في طبعة ثانية، مزيدة ومحينة، صدرت عن جامعة الحسن الأول بسطات، وبإشراف علمي لمختبر السرديات والخطابات الثقافية بالدار البيضاء، كتاب ابن عربي في مقام الشاوية ، والذي يضم أشغال الملتقى الأول حول تراث وأعلام الشاوية بجماعة بني خلوق دائرة البروج من تنظيم المديرية الإقليمية لوزارة الثقافة بسطات، والمجلس الجماعي لبني خلوق دائرة البروج وجامعة الحسن الأول ومختبر السرديات.
ويضم الكتاب الذي نسق أشغاله شعيب حليفي ورياض فخري وعبد المجيد الجهاد، بين دفتيه مجموعة من الدراسات القيمة التي شارك بها كل من : أحمد الصادقي، محمد الشيخ،توفيق رشد،محمد امعارش،لطيفة المسكيني،خالد بلقاسم،حكيم الفضيل الإدريسي،أحمد كازى،عبد المجيد الجهاد،نورالدين مومين،إبراهيم أزوغ، محمد رشيد اكديرة، مصطفى الطوكي،رابحة صالح،عبد الله اميدي عبد الرزاق القرقوري، محمد نعايم، نادية شفيق.
ومما جاء في مقدمة الكتاب:
لا مراء في أن التصوف يشكل بحق أحد أبرز الأركان المؤسسة للثقافة المغربية في مختلف مظاهرها وتجلياتها، لدرجة يبدو من المتعذر فهم بنية هذه الثقافة، من دون استحضار المكون الصوفي، واستجلاء أبعاده الفعلية، ودلالاته الرمزية. واعتبارا لهذه المكانة الاعتبارية التي حازها التصوف، فقد عد المغرب أرضا "تنبت الأولياء كما تنبت الأرض الكلأ".
ولا مراء في أن الحديث عن التصوف، بحسبانه تجربة روحية ذوقية، عملية لا تخلو من مطبات وصعوبات كأداء. وهذه الصعوبات قد لا يستشعر خطورتها إلا من خبر الجغرافيا الصوفية، وتعرف عن قرب على تضاريسها ومنعرجاتها الوعرة، وجاب منحنياتها ومسالكها الملتوية. وهذا ما نبه إليه بحق العديد من الباحثين بعد خوضهم غمار البحث في التصوف.
"فمن أول خطوة يخطوها سالك هذا الطريق يرى أمامه تلالا ممتدة وهضابا وعرة، لا يزداد بالسير فيها إلا استصعابا للوصول إلى غاية، فيقف متلكئا عند شعراء الصوفية في واحة حدائق أزهارهم، أو يحاول تسلق القمم الثلجية لجبال التأملات الفلسفية النظرية، أو يبقى في سهول العامة وتعظيمهم للأولياء، أو يحاول أن يأخذ برسن راحلته إلى صحراء لا متناهية من الكتابات النظرية عن طبيعة التصوف وعن ذات الله وعن جوهر العالم، أو ربما يكتفي بإلقاء نظرة على الطبيعة وبالاستمتاع بجمال القمم العالية تغسلها أشعة الشمس في صباح باكر، أو تتلون بحمرة الشفق في مساء بارد، أما أقصى الجبل حيث موطن طائر "السيمورغ" الصوفي فلن يصل إليه على كل حال إلا بعض من النخبة، ثم يدركون أنهم لم يصلوا إلا لما يجول في خاطرهم"( آنا ماري شيمل، الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، ترجمة محمد إسماعيل السيد ورضا حامد قطب. - كولونيا/بغداد: منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2006، ص: 5.).
والحال إن "الغاية" عند المتصوفة حقائق وإشارات من الصعب وصفها والقبض على معانيها، ومن المتمنع إدراكها أو التعبير عنها بالمدارك الحسية، والأساليب المبتذلة العادية. ولعل هذا ما جعل أهل الصوفة يعتقدون، أنه "من المستحيل تحليل الخبرة الصوفية بذاتها، لأن الكلمات لا يمكن أن تسبر أغوار هذه الخبرة أبدا، حتى أدق التحليلات النفسية لها محدوديتها بشأنها، لأنها غالبا ما تأخذ اللفظ على ظاهر معناه. وهو ما يجعل "الألفاظ تظل على الشاطئ"، كما يقول المتصوفة (آن ماري شيمل، نفسه، ص: 11).
