حبري أسود فلا تطلبوا مني أن ارسم قوس قزح
محمد سعيد الصكّار
الفصل الاول
ناصر الجبلاوي وعين الكاميرا
(1)
حرب الضغائن
لم تكد تمضي سبعة أشهر على اكتمال شريط فيلم " حرب الضغائن وبانوراما الهلع " المُنتَج أواخر العام 1963 يوم جسَّدَ السماوة نموذجاً أمثل لمدن العراق، طولاً وعرضاً، تجرّي فيها فعالية الانتقام بمؤثِّرات صوتية شكَّل نواح الأمهات وكمد الآباء وخوف الزوجات ورعب الأبناء مُعبِّراً واقعياً يدعم نجاح مخرج الفيلم الذي يسمى التاريخ.. أقول لم تكد تمضي السبعة أشهر حتى اندلع حدثٌ مروٍّعٌ، أسرع هذا المخرج من جديد يوجِّه مصورِّه ناصر الجبلاوي لحمل كاميرته والتحرّك سريعاً إلى مكان وقوعه.
ولمّا كان ناصر الجبلاوي يسكن في الصوب الكبير من المدينة والحدث الذي يستحق التوثيق صورياً وقع في صوب القشلة أو كما يطلق عليه الكثيرون الصوب الصغير لمحدودية عدد بيوته واقتصار نشأته الأولى على دور موظفي العهد العثماني لزمه اختراق السوق المسقَّف الرئيسي ثم عبور الجسر الخشبي المتهالك على نهر الفرات. تقاطعَ، حاثّاً الخطى، مع رجال قرويين تحتَّك أخفافُهم بخشب الجسر وتهدلُ ذيول عباءاتهم الخفيفة ملتقطة التراب المتطاير بفعل الاحتكاك. القرويون بعدما رماهم الباص الخشبي عند مدخل كراج مغلق كانوا أيضاً يحثّون الخطى بغية التبضّع، ولكن باتجاه السوق المسقَّف، متبوعين بنساءٍ يحملن صرراً فوق رؤوسهن ويرتدين جميعاً ملابسَ سوداء كأنَّهن حزانى على فقدان عزيز مشترك مع أنهنَّ من قرى وأرياف مختلفة.
ناصر الجبلاوي اتَّخذ الأزقة المتداخلة من بين بيوت الإماميين بدلاً من سلوك الدرب شمالاً وصولاً إلى التقاطع أمام جامع مجلّي ليكون عند الاستدارة يساراً بمواجهة مكان الحدث.
الحدث جرى صباح يوم صيفي كانت فيه السماوة تعيش سكوناً لا تعهده إلا أياماً قليلة من شهر صَفر الحرام حيث يسافر معظم سكانها إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين بن علي، حفيد الرسول محمد في أربعينية استشهاده. والزيارة تعني تراجع عدد السكان إلى أقل من الربع.. في أولى لحظات تلك الصبيحة انطلقت صرخةٌ هتكت ستر الفضاء وغدت الشمس غب وقت قصير ساخنة كانت فيها ساعة الضحى كأنها ظهيرة قائظة.
الصرخة المغموسة بالرعب أثارت في نفوس صبية الشارع فضول التعرّف على السبب فهتف صبي يحث آخر خرج من بيته المجاور لمقبرة الخاتونة : هيّاً ! لنر ما يجري.. وعلى قربٍ هتف بهم ثالث : سآتي معكم.. وأومأ هذا لتوما ابن بطرس بائع العَرق أن يرافقهم.. توما التفت على صوت يأتيه من خلفه فأبصر شميران تطل برأسها تسأله عما يجري. من ورائها ظهر والدها إبراهيم لازار يعيد السؤال :" ما ندري، رايحين نشوف شكو ماكو.".. جاء رد الصبية موحَّداً.
حركة الناس تتَّجه نحو الشارع الرئيس. السيد سجّاد لم يكد ينتهي من رفع كبنكات مقهاه، ويتجه للروزنامة المعلقة جوار وجاغ إعداد الشاي ليرفع ورقةً من يوم انتهى ويقرأ ما مدوَّن خلفها من حكمةٍ أو شعر حتى سمع الصرخة.. أشجار الكاليبتوس والسدر ونخلة البريم بعذوقها الصفر في الجزرة الوسطية للشارع تبدو خاملة تطرد عصافير وفواخت اعتادت كل صباح عملَ ضجّةٍ تزعج باعةَ الخضروات وأصحاب الحوانيت فيرمونها بالحجارة كي يقللوا من نزقها.. حيرة تقطر من العيون واضطراب يتفاقم في الدواخل.. قلق يترجرج بين خوف من مجهول وعائق مفاجىء يحرمهم من معرفة ما يجري.
الأفواه تتحاور بالسؤال حين يسبقهم أحد حاثّاً الخطى بنفس حيرة سؤالهم.
انتصاب شرطيين في باب بيت سلطان شاهر وتجمّع مبعثر لأناس فرادى يقفون على بعد عشرات الأمتار ويمنعهم الشرطيان من الاقتراب أعطى نصف الإجابة.. رجلٌ توقف مع واقفين ينظرون بفضول وقد زمّوا الشفاه قلقين. قال يستقري : قد يكون سلطان شاهر صاحب سيارات المرسيدس الأربع التي تنقل الركاب من السماوة إلى الديوانية توفي.
تفوَّه آخر :
- يا للرجل الطيب. توفي وأفراد عائلته جميعاً في كربلاء توجهوا للزيارة.
متوقف ثالث صحَّح الكلام :
- ليسوا كلهم.. ظهر أمس شاهدتُ ولده يوسف في الصوب الكبير وبيده كتاب. جاء قادماً من جهة المكتبة العامة.
أحد النابهين من بين التبعثر البشري وكما لو أنَّ كلمة " توفي" استفزته هتف بشيء من رفض الاحتمال :
- بماذا تتحدثون ؟! انتصاب الشرطة في الباب ومنعنا من الاقتراب لا يعني وفاة عادية. لابد أنَّ حادثاً خطيراً جرى في الداخل.
أيَّده السيد سجّاد المنتصب في واجهة مقهاه. كان قد نشر الحصران على التخوت واستعد لاستقبال الجُّلاس، مع أنْ لا جلاس يعتد بهم هذا اليوم بسبب توجّه معظمهم للزيارة.
نصف ساعة لا غير وانتشر خبر تحسَّرت له النفوس، وانطلقت من الصدور آهات جزع. سلطان شاهر قتلَ بطريقة بشعة.. الجارة أم زينب التي أوصتها زوجة القتيل قبل سفرها إلى كربلاء بخدمته اكتشفته مقتولاً بفظاعة.
هول المفاجأة وقسوة المشهد جعلتا المرأة الجارة تندّفع الى الشارع فتطلق صرخةَ رعبٍ أفزعت سكان الصوب الصغير وأسقطتهم في هول حيرة وقلق.
