشر القادم بعد لحظات، فتلك الانفعالات العنيفة والحركة، ما هي إلا مقدمات لطقس قسوةٍ متوارثة من الأسلاف الصحراويين، أيقظتها في العروق الحروب الطويلة. كانوا يحملون الدوشكا بحوض عربةٍ عسكريةٍ مكشوفةٍ تسحبها سيارة تيوتا. كان يتأمل المشهد متسائلاً عن سر حيوية وجوه العسكر الدافقة الشبيه بانبثاق نبعٍ جديد، حيوية تصطخب في قسمات الوجوه الحليقة، وشواربها الكثة، فتصيبها بارتباكٍ خفي، يظهر في بريق العيون المضطربة وهي تغالب هيجاناً حبيساً، لا يوازنه سوى هذا الاستلاب التام للجسد، المنضبط في أداء الحركات من مسير وهز أيادٍ وقفزٍ ورفسٍ وما شابه.

صباحٌ مشحونٌ بالتوقعات أثقل علينا، نحن المحبوسين بضيقِ الزنزانةِ، والمنتظرين بفارغ الصبر، سوقنا إلى وحداتنا، كي نعود جنوداً في الجبهات، ونتخلص من أخيلةِ ليالي الهروب المهولة، المضنية، ورعبها.

هاهي الضجة الغريبة تزداد في الفناء. نتمنى من الأعماقِ أن تكون عارضة، أي ليس لها علاقة لا من قريب، ولا من بعيد بوجودنا، هكذا كنا نأمل دون أتفاق وبالعيون فقط، ونوهم أنفسنا كي تستكين.

* * *

أصعدوني دفعاً بأعقاب البنادق عربةً عسكريةً مكتظةً. حشروني بين أجساد ترتجف هلعاً. أَغطستني القماشة السوداء المشدودة على عيني في حلكة دامسة. باغتتني رائحة قوية، رائحة أجساد حية قضت سنيناً طوالاً في عتمة أمكنة رطبة، لم ترَ الضوء أو الشمس، رائحة سبق أن شممتها، من جسد جدي المعلول المنسي في سرداب بيتنا القديم، حيث ظل مهجوراً في فراشه لسنين عدة قبل أن يغادر إلى مستقره الأبدي. الرائحة نفسها، عطن اللحم الحي، رخاوته، وهنه، ضموره، تغضنه، ترققه. تخيلتُ أشكالَ جلودهم اللصيقة بي، وقارنتها بالصفرة الفاتحة لبشرة جدي الرقيقة، التي تكاد تتهزع حينما أدلكها، وأنا أقوم كل أسبوع بغسله، في الطست النحاسي القديم، المركون في الزاوية الأكثر عتمة، والبعيدة عن نافذة السرداب الوحيدة، القريبة من السقف، والمفتوحة على باحة الدار المسقفة بالخشب والشاحبة الضوء. الرائحة نفسها، التي تشربتُ بها لاحقاً في المعسكرات، والمواقف، دور العجزة ومستشفيات التدرن الرئوي، ملاجئ الجبهة وبيوت الطين المنسية في قرى الجنوب البعيدة، التي كنت أزورها أثناء عملي مرشداً زراعيًا قبل الحرب، في أحواض غسل الموتى وسراديب القبور وأحواض الماء الراكدة في جوامع قرى الجبال النائية. اندمجت بالرائحة، برطوبة الأجساد المتعرقة والملتحمة في كتلة آدمية هزيلة مستسلمة ضمتني بحنو في حوض الناقلة.

منحني الالتصاق شيئاً من السكينة، لم تدم سوى هنيهة، إذ أقشعر جسدي وراح يرتجف بجنون، عند ملامسة جنب أليف من جهة اليسار. انتقلتْ عدوى القشعريرة إلى الجنب الساخن الملتصق بيّ، فقد شعرتُ به يهتز مبتهجاً. زحزحت الأجساد الناحلة إلى الجانبين كي أوسع رقعة التلامس. استكنتُ مأسوراً بضوعٍ قديم أليف أعرفه انتشر في فضاء ظلمتي، وأحسستُ بالجسد الأخر يتزحزح أيضا ويتململ ويقترب ملامسا ظهري بمواقع جديدة. هاجمني العبق الراجف مستثيراً ذاكرة اللحم الغافية بماضي الأرحام. وحدي من يميز عبق هذا العطر المبثوث، للضوعِ رائحة كرائحةِ جسدي، التي أتمكن من تعرفها بالأشياء رغم تشبعي بها، فطالما استنشقتُ بقاياها العالقة بقمصاني وبقمصانه، رائحة آسرة لا سبيل لمقاومتها. اعتدتُ تلك العادة الغريبة التي رافقتني منذ الطفولة وظللت أستمتع بها سراً بلذة خالصة غامضة محيرة. كان ضوع الأثواب يسكرني، وأصبحت لدي لاحقاً قدرة خاصة على تمييز الروائح حتى اكتشفتُ أن لدى أخوتي رائحة متشابهة لكنها تختلف من واحد إلى أخر.

الرائحة احتلت كياني:

- أتراها تنبعث من اللحم الممعن في الالتصاق بظهري؟!.

- أتراها تولدتْ من احتكاكِ ظهرينا المتزحزحين بغية استكمال الالتحام؟ أو إنها خاطرٌ آخر من خواطر ذاكرتي المشغولة بالأشجان؟!

استثارت الهواجس أحزاناً قديمة مقيمة فمادت بيَّ الظنون:

- أيكون إلى جواري الآن العزيز الضائع الأخبار؟!

رجّني الهاجسُ رجاً، وانتابني مزيجٌ متناقضٌ محيرٌ من الأحاسيسِ، غبطة وهلع، استكانة وخشية. تخيلت العظام المضغوطة في جلدي عظامه، تخيلتهُ، استحضرته، وسكرت بوهم الوصل. تمنيت أن يستمر الالتصاق، ويمعن حتى التداخل والحلول بالناحل الساخن، المتعرق، العطشان، المشتاق لالتصاق طال الحلم به، طال منذ أزمنة تبدو سحيقة، أزمنة الخوض في بحرنا الأول، ونحن نتخلق في آماده اللانهائية في دفء رحم أمنا "علية عبود" التي لفظتنا في يوم عاصف إلى الدنيا لنضيع.

أمعنت في الالتحام الذي صار مكتملاً بطول وعرض ظهرينا. تخّدرَ اللحمُ، تاه العقلُ، وتوارتْ القشعريرة لتحل السكينة بمعرفة الجسد للجسد، الرائحة للرائحة، فنسيت مصيبتي وهدأت، وبتُ لا أخشى من شيء، سوى من لحظة مفارقة الجسد اللصيق، التي لا بد ستأتي عند وقوف الناقلة العسكرية.

