ميّزت الواقعية الاشتراكية نفسها ببعدين متكاملين: فهي أولاً شكل أدبي جديد يمتثل إلى منظور علمي للعالم، وهي ثانياً عنصر أيديولوجي في بناء مجتمع لا طبقات فيه. صاغ البعدان معاً أسطورة "الإنسان الجديد"، الذي استعاد جوهره المفقود ودخل إلى مملكة الحرية. ولم يكن الإنسان الجديد إلا الشكل النوعي لإنسان أخير، خلّف وراءه ما قبل التاريخ وذهب إلى تاريخ غير مسبوق لا اغتراب فيه. جاءت بداهة "الإنسان الأخير" من "إيمانية التقدّم"، التي بشّرت بوصول أكيد إلى ذروة التاريخ، أو سقفه. وسواء صدر الإيمان عن تاريخ عاقل، أم عن إرادة إنسانية تحاور التاريخ وتتحالف معه، فقد كان هناك حلم بكون شفاف، أزيلت غوامضه، يسيطر الإنسان فيه على ذاته وعلى ما حوله في آن.
يصل الإنسان الجديد بين ما قبل التاريخ وبعده، معلناً عن نهاية التاريخ في الانتقال من مجتمع طبقي إلى آخر يغايره. وبما أن التاريخ، مهما تكن درجات ضعفه أو قوته، صراع بين أنصار التقدّم وخصومه، فقد عرف دائماً صراعاً بين "أدب تقدمي" وأدب ينصر الموت والعبودية. جعل هذا المعطى التاريخي من الواقعية الاشتراكية، كما رأى أنصارها، ذروة للأدب التقدمي ووريثه في آن. تضيئه وتستضيء به، وتنصره وتستنصره مؤكدة، أنها خلاصة الأدب التقدمي في جميع العصور وتجاوز له.
قسمت الواقعية الاشتراكية الأدب في زمنها، كما فيما سبق من أزمنة، إلى معسكرين: معسكر الأدب التقدمي الممتد من عمر الخيام إلى جوته ومكسيم غوركي، ومعسكر الأدب الرجعي الممتد من أدب السلاطين إلى هولدرين وجيمس جويس. أمدّ هذا المنظور الأدب، في حقبه المختلفة، بدلالة فوق تاريخيه، تعيّنه مرجعاً أدبياً لكل "حساسية تقدمية"، مثلما أسبغ على الأدب الرجعي، في جميع الأزمنة، هوية كونية ذات دلالة فوق تاريخية أيضاً. والنتيجة المنتظرة قسمة ميتافيزيقية تساوي بين الخير وأحد الطرفين وبين الشر والأدب غير الواقعي، وتلغي الفروق بين الأعمال "التقدمية" المختلفة، مستبقية مضموناً إيجابياً يتوزّع على جميع الأزمنة. اختزل التصوّر تاريخ الأدب إلى مضمون غير أدبي، يصيّر التقنيات الأدبية إلى سؤال لا ضرورة له. إضافة إلى ذلك، فإن اختزال أزمنة الإنتاج الأدبي المتنوعة إلى زمن أخلاقي غير قابل للتعيين، صادر بدوره أزمنة القراءة الاجتماعية، طالما أن القراءة فعل مشروط بسياق تاريخي محدّد في مكوّناته.
أنتجت الواقعية الاشتراكية، في مقولاتها المختلفة، خطاباً مسكوناً بالمفارقة: ربطت بين حاضر الأدب وماضيه، موحية بزمنين تاريخيين متمايزين ملغية فعلياً الزمن، في شكليه، ومختصرة "علم الجمال" إلى "علم أخلاق"، لا تاريخ له، مثلما أكّدت العلاقة بين النص الأدبي وقارئه واختزلت القارئ، في أشكاله المتنوعة المحتملة، إلى قارئ غُفْل هو: الشعب، الذي يحدّد التزام الأدب بقضاياه، أو "تحرّره" منها، تقدميّة الأدب أو رجعيته.
