لا تهم التعريفات ولا توصيفات الشاعرة اللبنانية لكلمة السهر، خصوصا حينما نراها تتجلى كل شيء وفي كل شيء، وحينما تنجلي كأنها الأنا والآخر، وكأنها عوالم ما انكتبت وتجلت، لكن المهم هو أن تلتقط تفاصيلها وسماتها وانجراهاتها وفي تعريفاتها ينجلي كل ما سر وما ظل دلالات ثاوية، بين هذا وذاك تعيد القصيدة توصيف هذا الذي ينكشف أمامنا ولا نراه إلا في ثنايا اللغة.

أتدري ما السهر؟

مريم الحسن

 

أتدري ما السهر؟

هو في الليلِ سفرْ

وعزفُ كمانٍ مبحوحُ الوترْ

هو هجرةُ الأفكارِ لعُشِّ ثباتِها

والوُجهةُ...

فضاءُ خيالاتٍ فلاتُها

امتدتْ حتى متاهاتْ الضياعْ

وعالمِ الهذيانِ في لا المستقرْ

...

أتدري ما السهر؟

هو صلاةُ غائبٍ

تُقيمُها الروحُ على نيةِ ابتهالاتٍ ...

ولألآتِ عَبراتٍ

تُسعِّرُ لأجلها نيران الحنينْ

في غاباتِ الحُبِّ السَكرَى

وتَستَمطرُ بدمعِها غيماً ضنينْ

بقطراتِ السُحبِ الحُبلَى

وتنفِخُ في الريحِ لتزفرَ أنينْ

على خيباتِ الدموعِ الحَرَّى

لإحياءِ ذِكرَى

تعلّقتْ أطرافُها بهُدبِ الشعورْ

مخافةَ سقوطِها في فَكِّ الذبولْ

مخافةَ مضغِها بنابِ الأفولْ

بحنكةِ شيخِ نسيانٍ بردانٍ

احترفتْ أسنانُهُ مع السنينْ

مهارةَ نهشِ الذاكرة

وطمسِ المشاعرِ بلا أثرْ

...

أتدري ما السهر؟

هو تسلّقُ الحُلمُ لحبلِ المُحالْ

وعناقُ اليأسِ لفمِ الآمالْ

وسيرٌ طويلٌ على دربِ الوِصالْ

وُلوجُ صحارَى وخَوضُ بحورْ

تنهيدُ حَيارَى من عجزٍ أو قصورْ

وعزفُ قيثارةٍ بدمعٍ مقهورْ

رحلةٌ في ظلمةِ الوهمِ وأنوارِه

لاستنقاذِ بسمةٍ من فمِ الوَهنْ

بعد أن عصفتْ بها رياحُ الشجنْ

فغابتْ وعادتْ من كَرى الزمنْ

كانبلاجِ فجرٍ بعد حَزنْ

أطلَّ بوجههِ ليطردَ رياحاً

لم تُبقِ على فرحةٍ للقلبْ

فِيهِ بسمةً لم تَذرْ

...

أتدري ما السهر؟

هو بكلِّ بساطةٍ انقطاعُ الأثرْ

رحلةٌ مضطربةٌ إلى العالمِ المجهولْ

وغوصُ الوعيِ في فراغِ اللامعقولْ

وارتحالُ العقلِ على صهوةِ الذهولْ

مغامراً بوَجدِهِ

ومقامراً برُشدِهِ

لقاءَ حَفنةِ هذيانٍ

ترمي به لساعةٍ أو اثنتين

على شطّ الجنون تارةً...

وتارةً في حضنِ حبيبٍ سليبٍ

غيّبَ الصمتُ بَوحَ كلامهِ

فصارَ صدَى السؤالِ كلَّ جوابهِ

كترجيعِ ناقوسٍ لإعلانٍ في مفادِهِ:

لا خبرَ عني اليومَ أو في الغدِ لا خبرْ

لا تنتظري الجوابْ

فلا خبرَ مني أنا... لا خبرْ

...

أتدري ما السهر؟

هو السؤالُ حين يأخذُ شكلَ السكينْ

وينغرزُ عميقاً في جرحِ الحنينْ

ويحفرُ في آهِ الوجعِ و بوحِ الأنينْ

يستنطقُ الماضي عن شبحِ جوابٍ

فيموت الجوابُ من شدَّةِ التعذيبِ

ويجنُّ سؤالهُ من القهرْ

أتدري ما السهر؟

هو شوقٌ يناضلُ رغمَ الألمْ

ودمعٌ فاضَ و لم يُلَمْ

ورُشدٌ ضاعَ أو انهدمْ

هو انتظارٌ نادى على صمتٍ تمادى

فما أغاثَهْ

غيرُ همهماتِ خيلِ سوادِ الليلْ

وثرثاراتُ همسِ بريقِ بعضِ النجومْ

وتفاصيلُ حكايا ...

باح بأسرارها

تبدّلُ أطوارِ وجهِ القمرْ

...

أتدري ما السهر؟

هو ما وصّفت لكَ

ونقلت طيورُ ليلِكَ إليكْ

عتبةٌ وبابْ

وحديقةٌ بأعشابْ

سيجارةٌ لا تنطفي

ودخانٌ يُفتش عن الأسبابْ

رمادٌ تذرّيه الرياحُ على الحجارةِ المرصوفةِ في ممرِ الدارْ

طيورٌ مغردةٌ

تحطُ صبح مسا

على عُري الأغصان وعلى رؤوسِ الأشجارْ

وقطٌّ طموحٌ

اقتحم على غفلةٍ عتمةَ البيتِ حاملاً منكَ أخبارْ

رسائلاً قصارْ

أو ربما جواب

مفادهُ عميقٌ وليس مختصرْ

...

أتدري ما السهر؟

هو الحبُ حين يرفضُ بكلِ جسارةٍ أن يموتْ

وصدقٌ مُصِرٌّ على الثبات وعلى الصمودْ

وعزلةٌ أقعدتها كثرة خيباتها في قومِ عادٍ وثمودْ

هو أنا أنتْ

وأنتَ أنا

حكمةُ وأقدارْ

وصدفةُ التقاءِ موسيقى النهرٍ بموّالِ الأمطارْ

قضاءٌ

لم يكن لي ولك فيه أيُّ يدْ

وقدرٌ

ليس لك ولي منه أيُّ مَفَرْ

 

شاعرة لبنانية مقيمة بفرنسا