بادئ ذي بدء، لا يمكن أن ننتقص من القيمة التي تميز بعض الأعمال الفنية، لكونها قد حازت جماهيرية، من منطلق أن الوعي الجماهيري العام يفتقر للقدرة على الحكم على الأشياء، ربما يخضع لبعض توصيفات غوستاف لوبون، أو لأن بعض الأعمال لا يمكن أن تدرك من قبل العقل الجمعي الجماهيري، كونه يفتقر إلى القدرة على استخلاص مصادر التميز، أو إدراك كنهها، أو فلسفتها.
غير أن فيلم «الجوكر» الذي عرض مؤخراً على شاشات السينما العالمية، بدا من تلك الأفلام التي لا تمضي بسهولة قبل أن تثير الجدل، وهنا أعني قبول الفيلم، أو العكس رفضه، بالإضافة إلى الاختلاف على وجاهة القيم التي يطرحها، أو المعالجة التي ارتضاها، فالفيلم لا يمكن أن يعدّ، في أي حال من الأحوال، في مجال المقصد الذاتي، إنما يتقصّد وعياً جمعيّاً، ينطلق من ثنائية الذّات والمجتمع.
ينهض فيلم «الجوكر» على متتالية سينمائية تتصل بأفلام الرجل الوطواط Batman. فالفيلم يمضي بوصفه إحالة إلى مرجعية الجوكر في الزمن الماضي، والسياقات التي قادته لأن يتحول إلى أيقونة الإجرام في مدينة «غوثام» الخيالية، التي ترمز إلى العالم، حيث تتصل بمنظور أيديولوجي يتصل بمعنى القيم، أو تلك التي تتصل بثنائية الخير والشر، كما عبر عنها بذكاء واحد من تلك الأفلام، وأعني فيلم «فارس الظلام» 2008، بيد أن ما يتميز به فيلم «الجوكر» رؤيته التي تنهض على عدد من العناصر التي قادت إلى هذا التلقي الثوري في جميع أنحاء العالم، ولعل أهمها أنه يتجرأ على خرق المسكوت عنه في الوعي الجمعي للإنسان، إذ يتخذ من القوة سبيلاً لتحقيق الوجود، إنها رؤية نيتشوية بامتياز، غير أنها تقترن بفعل آخر على مستوى التنظير الأيديولوجي، أو ذلك التحرك بين منصتين فكريتين تتصلان بكيفية معالجة الوعي بالأنا، وموقعها في عالم كلي منحط، وهذا ما يجعل البطل المضطرب عقلياً آرثر فليك، يصرخ متسائلاً عن معنى التحّضر.
إن تلك الابتسامة المغتصبة المرسومة بالدم في الجزء الأخير من الفيلم، ولاسيما أمام الحشود الثائرة والغاضبة، تشي بقدر كبير من التهديد للنظام، وهنا أعني المؤسسة، بما في ذلك الثنائيات الطبقية، وغيرها. لا شك في أن المشهد الافتتاحي البصري بدا على قدر كبير من الذكاء، إذ يفتتح الفيلم بالإشارة إلى مشكلة القمامة، التي تنشتر في المدينة والجرذان، ولعل هذا التكوين السيمائي ينهض على دالين، يمكن أن نستخلصهما عبر عملية تأويلية؛ أي أن ثمة انهياراً قيمياً في المدنية الصناعية الرأسمالية، التي باتت أقرب لمستنقع قاذورات، ولكنها تقرأ أيضاً في سياق انتشار الجريمة والفاسدين، أو تلك السلطة التي لا تعباً بالشعب، وما الجرذان التي تحتاج إلى جرذان أكبر كي تقضي عليها – كما جاء على لسان مقدم البرنامج الكوميدي، الذي يقوم بأداء دوره باقتدار روبرت دي نيرو – إلا إشارة إلى قوة أخرى عنيفة تهزم الفاسدين، أو أركان النظام الفاسد، الذي بات لا يحفل بالآخرين والطّبقات المسحوقة، وهذا يتضح من عبارة «الجوكر» حين يصرخ بأنكم تكترثون لثلاثة رجال فاسدين قتلتهم من وول ستريت (شارع المال والأعمال)، ولكنكم لم تلاحظوا وجودي، أو وجود غيري.