تصدر المقولة الثانية عن الأولى، كاشفة عن ميتافيزيقية التصوّر، فقد عالجت الأولى الأدب بعمومية ثنائية الخير والشر، وحوّلت الثانية القارئ إلى "مؤمن عام"، أو إلى "جماعة" تفصل بين الكتب الصالحة والكتب الطالحة. ترافدت المقولتان وانتهيتا إلى ثالثة تعمّم التجانس، إذ للأدب التقدّمي جمهور عام تقدّمي، وإذ للأدب الرجعي جمهور على صورته. وعلى الرغم من أن الاختزال، في مستوياته المختلفة انتسب إلى مفهوم نظري ممكن التحديد، هو الصراع الطبقي، فإن ما جاء به يتفق مع "الاختراع الأيديولوجي" ولا يأتلف مع المفاهيم النظرية.
رأت الواقعية الاشتراكية وظيفتها في إنشاء مجتمع متجانس متقن البناء والهندسة، يشرف عليه حزب يمتلك الحقيقة والإرادة، ويدير علاقاته "إنسان جديد" تصالح عقله وقلبه ووعيه ولا وعيه، بلا اضطراب أو تناقض. فقد حاول ستالين، مؤمناً بصورة الإنسان الأعلى، أن يستبدل بالسديم الاجتماعي مجتمعاً منسجماً متجانساً، أعيد تصميمه والسيطرة على وجوه الحياة العامة والخاصة فيه. وكان على الأيديولوجيا الستالينية، القائلة أنّ "البلاشفة" قادرون على فعل أي شيء"، أن تعيد تصميم وهندسة الإنتاج الأدبي-الفني، كي يكون جزءاً من البناء الاجتماعي الجديد، وعنصراً فاعلاً في تحقّقه. فرض هذا التصوّر على الأدب، في المستوى الظاهري، أن يحاكي الواقع المنشود الواجب بناؤه، وفرض عليه، في المستوى الجوهري، أن يحاكي صورة المجتمع، كما تأمر بها الأيديولوجيا المتحزّبة. دار الأمر، في الحالين، داخل فضاء أيديولوجي خلط بين القائم والممكن، وبين الواقعي والطوباوي، وأمر الأدب ألاّ يتعامل مع الموجود، بل مع ما هو واجب الوجود.
أكّدت الواقعية الاشتراكية، التي أسبغت على الإنسان قوة خارقة، أمرين: رسم المحتجب الآخذ بالتخلّق والتكوّن، ووصف جوهر القوى الاجتماعية التي تنجزه، المكوّنة من الحزب والقائد والطبقة العاملة، كما تقول بها الأيديولوجيا المتحزّبة. شيء قريب من الأيديولوجيا الدينية، التي لا تعاين الأشياء الملموسة، بل تنصرف إلى الخفاء الكبير الذي يخلق الأشياء ويسيّرها. كأن نقرأ: "إن المهم من وجهة نظر المنهج الجدلي هو ليس ما يبدو، في لحظة معينة، ...، بل ما يتخلّق في سيرورة مخاض وتطوّر". يحاكي الأدب الأيديولوجي الغائب قبل أن يحاكي الحاضر، مذكّراً بخارطة فاضلة لا يزال المهندس ينقب عن المواد الأولية اللازمة لبنائها. لا غرابة أن تحرّض "المدينة النموذجية" على مفهوم "النموذجي"، الذي أخذه لوكاتش من انجلس، وأعطاه التنظير الستاليني دلالة إدارية. فالنموذجي، أو النمطي، بلغة أخرى، يعكس شكل الواقع في وعي الأديب، لا الواقع القابل للقياس والمعاينة، بما يختزل الواقع إلى معطى أيديولوجي، وبما يقلّب العلاقة بين الوعي والواقع، مهمّشاً الأخير ومعطياً الأول موقع الأولوية. يصبح الوعي انعكاساً لأيديولوجيا طوباوية، ويغدو الواقع انعكاساً مهمّشاً لانعكاس آخر. تتكشّف، في هذه الحدود، الإيمانية النظرية القائلة بإمكانية صناعة التاريخ، وبإمكانية صنع "الكادر الشيوعي"، التي تمدّه الصناعة الأيديولوجية بصفات لا توجد في غيره. يتجاوز الأمر، بداهة، الوهم الذاتي، ذلك أن "الكادر" مؤمن برسالته، ومؤمن أكثر بالأيديولوجيا التي تقترح الرسالة.
