حبري أسود فلا تطلبوا مني أن ارسم قوس قزح
محمد سعيد الصكّار
الفصل الاول
ناصر الجبلاوي وعين الكاميرا
(1)
حرب الضغائن
لم تكد تمضي سبعة أشهر على اكتمال شريط فيلم " حرب الضغائن وبانوراما الهلع " المُنتَج أواخر العام 1963 يوم جسَّدَ السماوة نموذجاً أمثل لمدن العراق، طولاً وعرضاً، تجرّي فيها فعالية الانتقام بمؤثِّرات صوتية شكَّل نواح الأمهات وكمد الآباء وخوف الزوجات ورعب الأبناء مُعبِّراً واقعياً يدعم نجاح مخرج الفيلم الذي يسمى التاريخ.. أقول لم تكد تمضي السبعة أشهر حتى اندلع حدثٌ مروٍّعٌ، أسرع هذا المخرج من جديد يوجِّه مصورِّه ناصر الجبلاوي لحمل كاميرته والتحرّك سريعاً إلى مكان وقوعه.
ولمّا كان ناصر الجبلاوي يسكن في الصوب الكبير من المدينة والحدث الذي يستحق التوثيق صورياً وقع في صوب القشلة أو كما يطلق عليه الكثيرون الصوب الصغير لمحدودية عدد بيوته واقتصار نشأته الأولى على دور موظفي العهد العثماني لزمه اختراق السوق المسقَّف الرئيسي ثم عبور الجسر الخشبي المتهالك على نهر الفرات. تقاطعَ، حاثّاً الخطى، مع رجال قرويين تحتَّك أخفافُهم بخشب الجسر وتهدلُ ذيول عباءاتهم الخفيفة ملتقطة التراب المتطاير بفعل الاحتكاك. القرويون بعدما رماهم الباص الخشبي عند مدخل كراج مغلق كانوا أيضاً يحثّون الخطى بغية التبضّع، ولكن باتجاه السوق المسقَّف، متبوعين بنساءٍ يحملن صرراً فوق رؤوسهن ويرتدين جميعاً ملابسَ سوداء كأنَّهن حزانى على فقدان عزيز مشترك مع أنهنَّ من قرى وأرياف مختلفة.
ناصر الجبلاوي اتَّخذ الأزقة المتداخلة من بين بيوت الإماميين بدلاً من سلوك الدرب شمالاً وصولاً إلى التقاطع أمام جامع مجلّي ليكون عند الاستدارة يساراً بمواجهة مكان الحدث.
الحدث جرى صباح يوم صيفي كانت فيه السماوة تعيش سكوناً لا تعهده إلا أياماً قليلة من شهر صَفر الحرام حيث يسافر معظم سكانها إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين بن علي، حفيد الرسول محمد في أربعينية استشهاده. والزيارة تعني تراجع عدد السكان إلى أقل من الربع.. في أولى لحظات تلك الصبيحة انطلقت صرخةٌ هتكت ستر الفضاء وغدت الشمس غب وقت قصير ساخنة كانت فيها ساعة الضحى كأنها ظهيرة قائظة.
الصرخة المغموسة بالرعب أثارت في نفوس صبية الشارع فضول التعرّف على السبب فهتف صبي يحث آخر خرج من بيته المجاور لمقبرة الخاتونة : هيّاً ! لنر ما يجري.. وعلى قربٍ هتف بهم ثالث : سآتي معكم.. وأومأ هذا لتوما ابن بطرس بائع العَرق أن يرافقهم.. توما التفت على صوت يأتيه من خلفه فأبصر شميران تطل برأسها تسأله عما يجري. من ورائها ظهر والدها إبراهيم لازار يعيد السؤال :" ما ندري، رايحين نشوف شكو ماكو.".. جاء رد الصبية موحَّداً.
حركة الناس تتَّجه نحو الشارع الرئيس. السيد سجّاد لم يكد ينتهي من رفع كبنكات مقهاه، ويتجه للروزنامة المعلقة جوار وجاغ إعداد الشاي ليرفع ورقةً من يوم انتهى ويقرأ ما مدوَّن خلفها من حكمةٍ أو شعر حتى سمع الصرخة.. أشجار الكاليبتوس والسدر ونخلة البريم بعذوقها الصفر في الجزرة الوسطية للشارع تبدو خاملة تطرد عصافير وفواخت اعتادت كل صباح عملَ ضجّةٍ تزعج باعةَ الخضروات وأصحاب الحوانيت فيرمونها بالحجارة كي يقللوا من نزقها.. حيرة تقطر من العيون واضطراب يتفاقم في الدواخل.. قلق يترجرج بين خوف من مجهول وعائق مفاجىء يحرمهم من معرفة ما يجري.
الأفواه تتحاور بالسؤال حين يسبقهم أحد حاثّاً الخطى بنفس حيرة سؤالهم.
انتصاب شرطيين في باب بيت سلطان شاهر وتجمّع مبعثر لأناس فرادى يقفون على بعد عشرات الأمتار ويمنعهم الشرطيان من الاقتراب أعطى نصف الإجابة.. رجلٌ توقف مع واقفين ينظرون بفضول وقد زمّوا الشفاه قلقين. قال يستقري : قد يكون سلطان شاهر صاحب سيارات المرسيدس الأربع التي تنقل الركاب من السماوة إلى الديوانية توفي.
تفوَّه آخر :
- يا للرجل الطيب. توفي وأفراد عائلته جميعاً في كربلاء توجهوا للزيارة.
متوقف ثالث صحَّح الكلام :
- ليسوا كلهم.. ظهر أمس شاهدتُ ولده يوسف في الصوب الكبير وبيده كتاب. جاء قادماً من جهة المكتبة العامة.
أحد النابهين من بين التبعثر البشري وكما لو أنَّ كلمة " توفي" استفزته هتف بشيء من رفض الاحتمال :
- بماذا تتحدثون ؟! انتصاب الشرطة في الباب ومنعنا من الاقتراب لا يعني وفاة عادية. لابد أنَّ حادثاً خطيراً جرى في الداخل.
أيَّده السيد سجّاد المنتصب في واجهة مقهاه. كان قد نشر الحصران على التخوت واستعد لاستقبال الجُّلاس، مع أنْ لا جلاس يعتد بهم هذا اليوم بسبب توجّه معظمهم للزيارة.
نصف ساعة لا غير وانتشر خبر تحسَّرت له النفوس، وانطلقت من الصدور آهات جزع. سلطان شاهر قتلَ بطريقة بشعة.. الجارة أم زينب التي أوصتها زوجة القتيل قبل سفرها إلى كربلاء بخدمته اكتشفته مقتولاً بفظاعة.
هول المفاجأة وقسوة المشهد جعلتا المرأة الجارة تندّفع الى الشارع فتطلق صرخةَ رعبٍ أفزعت سكان الصوب الصغير وأسقطتهم في هول حيرة وقلق.
عين الكاميرا اخترقت باب البيت المُشرع. لم تصوّر الشرطي الحالك البشرة ببدلته الكاكية العتيقة وسدارته التي تغطس فوق رأسه الأشيب كأنها زورق مقلوب وهو يرفع بندقية سيمنوف بحربة طويلة مطوية. عين الكاميرا تحركت قاطعةً مدخلاً تشيع فيه عتمة ثم تدخل حوش البيت، وسريعاً تتم الحركة دخولاً الى غرفة جلس عند مدخلها رجلٌ على كرسي خشب بمسندين يدون ما يملي عليه المحقق [ الغرفة مستطيلة. في زاويتها العميقة اليمنى يمتد سرير القتيل فيما الزاوية اليسرى جوار السرير قاعدة خشبية أسندت عليها قاصة، بابها مفتوح بمفتاح في حلقة تتدلى منها عدة مفاتيح. تبعثرت في داخل القاصة وعلى الأرض قريباً منها أوراق. لا وجود لمال ولا مصوغات قد تحتويها؛ ما يدل على فعل سرقة.. جوار القاصة كرسي خشبي بسفيفة مربعة للعجيزة وأخرى مستطيلة للاتكاء. فوق الكرسي بخمسة أشبار قطعة مزججة لسورة الإخلاص بخط النسخ. وعلى الجانب ملابس رجالية تخص القتيل حصراً، سترة وثلاثة دشاديش ويشماغين وعقال وحزام جلدي عريض، معلَّقة على حاملة ملابس من خشب الصاج البني اللميع. قريباً من الباب تحتل مرآة بطول متر مؤطرة بخشب زان حفرت عليه ورود وتعرجات أغصان. يستطيع الناظر عند الوقوف أمامها مشاهدة قسمه العلوي حتى أدنى الحزام ].. المحقق يتفرَّس برجل لا تبان معالم وجهه جراء دم متيبس يغمر عينيه ووجنتيه ويتخضّل في لحيته الشيباء الكثّة. لم يكن هناك الجزء الأعلى من الجبهة. كان الرأس مهشماً وقد التصقت كتل من الدماغ بيضاء على الجدار جوار سرير يحتوي الضحية بطريقة تنم عن دفاع جرى مع القاتل.. التقطت عين الكاميرا صورة المُحقِّق وهو يتفوه : الاحتمال كبير بوجود قاتل شريك ساهم بعملية القتل.. أداة الجريمة قضيب حديدي أو مطرقة برأس صلب.. الجريمة تمَّت بقسوةٍ خارقة.