جعلتني السكينة أفيء إلى نفسي. فكرتُ في المكان الذي يأخذونا إليهِ. حاولتُ التخمين. عجزتُ، فالكيفية التي انتُقْينا بها غامضة مريبة. كنتُ جنب النافذة، أنوءُ بضغطِ أجساد الجنود المتجمهرين حولي، منفصلاً عن ضجيج العسكر، وسارحاً مع العصافير المذعورة، الهاربة من كثافة أغصان شجرة ساحة السجن صوب البساتين البعيدة. أفكرُ في عجزي المخزي، وأنا أبصرهم من مخبأي، يطبقون على أخي الصغير كفاح، من كل جانب، وسط الشارع الخاوي.

- أيبلغ الذعر بي حدود الجبن حتى في الأحلام؟!

كنتُ أقلب الأمر المرة تلو المرة، شاعراً بالغضب والعار من نفسي حينما هبط قلبي إلى سحيق، والجنود الموقوفين يتطافرون نحو الزوايا والجدران البعيدة عن الشباك والباب الذي انفتح بجلبة، فظل صوت اهتزازه يتردد في صمت الأموات الذي جثم علينا، إلى أن دخل ضابط قصير القامة. وقف في الفسحة الصغيرة قرب الباب، المتكونة من انحسار الأجساد المفزوعة، وراح يتفرس بعينين صقريتين بالمتكورين اللائذين خلف بعضهم، المنزوين أسفل الجدران بوجوههم المنكسرة، المخذولة، الشاحبة، المرتعدة، المحنية الأعناق، والخاشية من رفع أبصارها، قبل أن أتهالك أنا الأخر تحت النافذة لاحظت الأحداق تتبع من تحت رموشها المسدلة قليلاً حذاء الضابط الأحمر الأنيق، وهو يستدير حول محوره في الفسحة التي ما تني تتسع. فعلتُ مثلَ ما يفعلون، ملاحقة حركة الحذاء التي لم تلبث أن سكنت في مواجهة زاويتي. كنتُ أسمع تلويح عصاه وحفيفها المارق في جسد الصمت الصلب. تخيلتهُ يتفحص الأجساد الباركة في فزعها، ثم ما لبثَ أن صاح بغلظة طالباً رفع رؤوسنا. ترددتُ. كررَ الصياح مصحوباً بشتائم بذيئة. ارتفعتْ الرؤوس ببطء شديد، فظهرتْ الوجوه مخطوفة، مبعثرة، مرتجفة، مذعورة خشية أن تكون هي المقصودة. رفعتُ رأسي أيضاً، فوقع بصري على الآخرين الواقفين خلف الضابط، الأول الشرطي الذي كان يجّود الآيات في السحر، والثاني الذي كان يتوضأ عند انفلاق الفجر، يقفان بوجهيهما الطيبين، الأليفين، الشاردين، الساكنين، المنتظرين الإشارة.

تراختْ أطرافي الهشة وكدتُ أسيل بلحمي وعظمي عندما أشار الضابط بعصاه الممدودة إليّ وأمرني بالوقوف. استندت على راحتي هاماً بالوقوف، فيما الضابط مالَ صوب جندي يتكور مرتعداً في الزاويةِ المقابلةِ، وأمره بالنهوض أيضا. هويتُ ساقطاً بمكاني لضعفٍ أَوهنَ مرفقي. عاودت المحاولة مستحضراً، كل ما تبقى بي من جلدٍ تبدد جلّه في ليالي الرعب والتخفي. نجحتُ بالوقوف ماسحاً بظهري الجدار، وعاجزاً عن السيطرة على ارتجاف ساقيَّ المجنون.

في تلك اللحظة تكاثفت كل أماني بالدنيا بأمنية واحدة. أُمنية شديدة البساطة؛ هي أن يتركوني وشأني. يتركوني أتهالك على البلاط الوسخ أقرض أحلام يقظتي، وأسرح في فضاء نافذة السجن بعيدا، أستعيد أحوالي قبل الاستسلام، حينما كنت أجد نفسي شريداً مطارداً، تحاصرني العيون، فأنسل متدثراً بظلام أول المساء الخفيف، حيث يكون بمقدوري التسكع لسويعات، قبل خلو الشوارع. أجوبُ متأملاً نوافذ بيوت الناس المضاءة بمصابيح الغرف الملونة، شاعراً بالوحشة، وحالماً ببيتٍ غريب يأويني، ويسكب على روحي الشريدة حناناً مختلفاً نقياً. أظل منزوياً في شارعٍ أو ساحة لا يعرفني بها أحدٌ، أقيم علائق خفية مع النوافذ والأبواب وظلال الأضواء المتسربة من مسام الستائر الخفيفة، يعصف بيَّ الشوق إلى الأحبة، الذين يُخَفوني في دارهم، ليس لهم الآن وهم مشوهون بالرعب بل إلى ما كانوا عليه قبل اندلاع الحرب، مصّبراً نفسي، لاعباً لعبة التوهم والتناسي، متغافلاً عن وقع لحظة إيابي الحرجة المحرجة.

تقدم المقرئ نحوي واحتوى ذراعي المنتفضة. استكانت رجفتي قليلا وهو يسحبني سحباً خفيفاً رفيقا. حتى تلكَ اللحظة كنتُ أتأمل أن يدعوني وشأني. انقدتُ باستسلام تام. أوقفني حذو الباب. أما الأخر فلم يقوَ على الحراك. استحال إلى كائنٍ هشٍ حينما تأكد أنهم يقصدونه دون غيره من الجنود، وحينما انحنى الشرطي لمساعدته بالنهوض حَرَنَ متمسكاً بالجالسين جواره، فابتعدوا عنه مزيحين أصابعه المتشنجة، المجنونة، ساحبين أجسادهم إلى الجانبين بقوة، فتشبث بنتوأين حديديين برزا أسفل الجدار. بذل الشرطي مجهوداً مضنياً قبل أن يتمكن من انتزاعه، فخطف جسده الضئيل، محمولاً من فوق تكور اللحم الملتحم في صمتٍ بدأ يضيع بوقع أحذية الشرطة الثقيلة، المتكاثرة، الغادية الرائحة في الممرات المبلطة في الفناء الواصلة بين باب السجن الحديدي وبنايات السجن القديمة.

