أكثر الأشياء خطورة اليوم، هو واقع الافتقاد لمقترحات ملموسة، مجسدة، محددة، وقابلة للتنفيذ، تجمع حولها "الزخم" الذي تمثله هذه الانتفاضة، وتحوّله –وتحولها أيضاً- لقوة مادية دافعة. قوة تفرض نفسها على المشهد السياسي والاقتصادي وعلى مشاريع "الحلول" التي تفبرَك بالخفاء.
واحدة من تعريفات "اللحظة" (بوصفها Momentum) أنها القوة الدافعة التي تُبقي شيئاً أو حدثاً متحركاً ومتطوراً بعد انطلاقه، أي أنها الزخم. يفرض المصطلح نفسه لوصف الحدث الجاري في لبنان منذ 17 تشرين الاول/ اكتوبر. هو "لحظة" بجدارة، تاريخية وسوسيولوجية وسياسية، ظهر خلالها وجه مضيئ للبنان، ولشبيبته بالأخص. تخلّى من كان يبحث عن فرصة للهجرة عن فكرته تلك، وعاد العشرات ولو لأيام ليروا ويسمعوا ويعيشوا ما حلموا به. وهذا ليس بالقليل. يسموا الناس في مثل هذه الأوقات، يصبحون أكثر "تهذيباً" بما هي الالفة والتضامن والمحبة والتسامح والتعاطف مع الاخرين. بما هي الصفات الانسانية. وهذا فرح عظيم. مكسبٌ ثمينٌ ونادر.
ولكننا، وبعد شهر ونيف من انفجار غضب الناس واستنكارهم لما أوصلتهم إليه الزمرة الحاكمة، بكل رموزها، المتحكمة بالسلطة وبالثروة معاً، المستهترة بالمصلحة العامة، الفاقدة للشعور الوطني، الفاشلة والنهّابة (وهذه ليست شتائم بل صفات لكل منها دلالتها القوية كما الأدلة على وجودها). بعد هذا الوقت في الشوارع والساحات في طول لبنان وعرضه، الذي فرض على الحكومة الاستقالة، وفرض على النواب التواري، وجعل "المسئولين" في حالة من الصمت والانكفاء، حان وقت سؤال: ماذا الآن؟
الشائعات تملأ الآذان. يتحدث الناس عن الإفلاس القائم فعلاً والذي يمس حياتهم اليومية المباشرة، طعامهم ودواءهم ومدخراتهم القليلة التي افترضوا أنها محفوظة لليوم الأسود، وعن تخلخل الترتيبات التي أنجزوها لتوفير بعض الضمان الصحي، بعض المعاش التقاعدي (للمحظوظين منهم بالأصل)، عن مدارس الاولاد غداً، وسوى ذلك من موجبات الحياة. يتحدثون عن تهريب الكبار لأموالهم خلال فترة اغلاق البنوك أبوابها بوجوههم هم. عن تحركات مريبة لقوى الظل، عن مؤامرات تحاك في الكواليس لفرض أمر واقع ما... يتساءلون عن موقف الجيش. يتحدث الشباب بفرح وثقة أكبر، بحماس، بأفكار أجمل، بطموحات أعلى عما تحقق وعما يريدون... فهم لم يُنهكوا بعد. لم يواجهوا بعد كل هموم ومصاعب الحياة، وإن كانوا قد قاسوا الأمرّين حتى الآن، في القليل الذي خبروه.
فما العمل حتى لا تخيب آمال الشباب، وما العمل حتى لا يجزع الآخرون، وحتى لا يُحبَطون، بعدما تمكنوا من الإعلان عن إراداتهم الحرة طوال هذا الشهر والنيف؟
كل الخصائص الجميلة التي طبعت هذا الانتفاض المهول، صارت تدفع الى مسألة ملحة اليوم: بلورة البدائل، وهذا على كل المستويات. ليس تلك النظرية العامة أو الايديولوجية، وهي مشروعة بالتأكيد، ولكنها لا تجيب على "ماذا الآن؟". بل سياسات بديلة تتناول الممكن من خلال حلول مقترحة، مدروسة، قابلة للمحاجة والتنفيذ. وهي من الضروري ألا تكون وليدة فكر فردي نيّر (فحسب)، بل نتاج تفاوض اجتماعي واسع، يشارك فيه المنتفضون كأفراد، وكذلك التجمعات النقابية والمهنية والسياسية المنخرطة في هذه الحركة.
فمن أكثر الأشياء خطورة اليوم، هو واقع الافتقاد لمثل هذه المقترحات الملموسة، المجسدة، التي يمكنها أن تجمع حولها "الزخم" الذي تمثله هذه الانتفاضة، وتحوّله لقوة مادية دافعة. قوة تفرض نفسها على المشهد السياسي والاقتصادي وعلى مشاريع "الحلول" التي تفبرَك بالخفاء -وهي ليست بحلول، بل قد تكون ترقيعات وتأجيلات في أحسن الاحوال- وهي فاشلة بالتأكيد باعتبار عِظم الكارثة.
وبهذا المعنى، فليس المقصود هو تقديم تصور متكامل يخص كيفية تغيير النظام المفلس والعاجز (وإن كان ذلك سيكون شيئاً رائعاً لو توفر)، بل، وبالتحديد، صياغة بضعة نقاط أساسية، وجعلها مطالب ترفض الانتفاضة التخلي عنها، بل هي من النوع الذي يوحّدها، ويجعلها بديلاً عن الاجراءات التي لا بد أنها آتية. فتصبح نوعاً من "التسوية" الممكن فرضها على تلك الوحوش المتحكمة بنا. ولكنها تسوية من النوع النبيل، أي الذي لا يقفل الباب أمام الصراع المستمر.
ولا بد هنا من استعادة خصائص التجربة السودانية لهذه الجهة، ومن استلهامها كمثال، مع العلم أن كل وضع يختلف عن الاخر وله ظروفه واشتراطاته... لقد بُني "تجمع المهنيين" بدأب وعبر سنين، وهو صار "قائد" الانتفاضة التي استمرت لثمانية أشهر. ولا تعني القيادة هنا الاستبداد بالناس، أو تجاهلهم والحلول مكانهم. فهذا سلوك الوصوليين والمتسلقين وليس المناضلين. وتجمع المهنيين يمثل شبكة اجتماعية شاملة لكل مدينة ومحافظة على الرغم من ترامي أطراف البلاد، ومن تنوعها الشديد، الديني والاثني معاً، ومن تاريخ من النزاعات الدموية. وهو بلور "إعلان الحرية والتغيير" الذي فاوض الاحزاب السياسية بشأنه وتمكن من ضمهم اليه كبرنامج حد أدنى، رفعه المنتفضون بوجه العسكر وفاوضوهم بشأنه وانتزعوا منهم "الفترة الانتقالية" وتقاسم السلطة، التي يصارعون اليوم في ظلها، وكل دقيقة، من أجل إحداث تغييرات عميقة في البلاد وعلى كل المستويات. هذه هي الممارسة السياسية الحقة.
وأما التهرب من موجبات هذه الممارسة السياسية بادعاء رفض "السياسة" (ما معنى هذا الرفض حين يكون الشعار هو "اسقاط النظام"؟)، ورفض بلورة برنامج محدد، ورفض بلورة هيئات تمثيلية... الخ. فليس ثورياً بشيء، بعكس ما يظن حاملوه ودعاته. بل هو وعلى الارجح أحد مظاهر أعطابنا والنواقص التي تعتري حركتنا و... وتهددها.