عاش الأديب الشيوعي، بالمعنى الستاليني، سعادة مخادعة، موحداً بين الحاضر والمستقبل، وحاجباً شقاء حاضره بوعود السعادة القادمة. ولم تكن هذه السعادة المخادعة ممكنة من دون إيمان عميق بفكرة: الإنسان الخالق، الذي يجسّر المسافة بين الحاضر والغائب، ويعترف بالغائب قبل أن يتأمل الحاضر والغائب. لا تختلف دلالة البطل الإيجابي، في هذه الحدود، عن دلالة البطل السلبي، فكلاهما يحيل على واجب الوجود لا على ما هو موجود، وكلاهما تصور جمالي مرغوب. ذلك أن الواقعية الاشتراكية، في شكلها الستاليني، انصرفت إلى توصيف ما لم يأتً بعد وسردت آثاره على ما هو موجود وقائم. شيء قريب من دلالة الأيديولوجيا عند ألتوسير، من حيث هي حل وهمي لقضايا واقعية، أو أطروحات وهمية تفعل في الواقع المادي. لا غرابة ألاّ تتحدّث الواقعية الاشتراكية عن "تمثيل" البطل، سلبياً كان أم إيجاباً، بل عن "تجسيده بأدوات فنية موائمة"، كما لو كانت الأدوات الأيديولوجية-الفنية، وقد أحسن ابتكارها وأتقن صوغها، كافية وحدها لتجسيد البطل الذي لا وجود له. ربما كان في صورتيّ ستالين وتروتسكي، في الأيديولوجيا الستالينية، ما يفصح عن الخير والشر الجوهريين، الذين "تجسدهما" أيديولوجيا تضيف الغائب إلى الحاضر، منتهية إلى "الإلهي" و"الشيطاني"، مازجة، بكثير من المفارقة، بين اللاهوت والمادية الجدلية. إنه طقس التوليد الذي تضمنه قوى غامضة، كي تعلن هزيمة الشر أمام الخير، اعتماداً على وسائل فنية مولـّدة تجمع بين الدقة والحقيقة. ربما كانت طقوس التوليد، التي قالت بجديد شامل في البيولوجيا وعلم اللغة وعلم النفس، هي التي وضعت الثقافة الستالينية داخل التاريخ وخارجه: فهي في القرن العشرين بفضل مقولات الطقبة العاملة وصراع الطبقات والصراع بين الشيوعية والفاشية، وهي في أزمنة سبقته، لأنها احتفت بـ"اليوم الموعود" قبل وصوله.
من أين جاءت صورة الإنسان الخالق الذي يؤبلس ما شاء ويُرَحْمن ما يريد؟ يعزو الجواب البسيط الصورة إلى "إرادوية لينين"، الذي أعطى للإرادة دوراً حاسماً في الثروة البلشفية، ويعزوها الجواب الأكثر بساطة، وابتذالاً ربما، إلى ديكتاتورية ستالين. بيد أن المعنى، المبرّأ من الابتذال، يقوم في مكان آخر أكثر تعقيداً، لا تنقصه المجازفة والتجريب والإيمان بقدرات الأنسان اللامتناهية. جاءت الصورة من تصوّر يثق بالعلم ثقة مطلقة، ويرى إلى "إنسان علمي" يفكك غوامض الكون والإنسان جميعاً.
