يتناول الكاتب قراءة لكتاب «تخييل الذات والتاريخ والمجتمع: قراءة في روايات عربية». فيسلط الضوء على اشتغال الناقد المغربي على تحولات الخطاب الروائي العربي على مدى ثلاثة عقود، وتصوره الذي يعتبر الرواية شكلا فنيا يصوغ الحياة التي يعاصرها الروائي صوغا مغايرا لما تتبدى عليه في تفاصيل المعيش والمحسوس.

محمد برادة يقتحم تخييل الذات

والتاريخ والمجتمع في الرواية

أحمد رجـب

 

للدكتور محمد برادة أعمال روائية مهمة تؤكد حضوره في المشهد الإبداعي المغربي، والعربي عموما، وله أيضا إسهامات مهمة في مجال التنظير للرواية وتحليلها، وفي إطار اشتغاله على تحولات الخطاب الروائي العربي على مدى ثلاثة عقود قدم عشرات المتابعات للمدونة الروائية العربية من المحيط إلى الخليج، اختار منها ستا وأربعين قراءة يمتد تاريخ صدورها من 1966 إلى 2017، شغلت ثلاثمائة وأربع صفحات تشكل متن أحدث كتبه الصادر مؤخرا بالقاهرة، ضمن سلسلة "رؤى نقدية" التابعة للدار المصرية اللبنانية.

الكتاب بعنوان "تخييل الذات والتاريخ والمجتمع: قراءة في روايات عربية"، وهذه القراءات تصدر عن تصور يعتبر الرواية شكلا فنيا يصوغ الحياة التي يعاصرها الروائي صوغا مغايرا لما تتبدى عليه في تفاصيل المعيش والمحسوس، فالحياة دائماً هي شرط وجود الرواية، "لأنها الوعاء الواسع الذي يشمل فضاء الكينونة والتحقق والإخفاق، وفضاء الطفولة والنمو والتدرج من الشباب إلى نهاية الرحلة وأفول الأجساد والأرواح إلا أنها عندما تصبح مجالاً للاستيحاء والصوغ الفني، تغدو حياة متخيّلة، متباعدة عن الحياة الخام في تدفقها وعنفوانها وفوضاها ومفارقاتها".

ووفقا للكتاب فالروايات الجديرة بالاعتبار من وجهة نظر الناقد، هي التي تجعلنا نعيش في خضم التناقضات الأزلية التي تطالعنا عندما ننغمر في تخييل الذات، أو حين نستعيد العلائق التي تربطنا بالمجتمع أو التاريخ عبر التخييل، وبوساطتها سننفتح على تجليات تلك التناقضات، وسنساهم في صوغ الأسئلة التي نتكئ عليها لنواصل رحلة الحياة التي نتعلق بها على رغم تناقضاتها ومفارقاتها.

ويعتقد برادة أن الرواية، بوصفها شكلاً تخييلياً بالأساس هي حاملة لمعرفة حياتية نحن بأشد الحاجة إليها لأنها توسع أفقنا وتحررنا من الرقابة الذاتية التي يفرضها كل منا على نفسه حين يواجه التناقضات الأزلية التي يقوم عليها تكوين العالم، والتي هي تناقضات ترافقه في الحقب والأزمنة كافة.

تخييل الذات
القسم الأول من الكتاب يأتي تحت عنوان "تخييل الذات"، وكان برادة قد أوضح في المقدمة أنه لا يقصد بالذات في هذا السياق، ذات الفرد الضيقة المنحصرة في هموم وتفاصيل العادات الشخصية، وإنما يعني بها الذات في مجموع مكوناتها للفرد، ماديا ونفسيا، والأسئلة التي تشغله في حياته وصراعاته مع مؤسسات المجتمع ومع كل ما يجثم على حريته ليعوق الذات عن تحقيق تطلعاتها.

هكذا يقرأ الناقد ما يزيد على العشرين رواية أولها رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، الصادرة في عام 1966 في ظل سياق ملتبس محتقن، منذر بالهزائم، ويراها تدشن نموذجا يسميه "الرواية الشاملة" ويقصد بشمولية النص ما يتعدى السياق المحلي الذي ينبثق منه ليلامس الكوني المشترك على صعيد التجربة الجمالية والدلالية في تلقي النص. وهي لا تنطلق من أسئلة فلسفية جاهزة، وانما من تجارب المعيش وتفاصيله لتصوغ من خلالها أسئلة تحمل خصوصية الضرورة التي هي قيد التشكل. على هذا النحو يبرز الطابع الشمولي لموسم الهجرة ليجعل منها محفلاً روائياً يمتزج فيه الحياتي بالتأملي، ويغدو التفكير بالقلب مجاوراً الحدسية المنغلقة على سبيل التأويل.