كان ينصت مخدراً باللحم الساخن، وغارقاً ببحر الظلام، إلى همس يصدر عن شرطيين يجلسان في مكانٍ قريبٍ من موضع تكومهم بحوض العربة المهتز، شاعراً بالنبض الساخن الأليف يخترقه، ويستقر في مجرى العروق، فيشعل وجده وصبابته وتباريحه. ارتجفت كتلة اللحم المكومة في حوض العربة، والناقلة استدارتْ بميلٍ شديد، وكأنها سلكتْ منعطفاً غير مبلطٍ، فالحوض بدأ يرتج صاعداً هابطاً، وبلغت مسامعهم المرهفة طلائع ضجيج ضعيف، سرعان ما أخذ بالتماسك ليندفع متدفقاً بسيلٍ هادرٍ أطردَ أزيز محرك الناقلة وتوضح؛ قرع طبول، أطلاق نار متقطع، صوت أبواق، صرخات متقطعة، هتافات حماسية تضيع في لغطٍ أصم.

أزداد رجيف الأضلاع والعربة تنشال وتنحط وهي تقطع طريقاً وعراً.

جسدان متعانقان في غموض، متيقنان من هولٍ ما، يتأرجحان على حافة هاوية الافتراق الوشيك. ولجت العربة قلب الضجيج فتلاشى أنين محركها، وبقى الاهتزاز الذي أصبح أكثر شدةً، ثم تلاشى فجأة وكأن الناقلة بدأت تسير على طريقٍ معبد. في تلك اللحظة استرخى الجسدان المتلاصقان دون ارتعاش، ترسبا في بحور العرق البارد الذي نقّع قميصيهما، وساح على صفيح حوض العربة المترب.

خمد دون حراك في اليأس والضجيج، مخذولاً، منتهكاً ينتظر انجلاء لغز الجموع الهادرة في هذا الغبش الغريب، وسر اقتيادهم إلى هذا المكان الذي لا يستطيع تخيل ما يمكن أن يكون.

ما جرى بعد ذلك أشبه بكابوسٍ مهولٍ!

لم يستطع استيعاب أحداث ذلك الصباح، الذي دفعه دفعاً، ليبرك في باحة صمتٍ مستحكم، عنيد، أبدي كصمتِ المقابر نازعاً أخر المعاني؛ اجتاحت عاصفة الهتافات وَهنِ القامات، المترجلة من باب العربة الخلفي، وهي تطالب بموتهم. هتافات واضحة تتردد بإيقاع مهووس، لكن منتظم ومدروس تقشعر له الأبدان. دوي يغمر سيرهم الوني، وهم يرزحون في ظلمات القماش وكأنهم عمي من أول الدنيا. هتافات تنّغمت على وقع طبول وأبواق رتيبين أثقلت خطاهم، فجعلتْ من سيرهم ثقيلاً كأنه سيمتد بهم إلى أخر الدنيا. جرفه سيل الضجيج، وأنساه ملمس اللحم الساخن الأليف في حوض العربة العسكرية.

أوقفوه. دفعوا به فالتصق بخشبة أحسها تستقر مع طوله، أخذوا ذراعيه إلى الخلف وقيدوه للخشبة من معصميه وقدميه. أحس ببرودة حديد القيد كلسع النار، وعندما تلاشت أنفاسهم التي كانت تلفح قفا رقبته هوى في محيطِ رعبٍ مهولٍ، وفي انزلاقه المريع أخذ يشد جسده حد التشنج، مرتكزاً على كعبي قدميه، اللتين حفرتا في الرمل الهش لوعته، متيقناً من فراق الدنيا في اللحظات المعدودة القادمة. لابتْ روحُهُ ولابتْ، وراحت تحفر في قاع الخوف السحيق حتى استوطنت هناك مستسلمةً تتأمل خواء المعاني، وتنصت إلى صرخة مجلجلة سبقها انفجار ألجم أفواه الجمهور، فأنشأ في الصمت يتتبع ذيول الطبول، والضجيج، والصرخات، والأبواق المتخافتة في البعيد.

استحكم السكون وساد التوتر، وفجأة تعالى صوتٌ مفردٌ في الأرجاء، يلعلع معدداً سلسلة طويلة من التهم والجرائم الفظيعة التي من المفترض أنهم اقترفوها؛ سلب، نهب، اغتصاب، قوادة، شذوذ جنسي، هروبٌ من الجبهاتِ.

كان يلاحق شارداً، صوت تلّوي واستقامة وانكسار وتكور الحروف، المشكلة كلمات تلك الرزايا، والذنوب الفظيعة التي يلفظها الخطيب بحماس منقطع النظير. زادتهُ فداحة المنكرات سكينةً، وأنحتْ أَخر أثر من أثار الروع، مجيبةً عن السؤال المبهم منذ إحساسه إنه يقاد إلى ساحة الإعدام، السؤال عن أي ذنبٍ اقترفهُ، قائلاً في ذات نفسه:

- هكذا إذن!

وافتكر ماضيه المضطرب، بوجعه وبهجته، فرحه وحزنه، في لحظةٍ خاطفةٍ كلمحة بصرٍ والخطيب يختم سلسلة الآثام والجرائم ناطقاً بقرار الحكم مما جعل الجمهور يضج. تخيله تلك اللحظة وكأنه يحيط به من كل الجهات ويتدلى حتى من السماء. هتافات مجنونة مهووسة هستيرية تطالب بإنزال القصاص:

- الموت للخونة ..الموت للخونة.. الموت.. الموت.. الموت!.

يتدفق من الأفواه الهادرة سائلاً يتموج باختلاف نغم الحناجر. كان ينتظر بفارغ الصبر لحظة اختراق الطلقة، ممعناً في انفصاله عن الحشود الهادرة، متخيلاً مذاق الرصاصة الساكنة في عتمة حجرتها الباردة، وتوقها الجارف للحظة عناق اللحم الحي، رائياً انطلاقتها الخاطفة الثاقبة، وتغلغلها بحنايا الأحشاء الساخنة، مردداً:

- أي شغف يأخذ بروح الرصاصة؟! ي عشق لطراوة اللحم النابض؟!