عين الكاميرا اخترقت باب البيت المُشرع. لم تصوّر الشرطي الحالك البشرة ببدلته الكاكية العتيقة وسدارته التي تغطس فوق رأسه الأشيب كأنها زورق مقلوب وهو يرفع بندقية سيمنوف بحربة طويلة مطوية. عين الكاميرا تحركت قاطعةً مدخلاً تشيع فيه عتمة ثم تدخل حوش البيت، وسريعاً تتم الحركة دخولاً الى غرفة جلس عند مدخلها رجلٌ على كرسي خشب بمسندين يدون ما يملي عليه المحقق [ الغرفة مستطيلة. في زاويتها العميقة اليمنى يمتد سرير القتيل فيما الزاوية اليسرى جوار السرير قاعدة خشبية أسندت عليها قاصة، بابها مفتوح بمفتاح في حلقة تتدلى منها عدة مفاتيح. تبعثرت في داخل القاصة وعلى الأرض قريباً منها أوراق. لا وجود لمال ولا مصوغات قد تحتويها؛ ما يدل على فعل سرقة.. جوار القاصة كرسي خشبي بسفيفة مربعة للعجيزة وأخرى مستطيلة للاتكاء. فوق الكرسي بخمسة أشبار قطعة مزججة لسورة الإخلاص بخط النسخ. وعلى الجانب ملابس رجالية تخص القتيل حصراً، سترة وثلاثة دشاديش ويشماغين وعقال وحزام جلدي عريض، معلَّقة على حاملة ملابس من خشب الصاج البني اللميع. قريباً من الباب تحتل مرآة بطول متر مؤطرة بخشب زان حفرت عليه ورود وتعرجات أغصان. يستطيع الناظر عند الوقوف أمامها مشاهدة قسمه العلوي حتى أدنى الحزام ].. المحقق يتفرَّس برجل لا تبان معالم وجهه جراء دم متيبس يغمر عينيه ووجنتيه ويتخضّل في لحيته الشيباء الكثّة. لم يكن هناك الجزء الأعلى من الجبهة. كان الرأس مهشماً وقد التصقت كتل من الدماغ بيضاء على الجدار جوار سرير يحتوي الضحية بطريقة تنم عن دفاع جرى مع القاتل.. التقطت عين الكاميرا صورة المُحقِّق وهو يتفوه : الاحتمال كبير بوجود قاتل شريك ساهم بعملية القتل.. أداة الجريمة قضيب حديدي أو مطرقة برأس صلب.. الجريمة تمَّت بقسوةٍ خارقة.
مَن ارتكبَ هذا الفعل الشنيع ؟.. كيف ؟... ولماذا بهذه الوحشية ؟ هل حصلت سرقة مال وفير يشمل ثروة الضحية أجمعها ؟.. هل ثمَّة بصمات تركها القاتل ؟.. هل القاتل شخص واحد أم أكثر ؟
تبارى القوالون وكثرت الإشاعات، خصوصاً بعد انتهاء أيام الزيارة وعودة الناس إلى بيوتهم.. انتعشت أذهان ذوي الخيالات الهائجة فانطلقت الحكايات مفبركة مثلما تعددت سيناريوهات الجريمة.
مَن القاتل ؟.. لا أحد يدري.. فقط حضر محقق يصاحبه شرطيان وكاتب. رُسِم المُخطط، ودوَّن ما يجده ضرورياً بغية كشف الجريمة، ليجري بعد ذلك دراسة الدوافع ووضع الاحتمالات.
الدوافع عُرفت سريعاً : الطمعُ في مال، ثروة خرافية. فالقتيل من أغنياء البلدة. ليس لديه حساب مصرفي، ولم يُرَ يوماً يدخل مصرفاً.. هو إذاً يحتفظ بثروته في داره.
الاحتمالات : وجود الرجل وحيداً. وليس معه غير ابنه الشاب يوسف.. ابنه أغراه فراغ البيت، أثارت طمعه الخزانة المليئة بالمال. الأب لم يُطلع العائلة يوماً عمّا يملك، والابن كأي شاب في عمره يسعى إلى البهرجة والتمتع بما يملكه أبوه ويبخل بها عليه وعلى أفراد أسرته.. جنايةُ الابن في هكذا احتمال واردةٌ.. لهذا وجب اعتقاله على ذمة التحقيق.
الاعتقال كان تعسفياً. والتحقيق جرى مصحوباً بتعذيب لنزع اعتراف الابن بقتل والده حتى وإنْ أدلى بأقوال صادقة دفاعاً عن نفسه؛ حتى لو تحقَّق يقينُ أنه بريء.. المهم الحصول على توقيعه وإعلانه أمام الحاكم بارتكاب فعله ألجرمي.
يوسف ظلَّ مصراً على رفض الاعتراف.. يصرخ بوجه المحقّقين : انتم مجانين ! كيف أقتل أبي من أجل مال زائل، أنا الذي أتحصن بثقافة تتجسد متعُ الحياة أمامها تافهة... إذا كنتم حاذقين أبحثوا عن القاتل الحقيقي.
أسابيع ظل فيها يوسف موقوفاً. وخشيةً من تفاقم الأمر، وخوفاً من أنْ يُدان المُحقِّق ويُستهان بالقضاء والحكومة المحلية أُفرج عنه.. أُفرج عنه مطعوناً في صميم وعيه، وخلل ما ضرب له ذهنه.. الذين أبصروه بعد إطلاق سراحه قالوا : هذا ليس يوسف الذي نعرفه قبل الاعتقال.
صحب التحقيق مع يوسف تحقيقاً مع المرأة الجارة.. والجارة أدلت بما شاهدته، وأعلنت أنها لم تدخل غرفة القتيل مرَّةً لأنه اعتاد على إقفالها ووضع المفتاح في جيبه حين الخروج، وأنها كانت تعد الطعام في اليومين السابقين للجريمة وتقدمه في غرفة أخرى تخلوا من الأثاث، فقط بساط صوفي ووسائد كمتكآت على الجدار. وحين أبعدت زوجة القتيل فكرة ارتكاب الجارة للجريمة أطلق سراحها.
كما شمل التحقيق حارسَ المدرسة المقابلة لباب بيت القتيل، ثم أبعدت عنه الشبهة بادعائه انه كان في زيارة كربلاء وقضى لياليه في موكب العزاء الذي يديره الحاج مجلّي.. الحاج مجلّي بصم بإبهامه الأيمن بعدما أدلى بشهادة أنَّ الرجل الحارس كان ينام في الموكب ولم يتخلّف ليلةً عن النوم مع جموع الزوار.
وكان إنْ ظلت الجريمة مُبهَمة والقاتل طليقاً.
استحالت حكايةً، كلما حضرت إلى الذاكرة أحتُمِلَ خلوُّ المدينة من سكانها أحد مغريات القتل. إذ الذي نفَّذ جريمتَه اختار وقتها بدهاء.. جريمةٌ خُطِّط لها ولم تحصل مصادفة. مُنفِذُها حَسِب حسابَ الانسحاب والتواري دون أن يُرى.