ويلاحظ أن محمد برادة في القسم الأول من كتابه احتفى بروايات المرأة فقدم ثماني قراءات لروائيات، منهن جوخة الحارثي، وقد انتبه برادة لها مبكرا على العكس من الآخرين الذين انتظروا فوزها بالبوكر البريطانية ليقروا بتميزها، ففي قراءته لروايتها سيدات القمر يقول "تجوسُ بنا جوخة الحارثي عبر أغوار المجتمع العماني وطقوسه وعاداته، وتـرسم شخصيات ذات حمولة واقعية ورمزية، منغـرسة في صلب الأحداث المنطوية على مواجهة حيوية بين قوى متطلعة إلى تغيير بنيات الماضي وتقاليد موروثة تجثم بقوة لتعوق تحولات يفرضها العصر وقانون الحركة. وتـضطلع لغة الكلام وسلاسة السـرد بدور فنيّ يـمزج مشاهدَ وصفِ اليوميّ بمنطق السحر والخرافات الذي يضفي على فوضى الأشياء وغموضها، غلالة من الاتـساق الجاذب".

تخييل التاريخ والمجتمع
يرى محمد برادة أن الرواية العربية خلال تجربتها، جرّبت أشكالاً كثيرة، واقتحمت فضاءات متباينة وعززت الدلالة بأشكال ملائمة تزاوج بين كشف المخبوء وتحويل ما يبدو ساكناً ثابتاً. ويلاحظ أن الروايات تستظل بفهم حداثي للرواية، فالشكل يضطلع بتخصيص الدلالة وإخراجها من دائرة التعميم، فضلاً عن أنه يبلور الأبعاد الجمالية المحققة للمتعة والتجاوب.

وهو حينما يتحدث في القسم الثاني عن تخييل المجتمع والتاريخ، يقصد "أن هناك روايات تتقصد استيحاء المجتمع والتاريخ لتكشف عناصر وملامح لا مرئية عند الوهلة الأولى، وفي الآن نفسه تجترح سيرورة التحويل والتغيير، إذ تسلط الضوء على أسئلة تفرزها الصراعات المجتمعية أو يبلورها جريان التاريخ".

ويشير الناقد إلى أن الروايات التي شملتها قراءاته يكشف مبدعوها عن تمثلهم لأهم أشكال الرواية العالمية بما ينعكس على اختيارهم لأشكال رواياتهم، بل إن بعض هذه الروايات اتجه صوب كتابة تخييل على تخييل لتوليد رؤية قد تناقض رؤية التخييل، على نحو ما فعلته آمال بشير في "آخر الكلام"، أو أحمد سعداوي في "فرانكشتاين في بغداد".

ومن الروائيات اللواتي حظين باهتمام برادة في هذا القسم السورية سوسن جميل حسن، في روايتها "النبّاشون" التي تباعدت عن الظرفية المتصلة بانتفاضة شعبها لتنسج محكياتٍ عن فئات مهمشة نشأت على أطراف مدينة اللاذقية، حيث أصوات البشر تُجاورُ أصوات الحمير والبغال وتتبادل الصدى في مناخ يجمع بين الواقعي والفانتاستيكي. إلا أن الانتباه إلى بناء الرواية، الأقرب ما يكون إلى الأليغوريا، يلفتُ النظر إلى قصدية هذا التباعد، الرامي إلى البحث عُمْيقاً عن أسباب هذا الاختلال في تهميش فئات واسعة، وتشيء المرأة، واستغلال الدين لغير ما وُجد من أجله.

والفلسطينية سامية عيسى في روايتها "حليب التين" حيث مع مكوّنات القضية والإنسان الفلسطينييْن على قدم المساواة، أي أنها لا تُؤمثلُ الجانب السياسي ضد بقية الجوانب الأخرى المكوّنة للفضاء الفلسطيني في المخيمات وأرض الشتات. على عكس ذلك، تعطي لحياة الفلسطيني الجنسية الأهمية نفسها التي تستحضر بها ما يتصل بتعثر الثورة وانتهازية بعض مسؤوليها. إنها تنظر إلى وضع الفلسطيني كما هو في واقع الحال ومن خلال وعي متكامل، لا يهمل حقوق الجسد والعاطفة والرغائب الجامحة. من ثم يغدو الفلسطيني الفلسطينية إنساناً عادياً من لحم ودم، غير معصوم عن الشهوة والنزوة، يجهر بيأسه وغضبه، ويتمرد على الصورة المثالية التي جعلته النصوص الأدبية والشعارات الثورية يلتحفُ بها.

 

(وكالة الصحافة العربية)