مَن ارتكبَ هذا الفعل الشنيع ؟.. كيف ؟... ولماذا بهذه الوحشية ؟ هل حصلت سرقة مال وفير يشمل ثروة الضحية أجمعها ؟.. هل ثمَّة بصمات تركها القاتل ؟.. هل القاتل شخص واحد أم أكثر ؟
تبارى القوالون وكثرت الإشاعات، خصوصاً بعد انتهاء أيام الزيارة وعودة الناس إلى بيوتهم.. انتعشت أذهان ذوي الخيالات الهائجة فانطلقت الحكايات مفبركة مثلما تعددت سيناريوهات الجريمة.
مَن القاتل ؟.. لا أحد يدري.. فقط حضر محقق يصاحبه شرطيان وكاتب. رُسِم المُخطط، ودوَّن ما يجده ضرورياً بغية كشف الجريمة، ليجري بعد ذلك دراسة الدوافع ووضع الاحتمالات.
الدوافع عُرفت سريعاً : الطمعُ في مال، ثروة خرافية. فالقتيل من أغنياء البلدة. ليس لديه حساب مصرفي، ولم يُرَ يوماً يدخل مصرفاً.. هو إذاً يحتفظ بثروته في داره.
الاحتمالات : وجود الرجل وحيداً. وليس معه غير ابنه الشاب يوسف.. ابنه أغراه فراغ البيت، أثارت طمعه الخزانة المليئة بالمال. الأب لم يُطلع العائلة يوماً عمّا يملك، والابن كأي شاب في عمره يسعى إلى البهرجة والتمتع بما يملكه أبوه ويبخل بها عليه وعلى أفراد أسرته.. جنايةُ الابن في هكذا احتمال واردةٌ.. لهذا وجب اعتقاله على ذمة التحقيق.
الاعتقال كان تعسفياً. والتحقيق جرى مصحوباً بتعذيب لنزع اعتراف الابن بقتل والده حتى وإنْ أدلى بأقوال صادقة دفاعاً عن نفسه؛ حتى لو تحقَّق يقينُ أنه بريء.. المهم الحصول على توقيعه وإعلانه أمام الحاكم بارتكاب فعله ألجرمي.
يوسف ظلَّ مصراً على رفض الاعتراف.. يصرخ بوجه المحقّقين : انتم مجانين ! كيف أقتل أبي من أجل مال زائل، أنا الذي أتحصن بثقافة تتجسد متعُ الحياة أمامها تافهة... إذا كنتم حاذقين أبحثوا عن القاتل الحقيقي.
أسابيع ظل فيها يوسف موقوفاً. وخشيةً من تفاقم الأمر، وخوفاً من أنْ يُدان المُحقِّق ويُستهان بالقضاء والحكومة المحلية أُفرج عنه.. أُفرج عنه مطعوناً في صميم وعيه، وخلل ما ضرب له ذهنه.. الذين أبصروه بعد إطلاق سراحه قالوا : هذا ليس يوسف الذي نعرفه قبل الاعتقال.
صحب التحقيق مع يوسف تحقيقاً مع المرأة الجارة.. والجارة أدلت بما شاهدته، وأعلنت أنها لم تدخل غرفة القتيل مرَّةً لأنه اعتاد على إقفالها ووضع المفتاح في جيبه حين الخروج، وأنها كانت تعد الطعام في اليومين السابقين للجريمة وتقدمه في غرفة أخرى تخلوا من الأثاث، فقط بساط صوفي ووسائد كمتكآت على الجدار. وحين أبعدت زوجة القتيل فكرة ارتكاب الجارة للجريمة أطلق سراحها.
كما شمل التحقيق حارسَ المدرسة المقابلة لباب بيت القتيل، ثم أبعدت عنه الشبهة بادعائه انه كان في زيارة كربلاء وقضى لياليه في موكب العزاء الذي يديره الحاج مجلّي.. الحاج مجلّي بصم بإبهامه الأيمن بعدما أدلى بشهادة أنَّ الرجل الحارس كان ينام في الموكب ولم يتخلّف ليلةً عن النوم مع جموع الزوار.
وكان إنْ ظلت الجريمة مُبهَمة والقاتل طليقاً.
استحالت حكايةً، كلما حضرت إلى الذاكرة أحتُمِلَ خلوُّ المدينة من سكانها أحد مغريات القتل. إذ الذي نفَّذ جريمتَه اختار وقتها بدهاء.. جريمةٌ خُطِّط لها ولم تحصل مصادفة. مُنفِذُها حَسِب حسابَ الانسحاب والتواري دون أن يُرى.
المهم أنَّ القضية دخلت في السؤال والجواب. وأُدخِلت إلى التحرّي المشوب بالإهمال والتغاضي والتأخير فتُرِكَت وطُمِرت؛ ثم أغلِقت بفعلِ قاتلٍ مجهول. قُيّدت على أنّها من قضايا القتل بدافع السرقة والطمع بمال.
****
وهو يطالع دقائق الفيلم وتفصيلاته حدس التاريخ أنَّ الجريمة، حقّاً، لم تنفذ بيد قاتل واحد إنما هناك من ساهم بضربة أو عدة ضربات. يكشف ذلك انحراف جسد القتيل يميناً على السرير ووجود ضربات على جمجمته من اليسار. فلو كان الجاني فرداً واحداً لكانت الضربات من أمام فقط كون الاثنين المهاجم والمدافع يواجه احدهما الآخر كاحتمال رصين.
تابع حركة عين الكاميرا التي زحفت تصوِّر ثم دارت تلتقط جوانب الغرفة وزواياها ثم تهبط إلى الأرض ببلاطها المربع الأبيض والأسود، وسيل الدم المنساب من نهايات الأصابع لليد المتدلية من حافة السرير.. سيل اتخذت نهايته شكل القطرة ثم تخثَّر ويبس، دلالة حدوث الجريمة قبل أكثر من ساعة تصويرها.. قبل أكثر من ساعة يعني قبل بزوغ الشمس؛ يعني قبل أداء صلاة الفجر.
****
أمام دكانه الصغير الخالي من لافتة تشير إلى كونهِ أستوديو إنَّما جامخانة زجاجية تعرض خلفها صور متفاوتة في أحجامها وقف ناصر الجبلاوي يطالع الفرات الذي يفصله شارع ورصيف توزعت عليه تخوت جاسم القهوجي المجاور لدكانه.. بعث بنظراته إلى ما بعد النهر. كانت بيوت الاماميين والدهّانيين تتراصف بواجهات جميلة تختلف عن واجهات بيوت الصوب الكبير المتهالكة.. نظراته أعادت إليه رغبة مشاهدة بعض من لقطات الفيلم فاستدار داخلاً. فتح باب غرفة تصنيع الصور والأفلام من كاميرا 8 ملم ودخل. تناول عدد من صور اختارها من الفيلم باعتبارها تشكّل مفاصل الجريمة وخرج. جلس خلف منضدة ذات دُرج يحتوي صوراً التقطها في أيام ماضية تعود لأناس لم يأتوا لاستلامها بعد، وتحت الدرج خزانة تضم علب ورق الصور مع قناني الهايبو ومواد كيماوية أساسية لتطهير الأفلام وإظهار الصور.
تمتم : لو كانت أجاثا كريستي هنا لكتبت الحادثة رواية طالما توارى القاتل دون اكتشاف واتهم الابن والجارة وحارس المدرسة وتاهت خيوط الجريمة وعجز المحققون عن الوصول إليها.. لو كان آرثر كونان دويل هنا لكلَّفَ شارلوك هولمز ومساعده في اكتشافها متتبعاً بعين الدهاء والخبرة والتحري الدقيق تفاصيل خطة ظنها المُطبِّق الجاني مُحكمة لا تُكتشف ـ وليس لأكبر متحرٍّ حاذق ركوب زورق الوصول وإدراك المبتغى.. لو جاء الفريد هيتشكوك لأصدر أوامره للمصورين بتنصيب كاميراتهم من زوايا متعددة ووجه مصابيح البروجكترات لتصنع ظلالاً داكنة أكثر من المعتاد مُظهِرة وجوهاً وأشياءَ تربك فراسة المشاهد، ولأخرج فيلماً مثيراً يكتنف أحداثه الغموض ويحفّز العين على التتبّع لتقف واثقة على الجاني الحقيقي.