المهم أنَّ القضية دخلت في السؤال والجواب. وأُدخِلت إلى التحرّي المشوب بالإهمال والتغاضي والتأخير فتُرِكَت وطُمِرت؛ ثم أغلِقت بفعلِ قاتلٍ مجهول. قُيّدت على أنّها من قضايا القتل بدافع السرقة والطمع بمال.
****
وهو يطالع دقائق الفيلم وتفصيلاته حدس التاريخ أنَّ الجريمة، حقّاً، لم تنفذ بيد قاتل واحد إنما هناك من ساهم بضربة أو عدة ضربات. يكشف ذلك انحراف جسد القتيل يميناً على السرير ووجود ضربات على جمجمته من اليسار. فلو كان الجاني فرداً واحداً لكانت الضربات من أمام فقط كون الاثنين المهاجم والمدافع يواجه احدهما الآخر كاحتمال رصين.
تابع حركة عين الكاميرا التي زحفت تصوِّر ثم دارت تلتقط جوانب الغرفة وزواياها ثم تهبط إلى الأرض ببلاطها المربع الأبيض والأسود، وسيل الدم المنساب من نهايات الأصابع لليد المتدلية من حافة السرير.. سيل اتخذت نهايته شكل القطرة ثم تخثَّر ويبس، دلالة حدوث الجريمة قبل أكثر من ساعة تصويرها.. قبل أكثر من ساعة يعني قبل بزوغ الشمس؛ يعني قبل أداء صلاة الفجر.
****
أمام دكانه الصغير الخالي من لافتة تشير إلى كونهِ أستوديو إنَّما جامخانة زجاجية تعرض خلفها صور متفاوتة في أحجامها وقف ناصر الجبلاوي يطالع الفرات الذي يفصله شارع ورصيف توزعت عليه تخوت جاسم القهوجي المجاور لدكانه.. بعث بنظراته إلى ما بعد النهر. كانت بيوت الاماميين والدهّانيين تتراصف بواجهات جميلة تختلف عن واجهات بيوت الصوب الكبير المتهالكة.. نظراته أعادت إليه رغبة مشاهدة بعض من لقطات الفيلم فاستدار داخلاً. فتح باب غرفة تصنيع الصور والأفلام من كاميرا 8 ملم ودخل. تناول عدد من صور اختارها من الفيلم باعتبارها تشكّل مفاصل الجريمة وخرج. جلس خلف منضدة ذات دُرج يحتوي صوراً التقطها في أيام ماضية تعود لأناس لم يأتوا لاستلامها بعد، وتحت الدرج خزانة تضم علب ورق الصور مع قناني الهايبو ومواد كيماوية أساسية لتطهير الأفلام وإظهار الصور.
تمتم : لو كانت أجاثا كريستي هنا لكتبت الحادثة رواية طالما توارى القاتل دون اكتشاف واتهم الابن والجارة وحارس المدرسة وتاهت خيوط الجريمة وعجز المحققون عن الوصول إليها.. لو كان آرثر كونان دويل هنا لكلَّفَ شارلوك هولمز ومساعده في اكتشافها متتبعاً بعين الدهاء والخبرة والتحري الدقيق تفاصيل خطة ظنها المُطبِّق الجاني مُحكمة لا تُكتشف ـ وليس لأكبر متحرٍّ حاذق ركوب زورق الوصول وإدراك المبتغى.. لو جاء الفريد هيتشكوك لأصدر أوامره للمصورين بتنصيب كاميراتهم من زوايا متعددة ووجه مصابيح البروجكترات لتصنع ظلالاً داكنة أكثر من المعتاد مُظهِرة وجوهاً وأشياءَ تربك فراسة المشاهد، ولأخرج فيلماً مثيراً يكتنف أحداثه الغموض ويحفّز العين على التتبّع لتقف واثقة على الجاني الحقيقي.
(2)
التاريخ.. فعلُ الكاميرا
فيلم" حرب الضغائن وبانوراما الهلع ". كان مدّاً من أحداث عصفت بالسماوة ووددتُّ تدوينها بنفسي كتابياً لكنَّ ناصر الجبلاوي صوَّرها بدفعٍ من التاريخ فكان يحمل كاميرته ويصل إلى أخطر مكان يعجز أي مدوّن كلمات من الاقتراب منه. إزاء ذلك لابد من الاعتراف أننا مهما قلنا وكتبنا يبقى التاريخ هو غالبنا والمنتصر علينا، في التدوين والتصوير. هو الذي يستحيل مَرجِعاً وخازنةً ذاكراتية تحتفظ بكل ما حدث بينما ذاكرتنا مهما احتفظت بما نظنّه يستحق التوثيق ستتهشم بموتنا ويبقى ما كتبناه أو قلناه محدوداً مقارنةً بما يملكه هو جميعاً.
الفيلم منذ بدايته يعرض صراعاً بين أناس حملوا أيدلوجيات حسبوها الُمثلى وعدّوها فوق الأيدلوجيات الأخرى المتبارية معها في الساحة. أي أنهم تنادوا لجعل أيدلوجيتهم مُقدَّسة لا يجب أن تمسسها أو تنازعها أخرى لذلك عملوا على محق الآخر سعياً للبقاء منفردين.. هذا الفعل استهجنه التاريخ وعدَّه، وهو يدعو ناصر الجبلاوي إلى تصويره، على انه تصرف أخرق؛ سيؤلب الآخرين لينتقموا حالما تحين فرصة، وإن كانت تلك الفرصة شهراً أو أشهرَ.. ولم تمر غير أعوام حتى تحقق زمن تلك الفرصة.
حدث الانتقام، ورُفِع شعارُ محق الأيدلوجيات الأخرى، تماما كما رفعها مَن فُتحِت عليهم أبواب الانتقام يوماً.