أمعن في شروده كشأنه عند احتدام المعارك في جبهة الحرب مع إيران، فقد كان في الاشتعال ذاك يغادر الملجأ، دون اكتراث، فيغمره ضجيج الرصاص ودوى المدافع، مبتهجاً يغطس في رعشة هستيرية، متوقعاً أن يصاب برصاصةٍ، شظيةٍ مخلصةٍ أو قد تكون رحيمة، غير قاتلة تعيقه، فيتخلص من الحرب ولو إلى حين، وكان أثناء مغادرته حفرة الملجأ ينشغل عن رعبه بتخيل مذاق الرصاصة الجاحدة التي أعمت بصرها عنه في كل المرات، لكن ما يجري الآن شأن أخر، شأن مختلف تماماً لا مكان فيه للاحتمال ومعنى الرصاصة فيه محدد بَينْ لا لبس فيه، فبدلاً من تخيل أوبته مجازاً إجازة مرضية طويلة وما فيها من أحلام الاستكانة إلى دفء البيت، تخيل موته الأكيد وأوبته محمولا داخل صندوق خشبي وفاجعة الأهل والأحباب، فتشنج وأمعن في غرز ظهره في استقامة العمود الخشبي سابحاً بنضحه الغزير، سامعاً تلاحق دقات قلبه الذي جنَّ في الصمت الساقط على الجمهور. حطمَ صوت سحب أقسام البنادق الخرس، فأخذ يلهث، ويلهث لهاثاً مجنوناً، وكلما نجح في عبَّ نفساً خاله أخر الأنفاس، شاعراً بلذة الهواء وكأنه يتذوقه أولَ مرةٍ

- متى.. متى.. متى.. متى؟!.

وكزَّ على أسنانه بقوة رائياً رغم ليل القماش، الفوهة الممدودة نحوه، المنتهية بحجرة الرصاصة. وأخرها امتدت لحظات الانتظار الكامنة في حلكتها دهراً مضنياً ثقل وطال، إلى أن حطم الصمت صراخ رجلٍ وزمجرة محرك سيارة تقترب مسرعةً من المكان المربوط فيه. كان مستسلماً مخدراً وَلَجَ مساحات اللا معنى، فعاد لا يفقه شيئاً مما يجري، غير واثقٍ إلا من قدوم الرصاصة الخارقة غور الأحشاء، المسّكنة والساكنة في اللحم الدافئ، المخلصة من هول الوجود ومأزقه.

أَحس بأصابعٍ حانية تفك رباط يديه وقدميه وتسحبه بعيداً عن الخشبة، ثم تحضنه ذراعان ودودتان وسط ضجيج هلاهل، صرخات ابتهاج، تصفيق، دق طبول وتزمير أبواق، وتزيل عن عينيه حجابها الأسود السميك.

لبث مطبق الأجفان بعدما باغتهُ ضوء الصباح القوي، غير مستوعبٍ بعد التهاني، والكلام عن عفو رئاسي خاصٍ صدر باسمه واسم أخر في اللحظة الأخيرة. عفو أنقذهما من إعدامٍ أكيد. كان يستقبل ببرود سيل القبلات، وهم يربتون على ظهره ويشدون على كفه ويحتضنوه حامدين رحمة القائد الحنون، داعين له بطول العمر. استطاع بعد حين مباعدة أجفانه المتوترة. أوجعه الضوء فانضمتْ مطبقةً. حاول ثانية مقاوماً ألم الضوء، فتراءت لبصره كتلة هلامية راقصة باهرة البياض أخذت تنجلي رويداً .. رويداً عن ملامح وجه يدنو منه ويدنو، فإذا به وجه الشرطي الذي كان يرتل الآيات في السحر بتضاريسه المغضنة المنهكة التي استبانت رغم تضبب الرؤية. كان يرمقه من عينين حالمتين تصبان دمعاً دافقاً يسح مبللاً غضون العمر وهو يرفع ذراعيه متضرعاً يدعو للقائد "صدام حسين "الرحيم المسامح الكريم بطول العمر والنصر على الأعداء.

تلبّدَ معطل الذهن ينظر مضيقاً حدقتيه إلى حشود غارقة بالضباب مزدحمة على أدراج ملعبٍ لكرة القدم فخمةٍ عاليةٍ. حشود لاغطة صارخة تتداخل أشكالها وألوانها وتسبح في أبخرةٍ بيضاء تتراقص وامضة في أحشائها نقاط فضية مشعة تنطفئ وتتوهج في سرعة خارقة. أغمض عينيه من ضغط الضوء المباغت المؤلم فانبثقتْ من رماد ولغط الحشد ساحة الوغى صبيحة العاشر من عاشوراء. الغبرة نفسها والحشود الساهرة المنتظرة وقائع الفاجعة المعروفة. تفارقت الأجفان المنهكة فاقتحمته هذه المرة الشمس بضوئها الدامي وقرصها الكبير القاني الحمرة الناهض من بين تلال البادية البعيدة. عاود التحديق مدهوشاً شاملاً الساحة. الألوان نفسها .. والمناخ .. ذات حمرة الشمس القانية في فسحة ذلك النهار الراسخ؛ كان يقف بصحبة أخيه كفاح الغائب يغالبان نعاس الليلة السابقة لصبيحة الواقعة، مندسين بين أفخاذ النساء وأجنابهن المعروقة الساخنة المطبقة بروائحها المسكرة على جسديهما، وهنَّ يزدحمن لرؤية أحداث فاجعة المقتل التي تثير أحزاناً غامضةً في نفسيهما، فتجعلهما كئيبين صامتين، مطعوني القلب، مرمدين طوال الأيام التالية تَرنّ بأذانهم ندب "زينب"ــ المحمولة على هودجها وسط دخان الخيام المحروقة بصوتها الشجي المفجع الشاكي الباكي الذي يجعل حشود النسوة والرجال والأطفال تضج بعويلٍ وصراخٍ طويلٍ، ثم يتعالى صوت لطم صدور الرجال العارية ولطم خدود النساء المتطينة.

إلى يساره كان الجندي الذي حرّنَ في الزنزانة يتقلب على التراب مقبلاً الأرض تارةً وأحذية الشرطة تارةً وهو يهذي متغزلاً بالرئيس العطوف الذي غمره بعفوه ونجّاه من مقتلٍ وشيك، ناسياً أنهم قبضوا عليه في نقطة تفتيش طيارة وهو متوجه إلى وحدته، بسبب تأخره يوماً واحداً عن موعد التحاقه كما أَسرَّ له ليلة البارحة في حجرة التوقيف. لم تزل الأشياء البعيدة من أجسادٍ وأعمدةٍ وجمهورٍ وأفقٍ ترقص في سحب الضباب الذي شرع يشف وينحسر كاشفاً لناظريه حقيقة المشهد بكتلِ أشيائه وحوافها المعلومة وترتيبها المعمول بدقة. أنعمَ التحديق بوجوه فصيل الإعدام الشاحبة المنتظرة لأوامر جديدة بأرديتهم العسكرية الزيتونية وبنادقهم المهيأة .. بالأجساد العارية الصدور المصفوفة على مقربة منه الباركة في ظلمات الأقمشة والمشدودة إلى خشبة عمرها. أجسادٌ ناحلةٌ يتمكن الرائي من إحصاء أضلاعها الظاهرة تحت الجلد المتعطن كجلدٍ نقع بماء آسنٍ. السيارات تدور مثيرة غبرة كغبرة أحصنة الفرسان لحظة أحاطتهم بالحسين وهو يسقط مُرتَثاً بجراحه، مستجيراً بأحدٍ يعينه ويذّبُ عنه الموت القادم برهافة السيوف اللاهثة. غبرةٌ تكرب القلب وتنهك الروح. كان محتدماً بمشاعر متناقضة، فبالرغم من كل ما يجري وسط وحشة هذا الصباح كان مبتهجاً لخلاصه من إعدامٍ وشيك لم يجد له تفسيراً معقولا:

- لكن أي عقلٍ وسط هذا الجنون المطلق؟!

قال مع نفسه.

مشاعر متناقضة إذ كان من الممكن أن يرموه بالرصاص أسوةً بالمصفوفين المنتظرين المسمرين باستقامة أعمدة الخشب المتين، وبين شعورٍ مؤلمٍ لرؤية فاجعة مشهد الإجهاز على هذه الأجساد الغريبة البائسة المتدلية أصلاً في فجوة العالم الأخر، متخيلاً الماضي القريب لهذه الأشباح البشرية وما عانته من عذابات في الزنازين وظلمات عالمها السفلي قبل اقتيادها إلى الساحة. تساءل عن الذنوب التي اقترفتها .. وهل القائمة الطويلة التي قرأت عن جرائمهم صحيحة؟! وأية أيام مضنية أحالتهم إلى أشباه هياكل بشرية؟!

رغب في عدّهم رغم بقايا الضباب. لا يدري لِمَ رغب بذلك لكنه أخذ يعد. عَدَّ عشرين هيكلاً عاري الصدر مصبوغاً بجمرة الشمس الموقدة وفكر وسط الضجيج في العديد من الأحبة والأصدقاء الذين اختفوا في ظروفٍ غامضةٍ وغابت أثارهم تماماً. فكر بأخيه كفاح الذي يصغره بثلاث سنوات، وعاد يتملى بدقةٍ تضاريس الوجوه الناحلة القريبة منزعجاً من كمامة العيون التي تمحي التمايز بين الأشكال، وتيقن منذ تلك اللحظة أن الطول والقصر ولون البشرة وشكل الأنف والفم والجبهة لا تكفي لتمييزها، فكل هذه التفاصيل التي يراها قريبةً تبدو مجردةً لا تشي بشيء دون عيونها.

وبينما كان يتفحص الجسد القريب من وقفته هاجمته الرائحة الأليفة الغامضة، موقظة ذاكرة اللحم، فجعلَ يرتجفُ ارتجاف التصاقه بالآخر في العربة العسكرية التي حملتهم في غبشة الصباح. أجتاحه العطر الدافقِ من الهيكل النحيل القريب، من نوافذ سرية انفتحت على بحور قديمة قدم الرحم الأول، رأى نفسه يغوص في القاع اللزج بصحبته فأنتفض من عمق الحنو والدفء والألفة. أنتفضَ بصمتٍ ولفَّ حول محوره لوعةً:

- أيكون أحد الأحبة موثوقاً إلى خشبته؟! أيكون هو يا رب الأكوان .. أيكون؟!

أخذني الارتعاد. سبحتُ بعرقي. نسيتُ نفسي.

تيهتني الفكرة بمسالكها الوعرة المفجعة. حملقتُ بعينين مشدوهتين في صف الأجساد المربوطة بموازاة وقفتي .. لو .. لو .. لو أخطو إلى الخلف خطوتين. لو أخطو يا ربي لتمكنتُ من السيطرة بناظري حتى نهاية الصف الطويل. كنت حذراً أخشى الإتيان بحركة تفضحني. زحفت بقدمي مليماً. مليماً إلى الخلف، وقلبي المسكين يعلن بضجيج طبوله القارعة عن قرب مصدر الرائحة:

- ماذا لو رأيته؟!

أوجعني الهاجس. أيبسني السؤال:

- ماذا أفعل يا ربي.. ماذا؟!

- هل أخذلهُ كما خذلتهُ في حلمِ ليلةِ البارحةِ؟!

رجعتُ خطوتين إضافيتين بجرأة هذه المرة، وتطلعت من خلف أكتاف الشرطة إلى الأجساد السابحة في الغبرة المتصاعدة من عربات عسكرية تمرق خلف صف الرماة المنتظرين مقابل صف الأعمدة الحاضنة ظهور الرجال الناحلة.

نظري المرتبك يتفحص المربوطين الواحد بعد الآخر من أخمص القدمين الحافيتين إلى الصدر العاري والقسمات المبهمة باحثاً عن علامة، ألعنُ كمامات العيون .. و .. و .. جذبتني قامةٌ سامقةٌ ناحلةٌ هي الأقرب إلى وقفتي، مفجرةً نواحاً أخرس انتشر بأرجاء روحي. التهمتُ استدارة الذراعين والكتفين الهزيلين، ونزلت حتى عروق القدمين الحافيتين بأصابعها الطويلة النحيلة. عصفتْ بيّ الشئون، وزلزلت بي الأرض، فصرخت في صمتي:

- مــدد.. مــــدد .. مــــــدد.. حي.. حييييييييييي.

اشتعلتُ من أطراف قدميَّ. مدّْتُ:

- مـــــددددددددددد .. مدد يا نخلتي السامقة المربوطة .. مـــدد.

كنتُ أستعيد لحظة تأملي، طوله وهو يغفو في سريره المقابل لسريري، في غرفتنا المشتركة في بيت أهلي في الحي العصري قبل سنوات. العنق الطويل نفسه الذي طالما كنت أدفن وجهي فيه وأشم عطره كلما عدت من سفرٍ قصير. هاهو الحبيب قريباً.. بعيداً، متدلياً .. مكسوراً، ساكناً .. منتظراً .. سأركض إليه يا ربَ الأحزان .. سأركض لأقّبل الوجنة الناحلة للمرة الأخيرة .. سأركض يا رب الذبح وأعانق ما تبقى من هيكل الحبيب .. سأركض:

- مـــدد .. حي.. حي.. حييييييييييييييييييييييييييييييييي!

