تسرد لنا الكاتبة الجزائرية في نصها المكثف حكاية من حكايات الحب الشعبية التي تحدث في المناطق الشعبية الفقيرة عن حب عنيف تذبحه القيم والعادات الاجتماعية في مجتمعات كراهية ضد الحب منذ أسطورة مجنون ليلى، هنا تناص مع تلك الحكاية الأسطورة لكن في بيئة قرية جزائرية وبلغة مرهفة وطريقة سرد مبتكرة.

ما في وسعك من جنون

إيمان سبخاوي

 

تفشّت نظــرتها فيه بالكامل، جثا على ركـبتيه مستجـديا أمه التي استحالت مع الوقت إلى صرّة من العادات.. الفقــر.. الكآبة.. الهزائم... و علاّقة أمنيات.

ــــ زوجيني يا أمّا.

  • ابنها و فستانها الأحمر الوحيد الذي تحتفط به للمناسبات، بعدما اشترى لها ابنها حذاء جـديدا لتغطي الشقـوق من أثـر البرد و الطين... استعار قميص "لمخلّط" الذي كان عـريسا الشهر الفارط. قصدا بيتهم محكومين بأمل سعد الله.. استقبله والدها بالقهوة و أردفها بوابل من الأسئلة متقـصيا عن وضعه المادي..

ــــ ماذا تـشتغـل؟ من هو والدك؟ ــ أبي فلان.. أدرا مقلتيه كمحرك البحث.. لم تستقر عدستيه على اسم في القوائم العلوية لوجهاء القوم.. أجابه قبل أن ينزل بذاكـرته إلى أسفل القائمة حيث معشر الكادحين مقاطعا، أبي السعيد الملاّخ. الملّاخ الذي يرقّع الأحلام، كي لا تتسـرب من ثـقـوب الأحذية في ساحة المارشي، أوسعها وجه ابنته خضــرة...

تحسّس لحيته الكثّة الطويلة البيضاء التي يتعهدها بالحناء و التمشيط، فبدى وجهه الأسمر متفحما بفعل أسفل ذقنه المشتعل كجذوة من نار.. تدحرجت الكلمة بخبث كأنها هاربة من الجحيم و سـرت في مفاصل "لبكيـري"

  • نعطيها لك، أخدم على روحك..
  • والده من البيت، خرج مغاضبا متهما بالحب و الأنانية، كان بارا لم يخـدش صوت والده ببنت شفة... لكن أنى لاسكافي اعتاد أن يتخلل الجلود بالإبر و المسامير أن يرفـق بغلاف روح ابنه العاشق. جعلته الحاجة يعمل في مهنتين، نشب أظافره في الصخور، لحس كل رمل الأغواط ليؤمن مبلغ المهر الشمس الحارقة هناك لا تطهــو الخبز... عليك إضافة رشة ملح و عــصرة عرق و نار تعوي من بين ساعديك. كان يرسل مبلغا إلى أمه لتــزيح من رأسها مهمة إطعام الأفواه التي تتضخم كل يوم... بعد ستة أشهر عاد بمبلغ المهر الذي اقتسمه بين جوربيه مخافة قطاع الطريق الوحيد الذي يفضي إلى وجه خضرة، يتفقدهما كل خمس دقائق و يعــدّ الأدراج التي تفضي إلى بيتها. استقبلته أمه بوجه واجم، اختلط عليها الفرح بالحزن... لم يفك شيفرة ملامحها... سألها عن خضرة بكت شدها بعنف؛ أفرغت جعبتها دفعة واحدة، يا ابني دس مهرك.. دس.. نسيبك مات، زوّج خضرة و مات... أشار إلى ذقنه ذاهلا... للّحية قدرة عبقرية على الغدر، دفع ضــريبة الكذبة من عقله. صاح صياح مكسور، جفل من صوته كل حيوات الحي... من يـومها فمه مسكون بعبارة "الرّجلة.. آه يا الرّجلة، ينعل والديكم..." من يومها يسيح في الشوارع ملدوغا بأفعى رابح المخادع و الفقــر... و الأطفال يرشقـونه بالحجارة، لبكيري المهبول طلّق مرتو في ليكـول... لبكيري المهببببووول. يبات يبول.. يصافح وجهها في كل المارة، لم تسترح يمينه عن توزيع التحايا للآن إلا لحظة التبوّل، كل ما يؤلمه صداعها تحلّ عليه لعنة وجهها، جسدها الشوارع كلّها، آخرها وجه خضرة.. ثلاثون عاما يــركض و لا يصل، كلما تعب و قف عند جدار من جدران حارة اليهود المصمتة، ببيوتها المتشابهة كعلب الكبــريت و التي تخلو من النوافــذ بأبوابها كثيرة الأقفال... يبلغ لبكيري ذروته مستغرقا نفس المدة التي كان يقضيها اليهودي في فتح الباب لم يكن سـريع القذف إلا عندما يتكلم و يبلغ به الغضب ذروته، يلصق صورتها بسائله ثم يلف سيجارة لا يدخنها... يقتـرب لتـقبيلها تحول بينهما اللحية... يعاود الصراخ و الـركض، كل الجدران مرايا أفرطت في عكس صورتها... كل جمعة يشير إلى أحد المارة بأخذه للحلاق، تحممه أمه و ترشه بعطر "راف دور" الذي وضعه يوم كان ذاهبا لخطبتها. يذهب إلى قبر والدها يتقمص هيئة الساقي يمسك قضيبه بكلتا يديه ويــرش القبر متحــركا يمينا و شمالا لأداء صلاته المعتادة " الرّجلة آه يا الرجلة.. ينعل والديكم.." متبولا على الرجولة بملء مثانته من بول و جنون، ينعكس وجهها فتعود إليه حكمته التي أضاعها من جديد.. لمدة ثلاثين عام يتبول بركة حزن على قبر رابح و لم يغسل عاره الرجولي. نبتت شجرة أزاحت شاهد القبر، ثمارها على شكل قضبان مخصية كل جمعة يشب فـيها حرائق لا يطفـئها غير لبكيري... بعـدما ينتهي من سقياه، يطلق زفير من لا يملك جوابا... و يتـلـقف المكان حكمته رفقا بقلوب العشاق فهي القوارير.