ناصر الجبلاوي يحمل كاميرته ويدور في مدن العراق الأشد التحاماً بين المنتقمين وحَمَلَة الأيدلوجيات الأخرى.. التاريخ يوجِّه ناصر الجبلاوي إلى كتابة العام 1959 كواجهة أولى تتلقّاها عين المشاهد حين يتابع الفيلم.. كانت كركوك والموصل ميادين وساحات للقتل والفتك والتمزيق والتعليق، يصورّها من زوايا مختلفة عارضة بشاعة الانتقام وساديّة المنتقمين. الشيوعيون ينتقمون والقوميون يُنتَقَم منهم : سحلٌ في الشوارع،، و" المايهزها عفلقي"، و" ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ".. دعوات للانتقام بلا رحمة، وتأجيج البغض لأعلى حد.. التاريخ، وفي 8 شباط من العام 1963 تحديداً، دعا ناصر الجبلاوي لحمل الكاميرا من جديد. قال له أنَّ القادمات من الأيام أستشرفُها حُبلى بالأحداث المهولة.. البعثيون هذه المرة هم المنِتقمون؛ والشيوعيون مَن سيقع عليهم الانتقام.. الانتقامُ كان كبيراً. رآه التاريخ أوسع جغرافيةً من جغرافية ارتكاب الشيوعيين. جاء الانتقام أشدَّ عنفاً على أعقاب حقد تنامى يوماً فيوماً، وشهراً فأشهراً.. السماوة كما ظهرت في الفيلم شكَّلت نموذجاً لصراع وانتقام.. خوف، ورعب، وتعذيب، وصراخ، وأنين، وتشفّي.. كره وضغينة.. مداهمات واعتقالات.. توجّس من طارىء، وهلع من وشاية. دوريات منفلتة في الشوارع، وعيون عدائية تخترق الأزقة تطالع ما ينم عن ريبة تستحق وضع اليد على مَن ترتاب منه العين.. ذئاب تكشِّر وفرائس ترتعد. من السقوف حبالٌ تتدلّى، ودماء تقطر صانعةً بركاً على الأرض... كل ذلك حوى الثلث الأول من الفيلم.
في الثلث الثاني منه كان التاريخ حاذقاً.
ناصر الجبلاوي يحمل كاميرته في بداية صيف تموزي لاهب وضارٍ من العام 1963؛ والوقت يقرب من الظهيرة. يحثُّ الخُطى نحو محطة قطار السماوة.. التاريخ أمره أنْ لا يترك شاردة أو واردة إلا ويسحبها بعين عدسته.. ناصر الجبلاوي يدخل شارع مصيوي بعدما يترك بيته ويخترق زقاق المعمل فيكون في مواجهة مدرسة سومر. يسرع في مشيه مخلّفاً فندق الحيدري ومقهى عبد الله حطحوط وخان الزعيري وطولة مهوِّس. يشاهد أحد الميسورين بسيارة جيب يتوقَّف في تقاطع الطريق المؤدي إلى شارع مقهى الهجع وفندق الوحيد فيسأل شباباً مُسرعين صوب محطة القطار إثرَ مشاهدة دفعات منهم بوجوه ملآى بالحيرة.. يبصر شباباً يهرولون، قادمين من جهة المحطّة سعياً لطلب المساعدة من أهالي المدينة :" ها، شكو.. شنو صاير ".. أعلموه أنَّ قطاراً بعربات حديدية مُخصَّصة للبضاعة تحمل مئات السجناء العطشى والجائعين مُرسلين في هذا الصيف الناري إلى نقرة السلمان.. يمد الرجلَ الميسور يده في جيبه ويستخرج خمسة دنانير. يدفعها إليهم ويقول : اشتروا رَقّي وبطّيخ كي يشبعوا ويرتووا فهؤلاء ضيوفنا.
عدسة كاميرة ناصر الجبلاوي تتوجّه حالما يدخل من باب المحطة ويجتاز فناءها ثم يخرج إلى الرصيف فتصوّر عربات حديدية مشرعة الأبواب ورجل يلبس بدلة زرقاء بقبعة كالتي يلبسها الروس في أزيائهم التقليدية، يتبعه شاب يشابهه بنفس بدلة العمل. الرجل في الأربعين وقد بدا مزهواً بانجازه مهمة إيصال قطار بعربات حديدية قبل الموعد المعتاد. اتخذ الاثنان جانب الرصيف وتوجّها نحو إدارة المحطة. هناك دخلا على المدير.. الرجل الأربعيني قدّم نفسه :" أنا سائق القطار وهذا مساعدي ".. طلب تسجيل الوصول، وأعلن اختزال الوقت إلى ما يقرب من الساعة والنصف عن الموعد الذي حُدِّدَ له.. المدير أبصر في عيني السائق تحدٍّ واحتدام.. المدير أكبر في نفسه عظم الفعل الذي أدّاه الرجل غير آبه بعقاب صارم قد يواجه به.
فات العدسة تصوير العاملين في المحطة وهم يسمعون لحظة توقَّف القطار طَرقاً وصراخاً ينطلق من داخل عربات حديدية معدّة للبضائع.. فاتَ تصوير اندفاعهم إلى العربات الموصدة بإحكام، غير مبالين بأفراد الحرس القومي، المليشيا المسلحة لحزب البعث، المرابطين داخل المحطة. فات التقاط حركة العمال المتحمّسين وهم يسحبون أبواب العربات السلايد فيبصرون مئات الأشخاص منهكين ومنهارين، فقدَ بعضهم الوعي.. فات العدسة تصوير المشهد الدرامي لقفز أولئك الأشخاص إلى الرصيف والارتماء على أرضيته الإسمنتية ليتنفسوا هواءً عزَّ عليهم في عربات الجحيم.. العدسة فقط لحقت على تصوير أشخاص متناثرين على الرصيف؛ ممددين وقد فغروا الأفواه عطشاً بينما أسرع عمال المحطة ومن لديه طاقة متبقية من السجناء إلى حنفيات الماء المنصوبة على الرصيف. يضغطون صماماتها ويأتون بماء بوسع أكفهم المضمومة، يسكبونها في فم هذا وفم ذاك وسط هتاف يأتي من رجل بدوي شهد الحال وتحرك بهمة ليساهم مع المسعفين : لا تسقوهم ماءً كثيراً.. لا تشربوا الماء بوفرة. فقط بلِّلوا الشفاه وارتشفوا القليل. هاتوا لنا مِلحاً من مطعم المحطة لنضيفه على الماء. أجسامهم فقدت الملح الكثير.. وفيما العدسة تصوّر عدد من السجناء ببدلات عسكرية تحمل رتباً متفاوتة فيهم المقدم والرائد والنقيب والملازم ورأس العرفاء والعريف والجندي، وفيما تنتقل إلى تصوير أشخاص موردي البشرة ببدلات مهندمة لوثها دهن وتراب العربات، وفيما كان العديد بملابس العمل الزرقاء والأكف الخشنة، وفيما تستقر العدسة على مشهد رجل ممدد على الأرض يرتفع صدره وينخفض وشخص يحتضنه ويضع رأسه على فخذه ويردد جزعاً : ماذا افعل لك يا أخي ؟ لعن الله الربو، وفيما يتكىء بعضهم على جدار وقد أخذهم الإنهاك فلم يقدروا على فتح عيونهم، وفيما تدور العدسة وتدور اقتحمت المحطة جموع أهالي المدينة مُحمَّلين بالأغذية : فواكه وخضار، ألبان وعصائر، تمرٌ ورقّي وبطّيخ كتعبير عن دعم ومواساة.. وقف الجميع بوجه أفراد الحرس القومي المسلحين برشاشات بورسعيد. حراس أنيط بهم مهمة نقل السجناء إن بقي منهم أحياء في شاحنات تحملهم لسجن نقرة السلمان في الصحراء.. عدسة الكاميرا توجهت لأكثر المتحمسين لإطعام وإرواء الجائعين والعطشى من السجناء فانصبت بحالة الزوم على وجوه عديدة من شباب المدينة تُطعمهم وترويهم، تُسمِعُهم كلمات تثمين وحماسة وإكبار وشد على يد وطمأنة أنهم بين أهلهم وناسهم وأنَّ الرجال للمواقف، وأنَّ سجانيهم سيُسحَقون جرّاء أفعال شنيعة يرتكبونها بحق المخلصين والوطنيين الأفذاذ.. انتقلت حركة الكاميرا فمرت عدستها على تعبيرات وجوه تنم عن شكر وعرفان، تبعث امتنان لن ينسى.. عدسة الكاميرا تركزت على شفتي ضابط كبير يتفوه بنفَس متقطع : " خطُّتهم أن نموت قبل الوصول للسماوة، لكنَّ السائق الشريف استشعر حقدَهم فزاد من سرعة القطار.. تحسس واجبه الإنساني في لجم التجني.. رفض الانصياع لآمريه فأوصَلنا قبل أن نموت."
