أسدل الستار مؤخرا على الدورة الخامسة لمهرجان فاس للمسرح الجامعي الذي نظمته رئاسة جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس في المملكة المغربية، وهي الدورة التي شكلت نقلة نوعية في مسار المهرجان وطبيعة المشاركات العربية والدولية فيه. للمرة الأولى اجتمعت أكثر من عشر دول عربية ممثلة بفرق مسرحية جامعية أو برجال مسرح، وتفاعل شبابها بشكل مميز خلال الدورة، حيث التقت فرق من المغرب وتونس ومصر وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية والعراق ولبنان وسورية وقدمت مسرحياتها المأخوذة من ريبرتوار متنوع.
مسارح جامعية عربية متنوعة
برزت في المهرجان بجلاء فرقة الجامعة الأمريكية اللبنانية من بيروت بمسرحية ' سبعة أطفال يهود: مسرحية من أجل غزة'، بإخراج فاتن لفؤاد حلواني، وتشخيص مميز من أصيل عياش التي شدت الجمهور بأدائها العميق والمتفاعل وحسين نخال بتطويع جسده ليصبح صدى لحالات ومشاهد فارزة في النص المسرحي. هذا، فيما تميزت مسرحية جامعة تشرين من اللاذقية من سورية بإخراج هاشم غزال بتخريجات جمالية رائعة، وبسينوغرافيا متميزة، بخلاف المسرحية العراقية التي اختارت الكوريغرافيا لتحكي معاناة الشعب العراقي بعيدا عن لغة الحوار المحكية والشعارات التي تصاحب عادة المسرحيات التي تحكي معاناة الشعوب المقهورة في عدد من التجارب المسرحية، من بينها عدد من تجارب المسرح العراقي الحديث.
ومن الخليج العربي تميزت مسرحية ' مرتجلة جدة' من جمعية الثقافة والفنون من جدة والتي تم اقتباسها من مسرحية ' المرتجلة الجديدة' للمسرحي المغربي محمد الكغاط، والتي اعتبرت نموذجا للتواصل والتبادل بين المسارح العربية بفضل مهرجان فاس. وقد عبرت المسرحية بجلاء عن تميز التجارب الشبابية في المسرح الخليجي، وعن توفرها على إمكانيات إبداعية واعدة ستقول كلمتها في المستقبل القريب. اما الفرقة المصرية التي قدمت مسرحية ' طقوس' عن المعهد العالي للفنون المسرحية فلعل تميزها بخلاف المسرحيات المشاركة أنها من إبداع طلابي صرف، إذ عادة ما تلجأ الفرق المسرحية إلى مخرجين متمرسين لإدارة أعمالها، فيما كانت المسرحية المصرية من إنتاج طلابي صرف بما في ذلك الإخراج المسرحي، مما جعلها تتميز ببعد تجريبي واضح على صعيد لعب الممثلين والإخراج المسرحي، وإن كان قد لوحظ أن سينوغرافيا العرض بقيت غير مستعملة وغير مندمجة في الحدث المسرحي. وفيما سجلت المسرحية العمانية الدينامية التي يعرفها المسرح الجامعي في السلطنة. ونزوعـاً إلى البحث عن لغة مسرحية جديدة، قدمت مسرحية ' الحلوة' للمركز الشبابي والمسرحي من تونس نموذجا للمسرح الجامعي الذي يستثمر تراكمه بحثا عن إبداع مسرحي يقترب كثيرا من الاحترافية، وذلك بفضل تجربة مهرجان المنستير الدولي للمسرح الجامعي.
