يكشف الناقد الجزائري هنا في قراءته التحليلية لتلك الرواية الجديدة عن مدى تهلهل الحبكة السردية فيها، وضعف بنيتها الروائية، واكتظاظ متنها بالحشو الذهني لمعارف الرحلة إلى البلقان، دون الوعي بوظيفة المكان في بلورة الشخصية وخلق دوافع حركتها. فضلا عن سيطرة المحكيات الضمنية الملصقة بالنص وغير الموظفة فيه.

من كتابة المأساة إلى مأساة الكتابة

قراءة في «حطب سراييفو» لسعيد خطيبي

محمد الأمين بحري


أولاً- مرجعية السرد ومبدأ التثليث الأنواعي.
رغم أنها من الروايات التي لم تخرج بعد (حتى بعد مضي أكثر من عشريتين) من مدار أزمة التسعينيات وجراحات العشرية السوداء (الجزائرية)، باعتبارها موضوعاً مرجعياً لأحداثها، فقد بدت رواية "حطب سرايييفو" للروائي الجزائري سعيد خطيبي، نصاً ثلاثي الانتماء السردي؛ جمع الكاتب فيه بين:
1- السرد الارتحالي (تلك الرواية التي كُتبت إثر رحلة مكانية اغترابية لكاتبها).
2- والسرد المناسباتي (أزمة التسعينيات في الجزائر والبوسنة).
3- والسرد الذهني الذي تتجه كاميرا الراوي فيه إلى دواخل الشخصيات واستغوار أعماقها.
وقد منحت الأنماط السردية الثلاثة للنص لوناً داكناً سواء من جهة الخطاب الاغترابي للشخصيات الرئيسية المرتحلة، أو من طبيعة التاريخ المأساوي المظلم الذي تسرده، أو من زاوية شخصياته المنطوية على ظلمات نفسية غائرة. ما جعل الرواية شبيهة في تأثيثها، بغرفة تحميض الصور، من حيث عتامة فضاءاتها المغلقة رمزياً رغم انفتاحها شكلياً، تتأثث بمجموعة صور قديمة معلقة في زوايا عدة، عن مأساتي الجزائر والبوسنة (حرب البلقان الاستئصالية) المتزامنتين في فترة التسعينيات.
وقد بدت الصور السردية في هذا النص مبعثرة دونما عناية بتواصل انسيابي منطقي بينها، لتتراكم هذه الصور وتحتشد أمام القارئ، معيقة مسار السرد تارة، ومباعدة بين مفاصله تارة ثانية، وقاطعة حبله تارة ثالثة. وذلك حين تتلاصق وتتركم في غير انسجام يمنحها منطقاً معيناً، يتشبث به القارئ، على نحو شبيه بتراكم الحطب الذي يتحدث عنه عنوان النص.
أما الخطاب فتغلب عليه الومضات الاستذكارية [الفلاش باك]. لكن أن يكون الفلاش باك هو التقنية المهيمنة على الفضاء السردي، ويبتلع ثلاثة أرباع النص، بحيث تصبح الرواية كلها فلاش باك أو تكاد، فإن الفلاش في هذه الحالة يغيب ويصبح النص حوضاً استذكارياً خالصاً (pure Back)، ويفقد خاصية الومض (the flash technic). لأن راهن السرد وكذا السارد نفسه مرهونان بماضٍ مأساوي، تخندقت فيه الرواية بأسرها وسجنت فيه شخصياتها. ولعل هذا أول الحطب الذي يقابله القارئ، بعد أن يحيله عليه عنوان الرواية، أما سراييفو التي يتحدث عنها العنوان، وينسب إليها هذا الحطب (الرمزي)، فإن القارئ سيبقى ينتظر تبريرها المؤجل في مضمون النص.
ثانياً- حركية البروكسيما (علاقة الشخصيات بالفضاءات المكانية)
تقع رواية حطب سراييفو في 320 صفحة، في شقها المنتمي إلى نمط "السرد الارتحالي" (المنتج إثر رحلة الكاتب إلى البلاد التي تكون فضاءً محورياً لنصه). تتقاسم الرواية ثلاثة فضاءات مكانية؛ اثنان هامشيان وهما:
1-الجزائر (وتحديداً مدينتي العاصمة وبوسعادة).
2-البوسنة (وتحديداً عاصمتها سراييفو).
3- الفضاء الثالث (وهو الفضاء المركزي)- سلوفينيا (وتحديداً عاصمتها ليوبليانا).