اعتمد التصوّر على أطروحتين غير متجانستين جمعتا، بشكل غريب، بين الماركسية وأفكار متصوفة غامضة. تقول الأولى وهي ماركسية تماماً: لا يتعيّن تقدم الإنتاج الإنساني بمواضيعه، بل بالعناصر التقنية المستخدمة في إنتاج المواضيع، بما يجعل من التقدّم التقني مرجعاً للتقدم ومعياراً له. وتقول الثانية، وهي عنصر حاسم في الأيديولوجيا الستالينية: لا يكمن سر الإنتاج في الوسائل التقنية المكرّسة لأجله، بل في طريقة استخدام الوسائل، بما يجعل الإنسان، أو جوهر الإنسان بشكل أدق، قوّاماً على التقنية والتاريخ التقني. تبدو الأطروحة الثانية، للوهلة الأولى، عادية، تثني على الإنسان وقدراته المبدعة، قبل أن تصبح، في خطابها النظري المتواتر، لاهوتاً جديداً، يخلط بين العلم والفولوكلور العلمي، وبين التصوّر المادي للتاريخ والميتافيزيقا.
تفسّر الأطروحة الثانية انجذاب الستالينيين، الذي لا اقتصاد فيه، إلى كلمة العلم التي أضيفت بشكل احتفالي إلى مواضيع عدة: الاشتراكية العلمية، الفلسفة العلمية، التصوّر العلمي للتاريخ، السياسة العلمية، وصولاً إلى "علم الثورة". تحوّلت الواقعية الاشتراكية، في مجال الإيمان العلمي، إلى نظرية علمية في الأدب، تنتج نصاً أدبياً قادراً على التنبؤ، وينتج نصها بطلاً دقيق الصياغة، قابلاً للتفكيك والقراءة بلا غموض، لأنه في ماديته العلمية متحرر من التباسات الشعور وغوامض اللاوعي. لا غرابة أن يكون "الكادر"، أو المهندس، مجازاً للثقافة الستالينية بامتياز، فهو الإنسان الخالق الذي يتفوق على التقنية التي يستعملها، وأن تكون "الساعة" مجاز الإنسان والمجتمع الشيوعيين معاً لا يردّ الإنسان "الذي يشبه الساعة" إلى الإذعان والسيطرة، بالمعنى المتداول، بل إل حلم صياغة "الإنسان العلمي". وإذا كان هناك من استبداد، وكان قائماً بالتأكيد، فهو لا يفسّر فقط بشخصية ستالين، أو بالماركسية من حيث هي، بل بضرورة تأمين الشروط المختلفة لإنتاج "إنسان علمي"، وبوجوب امتثال الإنسان إلى سياسة ستالين التي ابتغت مجتمعاً علمياً. تراءى هذا النزوع واضحاً في الصيغ الأكثر انتشاراً آنذاك: "إرادة الفولاذ"، "مهندس الأرواح"، أو بالأغنية التي قالت: "لنا أجنحة من فولاذ، ولنا مكان القلب محرك من لهب". رأى هذا التصور إلى عالم منظّم تقنياً، يتكشّف في علماء ومهندسين، وفي بشر ينظمهم العلم، ويبتكرون عالماً على صورتهم، كما لو كان العلم يجانس بين البشر والأشياء.
تمكن قراءة تاريخ الواقعية الاشتراكية، في شكلها الستاليني، انطلاقاً من الأطروحة التالية: حين تلتقي المعرفة والسلطة، تخرج المعرفة من اللقاء خاسرة. تنشد السلطة المنفعة وتتطلع إلى المعرفة، كما أن المعرفة لا تقبل بالشَخْصنة، على خلاف السلطة التي تشخصن المعرفة، طاردة المعايير الموضوعية خارجاً. خرجت الواقعية الواقعية الاشتراكية، وهي محصلة لكلمتين غير متجانستين، من اللقاء خاسرة، فقد أزاح عنف اللقاء مفاهيمها النظرية من مكان إلى آخر.