تلك الحادثة أطلق عليها اسم " حادثة قطار الموت ".. التاريخ استحسن التسمية. أمر ناصر الجبلاوي أن يدون كلمتي " قطار الموت " عنواناً للثلث الثاني من الفيلم.
ما جرى من أحداث متواصلة داخل مدينة السماوة أكمله الجزء الثالث من الفيلم.
الجزء الثالث دارت فيه الكاميرا هائجة مائجة لم تستقر يوماً.
ناصر الجبلاوي يدخل السوق المسقوف ملاحِقاً عناصر الحرس القومي بالبدلات الكاكية ورشاشات بور سعيد.. يدور في الشوارع : شارع مصيوي، شارع باتا، شارع الرشيد، شارع الجسر.. يلج الأزقة أو العكود : عكد الجامع، عكد الدَّخل، عكد العراية، عكد السبوسة، عكد اليهود، عكد المعمل، عكد الداحرة، عكد النجارين.. يصوّر؛ يدخل العكود الضيقة جداً ومنها المغلقة النهايات ليلاً مُسجِّلاً حالات انتزاع الشباب من بيوتهم. يقتحم مراكز الاعتقال فيثبت كاميرته على معتقلين مُعلَّقين من أياديهم بمراوح سقفية بينما أرجلهم تتدلى في الهواء وقد سالت دماء من أنوفهم وأفواههم وجفّت على الذقون أو سالت على الرقاب وصبغت الملابس.. ينتقل لغرفة اعتقال مجاورة. يسحب بالعين النافذة مشهد نساء شبه عاريات، تمزقت ملابسهن بوحشية، منفوشات الشعر وملوثات الوجوه جراء دموع وصبغة كحلة كانت متشبثة برموش تطبق على حلم جميل فانتزع الحلم وأُبدل بكابوس تلو كابوس فسالت مع سيول البكاء الآتي من لوعة التعذيب وثقل الاهانة... يصيبه الجزع ويعصر أمعاءه الألم فالمشاهد قاسية، وفظيعة، ومروّعة.. مرة كاد أن ينتفض على التاريخ ويعلن رفض تصوير الكثير من الأحداث بسبب مأساويتها.. التاريخ وبحكم سعة صدره كان يبتسم بوجه مصوره العتيد، ثم يهمس في أذنه كمعلم ينصح تلميذاً : من سِمات المصور الذي إذا أراد أنْ يُقال عنه ناجحاً ونابهاً وحاذقاً الصبرُ الطويل وتحمّل المشقّة؛ المغامرة والاندفاع إلى أتون بركان الحدث؛ اقتناص الفرصة المُثلى والتقاط المشهد النادر.. يسحب نَفَساً عميقاً يرثي حال الإنسانية المُبتلاة بشرائح المجرمين العتاة المشحونة قلوبهم بالبغض والكراهية، ثم يعود يحدّق في وجه تلميذِه قبل أنْ يهمس من جديد : اذهب إلى أحد رفوف مكتبتي واطَّلِع على مراسلين وإعلاميين نذروا أنفسهم لتصوير فظاعة الإنسان وسعيه لتدمير أخيه الإنسان في معاركٍ ضروس.. خُذ نموذجَ الحربين العالميتين الأولى والثانية ستخرج بحصيلة انك تتولّى مهمّة إنسانية في أعلى مراتب المسؤولية.
تنتهي آخر مشاهد الفيلم بطفلٍ رثِّ الثياب ينحني ليلتقط حجراً من أرض متربة، يرشق به جداراً احتوى ملصقات مُمزقة لأحزاب هاجت وماجت طوال عَقدين بشعارات لها تأثير الدغدغة فلم تبنِّ ولم تعمِّر إنما تركت للكاميرا المتحفِّزة تصوير جبالَ الألمِ، والجزعِ، والخراب.
(3)
الولع بالصورة
لكل صاحبِ أستوديو معرضٌ مزجَّج يضم مجموعة حيوات مجسّدة بصور أشخاص أو أمكنة داخل إطارات، ووراء زجاج شفّاف حدست ذائقة المصور، هذا أو ذاك، الفنية ورؤيته للجمال أنها أجمل ما صوَّر بغض النظر عن أهمية الأشخاص اجتماعياً.. وناصر الجبلاوي بحكم ولعه بالتصوير اعتاد الناس على مشاهدته حاملاً كاميرته أنىّ سار وفي أي مكان دخل.. نما ذلك الولع أول الأمر بالكاميرا الفوتوغراف.. حدث ذلك في أول زيارة له إلى بغداد في أوائل الخمسينات. ثم تعدّى الولع ورغبة الحرفة إلى اقتناء كاميرة الصورة المتحركة بفيلم من 8 مليمتر عندما بنيت سينما عبد الآله في المدينة وسماح مالكها عبد الستار الإمامي له بالدخول لغرفة تشغيل عرض الفيلم السينمائي والتعرّف من العامل المُشغِّل على أبجديات الإعداد والعرض.