ومركزية هذه المدينة الأخيرة نابعة من كونها نقطة التقاء الشخصيتين الرئيسيتين اللاجئتين إليها (سليم من الجزائر وإيفانا من البوسنة)، فضلاً عن أن ليوبليانا هي المصب الرئيسي لأغلب وأهم الأحداث، وثالثاً وهو الأهم: حيازة أحداث مدينة ليوبليانا على أكبر حجم ورقي وخطي من الخطاب. على حساب مدينتي سراييفو والعاصمة الجزائرية اللتين شكلتا بداية الأحداث ونهايتها. تاركتين وسطها المحتدم بالصراعات والتحولات والطوارئ لمدينة ليوبليانا التي اكتسحت جميع الفضاءات وحازت ذروة الأحداث وأهمها. ما يجعلها عاصمة فضاءات الرواية بامتياز.
ورغم صفحاتها الـ 327، إلا أن حركة الشخصيات على الفضاء المكاني لا تتجاوز الحركتين:
حركية الشخصية الرئيسية: سليم من الجزائر إلى سلوفينيا، ثم عائداً من سلوفينيا إلى الجزائر
حركة الشخصية الثانوية: إيفانا بوليتش (صديقة سليم). من البوسنة إلى سلوفينيا ثم عائدة من سلوفينيا إلى البوسنة (وتحديداً إلى سراييفو).
هكذا؛ تمنح هندسة الحركة السردية الأولوية -من حيث جوهرية الأحداث- للعاصمة السلوفينية ليوبليانا على العاصمتين المتبقيتين. ووفق الأولوية السردية نفسها؛ تحل الجزائر في الرتبة الثانية بعد ليوبليانا من حيث نوعية الأحداث ومستوى الشخصيات الفاعلة فيها. كونها مدينة بطل الرواية (سليم) الذي هو نسخة سيرية تخييلية من الروائي السعيد خطيبي نفسه. بحيث يتمثل سليم الكثير من منعرجات حياة الكاتب ومهنته في الإعلام، وارتباطه الروحي المتسلط بمدينة بوسعادة. بينما يتبقى في المرتبة الثالثة استراتيجياً العاصمة البوسنية سراييفو، كونها أخذت النصيب الأقل من الاهتمام في المغامرة السردية، ولم تكن سوى موطن شخصية مساعدة هي "إيفانا بوليتش". وبؤس عائلتها وحروب بلدها التي أجبرتها على الهجرة نحو الجارة سلوفينيا لتلقي في عاصمتها بسليم الجزائري، ثم تعود خائبة إلى بلدها. لتواصل مسلسل بؤسها الاجتماعي.
وهو ما يطرح أكثر من تساؤل لدى القارئ:
- كيف لآخر الأماكن أهمية في استراتيجية السرد، والشخصيات أن يتبوأ مركزاً أولويا في غلاف الرواية، وعنوانها على حساب المكانين الرئيسيين (العاصمة الجزائرية)، و(العاصمة السلوفينية ليوبليانا) والتي- ولفرط أهميتها السردية- لم يجعل منها الروائي عاصمة لسلوفينيا فحسب بل عاصمة لمحتوى المغامرة السردية بأسرها.
ورغم هذه المكانة الجوهرية لهذه المدينة (العاصمة السلوفينية) التي اكتسحت محتوى وفضاءات المغامرة السردية دون منازع، فإنه لم يكن لها أي حظ في الظهور لا في عنوان الرواية ولا في غلافها، ولا في عنوانها، الذي خصص لمدينة سراييفو. على الرغم من كونها فضاءً هامشياً لم يكن مخصصاً سوى لحيثيات حياة الشخصية الثانوية/ المساعدة: "إيفانا بوليتش"؟؟
فأي معنى لأن يمنح الكاتب بطولة غلاف وعنوان الرواية لأقل الأماكن حظاً وأكثرها هامشية في روايته. مع انعدام أي علاقة لهذا المكان الهامشي الذي يحتل العنوان (سراييفو) بالبطل ومغامرته؟ وهو أول إشكال استراتيجي يعترض قارئ هذه الرواية حول الخيارات السردية غير المبررة فنياً ولا نصياً.