(2)
التاريخ.. فعلُ الكاميرا
فيلم" حرب الضغائن وبانوراما الهلع ". كان مدّاً من أحداث عصفت بالسماوة ووددتُّ تدوينها بنفسي كتابياً لكنَّ ناصر الجبلاوي صوَّرها بدفعٍ من التاريخ فكان يحمل كاميرته ويصل إلى أخطر مكان يعجز أي مدوّن كلمات من الاقتراب منه. إزاء ذلك لابد من الاعتراف أننا مهما قلنا وكتبنا يبقى التاريخ هو غالبنا والمنتصر علينا، في التدوين والتصوير. هو الذي يستحيل مَرجِعاً وخازنةً ذاكراتية تحتفظ بكل ما حدث بينما ذاكرتنا مهما احتفظت بما نظنّه يستحق التوثيق ستتهشم بموتنا ويبقى ما كتبناه أو قلناه محدوداً مقارنةً بما يملكه هو جميعاً.
الفيلم منذ بدايته يعرض صراعاً بين أناس حملوا أيدلوجيات حسبوها الُمثلى وعدّوها فوق الأيدلوجيات الأخرى المتبارية معها في الساحة. أي أنهم تنادوا لجعل أيدلوجيتهم مُقدَّسة لا يجب أن تمسسها أو تنازعها أخرى لذلك عملوا على محق الآخر سعياً للبقاء منفردين.. هذا الفعل استهجنه التاريخ وعدَّه، وهو يدعو ناصر الجبلاوي إلى تصويره، على انه تصرف أخرق؛ سيؤلب الآخرين لينتقموا حالما تحين فرصة، وإن كانت تلك الفرصة شهراً أو أشهرَ.. ولم تمر غير أعوام حتى تحقق زمن تلك الفرصة.
حدث الانتقام، ورُفِع شعارُ محق الأيدلوجيات الأخرى، تماما كما رفعها مَن فُتحِت عليهم أبواب الانتقام يوماً.
ناصر الجبلاوي يحمل كاميرته ويدور في مدن العراق الأشد التحاماً بين المنتقمين وحَمَلَة الأيدلوجيات الأخرى.. التاريخ يوجِّه ناصر الجبلاوي إلى كتابة العام 1959 كواجهة أولى تتلقّاها عين المشاهد حين يتابع الفيلم.. كانت كركوك والموصل ميادين وساحات للقتل والفتك والتمزيق والتعليق، يصورّها من زوايا مختلفة عارضة بشاعة الانتقام وساديّة المنتقمين. الشيوعيون ينتقمون والقوميون يُنتَقَم منهم : سحلٌ في الشوارع،، و" المايهزها عفلقي"، و" ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ".. دعوات للانتقام بلا رحمة، وتأجيج البغض لأعلى حد.. التاريخ، وفي 8 شباط من العام 1963 تحديداً، دعا ناصر الجبلاوي لحمل الكاميرا من جديد. قال له أنَّ القادمات من الأيام أستشرفُها حُبلى بالأحداث المهولة.. البعثيون هذه المرة هم المنِتقمون؛ والشيوعيون مَن سيقع عليهم الانتقام.. الانتقامُ كان كبيراً. رآه التاريخ أوسع جغرافيةً من جغرافية ارتكاب الشيوعيين. جاء الانتقام أشدَّ عنفاً على أعقاب حقد تنامى يوماً فيوماً، وشهراً فأشهراً.. السماوة كما ظهرت في الفيلم شكَّلت نموذجاً لصراع وانتقام.. خوف، ورعب، وتعذيب، وصراخ، وأنين، وتشفّي.. كره وضغينة.. مداهمات واعتقالات.. توجّس من طارىء، وهلع من وشاية. دوريات منفلتة في الشوارع، وعيون عدائية تخترق الأزقة تطالع ما ينم عن ريبة تستحق وضع اليد على مَن ترتاب منه العين.. ذئاب تكشِّر وفرائس ترتعد. من السقوف حبالٌ تتدلّى، ودماء تقطر صانعةً بركاً على الأرض... كل ذلك حوى الثلث الأول من الفيلم.
في الثلث الثاني منه كان التاريخ حاذقاً.
ناصر الجبلاوي يحمل كاميرته في بداية صيف تموزي لاهب وضارٍ من العام 1963؛ والوقت يقرب من الظهيرة. يحثُّ الخُطى نحو محطة قطار السماوة.. التاريخ أمره أنْ لا يترك شاردة أو واردة إلا ويسحبها بعين عدسته.. ناصر الجبلاوي يدخل شارع مصيوي بعدما يترك بيته ويخترق زقاق المعمل فيكون في مواجهة مدرسة سومر. يسرع في مشيه مخلّفاً فندق الحيدري ومقهى عبد الله حطحوط وخان الزعيري وطولة مهوِّس. يشاهد أحد الميسورين بسيارة جيب يتوقَّف في تقاطع الطريق المؤدي إلى شارع مقهى الهجع وفندق الوحيد فيسأل شباباً مُسرعين صوب محطة القطار إثرَ مشاهدة دفعات منهم بوجوه ملآى بالحيرة.. يبصر شباباً يهرولون، قادمين من جهة المحطّة سعياً لطلب المساعدة من أهالي المدينة :" ها، شكو.. شنو صاير ".. أعلموه أنَّ قطاراً بعربات حديدية مُخصَّصة للبضاعة تحمل مئات السجناء العطشى والجائعين مُرسلين في هذا الصيف الناري إلى نقرة السلمان.. يمد الرجلَ الميسور يده في جيبه ويستخرج خمسة دنانير. يدفعها إليهم ويقول : اشتروا رَقّي وبطّيخ كي يشبعوا ويرتووا فهؤلاء ضيوفنا.
عدسة كاميرة ناصر الجبلاوي تتوجّه حالما يدخل من باب المحطة ويجتاز فناءها ثم يخرج إلى الرصيف فتصوّر عربات حديدية مشرعة الأبواب ورجل يلبس بدلة زرقاء بقبعة كالتي يلبسها الروس في أزيائهم التقليدية، يتبعه شاب يشابهه بنفس بدلة العمل. الرجل في الأربعين وقد بدا مزهواً بانجازه مهمة إيصال قطار بعربات حديدية قبل الموعد المعتاد. اتخذ الاثنان جانب الرصيف وتوجّها نحو إدارة المحطة. هناك دخلا على المدير.. الرجل الأربعيني قدّم نفسه :" أنا سائق القطار وهذا مساعدي ".. طلب تسجيل الوصول، وأعلن اختزال الوقت إلى ما يقرب من الساعة والنصف عن الموعد الذي حُدِّدَ له.. المدير أبصر في عيني السائق تحدٍّ واحتدام.. المدير أكبر في نفسه عظم الفعل الذي أدّاه الرجل غير آبه بعقاب صارم قد يواجه به.
فات العدسة تصوير العاملين في المحطة وهم يسمعون لحظة توقَّف القطار طَرقاً وصراخاً ينطلق من داخل عربات حديدية معدّة للبضائع.. فاتَ تصوير اندفاعهم إلى العربات الموصدة بإحكام، غير مبالين بأفراد الحرس القومي، المليشيا المسلحة لحزب البعث، المرابطين داخل المحطة. فات التقاط حركة العمال المتحمّسين وهم يسحبون أبواب العربات السلايد فيبصرون مئات الأشخاص منهكين ومنهارين، فقدَ بعضهم الوعي.. فات العدسة تصوير المشهد الدرامي لقفز أولئك الأشخاص إلى الرصيف والارتماء على أرضيته الإسمنتية ليتنفسوا هواءً عزَّ عليهم في عربات الجحيم.. العدسة فقط لحقت على تصوير أشخاص متناثرين على الرصيف؛ ممددين وقد فغروا الأفواه عطشاً بينما أسرع عمال المحطة ومن لديه طاقة متبقية من السجناء إلى حنفيات الماء المنصوبة على الرصيف. يضغطون صماماتها ويأتون بماء بوسع أكفهم المضمومة، يسكبونها في فم هذا وفم ذاك وسط هتاف يأتي من رجل بدوي شهد الحال وتحرك بهمة ليساهم مع المسعفين : لا تسقوهم ماءً كثيراً.. لا تشربوا الماء بوفرة. فقط بلِّلوا الشفاه وارتشفوا القليل. هاتوا لنا مِلحاً من مطعم المحطة لنضيفه على الماء. أجسامهم فقدت الملح الكثير.. وفيما العدسة تصوّر عدد من السجناء ببدلات عسكرية تحمل رتباً متفاوتة فيهم المقدم والرائد والنقيب والملازم ورأس العرفاء والعريف والجندي، وفيما تنتقل إلى تصوير أشخاص موردي البشرة ببدلات مهندمة لوثها دهن وتراب العربات، وفيما كان العديد بملابس العمل الزرقاء والأكف الخشنة، وفيما تستقر العدسة على مشهد رجل ممدد على الأرض يرتفع صدره وينخفض وشخص يحتضنه ويضع رأسه على فخذه ويردد جزعاً : ماذا افعل لك يا أخي ؟ لعن الله الربو، وفيما يتكىء بعضهم على جدار وقد أخذهم الإنهاك فلم يقدروا على فتح عيونهم، وفيما تدور العدسة وتدور اقتحمت المحطة جموع أهالي المدينة مُحمَّلين بالأغذية : فواكه وخضار، ألبان وعصائر، تمرٌ ورقّي وبطّيخ كتعبير عن دعم ومواساة.. وقف الجميع بوجه أفراد الحرس القومي المسلحين برشاشات بورسعيد. حراس أنيط بهم مهمة نقل السجناء إن بقي منهم أحياء في شاحنات تحملهم لسجن نقرة السلمان في الصحراء.. عدسة الكاميرا توجهت لأكثر المتحمسين لإطعام وإرواء الجائعين والعطشى من السجناء فانصبت بحالة الزوم على وجوه عديدة من شباب المدينة تُطعمهم وترويهم، تُسمِعُهم كلمات تثمين وحماسة وإكبار وشد على يد وطمأنة أنهم بين أهلهم وناسهم وأنَّ الرجال للمواقف، وأنَّ سجانيهم سيُسحَقون جرّاء أفعال شنيعة يرتكبونها بحق المخلصين والوطنيين الأفذاذ.. انتقلت حركة الكاميرا فمرت عدستها على تعبيرات وجوه تنم عن شكر وعرفان، تبعث امتنان لن ينسى.. عدسة الكاميرا تركزت على شفتي ضابط كبير يتفوه بنفَس متقطع : " خطُّتهم أن نموت قبل الوصول للسماوة، لكنَّ السائق الشريف استشعر حقدَهم فزاد من سرعة القطار.. تحسس واجبه الإنساني في لجم التجني.. رفض الانصياع لآمريه فأوصَلنا قبل أن نموت."