كانت زيارته معنا مرةً وقد حملتنا عربة حمّى المراهقة للمجيء إلى العاصمة، مأخوذين بما كنّا نسمعه من أهل وأقارب بهرتهم البهرجة وأمتعتهم وسائل الترفيه. قضينا ثلاثة أيام في بغداد ندور في الشوارع ونتأمل واجهات المحلات على جانبي الطريق. ندخل شارع الرشيد من ابتداءاته في ساحة الميدان حتى ننتهي لمدخل شارع أبي نؤاس. هناك نرى دجلة يرفل أمام أعين النضارة والكازينوهات فارهة؛ قاعاتها تستقبل زبائنها بالكراسي ذات المقاعد المسفوفة والمناضد الخشبية بالسطوح الفورميكا؛ ودرجات سلَّم إسمنتية يأخذها مَن فضَّل الجلوس عند الضفة ليسمع لبطةَ السمك في العتمة ويستقبل نسمات طرية ينده عليها النهر. كان ناصر الجبلاوي يتخلّف عنّا. يتخلّف مسحوباً ومسحوراً من واجهات استوديوهات الفوتوغراف.. يتيه على غيمة جذل ووله راحلاً مع الوجوه المحدقة في عين العدسة أو المتأملة نقاطاً يحددها المصور بنفسه حين تكون اللقطة داخل الأستوديو أو يرتئيها صاحب الصورة حين ينتصب واقفاً جنب ما يحبذه أو يرغب في إظهار ما ورائه كخلفية تصنع منظراً يحسبه مُبهراً ومؤثّراً.. يرحل مع الأمكنة، حيث الساحات والأبنية بطوابق متعددة لمخازن تجارية وواجهات تميّز طابع البناية؛ وحيث المعارض : معارض الألبسة الجاهزة، معارض الأحذية، آلات زراعة، مكائن خياطة، مكتبات، محلات قرطاسية، أسواق اورزدي باك، حسّو أخوان، فتّاح باشا، البلداوي لبيع الأربطة، ألياس حسّو، مكاتب الخطوط الجوية، وكالات سفريات، مكاتب شركات ومؤسسات حكومية وأهلية، محل خياطة أحمد حسن، محل خياطة " دروزة وسرحان " الذي افتتح من قبل فلسطينييَن قدما لبغداد بعد نكبة 1948، العبّخانة وأزقتها الأمعائية المتداخلة.. معرض باتا للأحذية، محل أحذية ريفان، معرض أحذية ريفوس، محلات جقمقجي، المدرسة الجعفرية، معرض حافظ القاضي المتخصص باستيراد وبيع السيارات الأمريكية الحديثة.. المطاعم : مطعم تاجران، كبة السراي، مطعم عبوسي أبو الباجلّا، مطعم عمو ياس في المربعة، تبسي باذنجان، قوزي على تمن، تشريب الطماطة، باميا مطبوخة بلحم الدوش، باجة وكوارع؛ المقهى البرازيلية، دار عبد الرحمن النقيب. حتى إذا انتبه لنفسه حثَّ الخطى مُسرعاً غير مبالٍ لبهرجة المعارض وبضاعة تنصب شباك التذوق لاصطياد ذائقة المارّة لحاقاً بنا.
تلك الزيارة أحدثت انعطافاً في حياته وجعلته يدخل عالماً ساحراً تشكَّلت آجراته في الخيال فاستحال زمن ما بعد الزيارة كتاب حياة يستحق عرضه على القراء ومتابعي ذكريات وتجارب الآخرين. زمن غدا واقعاً يعيش تفاصيله؛ نقله من فضاء الحلم إلى بستان الواقع. الصور الفوتوغرافية خلف زجاج معرض " المصور الأهلي " سلبت عقله، وسحرته الصورة المحفوفة بإطارات خشبية محفورة ومطعَّمة بلون ذهبي لامع أو فضي مبهر. معظم الصور كانت لملوك المملكة العراقية وأمرائها.. في قلب المعرض صورة مؤسس المملكة عبد الله بن الحسين بعقاله المُقصَّب وعباءته الصوفية السوداء الشفافة، جعله المصور ينحرف جانبياً ليظهره ينظر إلى نقطة غير مرئية. نقطة بمثابة شيفرة لمستقبل يريده زاهراً للعراقيين طوال فترة حكمه. على يمين الصورة شاهد ولده الملك غازي ببدلة كاكية ورأس مكشوف. على زاوية الصورة العليا من اليسار شريط أسود وأسفل الصورة كلمات بحبر جيني داكن خط بيد هاشم الخطاط " الملك غازي، أرواحنا له الفداء. وتحتها صورة للسيارة التي اصطدمت بجذع شجرة عندما كان يقودها في طريقه لقصر الرحاب.. على يسار الملك عبد الله كانت صورة الملك فيصل الثاني بعمر عشرة أعوام. حين حدق ناصر الجبلاوي في الصورة خيل إليه أن الملك الصغير يبتسم له، ويهمس : متى تلتقط لي صورةً، يا ناصر ؟!... يطأطئ ناصر الجبلاوي رأسه خجلاً ويرفعه فيبصر عيني ملاّ عبود الكرخي بعقاله المقصَّب الثخين وكوفيته البيضاء المُتغذية حواشيها بخيوط حرير صفراء تعجّان بما يشبه مجيء بيت شعر أو مقطع قصيدة يتأهب لإلقائها على مسمعه مثلما يواجَه بابتسامة سليمة باشا، كأنها اكتشفت خجله. تخيَّلها تتحرك لتخرج من إطار الصورة مرددة : ( هذا مو إنصاف منك ) عندما فوجىء برجلٍ ظهر من داخل الأستوديو عرفه في ما بعد أن اسمه عبد الرحمن محمد عارف : تفضل ! يسأله بوجه شيخ عجوزٍ سَمحٍ وعينين تمسحان مظهره بالبنطلون الرمادي والقميص الأبيض والحذاء الأسود المترب. لاشك أنَّه أدرك أنَّ الشاب المبهور ليس بغدادياً.. سؤاله أجاب عليه ناصر الجبلاوي بكلمة " شكراَ " خجولةً، وهرع يلحق بنا.
(4)
ناصر الجبلاوي يغيب
في معرض شوقه للتصوير، واندفاعه اندفاع عاشق لمحبوبة لم تشبع عينه من امتصاصها هام ناصر الجبلاوي بالصور. صار ما أنْ يجلس معنا حتى يرحل. وحين نسحبه إلينا لا يتوانى عن التصريح في أنه كان يجلس في مقهى البيروتي يستمع لملا عبود الكرخي ويتخيل انه يمسك كاميرا فيصور حركاته ونكاته وأشعاره الباعثة على التفكّه.. يصوّر ناصر حكيم وراء منضدة يتسلَّم أجور الشاي والقهوة والنرجيلة وينده على عماله ليخدموا الجلاس الداخلين توّاً.
هيامُه بالصور قاده إلى استرجاع وجوه الشخصيات التاريخية من ملوك وأمراء وعامة؛ قاده لتخيّل الأمكنة : المدن بهياكلها ودروبها، القرى بأكواخها وزروعها ومواشيها، الأنهر وزوارقها وضفافها، البساتين وخثرة ظلال أشجارها ودفق سواقيها، قصور الملوك بالغرف والليوانات والدهاليز والمخابىء السرية.. قاده لرغبة تصوير الأزمنة الجاهلية والإسلامية والأموية والعباسية والعثمانية، تخيل أزمنة اليونان والرومان، الصينيين والهنود.. صار في وقت لاحق من زياراتنا إلى العاصمة والمدن الأخرى لا يكرّس وقوفه أمام الألواح الزجاجية للاستوديوهات ويطالع ما وراءها فقط إنما يتوجّه إلى المكتبات، وبالذات تتفقَّد عيناه كتب التاريخ لاسيما المشفوعة منها بصور وتخطيطات. ولم نعد نفاجأ بكثرة ما صرنا نلمحه يتأبط كتاباً يقول عنه أثار إعجابه.. الصورة والتاريخ استحالا صنوان لدهشته وعشقه.