ثالثاً- الخيار المعرفي في السرد الارتحالي:
يعتبر السرد الارتحالي مُنجزاً مخيالياً ذا خلفية واقعية؛ إذ تكتمل مراحل نموه على إثر رحلة مكانية واقعية تكون قد قادت الكاتب إلى فضاءات غيرية، تمنحه زخماً رؤيوياً وخيالياً لتأثيث نص سردي بشخصيات وأحداث وأماكن وثقافات، مما يشكل لديه قاعدة معلوماتية ومعرفية يكون لها الأثر البارز في إرادة كشف تلك العوالم من خلال رواية يقدمها الكاتب لقرائه، وخاصة تلك الفئة التي لم تزر تلك الفضاءات المكانية الغيرية التي ارتحل إليها الكاتب وجاء منها بمنجر سردي يترجم فكرها ومعالمها وإنسانها.
لكن ما يعيب كتابنا الحديثين بهكذا سرد، هو انشغالهم المطلق بضخ المعلومة والمعرفة الاستكشافية للقارئ على حساب المطلب الفني، الذي تقتضيه كتابة الرواية، وتستهدفه في حده الأدنى. وهو ما يجعل جل السرد الارتحالي كتلة معلوماتية تغلب على روائية الرواية، أو حين يكتسح تقديم المعرفة الاستكشافية، الرؤية الفنية للعمل، وهو ما يبرز جلياً في رواية "حطب سراييفو". حيث غلب على النص حشده لكم هائل من المعلومات حول يوغسلافيا والبوسنة وسلوفينيا، مما غطى أو بالأحرى ألغى الحبكة والعقدة الروائيتين اللتين غابتا عن النص، الذي يحكي عن شاب جزائري "سليم" عاش في بداية التسعينيات في العاصمة كصحفي. وبعد تعرض الصحيفة التي يشتغل بها إلى التوقف، وجد نفسه بلا عمل، ويفكر في الهجرة، مقدماً ملفاً للذهاب إلى سلوفينيا لزيارة عمه، لكن ملفه يرفض. لكن نجده وفجأة في الفصل الثاني، يتجول في شوارع العاصمة السلوفينية ليوبليانا. دون مبررات سردية أو معلومات تربط حبل أحداث رحلته بين المدينتين (العاصمة الجزائرية والعاصمة السلوفينية ليوبليانا) أو توضح على الأقل كيفية وصوله إليها.
كما تحكى الرواية بالتناوب مع قصة سليم، حكاية الفتاة البوسنية [إيفانا بوليتش]، التي تسافر بدورها إلى الجارة سلوفينيا، حيث نجدها تشتغل نادلة في مقهى سي أحمد (العم المزيف لسليم وأبوه الحقيقي)، هناك حيث تتقاطع مأساة اغترابهما، ويفترقان عائدين إلي بلديهما بحب متبادل لكنه مكتوم في ظلمات نفسيهما الخائبتين.
رابعاً -الشخصيات العنقودية، وتضافر محكياتها:
لعل هذه الميزة السردية هي القضية التي برعت فيها الرواية والتي استحقت أن تكون قضية هذا النص، كونها تشكل إضافة نوعية لهندسته، من حيث التمثيل الشخوصي. حيث تقود الرواية ثلاث شخصيات عنقودية البناء، تتدرج في سلم المستويات والأهمية على النحو الآتي:
1- سليم دبكي: الشخصية الرئيسية (الذات الثانية للكاتب)، الذي تمنح خصوصيته السردية صفة السيرة الذاتية على النص باعتبار منحه انطباعات عدة للقارئ بأنه يروي، ويتمثل محطات مهمة في حياة الكاتب وسيرته الذاتية سواء في الجزائر أو في المهجر. وهو مثل الكاتب صحفي بدأت مسيرته الإعلامية في مرحلة التسعينيات، التي حمل معه جراحها، وهاجر إلى بلدان عدة. ومنها سلوفينيا (وليس سراييفو البوسنية كما يشير العنوان) التي تتحدث الرواية عن تقاسيم رحلته إليها.
2- إيفانا بوليتش: الشخصية الثانوية (المساعدة للبطل سليم)، فتاة بوسنية (وتحديداً من سراييفو) تعايش قسوة حياة بلدها الذي تعصف به حرب البلقان الاستئصالية في التسعينيات، هاوية مسرح، تعيش تفككاً خارجياً نتيجة فقدانها المستمر لكل وظيفة تستلمها، وتفككاً أسرياً نتيجة الصراع الدائم بين والديها الفقيرين، وتفككاً نفسياً نتيجة صدام مشاعرها العاطفية مع النماذج البشرية التي تحيط بها من جهة، ومع طموحاتها الفنية والمهنية الخائبة من جهة ثانية. لتسقط بكل أثقالها في مطبات الشقاء، تماماً كما أسقطت جنينها الذي لم يكتمل نموه، من صديقها البوسني (غوران) قاتل سي أحمد الأب الحقيقي للشخصية الرئيسية سليم.