ملتقى الشباب العربي
تلك الدموع التي سالت على خدود عدد من المشاركين في اليوم الأخير من المهرجان كانت الدليل الأكثر إقناعا على أن المهرجان تحول من لحظة للتفاعل مع المسرحيات المبرمجة إلى حياة صغيرة يعيشها المشاركون ويندمجون فيها وهم القادمون من أصقاع بعيدة. ولأن مدينة فاس لا تتوفر على غير قاعة مسرحية واحدة، اضطرت إدارة المهرجان إلى برمجة أربع مسرحيات في القاعة نفسها نزولا عند طلبات المشاركة الكثيرة التي تلقتها. وبين المسرحيات، كان الجمهور والمشاركون يستمرون واقفين أمام المسرح في انتظار سحب ديكورات المسرحية المنتهية وترتيب المسرحية القادمة. كان ذلك تعبيرا قويا عن حالة تفاعلية رهيبة، وفي أقصى الحالات كان المشاركون والفنانون يرتاحون على أرائك المقهى المسرحي الكوميدي، المحاذي للمسرح يتبادلون الأحاديث والنقاشات. أصبح المهرجان فعلا ً ملتقى للشباب العربي تتخلق فيه العلاقات الفنية بين الشباب، وتتشكل مشاريع مسرحية مشتركة مستقبلية. وقد أصاب رئيس الجامعة ورئيس المهرجان طبعا حين أصرا على إقامة الفرق المسرحية في فنادق في وسط مدينة فاس قريبة من المسرح، بدل الإقامات الجامعية البعيدة، والتي كان طلاب الجامعة يشغلونها على كل حال، ذلك أن قرب مواقع الفرق من المسرح سهل عملية التبادل، وخلق حالة مسرحية في وسط المدينة، كما جعل الفرق المسرحية تعيش أياما احتفالية حقيقية. كما أن إصرار إدارة المهرجان على أن يكون تنظيم المهرجان من طلبة الجامعة أنفسهم دون أي استعانة بمحترفين في هذا المجال ثمن التبادل المسرحي والفني بين المشاركين وطلبة الجامعة.
مسارح جامعية عالمية
لأول مرة تشارك في المهرجان فرقة من الكيبك من كندا حيث قدمت مسرحية فارزة بشكل حقيقي سواء على الصعيد السينوغرافي أو الإخراجي، وعلى صعيد القضايا المتناولة، حيث انغمست المسرحية في مساءلة التفاصيل اليومية للإنسان المعاصر، مثل حالة السمنة التي تشغل بال الكثيرين او العلاقات الاجتماعية المشبوبة بالنفاق في المجتمع المعاصر. فيما ركزت المسرحية الهولندية من مدرسة المسرح في روتردام على ما يشغل بال المجتمع الهولندي المعروف بكثرة الجاليات الأجنبية المقيمة فيه، والتي تفتقت عنها حالة من التنوع الاجتماعي والثقافي في المجتمع الهولندي لم تمنع رغم ذاك من بروز حالات من العنصرية الجديدة ضد الأقليات الأجنبية التي ساهمت في صنع الصورة القوية للثقافة الهولندية. أما فرقة المسرح الملكي الجامعي من بلجيكا فقد لاحقتها لعنة مسرحية ' لو كنت تحبني' التي كانت مبرمجة في الدورة السابقة من المهرجان لولا أن وعكة صحية صعبة منعت المخرج روبير جيرماي من تقديمها في أوانها، وتم استدراك الأمر في هذه الدورة... كل شيء كان مرتبا... غير أن الممثلة الرئيسية في المسرحية، وقبل ربع ساعة من انطلاق المسرحية، انكسر كاحلها إثر سقوطها على أدراج الخشبة... ألغيت المسرحية طبعا للمرة الثانية، واعتلت الخشبة فرقة موسيقية طلابية عوضت المسرحية التي تلقت وعدا ببرمجتها في الدورة المقبلة...إذا لم تلاحقها اللعنة مجددا.
شبكة المسرح الجامعي العربي
التأمت ندوة حول المسرح الجامعي العربي كان الهدف منها تداول البحث في وضعية المسرح الجامعي في العالم العربي والصعوبات التي تعترض الفرق الجامعية في التنقل بين الجامعات العربية وبين المهرجانات المسرحية الجامعية. وقد أجمع المشاركون من العالم العربي على أن العديد من التجارب المسرحية الجامعية، وكذلك العديد من المهرجانات الجامعية تتحقق بفضل جهود فردية ومبادرات شخصية سواء من مهتمين بالمسرح أو من رؤساء جامعات يكون لديهم الهاجس الثقافي والفني حاضرا في مشروعهم البيداغوجي، التعليمي.