وفي يوم افتقدناه..
جاء اليوم الثاني والثالث. وحين توجهنا نطرق باب بيته في اليوم الرابع خرج لنا بشخصه. أعلمنا انه استأجر دكاناً من أملاك الإماميين في الكورنيش : " سأبدأ العمل فيه غداً. سأمتهن مهنة التصوير. وسأصبح مصوراً فوتوغرافياً "... وحين واجه دهشة تفشيها عيوننا قال : غيابي عنكم ثلاثة أيام هو ما يترجم عملي كمصور.. أتتذكرون المصوّر الأهلي في مدخل شارع الرشيد من جهة الميدان.. قلنا : " نعم. كنا نتركك تتابع الصور ونواصل سيرنا.. ماذا به ؟ ".. " تخيلوا.. عبد الرحمن محمد مصور العائلة المالكة وأعيان العراق بنفسه يعلّمني التصوير.. وهو بنفسه منحني شهادة إتقانه وإظهار الصور."
في اليوم التالي كان ناصر الجبلاوي يتفق مع هلال النجار لصنع جامخانه؛ سنشاهدها بعد حين تعرض صوراً جلبها من المصور الأهلي. يقطع الدكان من الداخل إلى قسمين : الأول للمراجعة فيما الثاني غرفة غسل الأفلام وإظهارها. يدخلها عبر باب خشبي وخلفه ستارة سوداء ثخينة تفرض عتمة كاملة على موجودات الغرفة.. في الغرفة يتم التعامل كيماوياً عبر تجهيز محلول يتشكل من الكاربونات والسولفايت والهيدركتون والميستول. تبدأ المرحلة الأولى بتحميض الفيلم، الصورة السالبة )نكتف( وتنشيفه. يشرع بطبع الفيلم بوضع الورقة عليه، ثم على زجاجة ويضيء مصباح خلف الزجاجة لثانيةٍ واحدة لا أكثر. يليها بوضع الورقة في المحلول فتظهر الصورة. أخيراً يعمل على تثبيتها بمحلول التثبيت، ويتركها لتنشف. كانت دهشة ناصر الجبلاوي عظيمة حين جرّب بنفسه خطوات استخراج الصورة ووجدها صورةً كاملة تشبه ما جلبه معه من بغداد. ولما كانت كلُّ معاملةٍ تُدار مع الحكومة وتتطلَّب صورة فقد تماهى ولع ناصر في التصوير مع مهنةٍ لا تتطلب الجهد إنما الحذق والموهبة.
منذ ذلك اليوم تبدلت الكثير من صفات ناصر الجبلاوي. التبدل الأول كان في ملبسه؛ فقد اتَّبع نصيحة أستاذه بضرورة أن يظهر المصور نموذجاً للوسامة والأناقة وحسن الهندام كي يصبح محط جذب يستقطب الزبائن تماماً مثل الحلاق الناجح الذي يدرك أنَّ اعتناءَه بمظهره عامل مهم من عوامل استدراج الزبون لصالونه. وهذا ما فعله. يقف في باب دكانه بوجه حليق مصفوف الشعر ولامع بدهان إفرنجي وقد ارتدى البنطلون الذي مرت عليه المكواة ساخنة جداً فأظهرت الخط النازل من الحزام حتى الثنية التي تمس الحذاء اللامع دائماَ بينما القميص في أعلى درجات الترافة.. التبدّل الثاني هو الجولات المصحوبة بالتأمل المستمرة في الأسواق والشوارع والحارات ودخول الأزقة. وهي نصيحة هدفها تهذيب الذوق وإطلاق الموهبة من قمقمِها لاقتناص اللقطة النادرة والموحية التي لا تتوفر متى شاء وأين أراد، لهذا دأب على حمل الكاميرا حتى وإنْ نوى الذهاب لمكان قريب. التبدل الثالث سفره المتواصل إلى العاصمة ولقاءاته مع أستاذه. لقاءات أنتجت اكتساب مهارة جديدة تمثلت باستخدام الكاميرا ذات الفيلم المتحرك، ووضع نموذج لها في المعرض الزجاجي يراها كل مَن مرَّ مِن أمام الأستوديو أو توقَّف يطالع معرض الصور.
ولقد كان اختيار ناصر الجبلاوي لدكان على الكورنيش موفَّقاً.. النهر يثير الدواخل.. كل يوم يبصر عشرات الزوارق تجوبه. زوارق صغيرة مُصمَّمة لصيد يسير يستخدمها صيادون يعتمدون رزقاً يومياً على ما يجود به النهر، فيعرضونه جوار الجسر الخشبي. يشتريه المارّة طرياً طازجاً.. يبصر زوارق شراعية كبيرة تأتي من مدن متفرقة لترسو عند شريعة حمّادي أو شريعة حنّوصة.. زوارق تنقل بضائع من ميناء البصرة باتجاه بغداد وبالعكس؛ يجد سكان المدن والأرياف فيها وسائطَ نقلٍ تخفّف عليهم أعباء السفر البري المرهق وإنْ كان استغراق الرحلة ضعف زمن الواسطة البرية. وثمّة زوارق طويلة يعتليها مجموعة صيادين يستخدمون شباك الطيّاري يربط بها كرب النخيل التي تطفو فلا تدع الشباك تهبط إلى القاع؛ تغادر المدينة ليومين أو يزيد حيث الشباك تُنشر وسط النهر في أماكن يحددها الصيادون وعادة ما يختارون بقعاً مائية نائية، وقد يتركون النهر منعطفين إلى أهوار " آلغانم" حيث الصيد الوفير.
تهادي الزوارق أو انطلاقها يخلق أجواء محببة لدى ناصر الجبلاوي. لهذا آن يبصر مشهداً يستحق التصوير يهرع للكاميرا؛ يسحبها من الدُرج ويعدو لأخذ لقطة قد لا يجد لها مثيلاً إلا في المصادفات. يرفعها، يسندها على وجهه ويحدّق بمربع العدسة، يسحب المشهد ليكون في المدار الزجاجي الدائري ثم يضغط بسبابته نابض تثبيت الصورة على مربع الفيلم الكامن داخل صندوقها المعدني؛ فتتشكَّلل صورة.