3- سي أحمد دبكي: شخصية ثانوية تأتي في المقام الثاني من حيث القيمة والخطاب بعد [إيفانا]، وهو الذي تقدمه بداية الرواية على أنه عم سليم الذي سافر إلى سلوفينيا واستقر بعاصمتها (ليوبليانا)، وتزوج إحدى نسائها، وهو صاحب مقهى هناك، اشتغلت به الشخصية الثانوية الأولى [إيفانا بوليتش] صديقة سليم. قبل أن يطردها سي احمد منه، ليتضح بعد مقتل هذا الأخير على يد [ المهاجر البوسني غوران] صديق إيفانا، أنه هو الأب الحقيقي المتنكر لسليم، الذي كان يعيش في الجزائر مع عمه الحقيقي، معتقداً أنه أبوه.
يعطي كاتب النص للشخصية البطلة أو الرئيسية [سليم]، مواصفات وظيفية وخطابية توحي بأنها هي الكاتب نفسه، حتى ليظن القارئ في بعض مقامات البوح المناجاتي أنها تسرد شذرات من السيرة الذاتية للكاتب، خاصة مع انحدارها اللاإرادي نحو مدينة بوسعادة التي يرتبط بها الكاتب لا شعورياً، تماماً كما فعل في روايته الأولى (أربعون عاماً في انتظار إيزابيل).
سليم البطل، الذي لا يتعرف القارئ على اسمه هذا إلا بعد 35 صفحة، هو صحفي مبتدئ، مكلف بالتحقيقات الميدانية لدى جريدة حكومية، يوقع مقالاته في زمن اشتداد محنة التسعينيات، باسم مستعار هو (عمار بن ابراهيم)، يكتري في العاصمة شقة مهترئة يعايش فيها آخر أيام والده، الذي تكشف نهاية الرواية أنه عمه الذي رباه، ويسافر إلى سلوفينيا ليلاقي عمه سي أحمد الذي يكتشف بعد وفاته العبثية هناك؛ أنه هو والده الحقيقي. ليعود بعدها إلى الجزائر، محتصداً بعض الثروة التي ورثها عن بيع نصيبه من ممتلكات أبيه في سلوفينيا، ليؤسس بها جريدة مع صديقه [فتحي]. وهذا المسار هو ما أخذ النصيب الأكبر من الرواية على الرغم من أن البطل لم يزر سراييفو العاصمة البوسنية، التي تحتل العنوان في هذا النص دون متنه.
فكيف لشخصية البطل ألا تطأ قدماها المكان البطل في الغلاف والعنوان؟ ذلك أن الأماكن التي تعامل معها البطل سليم حصراً هي ثلاثة لا رابع لها: العاصمة الجزائرية- ومدينة بوسعادة- والعاصمة السلوفينية ليوبليانا؟! لتبقى هذه الفجوة القائمة بين محتوى النص وغلافه من جهة، وبينه وبين عنوانه من جهة ثانية، غير مبررة لا فنياً ولا رمزياً. لكن ما يحسب للنص، هو التشكيل العنقودي للشخصيات، حيث إن كل شخصية من الشخصيات، بنيت على شكل عرف من الأعراف الرئيسية الثلاثة للنص، يتعلق بكل منها عنقود من الشخصيات الفرعية على النحو الآتي:
- العرف الأول: هو شخصية البطل سليم: الذي يتعلق به عنقود من الشخصيات الفرعية تتكامل بها قصته، وهي: أبوه المريض (الذي يكتشف فيما بعد أنه عمه وليس أباه). وأخوه فاروق، وصديقته مليكة وأختها حورية، وصديقه فتحي، وجارته المطلقة نصيرة، وجاره الشريف، والمجاهد الحاج لزرق. ولورينا السلوفينية.
- والعرف الثاني: تمثله الشخصية الثانوية "إيفانا بوليتش": ويتعلق بها عنقود من الشخصيات التي تبني قصتها ومأساتها، هي: عائلتها المفككة (أم وأب وأختها المعاقة "آنتشي"، وأخوها المغترب ساشا)، وجارها الغامض "توميسلاف"، وابنه إيليا، وصديقها غوارن. إضافة إلى سليم وعمه (أبوه فيما بعد) سي احمد صاحب المقهى الذي اشتغلت به.