إن فعل الوجود يشكل إحدى الثيمات الأساسية في الفيلم، بما يتصل به أيضا من خاصية «ضحكة الضبع» الهستيرية، التي يرى العلماء بأنها لا تعبر عن الفرح إنما هي أقرب إلى نوع من أو التعبير عن مشاعر الخوف والاضطراب والألم، مع سعي الجوكر لأن يكون طبيعياً كما يريد المجتمع. إنها تلك الحياة التي ندعي وجودها، في حين أنها غير موجودة بالمطلق.
إن دالة شارع وول ستريت، ورجل الأعمال «توماس لاين» – والد باتمان- يحيلان إلى نموذج المؤسسة أو النظام، أو تلك السلطة التي لا تقيم قدراً للمهمشين، فهذا العالم الرأسمالي يحاول أن يستهلك كل شيء، من أجل أن تستمر تروس الاستهلاك، كما هي تلك البرامج التلفزيونية، التي تسعى لأن تستهلك كل شيء من أجل إضحاك البشر، حيث يتحول الجوكر إلى نموذج للسخرية، مما يحدث نقطة تحول في فلسفته تجاه الأمر، حينها يقرر أن يتجاوز العبارة أو النكتة التي كتبها على دفتره «أتمنى أن يكون لموتي معنى أكثر من حياتي».
لقد أحسن كاتب الفيلم والمخرج تود فيليبس في رصد تحولات الشّخصية التي بدأت خائفة مرتبكة ومضطربة ومهمّشة، إذ تتعرض للتنكيل والضّرب والإهانة من الجميع، فالضعف يعني إدانة، ولكنها سرعان ما تتحول إلى شخصية مرئية لها حضور، بل سرعان ما تتحول إلى رمز وأيقونة، بعد أن تمارس الانتقام، ومواجهة النظام لتنتشر أقنعة المهرجين في مدينة «غوثام» بوصفها رمزاً للثورة على المؤسسة.
اعتمد فينيكس على بنيته الجسدية، التي تحاكي الشخص الضعيف والمنهزم، بالتضافر مع استلهام موروث الشخصية المضطربة في السينما العالمية، وهنا بدا لي يوازي أو يتفوق على أداء الأسطورة جاك نيكلسون. إن معظم مقدرات الإبداع لن تتخلى يوماً عن هذه الثيمة، كونها مركزية في وجود الإنسان، ونعني إشكالية السلطة، وعلاقتها الجدلية مع المحكومين، كون السلطة هي التي تمتص مقدرات الشعوب، وتحتكرها مجموعة صغيرة. من عناصر التأثير الكاسح للفيلم أداء الممثل خواكين فينيكس، الذي يتقن هذه النوعية من الأفلام، ولعلي هنا أستذكر أداءه الرائع في فيلم (Her). لقد اعتمد فينيكس على بنيته الجسدية، التي تحاكي الشخص الضعيف والمنهزم، بالتضافر مع استلهام موروث الشخصية المضطربة في السينما العالمية، وهنا بدا لي يوازي أو يتفوق على أداء الأسطورة جاك نيكلسون، أو غيره من الممثلين الذين أدّوا هذه الشخصية. تتبدى اللحظة الحاسمة عبر تلك الرقصات التي يؤديها الجوكر على السلم، وهو يرتدي بدلة متباينة الألوان مصحوبة بموسيقى موظفة توظيفا حسناً. إن أداء الرقصات في ثلاثة مواقع بدت لي من أكثر العناصر الفنية تأثيراً، وهي رقصة السلم، كما رقصة المسرح بعد أن يقتل مقدم البرامج الكوميدية، وأخيرا رقصته فوق السيارة أمام الجماهير، إنها لحظة التحلل من قيم الضعف، وبناء شخصية أخرى تقهر مكون الضعف، وتجاوز ذاكرة الاعتداءات التي تعرض لها الجوكر في طفولته، أو الإنكار الذي تعرض له من والده، فضلاً عن تواطؤ والدته عما تعرض له من إيذاء، كي يقوم بقتلها بعد أن يعرف أنه طفل متبنى… إنها مواجهة مع الماضي، وهنا تبدو قيمة الغضب الجماهيري، التي تتأتى من عقدة إنكار الوجود التي تمارسها السلطة، أو يمارسها من هو أقوى على الضعيف، مما ينتج عنفاً متبادلاً. لا يمكن أن ننكر أن هذا الفيلم يحتفي بالعاطفة بوصفها مدخلاً سيكولوجياً، وهنا التأثير يعمل ضمن اتجاهين: الأول داخلي حيث ينتشر وعي الثورة على الجماهير. والثاني خارجي حيث يستشعر المشاهد وطأة الرسالة التي ينقلها الفيلم انطلاقا من تفسيرات دارسي السينما، حيث إن العواطف السينمائية مشابهة للعواطف الحقيقية، وكأنها تتصل بالواقع، أو إنها عواطف الشاهد كما ينعتها كارل بلاتينيا.