إن السعي نحو الكشف الصوفي تعترضه من دون شك مجموعة من الصعوبات، إذ لا يستطيع أكثر الناس الخوض فيه. ولذلك ينبغي ستره عنهم، لأنهم لن يعرفوه، وإذا ما ابتغوه أصابهم التلف. فالغوص في الكشف بحر عميق، يقتضي الصمت، إذ أن من أراد العثور على الحكمة الصوفية عليه أن ينزل -كما يقول ابن عربي في فصوص الحكم-عن حكم عقله إلى شهوته، ويكون حيوانا مطلقا. وعلامة ذلك الكشف والعجز عن نطق ما يراه أثناء هذا الكشف، وحتى إذا ما نطق صار قوله شطحة تعبر عن عجز اللغة.
والكتابة عن التصوف فضلا عن ذلك تطرح أمام جمهور الباحثين "شركا" سقط فيه الكثير منهم، فلم يميزوا داخلها بين التجربة الصوفية، وبين التعبير عنها، فكان أن طابقوا بينهما. ذلك، أن التجربة الصوفية، حيث تقف "ذات" المتصوف في مواجهة موضوع حبها أو معرفتها، هي تجربة جوانية تتحرك في إطار ذاتية معيشة، بعيدا عن الحروف والكلمات... بعيدا عن الآخرين، وهي تجربة قرب وعرفان. أما التعبير عن هذه التجربة، فهو خروج من الذاتية والجوانية إلى "الآخرين"، ومن ثم، لا يمكن القبض عليها إلا بعد إدبار الصوفي وعودته من رحلته في "الأعماق" إلى "الآفاق"( سعاد الحكيم، المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة. -بيروت: مؤسسة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1981، ص: 13-14).
إن الوقوف عند هذه "الآفاق" وتجليتها في مظاهرها العامة، هو ما شكل أحد الدوافع الأساس التي حفزتنا على الخوض في غمار البحث عن أسرار التجربة الصوفية في الغرب الإسلامي، من خلال أحد أهم أعلامها وهو ابن عربي، بغاية رصد أبعاد هذه التجربة في تنوعها وتعددها.
ولم يكن اختيارنا لابن عربي موضوعا لهذه الندوة عرضا، بل راعينا في هذا الاختيار جملة من الاعتبارات، نجملها في ثلاثة أساسية:
أولها، إن النص الصوفي عند ابن عربي نص متشعب، ولهذا نجده يتعدد بتعدد قرائه ويتلون بتلون متلقيه ومؤوليه. ولمحاولة سبر أغوار هذه التجربة، كان لا بد من الانفتاح على آفاق معرفية متعددة. إذ آثرنا أن يحضر الممارس للتصوف، جنبا إلى جنب مع الفيلسوف والمتأدب والمؤرخ، هذا دون أن نغفل مساهمة الباحث في جغرافية المقدس. ومن ثم، سعت المداخلات المتضمنة في هذا الكتاب إلى مقاربة ابن عربي في أبعاده المتنوعة وجوانبه المختلفة.
ثانيها، إن ارتباط ابن عربي ببلاد المغرب يحمل أكثر من معنى ودلالة. ففيه حصل له الفتح المبين، وفيه بلغ أحد أسمى المقامات وهو مقام القربة بقرية كيسر بإقليم سطات، وفيه أيضا اشتد عوده قبل أن ييمم جهة الشرق.
أما ثالث هذه الاعتبارات، فيتمثل في المكانة الرمزية التي يحتلها ابن عربي في الذاكرة الثقافية العربية والإسلامية، فضلا عن راهنيته. إذ ما أحوجنا اليوم إلى "برزخية" ابن عربي في "تحرير سؤال النص والفهم من قبض الثنائيات الضدية وقيد الأزواج المتطرفة" في عالم يحبل بصراع "الهويات القاتلة".
ولأن النص الصوفي نص متعدد ومركب، فقد آثرنا إفساح المجال لمختلف التفسيرات والقراءات لمقاربة هذا النص، ومحاولة الإمساك به من مختلف أطرافه وجوانبه. ومن ثم، كان رهاننا على مقاربة منهجية منفتحة ومتعددة أمرا ضروريا بحسبانها الأقدر على الإلمام بجوانب الإشكالية الصوفية، واستجلاء بعض أبعادها، الظاهر منها والخفي، راجين أن نكون وفقنا في هذا الطلب.