- العرف الثالث: هو الشخصية الثانوية الثانية سي أحمد دبكي: عنقود آخر من الشخصيات، هي زوجته نادا وولداه منها، وطائفة من نادلاته وعلى رأسهن: "إيفانا بوليتش".
ولعل تقنية العناقيد الشخوصية التي تدور في فلك كل شخصية، وتبني قصتها، بتكامل خلاق، وتكشف زواياها المظلمة للقارئ، هي أمتع ما بناه الروائي من تقنيات سرده الثلاثي في هذا النص الثقيل الحركة والمتقطع الخطوط. والذي لا يبدأ ريتم أحداثه في الانقلاب والتشويق إلا بعد الصفحة، 207. أي في الـ 120 صفحة الأخيرة.
خامساً- المحكيات الضمنية، وهيمنة فعل الإلصاق (الكولاج- le collage):
على الرغم من التضافر الخلاق الذي أفرزه تداخل الأكوان القصصية الثلاثة للشخصيات العنقودية الرئيسية، إلا أن إشكال ثقل النص وتقطع حبله السردي، والحوادثي (غياب الحبكة)، الذي أشرنا إليه من قبل، عائد بالأساس إلى وجود طفيليات حكائية عديدة، وهي مقاطع سردية لا يعود وصفها هذا لكونها منقطعة الاتصال بالنص أبداً، بل لأن وضعها في غير ضرورة أو مراعاة سياق، جعلها مقاطع ملصقة، بل واضحة الكولاج الذي أظهر نشازها وثقلها على النص إلى درجة تسببها في تقطيع حبل التواصل الدرامي مع أحداثه. ونظراً لكثرتها سنقتصر بالتمثيل على أكثرها بروزاً وتعطيلاً للسرد:
- حكايات المسافرين مع البطل سليم في سيارة الأجرة من العاصمة إلى بوسعادة، هي حكايات أناس يمضون الوقت بحكاياتهم الزائدة التي لا علاقة لها بأي من مواضيع الرواية، بل يتأكد من مضمونها أنها لقتل الوقت وتمضية الرحلة، ومع ذلك يحشو الروائي تلك الأحاديث المخصصة لقتل الوقت ضمن النص؛ لتقطع أوصال حبل السرد، وتفصم موضوعاته، وتقتل زمن النص أيضاً، وتشغل بياضه هدراً. وتفصم معالمه السردية الدالة.
- والظاهرة المتكررة في النص دون مبرر أو دلالة هي ازدحام شواهد نصية عدة (citations)، وتواليها في النص دون أن يكون هناك داع لوجودها، أو أن يكون هناك رابط دلالي أو معنوي أو منطق يربط بينها. ومع ذلك يلصق الكاتب بعضها فوق بعض: مثل نقله في ص 81، لأغنية مغربية بصوت فنانة جزائرية [الله يا مولانا]، وبعد نهاية الأغنية مباشرة يورد فقرة تحدّث الكاتب [ديك ديكنز] الذي لا يعرفه، ثم يزج مباشرة بقصة صديقته مليكة في قصة (ديك ديكنز) ويتساءل إن كانت تعرفه؟
ثلاث موضوعات في فقرتين متعاقبين، ولا صلة لأي موضوع بالآخر، من جهة، ولا علاقة للثلاثة بموضوع النص وأحداثه؟ ومن شأن شدة تساؤل القارئ عن هذه المقاطع الملصقة الناشزة أن تقطع حبل التواصل مع ما سبق، أو تشتت تركيزه الذهني في رواية ذهنية. هي بأشد الحاجة إلى تركيز القارئ، وليس تشتيته بهذه الملصقات العشوائية غير المبررة.