تلك الحادثة أطلق عليها اسم " حادثة قطار الموت ".. التاريخ استحسن التسمية. أمر ناصر الجبلاوي أن يدون كلمتي " قطار الموت " عنواناً للثلث الثاني من الفيلم.
ما جرى من أحداث متواصلة داخل مدينة السماوة أكمله الجزء الثالث من الفيلم.
الجزء الثالث دارت فيه الكاميرا هائجة مائجة لم تستقر يوماً.
ناصر الجبلاوي يدخل السوق المسقوف ملاحِقاً عناصر الحرس القومي بالبدلات الكاكية ورشاشات بور سعيد.. يدور في الشوارع : شارع مصيوي، شارع باتا، شارع الرشيد، شارع الجسر.. يلج الأزقة أو العكود : عكد الجامع، عكد الدَّخل، عكد العراية، عكد السبوسة، عكد اليهود، عكد المعمل، عكد الداحرة، عكد النجارين.. يصوّر؛ يدخل العكود الضيقة جداً ومنها المغلقة النهايات ليلاً مُسجِّلاً حالات انتزاع الشباب من بيوتهم. يقتحم مراكز الاعتقال فيثبت كاميرته على معتقلين مُعلَّقين من أياديهم بمراوح سقفية بينما أرجلهم تتدلى في الهواء وقد سالت دماء من أنوفهم وأفواههم وجفّت على الذقون أو سالت على الرقاب وصبغت الملابس.. ينتقل لغرفة اعتقال مجاورة. يسحب بالعين النافذة مشهد نساء شبه عاريات، تمزقت ملابسهن بوحشية، منفوشات الشعر وملوثات الوجوه جراء دموع وصبغة كحلة كانت متشبثة برموش تطبق على حلم جميل فانتزع الحلم وأُبدل بكابوس تلو كابوس فسالت مع سيول البكاء الآتي من لوعة التعذيب وثقل الاهانة... يصيبه الجزع ويعصر أمعاءه الألم فالمشاهد قاسية، وفظيعة، ومروّعة.. مرة كاد أن ينتفض على التاريخ ويعلن رفض تصوير الكثير من الأحداث بسبب مأساويتها.. التاريخ وبحكم سعة صدره كان يبتسم بوجه مصوره العتيد، ثم يهمس في أذنه كمعلم ينصح تلميذاً : من سِمات المصور الذي إذا أراد أنْ يُقال عنه ناجحاً ونابهاً وحاذقاً الصبرُ الطويل وتحمّل المشقّة؛ المغامرة والاندفاع إلى أتون بركان الحدث؛ اقتناص الفرصة المُثلى والتقاط المشهد النادر.. يسحب نَفَساً عميقاً يرثي حال الإنسانية المُبتلاة بشرائح المجرمين العتاة المشحونة قلوبهم بالبغض والكراهية، ثم يعود يحدّق في وجه تلميذِه قبل أنْ يهمس من جديد : اذهب إلى أحد رفوف مكتبتي واطَّلِع على مراسلين وإعلاميين نذروا أنفسهم لتصوير فظاعة الإنسان وسعيه لتدمير أخيه الإنسان في معاركٍ ضروس.. خُذ نموذجَ الحربين العالميتين الأولى والثانية ستخرج بحصيلة انك تتولّى مهمّة إنسانية في أعلى مراتب المسؤولية.
تنتهي آخر مشاهد الفيلم بطفلٍ رثِّ الثياب ينحني ليلتقط حجراً من أرض متربة، يرشق به جداراً احتوى ملصقات مُمزقة لأحزاب هاجت وماجت طوال عَقدين بشعارات لها تأثير الدغدغة فلم تبنِّ ولم تعمِّر إنما تركت للكاميرا المتحفِّزة تصوير جبالَ الألمِ، والجزعِ، والخراب.
(3)
الولع بالصورة
لكل صاحبِ أستوديو معرضٌ مزجَّج يضم مجموعة حيوات مجسّدة بصور أشخاص أو أمكنة داخل إطارات، ووراء زجاج شفّاف حدست ذائقة المصور، هذا أو ذاك، الفنية ورؤيته للجمال أنها أجمل ما صوَّر بغض النظر عن أهمية الأشخاص اجتماعياً.. وناصر الجبلاوي بحكم ولعه بالتصوير اعتاد الناس على مشاهدته حاملاً كاميرته أنىّ سار وفي أي مكان دخل.. نما ذلك الولع أول الأمر بالكاميرا الفوتوغراف.. حدث ذلك في أول زيارة له إلى بغداد في أوائل الخمسينات. ثم تعدّى الولع ورغبة الحرفة إلى اقتناء كاميرة الصورة المتحركة بفيلم من 8 مليمتر عندما بنيت سينما عبد الآله في المدينة وسماح مالكها عبد الستار الإمامي له بالدخول لغرفة تشغيل عرض الفيلم السينمائي والتعرّف من العامل المُشغِّل على أبجديات الإعداد والعرض.
كانت زيارته معنا مرةً وقد حملتنا عربة حمّى المراهقة للمجيء إلى العاصمة، مأخوذين بما كنّا نسمعه من أهل وأقارب بهرتهم البهرجة وأمتعتهم وسائل الترفيه. قضينا ثلاثة أيام في بغداد ندور في الشوارع ونتأمل واجهات المحلات على جانبي الطريق. ندخل شارع الرشيد من ابتداءاته في ساحة الميدان حتى ننتهي لمدخل شارع أبي نؤاس. هناك نرى دجلة يرفل أمام أعين النضارة والكازينوهات فارهة؛ قاعاتها تستقبل زبائنها بالكراسي ذات المقاعد المسفوفة والمناضد الخشبية بالسطوح الفورميكا؛ ودرجات سلَّم إسمنتية يأخذها مَن فضَّل الجلوس عند الضفة ليسمع لبطةَ السمك في العتمة ويستقبل نسمات طرية ينده عليها النهر. كان ناصر الجبلاوي يتخلّف عنّا. يتخلّف مسحوباً ومسحوراً من واجهات استوديوهات الفوتوغراف.. يتيه على غيمة جذل ووله راحلاً مع الوجوه المحدقة في عين العدسة أو المتأملة نقاطاً يحددها المصور بنفسه حين تكون اللقطة داخل الأستوديو أو يرتئيها صاحب الصورة حين ينتصب واقفاً جنب ما يحبذه أو يرغب في إظهار ما ورائه كخلفية تصنع منظراً يحسبه مُبهراً ومؤثّراً.. يرحل مع الأمكنة، حيث الساحات والأبنية بطوابق متعددة لمخازن تجارية وواجهات تميّز طابع البناية؛ وحيث المعارض : معارض الألبسة الجاهزة، معارض الأحذية، آلات زراعة، مكائن خياطة، مكتبات، محلات قرطاسية، أسواق اورزدي باك، حسّو أخوان، فتّاح باشا، البلداوي لبيع الأربطة، ألياس حسّو، مكاتب الخطوط الجوية، وكالات سفريات، مكاتب شركات ومؤسسات حكومية وأهلية، محل خياطة أحمد حسن، محل خياطة " دروزة وسرحان " الذي افتتح من قبل فلسطينييَن قدما لبغداد بعد نكبة 1948، العبّخانة وأزقتها الأمعائية المتداخلة.. معرض باتا للأحذية، محل أحذية ريفان، معرض أحذية ريفوس، محلات جقمقجي، المدرسة الجعفرية، معرض حافظ القاضي المتخصص باستيراد وبيع السيارات الأمريكية الحديثة.. المطاعم : مطعم تاجران، كبة السراي، مطعم عبوسي أبو الباجلّا، مطعم عمو ياس في المربعة، تبسي باذنجان، قوزي على تمن، تشريب الطماطة، باميا مطبوخة بلحم الدوش، باجة وكوارع؛ المقهى البرازيلية، دار عبد الرحمن النقيب. حتى إذا انتبه لنفسه حثَّ الخطى مُسرعاً غير مبالٍ لبهرجة المعارض وبضاعة تنصب شباك التذوق لاصطياد ذائقة المارّة لحاقاً بنا.