نبّعَ من صراخي المحجور في جوفي وأخذ يهدر:

- حــــــي .. حي يا رب المذبحة.. حي يا رب الحرب.. حيييييييي يا مُعَذِب المُهَج والأحوال .. حيييييييييييييييييي!.

- حيييييي يا قامةً سامقةً في الأعماق تفتتني .. حـي .. مـــدد .. مــدد .. يا علي يا أبا الحسن .. حيييييييييييييييي!.

ســأهب إلى عــناقه .. سأهَبُ .. تزحزحي يا قدميّ الثقيلتين .. تزحزحي .. دعينا نغيب في بحرنا الأول .. بحر "علية عبود" .. تزحزحي .. هبيّ..

- اهدأ .. اهدأ قليلا .. كن رابط الجأش، ماضي الجنان، قد لا يكون هو .. وعند ذاك سَتُضَّيع نفســـك وتحيلها عدماً دون مبرر!.

- لا.. لا.. قلبي يقول غير ذلك!. قلبي يقول غير هذا .. إنها خصلاته الفاحمة السواد الملتفة في احتشادها الكثيف .. هاأنذا أراها رغم أنهم حلقوه بالموس .. أصابعي تلتهب شوقاً للانغمار في موجها .. وحدي أراه دون الكل .. وحدي أراه دون الكل .. وحدي أراه دون الكل .. وحدي .. وحدي .. وحدي أراه بهيئته التي فارقته فيها عند موقف حافلات نقل بساحة الأندلس وسط بغداد قبل ثلاث سنين.

- إي أهوالٍ تجشمت يا حبيبي قبل أن تصل إلى خشبة خلاصك؟!

خنقني الدمع، خنقتني الدنيا، وساقيّ ماتتا يا رب الخلاص ماتتا.

- مدددددددد .. حيييييييي سأحضنك .. حييييي سأحضنك .. يا ساقيَّ الواهنتين أعيناني كي أصل إلى شهقة قامته المنيرة وسط الغبرة!

- هدّئ ..هدّئ .. من هوج عواطفك .. هدّئ يا سلام! لا تزيدها استعاراً بما تضفيه أشواقك من أوهام .. اكبح جموحك .. اكبح وقف بمكانك .. قف وأنتظر الأتي .. أنتظر .. أنتظر أنها زوبعة، وزان نفسك الحساسة، زوبعة ستعبر مخلفةً ألماً وجرحاً سيندملُ مع الزمن ككل الجروح! قد لا يكون هو واحد يشبهه!

- لا .. لا .. إنه هو .. هو .. مددد .. مـــدد .. يا علي بنابي طالب .. حييييييييييييي .. مـــددددددددددد!.

- أشششششش إنها روحك الطيبة التي تستثيرها فجيعة الآخر!

- لا.. لا .. الرائحةُ .. الرائحةُ يا رب الأكوان .. الرائحة تفوح .. تبوح!

- اسمع .. اسمع .. هدّئ جموحك .. هدئّه واستكن قليلاً، قد تكون منبثقة من وهمِ التذكر ووهج الصبابة والأشواق، ألا يحدث لك أحياناً أن تشم رائحة مكان قديم عند التذكر قوية وكأنها صادرة من مكان ما حولك؟!

- القلب يقول غير هذا!

القلب يشير إلى المحبوب .. والروح تلوع!

- تعقل .. تعقل .. القْ عنك هذا الجنون، قد يكون آخر!

- العين .. العين تقول هو .. الأنف يا رب الهواجس نفسه، والجبهة .. الوجنتان .. استطالة الوجه الجميل .. عروق القدمين .. شهقة القامة.

- اهدأ .. اهدأ .. يخلق من الشبه أربعين!

اضطرمتُ بسعير روحي فأحسستُ باللهب يتصاعد من أخمص قدمي العاجزتين المشلولتين.

- يا ساقيَّ .. اللعنة عليكما اللعنة .. سيجعلني عجزكما ملعوناً ما تبقى من العمر .. ماذا ألمَّ بكما؟ .. أهو الجبن؟! أهو شلل الرعب؟! أم فداحة الفاجعة المقبلة؟!

تململتُ. أردتُ الحراك، لكن دون جدوى، يا لقلبي المسكين .. يا لروحي المكسورة المعلقة بالشفتين المزرقتين اليابستين اللتين طالما انطبعتا على وجنتي .. هاهو يستدير يا إلهي .. هاهو يستدير بجسده الناحل ببطء لا يحسهُ سوى القلب العارف الولهان .. هاهو قلبي يُسّقِط قطعة القماش عن عينيه السوداويين الواسعتين العميقتين المحفورتين في الروح نافذتين .. هاهما أمامي متألقتين كألق أخر لقاء في بارٍ منزوٍ وهو يتلو عليَّ قصائد حب كتبها أثناء ليالي تخفيه .. البريق المضيء نفسه يا نائحات الأرض والسماوات .. يا للوحشة.

رحت أصرخ دون صوت كما في كابوس:

- وآخاه .. وحبيباه .. وكفاحاه .. يا ضيعتي بعدك .. يا لخوائي بعدك .. يا لبؤسي بعدك!

سأركض .. سأركض .. هيا يا ساقيّ هيا أحمِلَني إليه .. سأذوب في حضنك، سأذوب وليربطوني لصقك، مالي وهذه الدنيا بعدك .. مالي وما لها .. مالي وما ولها.

زحزحت قدميَّ. حاولت رفع ساقي، لكن هيهات كانتا منهارتين لا تقويان على الوقوف إلا بالكاد:

- يا رب الأشواق .. يا رب المعاني .. ولو شمه، ضمه، لمسه .. ولأفنى بعدها!

شددت ساقي بقوة فتصلبتا متشنجتين.

- سأخطو نحوه.. سأدفع الشرطي وأركض.. ســــــــــــــــ.......أ ...د.....ف ......ع......ه.. يا حبيبي .. يا حبيبي .. يا حبيب هاأنذا قادم إليك.

- دع عنك هذا الجنون .. دعهُ .. انك غير متيقن!.

- قلتُ هو .. انه هو يا روحي .. هو!

-لا .. لا .. انه الجنون بعينه. لا ترتكب حماقة عمركَ وتضيع، قد يكون الآن حراً ومتخفياً ويسمع بموتك .. أتعرف أي فاجعة ستضيف إلى محنة روحه .. أتعرف .. أي؟!

- ....!.

- ها صَمَتَ .. إنه منطق العقل .. أصبر .. أصبر.

- لا.. لا.. انه هو .. القلب يهمس .. والروح تصرخ .. أنه هو!

