في ثلاث لوحات يمتزج فيها الشعر بالسرد صاغت الكاتبة الجزائرية خواطر امرأة في علاقتها بالمدينة والمهر والرجل مصورةً ظلال الروح المرهفة وهي تتحسس الحب بفعل المطر الغاسل كل شيء الأرواح والمدينة والقلوب.

على وقع احتراقاتٍ

الخامسة عـلاوي

 

1- مدينتي والمطر

على إيقاع الزخات، وعبر نسائم عطر أزلي النفحات.

وبين أحضان الكلمات، راقصتِ المطرات، حباتٍ، حباتٍ.

ومع كل حبة كانت ترحل آلاف المسافات، مراقصة أرواحا بشحنات.

مطر ...مطر، وعطر تراب مدينتي يسحبني إليه فأرتد في لمح البصر متسائلة:

مطر ...مطر على وجنتيك مدينتي، وفي الصدر رعشة، حشرجة، فهل تخاف مدينتي مطرا تراقص في السحر؟

وتهمسين: حباته لؤلؤ مرصع على وجه قمر، تلامس أنفا عاجيا، تداعب خدا ورديا، تشاكس ثغرا عذريا. عازفة لحنا شجيا يجعلها تراقصه دون خجل.

يدها اليمنى على كتف ليلي نائمة، بينما هامت اليسرى بأوصال خصر سكنته لوعة منذ زمن، لتغرق هي بعد خطوتين في لهيب لحظة هاربة من زمن الوصل الجميل، ودون أن تدري توسدت صدره المزهو بحضورها، وأسلمت روحها لوقع الرفلتين، وغابت بين ذكرى وحنين لرسيس وُئِد في بدء التكوينِ تحت زخات مطر كانون.

مطر...مطر على وجنتيك مدينتي، وفي الصدر رعشة، حشرجة، فهل تخاف مدينتي بعد اليوم مطرا تراقصت حباته بين النجوم وفي حضرة القمر؟

11أفريل 2019

2- مطر، فرس، وصهيل

في مرج أخضر فسيح يمتد فيه البصر حتى تعانق سنابله المنحنية زرقة السماء الحانية، شاكرة مبتهلة، رأيتها ممتطية صهوة فرس أبيض بعرف رمادي داعبت خصلاته نسائم مسائية، تمشي بخطىً الواثقين، والعين متفقدة أحوال الزرع والقلب يملؤه رضىً ويقين.

وفجأة باغتها مطر الربيع، فتطايرت حباته مسبحة باسم القدير، الورد يرجوه ألا يحطمه وينهيه، والزرع يحضنه ويحويه.

وبين الرجاء والاحتواء دقت الأجراس حذْوات فرسها معلنة الرحيل، انحنت بعدها الفارسة متمسكة بفرسها هامسة، والمطرات تجلد الظهر والجبين:

مطر ...مطر على أجفانك فرسي تلألأت حباته فما انهمر،

تحذّري، إياك أن تعصف بروحك ذكرى الرحيل الأول،

قاطعتها الروح مجلجلة: كيف تكف الروح عن الروح والروح في الروح تقيم؟

ودوى وقع الحذْوات معانقا صوت الرعود، والريح تنشد في الورى:

"أخاف أن تمطر الدنيا ولست معي

فمنذ رحت...وعندي عقدة المطر"

فلما بلغت: "والان أجلس...والامطار تجلدني" ملأ صهيلها الأفق متوقفة عن الركض عند هوة سحيقة، أخذت تحوم حولها وكلما توجهت بوجهها الى طريق العودة رفعت رأسها عاليا الى السماء، وهي تلقي بكامل حمولتها على الأطراف الخلفية مدوية الارجاء بصهيلها والمرتد، وبين زمجرة الريح وجلد المطر، تطايرت الصفحات راوية قصة حصانها الادهم الذي لقي حتفه ذات يوم من شتاء مطير.

اعادت الكرة مرات..، وفي كل مرة كان هلع الفارسة يُدخلها جحيم السقوط، فلا يزيدها ذلك إلا تمسكا بلجامها، لكن الكحيلة كانت عَبِيّة.

وفجأة ساد الهدوء وسكنت النفس المضطربة.. نزلت الفارسة.. فانتفضت الكحيلة رامية بقايا حبات المطر من عرفها.. هازة بذيلها الطويل محيية الفارسة، فردت الفارسة التحية بمسحة حانية من أعلى الجبين إلى حدود الفم وهي تردد: وفي الخيل عزة لا يستطيع الانسان أن يفهمها، إنها تحزن ولا تبوح، تتألم ولا تنكسر، فلله در كحيلتي منك يا مطر.

مطر.. مطر على وجنتيك فرسي، وفي الصدر رعشة، حشرجة، فهل تخاف فرسي بعد اليوم مطرا تراقصت حباته بين النجوم وفي حضرة القمر؟

13أفريل 2019

 

3- الراحلون

الراحلون من حياتها أربعة:

أخ في ربيع العمر تخطّفه المنون

أب أسلم روحه للصمت مكاشفا بصدر حنون

وحلم عشِقتْه، هامت به معطرا بجنون

وروح علمتها تيه الفيافي وسحرها المكنون

فيا دمع المقل أغرق الجفن هطولا كمطر، عن أحبة فارقوها دون أدنى منتظر

آثروا بعْثرتها عبر أزمنة في لمح البصر.

يا سماء اعصري الغيم دموعا، مطرا حباته مرددة: أباءنا لا يموتون ولو دفنوا، لا يعرفون الغياب ولو رحلوا.

سكناهم هنا في القلب، بل في الروح والوجدان انغرسوا.

يا سماء أبْكِه مطرا رعديا...، جلجلي...، أبرقي...، أعلني له الارتقاء.

وتهمسين وشوشيها، همهميها، لملميها، لم يعد سوى ذاك العزاء...،

امسكي ضياعها كي لا تضيع أكثر بعد فقدِ منْ أدمنت عناقه لحظة تنفس الصبح وعسعسة الليل،

كي لا تهيم كاشفة الغطا عن جفاف الضلع تحت زخ مطر الليلة الليلاء على جفن طالما علّم الغزل.

مطر..مطر على وجنتي طفلتي، وفي القلب لوعة، صهد، فلا تجزعي بنيتي.

فيا مجبر البدر في كبد السما،

هذا نِداها تردِّده الأنام صباح مسا:

شاق شوقي واشتياقي لمبسمه، فانشق قلبي شوقا له، وانشقت شقائقي.

يا مجبري أمسك ضياعي كي لا أضيع بين رقرقة الدمع، وأسًى سكن الفؤاد واستوطن المقل.

مطر.. مطر على وجنتيك مهجتي، وفي الصدر رعشة، حشرجة، فهل تخاف مهجتي بعد اليوم مطرا تراقصت حباته بين النجوم وفي حضرة القمر؟

 

30أفريل 2019