تلك الزيارة أحدثت انعطافاً في حياته وجعلته يدخل عالماً ساحراً تشكَّلت آجراته في الخيال فاستحال زمن ما بعد الزيارة كتاب حياة يستحق عرضه على القراء ومتابعي ذكريات وتجارب الآخرين. زمن غدا واقعاً يعيش تفاصيله؛ نقله من فضاء الحلم إلى بستان الواقع. الصور الفوتوغرافية خلف زجاج معرض " المصور الأهلي " سلبت عقله، وسحرته الصورة المحفوفة بإطارات خشبية محفورة ومطعَّمة بلون ذهبي لامع أو فضي مبهر. معظم الصور كانت لملوك المملكة العراقية وأمرائها.. في قلب المعرض صورة مؤسس المملكة عبد الله بن الحسين بعقاله المُقصَّب وعباءته الصوفية السوداء الشفافة، جعله المصور ينحرف جانبياً ليظهره ينظر إلى نقطة غير مرئية. نقطة بمثابة شيفرة لمستقبل يريده زاهراً للعراقيين طوال فترة حكمه. على يمين الصورة شاهد ولده الملك غازي ببدلة كاكية ورأس مكشوف. على زاوية الصورة العليا من اليسار شريط أسود وأسفل الصورة كلمات بحبر جيني داكن خط بيد هاشم الخطاط " الملك غازي، أرواحنا له الفداء. وتحتها صورة للسيارة التي اصطدمت بجذع شجرة عندما كان يقودها في طريقه لقصر الرحاب.. على يسار الملك عبد الله كانت صورة الملك فيصل الثاني بعمر عشرة أعوام. حين حدق ناصر الجبلاوي في الصورة خيل إليه أن الملك الصغير يبتسم له، ويهمس : متى تلتقط لي صورةً، يا ناصر ؟!... يطأطئ ناصر الجبلاوي رأسه خجلاً ويرفعه فيبصر عيني ملاّ عبود الكرخي بعقاله المقصَّب الثخين وكوفيته البيضاء المُتغذية حواشيها بخيوط حرير صفراء تعجّان بما يشبه مجيء بيت شعر أو مقطع قصيدة يتأهب لإلقائها على مسمعه مثلما يواجَه بابتسامة سليمة باشا، كأنها اكتشفت خجله. تخيَّلها تتحرك لتخرج من إطار الصورة مرددة : ( هذا مو إنصاف منك ) عندما فوجىء برجلٍ ظهر من داخل الأستوديو عرفه في ما بعد أن اسمه عبد الرحمن محمد عارف : تفضل ! يسأله بوجه شيخ عجوزٍ سَمحٍ وعينين تمسحان مظهره بالبنطلون الرمادي والقميص الأبيض والحذاء الأسود المترب. لاشك أنَّه أدرك أنَّ الشاب المبهور ليس بغدادياً.. سؤاله أجاب عليه ناصر الجبلاوي بكلمة " شكراَ " خجولةً، وهرع يلحق بنا.
(4)
ناصر الجبلاوي يغيب
في معرض شوقه للتصوير، واندفاعه اندفاع عاشق لمحبوبة لم تشبع عينه من امتصاصها هام ناصر الجبلاوي بالصور. صار ما أنْ يجلس معنا حتى يرحل. وحين نسحبه إلينا لا يتوانى عن التصريح في أنه كان يجلس في مقهى البيروتي يستمع لملا عبود الكرخي ويتخيل انه يمسك كاميرا فيصور حركاته ونكاته وأشعاره الباعثة على التفكّه.. يصوّر ناصر حكيم وراء منضدة يتسلَّم أجور الشاي والقهوة والنرجيلة وينده على عماله ليخدموا الجلاس الداخلين توّاً.
هيامُه بالصور قاده إلى استرجاع وجوه الشخصيات التاريخية من ملوك وأمراء وعامة؛ قاده لتخيّل الأمكنة : المدن بهياكلها ودروبها، القرى بأكواخها وزروعها ومواشيها، الأنهر وزوارقها وضفافها، البساتين وخثرة ظلال أشجارها ودفق سواقيها، قصور الملوك بالغرف والليوانات والدهاليز والمخابىء السرية.. قاده لرغبة تصوير الأزمنة الجاهلية والإسلامية والأموية والعباسية والعثمانية، تخيل أزمنة اليونان والرومان، الصينيين والهنود.. صار في وقت لاحق من زياراتنا إلى العاصمة والمدن الأخرى لا يكرّس وقوفه أمام الألواح الزجاجية للاستوديوهات ويطالع ما وراءها فقط إنما يتوجّه إلى المكتبات، وبالذات تتفقَّد عيناه كتب التاريخ لاسيما المشفوعة منها بصور وتخطيطات. ولم نعد نفاجأ بكثرة ما صرنا نلمحه يتأبط كتاباً يقول عنه أثار إعجابه.. الصورة والتاريخ استحالا صنوان لدهشته وعشقه.
وفي يوم افتقدناه..
جاء اليوم الثاني والثالث. وحين توجهنا نطرق باب بيته في اليوم الرابع خرج لنا بشخصه. أعلمنا انه استأجر دكاناً من أملاك الإماميين في الكورنيش : " سأبدأ العمل فيه غداً. سأمتهن مهنة التصوير. وسأصبح مصوراً فوتوغرافياً "... وحين واجه دهشة تفشيها عيوننا قال : غيابي عنكم ثلاثة أيام هو ما يترجم عملي كمصور.. أتتذكرون المصوّر الأهلي في مدخل شارع الرشيد من جهة الميدان.. قلنا : " نعم. كنا نتركك تتابع الصور ونواصل سيرنا.. ماذا به ؟ ".. " تخيلوا.. عبد الرحمن محمد مصور العائلة المالكة وأعيان العراق بنفسه يعلّمني التصوير.. وهو بنفسه منحني شهادة إتقانه وإظهار الصور."
في اليوم التالي كان ناصر الجبلاوي يتفق مع هلال النجار لصنع جامخانه؛ سنشاهدها بعد حين تعرض صوراً جلبها من المصور الأهلي. يقطع الدكان من الداخل إلى قسمين : الأول للمراجعة فيما الثاني غرفة غسل الأفلام وإظهارها. يدخلها عبر باب خشبي وخلفه ستارة سوداء ثخينة تفرض عتمة كاملة على موجودات الغرفة.. في الغرفة يتم التعامل كيماوياً عبر تجهيز محلول يتشكل من الكاربونات والسولفايت والهيدركتون والميستول. تبدأ المرحلة الأولى بتحميض الفيلم، الصورة السالبة )نكتف( وتنشيفه. يشرع بطبع الفيلم بوضع الورقة عليه، ثم على زجاجة ويضيء مصباح خلف الزجاجة لثانيةٍ واحدة لا أكثر. يليها بوضع الورقة في المحلول فتظهر الصورة. أخيراً يعمل على تثبيتها بمحلول التثبيت، ويتركها لتنشف. كانت دهشة ناصر الجبلاوي عظيمة حين جرّب بنفسه خطوات استخراج الصورة ووجدها صورةً كاملة تشبه ما جلبه معه من بغداد. ولما كانت كلُّ معاملةٍ تُدار مع الحكومة وتتطلَّب صورة فقد تماهى ولع ناصر في التصوير مع مهنةٍ لا تتطلب الجهد إنما الحذق والموهبة.