يتكشّف الانزياح الأول في مفهوم الفرد الذي محاه، أو كاد، شعار "البطل الإيجابي"، الذي هو تجريد قيمي ـ أيديولوجي، يحيل على "الحزب البروليتاري"، أو على "قائده"، أو على "الكادر"ـ الذي هو مزيج من المعرفة الصائبة والإرادة الفولاذية. فمن المفترض أن "البطل الإيجابي" تجسيد لمفرد نوعي، يرى غيره قبل أن يرى ذاته، واعداً الغير بعالم مثالي. بيد أن انشداد البطل الرومانسي إلى صورة ـ مثال، وضع مرجعه الذاتي خارجه، ودفع به، بوعي أو من دونه، إلى محاكاة مستحيلة، تستبدل بالفردية الطليقة ذاتاً منضبطة على مستوى الوعي، واللاوعي، إن أمكن. قادت فكرة النموذج إلى إلغاء الفرد، وعمل النموذج المعمّم على تحويل "الجمهور" إلى جماعة منضبطة، يتقاسم أفرادها محاكاة الصورة-المثال، بدءاً من اللغة الجاهزة والمواقف المتناظرة، وصولاً إلى تجانس المعايير والأحكام. تستدعي المحاكاة، في مستوى أول، فكرة التحزّب قبل أن تستدعي، في مستوى أعمق دلالة، ثنائية: الأحادية والجماعة، إذ للجماعة مثال وحيد تندفع إليه، وإذ الجماعة كيان واحد لا تمايز فيه. شيء قريب من علاقة الوجه بالقناع المستديم، الذي يمحو الوجه مستبقياً قناعاً التبس بوجوه كثيرة.
استولدت المعرفة السلطوية من "البطل المفرد" نموذجاً ذهنياً يتجاوز الأفراد، وحوّلت الإرادة السلطوية "الجمهور الواعد" إلى جماعة متجانسة. ولعلّ عادات الفكر والانقياد هي التي ساوت بين "العقل المتحرّر" والهرطقة، بلغة معينة، أو التحريفية، بلغة أخرى مصيّرة "أسطورة بروميثيوس"، التي انشد إليها ماركس الشاب والماركسيون بعامة إلى مجرّد درس تربوي منقطع عن الحياة. وإذا كان في سلطة النموذج، التي تلغي الأفراد، استعادة لممارسات تقليدية، لا تحتاج إلى الماركسية ولا تقبل الأخيرة بها، فقد تجلّت التقليدية المغلقة في مجال آخر يمكن أن يدعى بـ "تقديس الأصول"، وفقاً لتراتبية ذات رنين ديني. فما قاله ماركس، في شذراته القليلة عن علم الجمال، أصبح قاعدة لا سبيل للخروج عنها، وما قال به لينين عن السياسة الإعلامية التحريضية صار "نظرية جمالية"، وما جاء به ستالين عن معنى اللغة تحوّل إلى مرجع يقيس به العلماء اجتهاداتهم. أعطت أيديولوجيا تقديس الأصول "كلاسيكي الماركسية" بعداً دينياً صريحاً: قالت بأصول نظرية أولى لا يمكن تجاوزها، لأنها كلية المعرفة، وقرّرت، ضمناً، محاكية الأيديولوجيا الدينية، بأن "الزمن النظري الأول" هو الأكثر نقاء، وأن ما يتلوه يقصّر عنه. وبداهة، فإن الأمر الأكثر خطراً ماثل في اختزال النظرية، التي تقول بأولوية الممارسة على المعرفة، إلى أيديولوجيا مغلقة، حقيقتها في ذاتها، فإن كان من خطأ فمرده قصور عن إدراك النظرية ووعيها. هكذا انتقلت أفكار ماركس، عن الاقتصاد والسياسة والتاريخ، إلى مجال مغاير عنوانه: "علم العلوم"، الذي يهدي العلوم الجزئية إلى السبيل المستقيم، ولا يحتاج إلى علم من خارجه. والواضح هو مبدأ الإقصاء، الذي يسخّف ما خارج الماركسية، وما خارج الواقعية الاشتراكية، وما هو خارج الطبقة العاملة، التي هي تجسيد مادي للوعي الصحيح، كما قال جورج لوكاتش في كتابه الشهير: "التاريخ والوعي الطبقي".