من عوامل هذا التلقي الجارف للفيلم قدرته على تنسيق رسائله، بحيث تخترق وهم التلقي ليتواضع القارئ والعمل في سياق واحد، وهذا يستدعي منا تحليل مكامن هذه الآلية التي لا تفتأ تمارس فعلها في تلاعب حر بمشاعر القارئ وعواطفه، ففعل التأثر يتحدد في النقد السينمائي بوصفه مفارقة العمل المتخيل، فنحن نعلم بأننا أمام عمل متخيل، ولكن كي نتمكن من تصديق النموذج المتخيل، والتأثر به، ثمة استراتيجيات محددة، ونعني خاصيتي «نظرية التظاهر» و«الفكر». الأولى ترتبط بفعل يتعلق بالمشاهد الذي لديه عواطف أو شبه عواطف داخل سياق لعبة التظاهر بالتصديق، كما يرى والتون، في حين أن الثانية تتصل بالإدراك؛ أي أنها استجابة عقلية، ولكن هذا لا يمكن أن يستقيم، كون الفعل ينهض على تضافر كلي بين العقل والنفس، حيث لا يمكن أن تعمل بمعزل عن الآلية النفسية القائمة على الاستجابة الشعورية، غير أن فعل التأثير العاطفي ينهض أيضاً على لعبة فنية تستثمر قدرات الفيلم، من حيث عناصر الإخراج، والإضاءة والموسيقى والأداء والديكور وغير ذلك، وكلما بدت متقنة تمكنت من الولوج إلى وعي المشاهد الذي ينطوي في داخله على جملة من المشاعر والعواطف عينها، التي يحاول الفيلم أن يطلقها، وهي أننا جميعاً مقهورون، ومضطهدون، أو نعاني من ضعف، أو تعرضنا في مرحلة ما من مراحل حياتنا إلى التنمر من قبل قوة ما، أو مؤسسة ما أو سلطة.
وهكذا يتضح لنا سر هذا التأثر العاطفي، والأهم الإدراك لمفردات الفيلم التي احتوت على منظور متكامل من الأداء السينمائي على كافة المستويات، فقدرة الممثل خواكيم فينيكس على تجسيد ثنائية الضحية والمنتقم، تلاقي صدى في وعي المشاهد الذي يتمنى تحقيق الانتقام. ولعل المشهد الأكثر تأثيراً، وأعني الرقص الذي أسهم في إطلاق طاقات الشعور، فالرقصة التي يؤديها الجوكر ربما تبدو من أكثر المشاهد عمقاً وحساسية، نتيجة الأداء العالي والمصحوب بجملة من الرسائل، كما الإيقاعات النفسية، إنها حالة تحرر لامتناه من قيمة الضعف وخلاص مجسد للثورة، أو لحظة تحرر من السلبية، والرغبة بالاقتصاص من العالم، فتأتي نهاية الفيلم إعلاناً عن إطلاق فلسفة الجوكر على خلفية صوت الأسطورة فرانك سيناترا وأغنيته الشهيرة That’s life.
كاتب أردني فلسطيني