منذ ذلك اليوم تبدلت الكثير من صفات ناصر الجبلاوي. التبدل الأول كان في ملبسه؛ فقد اتَّبع نصيحة أستاذه بضرورة أن يظهر المصور نموذجاً للوسامة والأناقة وحسن الهندام كي يصبح محط جذب يستقطب الزبائن تماماً مثل الحلاق الناجح الذي يدرك أنَّ اعتناءَه بمظهره عامل مهم من عوامل استدراج الزبون لصالونه. وهذا ما فعله. يقف في باب دكانه بوجه حليق مصفوف الشعر ولامع بدهان إفرنجي وقد ارتدى البنطلون الذي مرت عليه المكواة ساخنة جداً فأظهرت الخط النازل من الحزام حتى الثنية التي تمس الحذاء اللامع دائماَ بينما القميص في أعلى درجات الترافة.. التبدّل الثاني هو الجولات المصحوبة بالتأمل المستمرة في الأسواق والشوارع والحارات ودخول الأزقة. وهي نصيحة هدفها تهذيب الذوق وإطلاق الموهبة من قمقمِها لاقتناص اللقطة النادرة والموحية التي لا تتوفر متى شاء وأين أراد، لهذا دأب على حمل الكاميرا حتى وإنْ نوى الذهاب لمكان قريب. التبدل الثالث سفره المتواصل إلى العاصمة ولقاءاته مع أستاذه. لقاءات أنتجت اكتساب مهارة جديدة تمثلت باستخدام الكاميرا ذات الفيلم المتحرك، ووضع نموذج لها في المعرض الزجاجي يراها كل مَن مرَّ مِن أمام الأستوديو أو توقَّف يطالع معرض الصور.
ولقد كان اختيار ناصر الجبلاوي لدكان على الكورنيش موفَّقاً.. النهر يثير الدواخل.. كل يوم يبصر عشرات الزوارق تجوبه. زوارق صغيرة مُصمَّمة لصيد يسير يستخدمها صيادون يعتمدون رزقاً يومياً على ما يجود به النهر، فيعرضونه جوار الجسر الخشبي. يشتريه المارّة طرياً طازجاً.. يبصر زوارق شراعية كبيرة تأتي من مدن متفرقة لترسو عند شريعة حمّادي أو شريعة حنّوصة.. زوارق تنقل بضائع من ميناء البصرة باتجاه بغداد وبالعكس؛ يجد سكان المدن والأرياف فيها وسائطَ نقلٍ تخفّف عليهم أعباء السفر البري المرهق وإنْ كان استغراق الرحلة ضعف زمن الواسطة البرية. وثمّة زوارق طويلة يعتليها مجموعة صيادين يستخدمون شباك الطيّاري يربط بها كرب النخيل التي تطفو فلا تدع الشباك تهبط إلى القاع؛ تغادر المدينة ليومين أو يزيد حيث الشباك تُنشر وسط النهر في أماكن يحددها الصيادون وعادة ما يختارون بقعاً مائية نائية، وقد يتركون النهر منعطفين إلى أهوار " آلغانم" حيث الصيد الوفير.
تهادي الزوارق أو انطلاقها يخلق أجواء محببة لدى ناصر الجبلاوي. لهذا آن يبصر مشهداً يستحق التصوير يهرع للكاميرا؛ يسحبها من الدُرج ويعدو لأخذ لقطة قد لا يجد لها مثيلاً إلا في المصادفات. يرفعها، يسندها على وجهه ويحدّق بمربع العدسة، يسحب المشهد ليكون في المدار الزجاجي الدائري ثم يضغط بسبابته نابض تثبيت الصورة على مربع الفيلم الكامن داخل صندوقها المعدني؛ فتتشكَّلل صورة.
(5)
مناسبة وتاريخ
لناصر الجبلاوي ذاكرة قوية. لا ينسى ظروف وحيثيات صورة التقطها. وحين تسأله عن أيٍّ منها يروح يسرد بشيء من الوصف مقروناً بحركة اليدين والأصابع. ملامح الوجه تتغّير مع نبرة الكلام الذي يستحيل حكاية.. لكل صورة من صور المعرض المزجَّج مناسبة وتاريخ. وفي داخل دكانه صورٌ أخرى لها أيضاً مناسبات وتواريخ وإنْ تفاوتت أهميتها مقارنة بصور المعرض. تلك الصور موزعة على جدارين ونصف جدار. النصف الثاني من الجدار تأخذه البابُ المفضية لغرفة تحميض الأفلام وإظهار الصور.
ناصر حكيم.. الصورة والصوت
بخلفية صورة شملت الجسر الخشبي الوحيد في السماوة والفرات بأيام هيجانه حيث الفصل ربيع وما خلف الجسر والفرات بيوتات تتقدم على شريط بساتين لنخيل كثيف يقف ناصر حكيم بعقال ثخين ويشماغ بالأبيض والأسود. اليشماغ يحيط وجهَ شابٍّ ثلاثيني، ملامحه ترسم ابتسامة يخال لمن يطالعه يحسبه يرحب به فيما الصاية الرصاصية الفاتحة اللون مُقدِّمة لوناً محبباً في أوائل الخمسينيات كموديل تباهى به الشباب. بين لحظة وأخرى يعدّل ناصر حكيم عباءته الحنيّة اللون النازلة من كتفيه هبوطاً إلى الأرض حتى الحذاء الجلدي الجديد الذي اشتراه حال خروجه من بيت صديق دعاه لزيارة المدينة ووقوفه أمام معرض أحذية باتا يأخذ رأيه، غير آبه لجموع صبية شرعوا يحتشدون بعدما تناقل أحدهم خبر سماع وجوده من أبيه الذي طرق عليه جاره يعلمه أنَّ مَن يهيم بغنائه هو الآن في السماوة، يمكن مشاهدته صورةً وصوتاً.
حالما خرج ناصر حكيم بروح مرح أضفى عليه ارتداء الحذاء الجديد حالة من البهجة وجعل يضحك ويقول لمُضيّفه : هذا أول غيث السماوة.
قاده مضيّفه عبر السوق المسقوف متبوعين بجوق الصبية. بعض الصبية يعدو إلى عمق السوق ويتوقفون لحين اقتراب ناصر حكيم ليطالعوا ويتملوا تقاسيم وجهه وإيقاع خطاه، وكلّ منهم يبتسم له تعبيراً عن إعجاب وولع بصوته.
كثير مِّمن شاهدوه يترجَّل في السوق استقبلوا تحيته. دعوه لاستضافته بفناجين قهوة أو أستكانات شاي أو قناني مشروبات غازية، وهو في كل مرة يعلن شكره ويشيد بترحابهم الحميم.
حين خرج ومضيّفه من فم السوق المسقف وجد نفسه في شارع الكورنيش أمام الجسر الخشبي. أبصر الفرات يحيّه وشمس الربيع تحتفي به. ووجد شاباً يتوجّه إليه وقد حملَ كاميرا.. هتف المضيّف :
- هيّا يا ناصر. التقط لنا صورة. ضيفُنا عزيز علينا.
- عرفته من بعيد.. وقلت هيّا يا كاميرتي الذكيّة التقطي صورة لمطربنا الجميل
ضحك ناصر حكيم. اعتبره إطراءً كبيراً، فتهافتت كلمات الشكر على مسمع ناصر الجبلاوي.
التقط ثلاث أو أربع لقطات واحدة منفردة له وثلاث مع الصديق. صمم على جعل الصورة المنفردة واحدة ممن تعرضها جامخانته الزجاجية.
واصل ناصر حكيم ومضيفه السير في شارع الكورنيش. شاهد السماويات يحملن المساخن والقدور متبوعات ببناتهن الصغيرات يرفعن على رؤوسهن صرر ملابس تحتاج الغسل بماء الفرات. دهش ناصر حكيم لجمال المتهاديات صوب النهر. أباح لمضيفه بما مارَ في أعماقه. سمع مَن كان يلاحق الاثنين في جولتهما فيض البوح.. الذي سمع كان شاعراً شعبياً يأمل أن يرفد المطرب بشعر يحيله الصوت الريفي بآلة نغم عذبة إلى أغنية.. التفت لصحبه. حوَّلَ كلمات ناصر حكيم شعراً، قال اسمعوا :
ناصر حكيم يكول حلوة السماوه
وشكثر بيها خشوف للشط تهاوه
تابع ناصر حكيم هدير الفرات في أعلى درجات جنونه، ماؤه حامل لون الغرين والطين الذائب من كتوف ضفتيه وقت مروره بمدن عانه وراوه والرمادي وكربلاء والحلة والشامية والديوانية.. النوارس الزائرة تطلق أصوات في حبور لما تلمحه طافياً تدفعه المياه الجارفة. الأصوات لفتت انتباه ناصر حكيم. صار يتابعها متخاطفة بأجنحة رمادية. يرهف سمعه لذبذبات أصواتها؛ صعودها وهبوطها، رقّتها وحدّتها. ولم ينتبه لازدياد أعداد المعجبين المتنادين بوجوده في السماوة إلا عندما أدار رأسه شمالاً ليطالع بنات السماوة يدلين برؤوسهن من شرفات السطوح أو يطالعنه من شبابيك الشناشيل. هاله رؤية أعداد الصبية والشباب مسحورين بتهاديه في شوارعهم. راحوا يسألونه إن كان سيغني في صالة السينما أم في حديقة نادي الموظفين ؟..كان يضحك ويقول : لا ! حضوري للسماوة لزيارة صديقي عطيّة حذّاف.. أنا وإيّاه كنّا أصدقاء في الفاو. أبحرنا في السفن الى الكويت وعملنا على ظهورها أشهر، ثم عدنا للعراق. هو فتح مقهى وأنا رجعت للناصرية أشارك بالغناء في الأفراح. بعدها تقدمت شركة محطة الشرق الأوسط اللبنانية فتعاقدت معي لتسجيل الاسطوانات. ولأنَّ وجودي شبه دائم في بغداد أغراني بفتح مقهى في العلاوي. هي الآن محط حضور عشاق الغناء والتجول في بستان الفن الجميل.