- في الجزء الأخير من الفصل الأول، وفي سطره الأخير تحديداً؛ ينتهي الحديث عن سليم وهو يغادر مدينة بوسعادة، نحو العاصمة، لكن نتفاجأ بداية من الفصل الثاني الذي يليه، بسليم نفسه يغازل الفتيات المتجولات في شوارع ليوبليانا عاصمة سلوفينيا. دون أي جسر للمرور يبرر كيف اجتاز المسافة بين بوسعادة والعاصمة السلوفينية، وما يزيد الكولاج نشازاً أن آخر معلومة لدى القارئ حول مسألة سفر سليم إلى سلوفينيا؛ هي أن ملفه قد رفض من السفارة السلوفينية. ثم نجده بعد ذلك مباشرة يتجول في شوارعها؟ دون مراعاة لأي تسلسل للأحداث أو منطق يبررها. لدرجة أن القارئ يشعر بأنه في أي فصل يمكن أن نجد أية شخصية في أي مكان، دون أن تكون لها علاقة بوضعها السابق. كما لو أن الروائي لم يجد طريقاً سلساً ومنطقياً لملاقاة الشخصيتين الرئيسيتين، سليم وإيفانا.
فكان أن انتقلت هي من البوسنة إلى سلوفينيا بطريقة مبررة وسلسة، أما البطل سليم فيبيت في بوسعادة ويصبح في العاصمة السلوفينية بطريقة كن فيكون. وهكذا سيلتقي بإيفانا التي يجدها هناك نادلة في مقهى سي احمد عم سليم الافتراضي وأبوه الحقيقي.
- وبعد جولته التسكعية في هذه المدينة التي نزل فيها من بوسعادة دون مقدمات، نجد سليم فجأة مع عمه سي احمد يشربان نبيذ (كوهينا فينا) المحلي بالعاصمة السلوفينية، وهما غائصان في الحديث، دون أن يعلمنا الروائي كيف ومتى وأين التقيا. صحيح هناك الحذف كتقنية لتسريع الزمن في الرواية، لكن لا يمكن أن يكون بتر الأحداث التي لم تكتمل، وبداية أخرى في منتصفها، دون أن تكون بينهما علاقة منطقية مبررة، أو مفهومة.
ولعل الكاتب قد استدرك ذلك في الأنفاس الأخيرة من الرواية، فألصق شذرة تحكي ذهاب سليم إلى تلك المدينة، وقد جاءت هذه الشذرة واضحة الإلصاق، في غير مكانها المناسب، ودون مبرر واضح، وقد كان إلصاقها المتأخر أيضاَ. زيادة في وضوح النشاز، وثقل النص.
- ومن غريب ظاهرة الكولاج في هذه الرواية ما حدث في صفحتي 143-144، حين ألصق الكاتب قصة وفاة أم سليم (وهي قصة من الذاكرة) مع قصة جارة سلوفينية اسمها "إيرنا" وكلبها (وهي قصة راهنة). ثم ألصق بالقصتين، قصة ثالثة تتحدث عن صديقته مليكة التي تركها في الجزائر(قصة من الذاكرة)، ثم يلصق بالقصص الثلاثة، قصة دخوله قاعة حفلات في العاصمة السلوفينية، (قصة راهنة) ليشاهد فرقة "لايباخ"، ولقائه بالفتاة لورينا. دون أي سياق يجمعها أو قاسم مشترك بين القصص الأربع؟
وكل هذه المقاطع المتباعدة فكرة ومضموناً، جاءت متتالية في صفحتين، وهو جمع للملصقات (autocollants)، دون حبك ولا تسلسل ولا منطق داخلي يحكم تجاورها. وهو ما جعل وضعها تراكماً وليس تجاوراً أو تسلسلاً.
والملصقات وأساليب إلصاقها غير المبررة عديدة في النص، ولعلها سبب غياب التشويق في الصفحات الـ200 الأولى. فلو كان في الرواية منطق أسلوبي سلس يبرر وجود المحكيات الضمنية، والميكرو حكايات، وخيط سردي يرعى تناغمها، لحقق النص نوعاً من الانسجام الذي يصنع حبكته وبعده الدلالي، الذي يناسب تنوعه الأجناسي. وأعتقد أن سبب هذا الارتجاج والتراكم الكمي الفوضوي للأفكار، حدث لسببين: الأول هو التركيز على الحشد الكمي للمعلومات حول الرحلة إلى البلقان، مما حال دون خلق منطق داخلي لسيرورة الأحداث، والسبب الثاني: الخيارات السردية التي جعلت التصميم على طرح الفكرة أهم من التمهيد السياقي لها. والعاملان السابقان، هما سبب غياب التعقيد، الذي أربك الحبكة، وغيبها، ومعلوم أن منطق الحبكة السردية واستراتيجية التعقيد، هما سر صناعة التشويق في أي نص.

* ناقد وأكاديمي جزائري