- اطلعْ من بحرِ عواطفكَ وشجنكَ .. فانا أعرفك عاطفياً هشاً تبكيك أبسط المواقف المؤثرة حتى في أسخف الأفلام .. هاأنت تطلي بأشجان محبتك بؤس هؤلاء المساكين المواجهين قدرهم.

- لا.. لا .. قلبي يقول غير ما تقول!

- ليس كل ما يشير إليه القلب صحيحا.

- عمر القلب ما أخطأ الرؤيا.

- دَعْ عنكَ جنون التصوف واصبر.

- ليس تصوفاً .. ليس خيالاً .. ليس وهماً .. أنه أخي بلحمه ودمه!

- أصبر يا هذا ولا تفنِ ذاتك سدىً .. ارتوِ بالبكاء وأهدئْ كشأنك دوماً.

- تقول البكاء .. البكاء .. يا خيبة روحي .. هذا أخي وحبيبي .. يا أمي يا حبيبة

(أنه أمنين أجيب الجابته أمي)

يا خوي..

يا كفاح..

يا ضيعتي بعدك ..

- تعقّل .. تعقّل .. ولا تدع نواح يوم الطف تستغرق روحك .. أجنحْ إلى حكمة العقل كي يستكين القلب قليلا.

- أي سكينة .. أي؟!

أفورُ بمكاني .. أتلظى بجحيم نواحي الأخرس محاصراً بأجساد الشرطة والصمت الهابط على الأجساد والحجر والتراب والعيون. الصمت الثقيل. الصمت الذي أخرس الأفواه للحظة بدت كدهر، الصمتُ أخذ يدوي لحظة استقامة البنادق نحو الهياكل الناحلة دوياً وكأنه الحلكة. وحده اهتزاز الأجساد المرتجفة المشدودة جعل الأعمدة الخشبية تتزحزح وتئز أزيزاً خفيفاً كان يسمعه وحده وهو يقف خلف أجساد الشرطة القائمين في خرس الصمت. يصطخب. يفور. يضطرب متطلعاً نحو فوهة البنادق المصوبة التي استكملت مستقيمة وسكنت بانتظار الأمر.

- أرم.

وانبثق صراخ الطلقات أجوف من صمت الحديد البارد، فاصلة صمت، دفعة رصاص أخرى، فاصلة صمت، وأخرى .. وأخرى. جعل ينود على إيقاع ولولات قديمة مطبوعة في طيّات النفس الدفينة. ينود وضجيج الرصاص ملأ الكون غبرةً. شاهدهُ ينتفض بكامل جسده وكأنه يود الطيران إلى الأعالي .. إلى الأعالي. رّدهُ القيد، فأخذَ يجودُ بنفسه بانتفاضاتٍ متعاقبةٍ سريعةٍ كانتفاضاتِ طيرٍ ذبيح. أعولَ فضاع عويله في جنون السعار الذي أصاب الجموع المحتشدة على أدراج ملعب تكريت. ساد الارتباك بين أفراد الشرطة المحيطين به، فتحركوا دون إرادة يميناً وشمالاً ثم انفجروا يكبرون بأصوات مرتعشة، بوجوهٍ راحت تلمع بنشوة استثارتها شهوة القتل الكامنة في عروق الأسلاف المتوحشين. طفقوا يدورون حوله أشباه مجانين. جنون أصاب الحجر والسماء والأفق والبشر وأعمدة الخشب والغبار وقرص الشمس الأرجواني وجعلها تصطخب اصطخاب أمواجٍ عاتيةٍ في عاصفة هوجاء. صرخ .. وصرخ حتى بح صوته وغاب، فلطم رأسه لطماً متلاحقاً عنيفا بكل ما تبقى لديه من قوة قبل أن تختلط الرؤية.

آلاف النسوة بوجوههن الشاحبة المطينة وعباءاتهن المشدودة حول الخصور يركضن ضاربات جباههن الدامية محتلات ساحة المقتل في صبيحة العاشر من عاشوراء. لعلعة طلقات الدوشكا تخرق عويل أمهاتٍ باكيات. أعلامٌ حمر قانية تشتبك برايات خضر. ضجة حوافر الخيل قويةً، قريبةً تثير الغبرة وتسحق أجساد الحشد. كان يمسك كف أخيه خوفاً من الضياع ويندسان بين أجساد النسوة المحتشدة المتعرقة الفائحة برائحة الحليب وفوران الجسد الحزين، والناظرات بعيونٍ محتقنةٍ تصب دمعاً من دم إلى الحسين بن علي بن أبي طالب يسقطهُ من صهوة جواده سهم مسموم ذو ثلاث شعب. وحيداً وسط الأعداء غير قادرٍ على القيام، ينزع السهم ويرفع بصره نحو السماء. يكور كفه على الجرح فتطفح بالدماء، يرمي بها إلى السماء، يملأها ثانية من فيض النحر. يلطخ بها جبهته ولحيته المسدلة. يتعالى الصريخ. ينشجان بحرقة. تسكرهما روائح الحزن الفائحة من أجساد النسوة الملطخات بالطين والحناء وبقايا الأبخرة العالقة بثياب الحداد السوداء المخرمة بالورد. أجساد معجونة بالألم.

لم يزل الجسد الناحل المثقب النازف ينتفض متشبثاً بأهداب الدنيا عاجزاً عن مسك أفواه الجروح، عاجزاً عن رؤية القتلة ومكان القتل، ينتفض هازاً خشبته، ينتفض لا يريد الهجوع. ومن وسط الغبرة الدافنة قرص الشمس ظهر وجه أبيه "عبد إبراهيم سوادي النجار" بعروقه المحتقنة وهو ينشج نائحاً في غرفته المعتمة ثلاثة أيام بلياليها ونهاراتها، هاذياً لضياع ابنه وكأنه يرى مشهد القتل هذا. تداخل عويله بعويل أبيه، بتصفيق وهلاهل ونواح، وأصوات إطلاق رصاص متقطعة. حملق متأرجحا على حافة السكر في وجوه الشرطة وهم يركضون دائرين حول وقفته، وجوه مندهشة، منتشية، مرعوبة، مضطربة، حائرة. يبرز غلام من خيم النسوة، يتلفت حاملاً عصا خشبية طويلة، يدنو منه الفارس هاذباً على صهوة جواده، يعلوه بالسيف الناصل، يتدحرج الرأس قرب أقدامهم، تتراجع النسوة صارخات ذعراً. يحتضن أخاه كفاح. يرتجفان رعباً والطلاء الأحمر يسيل من عروق الدمية التي تصوراها رأس غلام حقيقي. يتخافت انتفاض الأجساد المربوطة متحولاً إلى رعشةٍ خفيفة. رآهم يترجلون من سيارات فخمة، ويتقدمون نحو الأجساد المحنية السارحة نحو السكون الأبدي. إنهم يدنون بقاماتهم الفارعة وبدلاتهم العسكرية الزيتونية المميزة لجنود حماية الرئيس. يدنون بخطواتهم الشرسة حاملين بأيديهم هراوات طويلة سميكة من الحديد. أصبحوا على بعد متر واحد.