تجلّى تصنيم النظر، إذن، في موقعين أساسيين: التشكيك بالمفرد النقدي لصالح الجماعة المتجانسة، الأمر الذي فرض على "الأديب الملتزم"، أن يعيد كتابة ماكتبه غيره، مخصصاً الزمان والمكان إذا لزم الأمر. وإذا كان "الالتزام" قد خلق فكرة "البطل الإيجابي"، فإن البطل المفترض أسس لنصوص روائية متجاورة متوازية ومتشابهة في آن. يستطيع القارئ على سبيل المثال أن يقارن مآل البطل في "نجران تحت الصفر" ليحيى يخلف، و"الياطر" لحنا مينة، و"أم سعد" لغسان كنفاني. فهذه النصوص، رغم الفروق بينها، وزّعت نهاية واحدة على الأبطال جميعاً، كما لو كان هناك "بطل أصل" أيقظه الروائين الثلاثة بأشكال مختلفة.
ظهر الموقع الثاني في "تقديس الأصول"، حيث ما قال به غوركي مرشد للأديب الذي يقتفي آثاره. اكتمل الموقعان النظريان بفكرة دينية ثالثة هي "الضمان"، التي تعني أن ثورة أكتوبر انتصرت بكتاب "رأسمال المال"، وأن مراجع "الأدب الطبقي" تكفل تقدمه على غيره، وأن "علم العلوم" الذي يظلل الأديب الملتزم والبطل الإيجابي وعلم الجمال الماركسي يضمن الانتصار على النقائض جميعاً والغائب في هذه الإيمانية هو: المقارنة، فلا سبيل إلى مقارنة "العلم المجزوء" بـ"علم العلوم"، ولا يمكن التقريب بين البطل الإيجابي وغيره، ولا يقدر منظّر الأدب أن يقتنع بملاحظات أندريه مالرو، بعد أن بسط له غوركي الحقيقة كاملة. تعني المقارنة، في هذا الاتجاه، التحرر من اليقين ومجابهة البديهيات، والاعتراف بأن المواضيع مثقلة بنقائضها. وهي أخذ مسافة عن المعطى والبديهي والانتهاء إلى سؤال جديد، كان يبدو في البدء غائباً، وهي الثمن الفكري الواجب دفعه، كي تظهر الأمور أكثر وضوحاً. والمقارنة، في الحالات جميعاً، قطع مع الأفكار المسيطرة والأحكام الجاهزة. نقضت الواقعية الاشتراكية، كما الماركسية الستالينية بعامة، مبدأ المقارنة مقتربة من مجانسة تشبه الصمت، ومن صمت قوامه المجانسة.
تستأنف المقولات السابقة، دون أن تدري، صفات الأصولية، القائلة بـ"امتلاك الحقيقة والإجماع وتقديس الأصول وحيازة الضمان المنفتح على الظفر وبداهة إقصاء "الآخر"، والقائلة أولاً باليقين المصمت الذي لا ثغرات فيه ولا شروخ. والماثل، في الأحوال جميعاً، تلك الشكلانية القامعة، التي تعترف بـ"الأسماء المفردة" وتقذف بها، لاحقاً، في أتون يذيب الأسماء وأصحابها.