وإذا لم تكن الصورة بهذه القتامة التامة، بفضل وجود حراك مسرحي جامعي كبير في العالم العربي، فإن المشاركين قد أجمعوا على ضرورة تأسيس شبكة المسرح الجامعي العربي من أجل تنسيق الجهود في هذا المجال، والبحث عن إطار يجمع جهود المسرحيين الجامعيين ويحاول البحث عن دعم معنوي ومادي للفرق والمهرجانات المسرحية الجامعية، مقابل ما يعرفه المسرح العربي من مبادرات داعمة من مؤسسات أو من وزارات الثقافة. وفيما اقترح رئيس جامعة فاس استضافة الجامعة لمقر الشبكة الدائم، تشكلت لجنة تحضيرية ينسق أعمالها د. سعيد الناجي من المغرب، وضمت في عضويتها د. عبد المنعم مبارك عن مصر ود. احمد حمومي عن الجزائر وفتحي بن عمر عن تونس وعبد الله باحطاب عن السعودية ورحيمة الجابري عن سلطنة عمان وحسن حسين جابر عن قطر ود. كريم عبود عن العراق ود. منى كنيعو عن لبنان وهاشم غزال عن سوريا، في انتظار التحاق ممثلين بالمسرح الجامعي في البلدان التي لم يتح لها فيها المشاركة في مهرجان فاس للمسرح الجامعي.
مهرجان المسرح الجامعي العربي
قرر المشاركون في تأسيس شبكة المسرح الجامعي العربي إطلاق مباردة اولية لتنظيم الدورة الأولى لمهرجان المسرح الجامعي العربي في بحر 2011، يكون مناسبة للتأسيس الحقيقي للشبكة، وإرساء مهرجان للمسرح الجامعي العربي يتنقل بين الدول العربية. وفي انتظار استضافة الدورة الأولى للمهرجان من إحدى الجامعات العربية أو الدول العربية، اقترح مهرجان فاس أن تستضيف دورته السادسة المزمع تنظيمها خلال الموسم المقبل الدورة الأولى لمهرجان المسرح الجامعي العربي، على أن يحافظ مهرجان فاس على دوراته اللاحقة، وتنتقل الدورة الثانية من المهرجان العربي إلى إحدى الدول العربية.
خلال حفل اختتام مهرجان فاس، تم تكريم فنانين مسرحيين كبيرين من المغرب: أمينة رشيد ومحمد الجم، وفي أجواء احتفالية خاصة، تم الإعلان عن جوائز المهرجان حيث عادت الجائزة الكبرى للمهرجان إلى تونس لمسرح الأملين بالمنستير، واقتسم جائزة أحسن تمثيل ذكور حسين نخال عن الجامعة الأمريكية في بيروت ويعقوب فرحان عن مختبر المسرح الطلابي في جدة، فيما عادت جائزة السينوغرافيا لهاشم غزال من سورية، وجائزة الكورغرافيا المسرحية للفرقة العراقية من جامعة البصرة، وجائزة الإخراج للفرقة الهولندية. وفيما فازت الممثلات الأربع في مسرحية جامعة مراكش بجائزة أحسن تمثيل إناث، عادت جائزة البحث والتجريب المسرحي إلى فرقة أكاديمية الفنون من مصر وجائزة لجنة التحكيم الخاصة للفرقة الكندية. وقد خرج المشاركون بقناعة أن الجائزة الكبرى تمثلت في أيام المهرجان، وفي لقاءاتهم بالفنانين والجامعيين، وفي تحول المهرجان إلى ملتقى للشباب العربي.
باحث مسرحي من المغرب