في المساء كان مقهى عطية حذّاف يعج بالرواد. وكان ناصر حكيم على كرسي مرتفع بوسائد وتكيات صوفية تريح جلسته يطلق ابوذياته ومواويله مشفوعة بأغنية " نخل السماوة " أولاً، ثم " رد يابو زويني " ثانياً، ثم " بالراض امش " ثالثاً. ورؤوس الروّاد تطوّح على ايقاع الهيام بينما رؤوس آخرين لعبت فيها الخمرة فدفعت بهم الى النهوض، يتمايلون ويرقصون.
وهناك... في نادي الموظفين وعلى هدي صفو الليل وهدوء المدينة المخترق من صوت صفير القطار السريع القادم من بغداد أو الآتي من البصرة كانت حنجرة ناصر حكيم تطلق نغماً يصل الرواد المتحلقين حول الموائد الدائرية المغطاة بالشراشف البيض. يترنم بعضهم مع موجة الغناء القادمة فيروح ينقر بأصابعه على حافة المنضدة نقرات خفيفة؛ ثم يقترح على الجلاس معه أن ينهضوا فيعبروا الجسر ويأخذوا شارع الكورنيش ثم ينعطفوا لشارع مصيوي؛ وهناك سيرفعون الصوت ويلوحون بالأيدي تحية لمطربهم الذي سيستمر بوصلة الغناء بناء على رجاءاتهم في نهل السعادة وتغذية الروح بفاكهة الطرب. سيسعد عطية أن صديقه لم يخذله بوصلة غناء قصيرة بل لأجل أهل السماوة الطيبين سيظل حتى الصباح كما همس بأذنه، ويهنأ الصديق لخيلاء عطيه وهو يحصد امتنان أبناء المدينة في ليلة لن ينسوها : سمر، وانتشاء،, بهجة، وتحليق، وهيام، وشعر، وغناء؛ إنصات باستعذاب وترديد بتذوق؛ تجاوز على هموم وتخطّي فقر؛ محاورة نجوم ومناغاة قمر.. ليلة سيظلون ينسجون أجمل ديباجات السرور من خيوط سعادتها، وسيتبارون للجلوس في مقهى جلس فيها ناصر حكيم وغنى، وسيأتي أبناء المدينة بكل صديق أو قريب يأتي لزيارتهم فيأخذون بيده ليجلسوه في مكان اتخذه ناصر حكيم مجلساً، وينطلقون بسردٍ تتخلله حركةُ الأيادي والأصابع، وتغيير تقاسيم الوجه بين الإعجاب والاندهاش والتباهي يتحدثون عن زيارة تاريخية. لم لا وهي مناسبة قد لا تتكرر عن وجود لم يحسبوا له ولم يتوقعوه فجَّر مواهب الغناء لدى شباب المدينة فصار جلاس المقاهي المحاذية للنهر يترنمون على أصوات كانت خجلة وخائفة. تتناهى لمسامعهم ليلاً آتية من الشريط الرملي في صوب القشلة حيث العتمة تسود والقرائح تنفتح فيندلق الغناء عذباً وشجيّاً يحاكي غناء ناصر حكيم ويتمثل به.
في اليوم الثاني كانت صورة ناصر حكيم تلصق في إطار جميل وتزجج ويضعها ناصر الجبلاوي في واجهة معرضه.. التفاتة ذكية تعلَّمها من أستاذه المصور الأهلي وهو يعرض أية صورة جديدة يلتقطها للملك وللعائلة المالكة فيهب من أحبَّهم وأخلص لهم لاقتنائها. لذلك ما أن شاهد محبو ناصر حكيم ومن تعلَّق به تلك الليلة حتى تهافتوا على الأستوديو يشترون نسخاً منها علقوها على جدران بيوتهم او محلاتهم؛ وكلُّ يقصّ كيف قابله، وكيف تحدث معه، وكيف لبّى دعوته عندما طلب منه أن يغني موالاً أو ترجّاه إعادة مقطع أغنية في تلك الليلة الخرافية الساحر.
حبيب
الصورة التي تجاور ناصر حكيم كانت لحبيب. العينان الكبيرتان الواسعتان تملأن وجهه أسفل جبهة عريضة احتل شعره الأسود الكثيف النصف الأعلى منها، وبدت تسريحة الشعر كتسريحة هتلر في صوره الكثيرة. نعم بتسريحته تلك كان يشبه القائد النازي. زاد من الشبه به قص الشارب وجعله كشاربه.. لا ندري لماذا استمر بهذه التقليعة رغم أن الكثير من شباب المدينة الذين أُعجِبوا يوماً ما بهتلر وقلدوه في تسريحة شعره وشكل شاربه تخلوا عنها بعدما هُزم وانتحر وعُدَّ مجرم حرب، وصار الذي يجاهر بحبه وتقليده شخصاً منبوذاً ومثار ريبة.
كنّا مجموعة أصدقاء : كاظم قصير وبدين يعمل موظفاً في مصفى المدينة؛ محمد علي شاب معتدل الطول ونحيف، ضعيف البصر يضع على عينيه نظارات ثخينة الزجاج يُطلَق عليه لقب ( أبو زهرة ) مع انه أعزب ويكره الزواج؛ كاتب عرائض مارس هذه المهنة اضطراراً بعدما أُطلق سراحه من سجن قضى فيه سنة كاملة بتهمة انتمائه الى حزب محظور ومباهاته به اثناء عمله ككاتب العدل فسحبت يده ولم يُرجَع الى الوظيفة. يحب القراءة ويقتني الكتب. يجاهر بما يقرأ بشيء من الفخر والتباهي؛ عدنان معلم طويل ونحيل ويطلق عليه تلامذته لقب ( المسلول )؛ عبد الباقي موظف في دائرة النفوس، وسيم وله وجه متورد؛ حبيب صاحب دكان عطارة وأعشاب يرى فيها الناس رابطة تربطهم بحياة ماضية توارثوا طقوسها عن الآباء فحقَّ عليهم التواصل معها.
نهاراً، نروح نتسكع في شارع الرشيد وسوق السراي وشارع المتنبي ) شارع المتنبي يدفعنا إليه ابو زهرة كونه مولع بالقراءة. يلاحق شعراء الجاهلية ويردد متلذذاً بأشعار أبي نؤاس من الحقبة العباسية كلما دخل نطاق الثمالة ورفع الكأس تحيةً ).
مساءً نصرف وقتاً نلعب الطاولي في واحدة من كازينوهات شارع ابي نواس على ضفاف دجلة ثم ننهض لندخل باراً. نحن نكرع ما نرغب من بيرة ذهبية أو عرق أبيض مستحلب تاركين ناصر الجبلاوي يشاهد معارض المصورين الفوتوغرافيين، متخيلاً لقطة يمكن للكاميرا أن تلتقطها هنا، ولقطة هناك؛ ونعطي لحبيب الحرية في ما يبغي.. كان حبيب مولع بمشاهدة الأفلام؛ يناشدنا حين نلح عليه بتناول كأس من عسل إثارة الخيال وعمل فيلم من المخيلة، يقول :" أمشي معكم أينما تذهبون، فقط لا تضغطوا عليّ بمسألة الشرب، والنسوان ما أقربها.".. احتراماً لرأيه وتوافقا مع مشاعره ورجاءاته نتركه لحاله ورغبته.
ننهض، مخلّفين البار ومولين وجوهنا شطر ملهى الامباسي أو علاء الدين، محمّلين بالشوق لما نرى ونسمع.. هناك نرسم لوحة المتعة بالغرق في بحر الموسيقى الصاخبة المصاحبة لانثناءات وانحناءات وتمايل أجساد الراقصات.. راقصات عراقيات وأخريات من مصر وسوريا ولبنان، فلبينيات وتايلنديات. أنوثة نرى أنفسنا نحن الذين نعيش في واقع اكتشفناه مع مرور الأيام وترعرع الوعي داخلنا يعوم في الزيف ويستلقي على شاطئ المراءات وسط فضاء يخلو من العلاقات الصادقة والتعامل النقي وصلات البراءة. وحين يقف معنا الحظ نستمتع بوصلة رقص فرقة بريطانية أو ايطالية هي لوحة تعري تدريجي؛ تتمثل لنا حياة البدء يوم رمى الله آدم إلى جنة الأرض ودفع له بعد ذلك بحواء؛ وكانا عاريين إلا من شغفهم لما شاهدوا، وبهجتهم بما نالوا، ودهشتهم ليسر ما حصلوا... يرفع عدنان قدح البيرة الذهبية ويهتف على موجة الجذل : إلى الجحيم ايتها السياسة، وفي النار أيها السياسيون. يقول ذلك مكايداً محمد علي الذي فقد وظيفته من أجلها؛ صارخاً في غمرة الثمل : أيّةُ سياسة في مجتمعات بدوية يا معتوه ؟!.. يبتسم محمد علي أولاً. ثم بتأثير الخمرة يحتدم متهيئاً للرد عليه والوثوب على ما يقول. غير أننا نغير مجرى الحديث. وينقذنا حبيب من المحنة حين يطل علينا قادماً من سينما دخلها وفيلم شاهده.