عشرون رجلاً، وعشرون هراوةً، وعشرون محتضراً.

رآهم يرفعون الهراوات عالياً في غبار النهار وينهالون على الرؤوس المتدلية ضرباً رنَّ بالرغم من الهلاهل والصراخ والعويل وأزيز طائرتي هليكوبتر تحومان على ارتفاع منخفضٍ في سماء الملعب. يتصببان عرقاً في زحمة النسوة الباكيات والمرتعشات وجداً وألما والشمر بن ذي الجوشن يرفس الجسد المرتثِ بالجراح والملقى على الرمضاء. يخرق الصريخ الكون والشمر يعتلي صدر المحتضر ويقبض شيبته البيضاء المنقوعة أطرافها بالدم، يضربه اثنتي عشر ضربة. يتبدد وسط الحرس رائياً من بين سيقانهم المتحركة في سورتها؛ رأس الحبيب يتمادى في تدليه تحت وقع ضربات الهراوة الصاعدة النازلة على سمت الرأس. تلاشت الهلاهل ليحل محلها صراخ يشبه نواح تصاعد خفيا سارياً بصراخ رعب مبهم لحظة حزَّ رأس الحسين. يدفنان وجهيهما بعنقي بعضهما وكأنهما يخشيان أن يفقد أحدهم الآخر. كان يتشبث بساقي الحرس القريب بأصابع واهنة محاولاً القيام وهو يرى تناثر محتويات الرأس على تراب الملعب الحزين.

في صمت غروب الساحة وجد نفسه مرمياً على مقربة من الأجساد المجزرة المنثورة المتروكة على التراب مطلية بفيوض البنفسج المحمر المنسكب من أفق الغروب. كان لا يستطيع الحراك، وحيداً، عاجزا،ً يحملق بالجسد الحبيب، القريب، المرمل بساخن دمه. ظلَّ مشدوداً إلى الأرض بقوةٍ غامضةٍ طاغيةٍ. رمى بصره نحو الأفق البعيد، فأعشاه دفق الشمس اللاهث الدامي من قرصها الكبير الملامس خط الأفق. ترّسبّ في عجزه المحّكم وأغرز ناظريه بعين الشمس. ومن البعيد .. البعيد .. من قيعان الصمت وفيض البنفسج الخجلان أبصر سبع نساءٍ ينبعنَّ من لب الجمر ويقدمنَّ بأرديتهن السوداء ميممات صوب الجسد النازف. كنَّ يقتربنَ بأناة. أنعم النظر في وجوههن المطّينة المخّدشة الشاحبة الباركة في ألم الفجيعة، في أصابعهن الناحلة وأكفهنَّ المحناة. كنَّ يقتربن بخطوات متمهلة كخطوات سكارى يتمايلنَّ ذات يمين وذات شمال ويغرفن براحاتهنَّ الصاعدة النازلة مع حركة الأذرع بصمتٍ من فيضِ نزفِ الشمس ليلطخن الوجوه، فتضيع الملامح المعتمة المظاهرة لقرصها الذي غطس نصفه خلف الهضبة البعيدة. مررنَّ على مقربةٍ من رقدته دون أن يلحظنه. أطلق صرخةً مدويةً من مكان تحجره في بقعته الظاهرة ، فرّنت في خواء الروح اللائبة بخرسها. ظل يصرخ ويصرخ وهو يهمش بذراعيه الممدودتين كغريقٍ.

كان الصمت دافقاً يحّجر الشمس والتراب، الجسد والأفواه، الأعمدة والآفاق، وهو يشخّص أمه بوجهها الجليل التعبان، وشعرها الشائب المفرود، وتضاريسها القديمة المصبوبة بالحزن وفواجع العمر، تقود أخواته الست اللواتي تحلقنَّ حول الجسد الوادع المستكين إلى أبديته، ثم انفجرنَّ بصراخٍ تحّشرج في الحناجر المطفأة وطفقن ينودنَّ في جلستهن المحيطة بالعزيز الغافي. كان يتطلع بعجز تام متلظياً بعذاب صراخهن المخنوق. ضّمتْ أمه الجسد النازف بحنان وهي تسفح سيلاً من الدموع راح يغسل الجروح. أكبرهنَّ ظللته بردائها. أصغرهنَّ لاذت بجنبه مذعورةً تبغي الأمان. أخرى صبغت فاحم شعرها بفيض النحر. الأخرى لثمت فم الجروح. وأخرى ارتمت تقبل القدمين. والأخيرة عانقت كفه المفتوح والملقى على التراب .. وحيداً .. مهجوراً .. منسياً يتحجر في بقعة ترابه الرطب يحملق بذهول تارةً، ويشب صارخاً في أخرى فيضيع صراخه في البراري الشاسعة المقفرة.

كنَّ يمسحن الجسد الشريف بأجسادهن ويغسلنه بالدمع.

كنَّ يغرقنَ والجسد بجمر الغروب الحزين.

لم يكف عن صراخه الأخرس المفجع إلى أن سقط في تيه الفراغ .. في هوة العدم.

* * *

استيقظ من رقدته تحت نافذة الزنزانة لاهثاً. فرك عينيه المبلولتين ورمق تبعثر أجساد الجنود الموقوفين على البلاط البارد دون أغطيةٍ. أنصت لزقزقة عصافير سدرة الفناء، إلى تجويد المقرئ. تطلع من النافذة إلى بقايا العتمة بين غصون الشجرة والشبابيك والغرف، إلى صبيب الغبش الناثر فضته على الأشياء، سامعاً خرير ماء يسكب من عنق إبريق، فعرف أن شرطياً يتوضأ جوار الحوض وسط الفناء. ازدرد ريقه الناشف، مفكراً في هول الكابوس المخيف، وخلد إلى جلسته لصق الجدار يفكر بالرؤيا وكابوس الليلة المرعبة.

لكن عندما استيقظ أول جندي، وأقبل عليه بشر الهيئة، وأمطره بالتهاني لخلاصه من إعدامٍ أكيد سقط في باحة صمتٍ مستحكمٍ فسيحٍ نازعاً أخر المعاني.

 

* * *