كان ولع حبيب بالسينما ومتابعة الأفلام شديداً.. يتركنا بعد تجوالنا في شارع الرشيد ليقطع تذكرة دخول سينما الزوراء في المربعة أو يواصل مصاحبتنا لينعطف يساراً نحو سينما غرناطة تاركنا نواصل السير باتجاه شارع أبو نؤاس حيث البار الذي تعودنا ارتياده.. يرغب في قص ما رأى علينا؛ بيد أن لا أحد يستمع اليه؛ ذلك أن اللقاء مع صبيحة كسرى ونزهة وراجحة عبد السيد في الملهى يلغي الرغبة ويتركنا نعد سيناريو لقائهن القادم.
عند العودة يقتحم غرفة ناصر الجبلاوي ويروح يقصّ عليه أحداث الفيلم، يومىء بيديه، وتتغير تقاسيم وجهه، يحتقن، ويسترخي. ينفعل ويهدأ.. وناصر يردد : نعم.. نعم.. المسكين يحسب ناصر الجبلاوي معه بينما الواقع يؤكد رحيل ناصر بعالمه الصوري مرةً وبالمتحرك مرّات.
حبيب يتزوج
حدثان غيّرا نظام اللقاء والسفر والمتعة المرتجاة وشذّا عن مسار مجموعتنا. الأول ملازمة ناصر الجبلاوي لمحله والثاني زواج حبيب.
ففي واحدة من سفراتنا لكربلاء نزلنا في نُزل تديره أم شاهناز، امرأة أعجمية من إيران، حفيدة أحد جنود نادر شاه الذي قدم من بلاد فارس واستوطن بعضهم قريباً من المراقد الشيعية في كربلاء والنجف والكاظمية، تؤجِّر غرفاً للمسافرين والقادمين لزيارة الحسين والعباس.. للمرأة ابنةٌ جميلة بعمر الرابعة عشر. كنا نلمحها تتحرك داخل البيت تساعد أمها في ادارة شؤون النُّزل وتنادي عليها الأم بلهجة إيرانية " شاهناز.. بيا " أي تعالي كلما احتاجت لمساعدتها.
تكرَّرت زياراتنا لكربلاء بعدما أقمنا علاقات صداقة مع كربلائيين وآخرين من مدن متفاوتة يأتون لزيارة العتبات المقدسة. وكنّا في كل مرة نقضي أيام سفرتنا في نُزل أم شاهناز.
مرّت الأيام، سافرنا خلالها للبصرة. والبصرة بجمالها الجنوبي وميسها المحبب نالت منا أكثر من زيارة؛ ثم أخذَنا حب الفضول إلى الأهواز في الجانب الإيراني. اكتشفنا عالماً جديداً : تجوال وشرب وجنس وعودة بلا منغصات ولا مطبّات؛ فقط حمّى الشباب تندلع في دمائنا فنتفاداها بوسائل الترفيه. كانت سفراتنا تلك تفتقد الى حبيب. يقدِّم أعذاراً نرى فيها الواقعية وتفرض علينا التقبّل. ليس لحبيب أخ، وهو الأخ الوحيد لثلاث أخوات وأم ترملت منذ كان هو أكبر أولادها بعمر عشرة أعوام. واصل دراسته بمساعدتها، وكانت تجد كخياطة أزر صوفية اعتمدت على خيالها ومهارتها في إنتاج يُقبِل عليه الناس.. يأتون لها بالصوف فتغسله بإتقان ثم تغزله خيوطاً كروية، تشرع المهارة والموهبة بصناعة تبهر الناظر ما اكسبها سمعة ميزتها عن باقي صانعات الأزر... ولأنها رأت الحال لا يدوم والأولاد يشبّون وجدت أنَّ على حبيب ممارسة عمل مع مواصلة الدراسة. وقررت ما أنْ ينجح في الاثنين، الدراسة والعمل حتى تتخلى عن مهنتها المرهقة.. لذا في واحدة من حالات التحاور مع الذات وحساب ما ادخرته من مال قررت استئجار محل اقترحت عليه ان يكون عطارة. قالت له بشيء من الحماس وكثير من الدعم : كُن رجلاً وانطلق.
الفتى استحال رجلاً كما تمنته، لكن على حساب تعلم صار يتلكأ.. نال الشهادة المتوسطة وقد غدا شاباً تجمعه وإيّانا رفقة حميمية تغذي الروح بشهد الشباب، وفضول اكتشاف ما وراء المدينة كعالم لم نخرج عن مداره من قبل.
في يوم وجّه حبيب دعوة لنا لحضور زفافه.. لم تكن المفاجأة في زواجه إنَّما في الفتاة التي اقترن بها... تلكم كانت شاهناز... تبيّنَ أنه أحبها بصمت دون أن يطلعنا. وببوح خجول وصادق طرح رغبته على الأم باقترانه بابنتها. قبلت الأم فتحرك لإكمال الترتيبات.. وتحركنا نحن نرجو ناصر الجبلاوي رفع صورته الهتلرية من المعرض وإخفائها، أو على الأقل عرضها داخل الأستوديو.. وعدَنا ناصر بتلبية الطلب حالما يراه يرزق بولد. وعندها سيقدمها له هديةً لمَقدَم الابن البكر.
(6)
المركز الحكومي
قبل أنْ يؤرّخَ عبد العزيز القصّاب الذي استلم مهامه كقائمقام لقضاء السماوة في آذار العام 1909 ويكتب مذكراته لم تنتبه المدينة إلى أنَّ لها تاريخاً ينبغي تدوينه ليكون كتاباً يعود إليه أبناؤها ومن له صله بها، يقلّبون صفحاته ليطلعوا أو يتساجلوا مع ما فيه من أحداث وشخوص ومناسبات، ومع ما يعرض من سلوك وتصرف واجه بهما الناس ما يتجسد أمامهم سواء من المحسوب أو الذي من عِداد الغيب. تهافتَ زمنٌ وزمن، وجرت أحداثٌ وأحداث كان أهلها غائبين عن الانخراط في تدوينها على ورق. أحداث مشفوعة بالدوافع والمسببات والنتائج والعظة والحكمة، يلزمُ حفظُها في أماكن تضمن لها الإدامة والخلود، لا في صناديق الذاكرة الآيلة للتهشم وضياع المحتويات. لم يتخذوا من أجدادهم النائين عنهم حقباً والنائمين في أجداث لا تبعد عنهم سوى مسافة كيلومترات معدودة أسوةً. أجداد حسبوا لأهمية وجودهم وفعالية أفكارهم فقرروا التدوين رسماً أولاً، ورموزاً كتابية تالياً. أرّخوا على الطين والحجر، وأنتجوا الرُّقم والمسلاّت فكانوا بحق أجيالاً حيَّة تولَّت المسؤولية فأحسنت وأجادت.. يحدوهم اعتقاد بأحفاد لهم سيمسكون يوماً صولجان التواصل لإدراك حقائق كثيرة مبهمة لديهم آنذاك، لكنَّ الأحفاد دخلوا تحت مظلة دين جاء ليُحرِّر فحُرِّف من قبل سلاطين وأمراء آثروا العيش بذخاً على حساب أخوتهم في الدين.
الأخوة في الدين أكلوا منهم أعمارهم والتهموا أجيالهم وضاعت أربعمائة من الأعوام كانوا يُنظَر إليهم مثل موتى. الأخوة في الدين حملوهم في سفينة نشروا فيها حشرة الأرضة، وأطلقوا فيها يد موالين طامعين جشعين وإيماءة تغاضي تقول خذوا منهم ما تشاءون، فالسفينة تواصل إبحارها ولو على خواء. كانت سفينة ضياع، وكان بحر موات.. ويوم رفع الركّاب المساقون إجباراً وعسفاً والمتهالكون مرضاً وجوعاً رؤوسهم وواجهوا مَن قال أنه جاء محرراً عَبر البحار ينقل لهم بشارة الخلاص انقسموا بين متطلِّع لقدوم يزيل عنهم حجر الذل ويفتح أبواب النور ويطلقهم للفضاء الرحب، ومنكفئ ارتضى ثقل الحجر واعتاد عليه وصار عنده من عِداد نظام حياة لا خير في تغييره. بل تشبَّث به وعدّه من المسلمات والحِكم انطلاقاً من قول حكيم : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.".