(5)
مناسبة وتاريخ
لناصر الجبلاوي ذاكرة قوية. لا ينسى ظروف وحيثيات صورة التقطها. وحين تسأله عن أيٍّ منها يروح يسرد بشيء من الوصف مقروناً بحركة اليدين والأصابع. ملامح الوجه تتغّير مع نبرة الكلام الذي يستحيل حكاية.. لكل صورة من صور المعرض المزجَّج مناسبة وتاريخ. وفي داخل دكانه صورٌ أخرى لها أيضاً مناسبات وتواريخ وإنْ تفاوتت أهميتها مقارنة بصور المعرض. تلك الصور موزعة على جدارين ونصف جدار. النصف الثاني من الجدار تأخذه البابُ المفضية لغرفة تحميض الأفلام وإظهار الصور.
ناصر حكيم.. الصورة والصوت
بخلفية صورة شملت الجسر الخشبي الوحيد في السماوة والفرات بأيام هيجانه حيث الفصل ربيع وما خلف الجسر والفرات بيوتات تتقدم على شريط بساتين لنخيل كثيف يقف ناصر حكيم بعقال ثخين ويشماغ بالأبيض والأسود. اليشماغ يحيط وجهَ شابٍّ ثلاثيني، ملامحه ترسم ابتسامة يخال لمن يطالعه يحسبه يرحب به فيما الصاية الرصاصية الفاتحة اللون مُقدِّمة لوناً محبباً في أوائل الخمسينيات كموديل تباهى به الشباب. بين لحظة وأخرى يعدّل ناصر حكيم عباءته الحنيّة اللون النازلة من كتفيه هبوطاً إلى الأرض حتى الحذاء الجلدي الجديد الذي اشتراه حال خروجه من بيت صديق دعاه لزيارة المدينة ووقوفه أمام معرض أحذية باتا يأخذ رأيه، غير آبه لجموع صبية شرعوا يحتشدون بعدما تناقل أحدهم خبر سماع وجوده من أبيه الذي طرق عليه جاره يعلمه أنَّ مَن يهيم بغنائه هو الآن في السماوة، يمكن مشاهدته صورةً وصوتاً.
حالما خرج ناصر حكيم بروح مرح أضفى عليه ارتداء الحذاء الجديد حالة من البهجة وجعل يضحك ويقول لمُضيّفه : هذا أول غيث السماوة.
قاده مضيّفه عبر السوق المسقوف متبوعين بجوق الصبية. بعض الصبية يعدو إلى عمق السوق ويتوقفون لحين اقتراب ناصر حكيم ليطالعوا ويتملوا تقاسيم وجهه وإيقاع خطاه، وكلّ منهم يبتسم له تعبيراً عن إعجاب وولع بصوته.
كثير مِّمن شاهدوه يترجَّل في السوق استقبلوا تحيته. دعوه لاستضافته بفناجين قهوة أو أستكانات شاي أو قناني مشروبات غازية، وهو في كل مرة يعلن شكره ويشيد بترحابهم الحميم.
حين خرج ومضيّفه من فم السوق المسقف وجد نفسه في شارع الكورنيش أمام الجسر الخشبي. أبصر الفرات يحيّه وشمس الربيع تحتفي به. ووجد شاباً يتوجّه إليه وقد حملَ كاميرا.. هتف المضيّف :
- هيّا يا ناصر. التقط لنا صورة. ضيفُنا عزيز علينا.
- عرفته من بعيد.. وقلت هيّا يا كاميرتي الذكيّة التقطي صورة لمطربنا الجميل
ضحك ناصر حكيم. اعتبره إطراءً كبيراً، فتهافتت كلمات الشكر على مسمع ناصر الجبلاوي.
التقط ثلاث أو أربع لقطات واحدة منفردة له وثلاث مع الصديق. صمم على جعل الصورة المنفردة واحدة ممن تعرضها جامخانته الزجاجية.
واصل ناصر حكيم ومضيفه السير في شارع الكورنيش. شاهد السماويات يحملن المساخن والقدور متبوعات ببناتهن الصغيرات يرفعن على رؤوسهن صرر ملابس تحتاج الغسل بماء الفرات. دهش ناصر حكيم لجمال المتهاديات صوب النهر. أباح لمضيفه بما مارَ في أعماقه. سمع مَن كان يلاحق الاثنين في جولتهما فيض البوح.. الذي سمع كان شاعراً شعبياً يأمل أن يرفد المطرب بشعر يحيله الصوت الريفي بآلة نغم عذبة إلى أغنية.. التفت لصحبه. حوَّلَ كلمات ناصر حكيم شعراً، قال اسمعوا :
ناصر حكيم يكول حلوة السماوه
وشكثر بيها خشوف للشط تهاوه
تابع ناصر حكيم هدير الفرات في أعلى درجات جنونه، ماؤه حامل لون الغرين والطين الذائب من كتوف ضفتيه وقت مروره بمدن عانه وراوه والرمادي وكربلاء والحلة والشامية والديوانية.. النوارس الزائرة تطلق أصوات في حبور لما تلمحه طافياً تدفعه المياه الجارفة. الأصوات لفتت انتباه ناصر حكيم. صار يتابعها متخاطفة بأجنحة رمادية. يرهف سمعه لذبذبات أصواتها؛ صعودها وهبوطها، رقّتها وحدّتها. ولم ينتبه لازدياد أعداد المعجبين المتنادين بوجوده في السماوة إلا عندما أدار رأسه شمالاً ليطالع بنات السماوة يدلين برؤوسهن من شرفات السطوح أو يطالعنه من شبابيك الشناشيل. هاله رؤية أعداد الصبية والشباب مسحورين بتهاديه في شوارعهم. راحوا يسألونه إن كان سيغني في صالة السينما أم في حديقة نادي الموظفين ؟..كان يضحك ويقول : لا ! حضوري للسماوة لزيارة صديقي عطيّة حذّاف.. أنا وإيّاه كنّا أصدقاء في الفاو. أبحرنا في السفن الى الكويت وعملنا على ظهورها أشهر، ثم عدنا للعراق. هو فتح مقهى وأنا رجعت للناصرية أشارك بالغناء في الأفراح. بعدها تقدمت شركة محطة الشرق الأوسط اللبنانية فتعاقدت معي لتسجيل الاسطوانات. ولأنَّ وجودي شبه دائم في بغداد أغراني بفتح مقهى في العلاوي. هي الآن محط حضور عشاق الغناء والتجول في بستان الفن الجميل.
في المساء كان مقهى عطية حذّاف يعج بالرواد. وكان ناصر حكيم على كرسي مرتفع بوسائد وتكيات صوفية تريح جلسته يطلق ابوذياته ومواويله مشفوعة بأغنية " نخل السماوة " أولاً، ثم " رد يابو زويني " ثانياً، ثم " بالراض امش " ثالثاً. ورؤوس الروّاد تطوّح على ايقاع الهيام بينما رؤوس آخرين لعبت فيها الخمرة فدفعت بهم الى النهوض، يتمايلون ويرقصون.
وهناك... في نادي الموظفين وعلى هدي صفو الليل وهدوء المدينة المخترق من صوت صفير القطار السريع القادم من بغداد أو الآتي من البصرة كانت حنجرة ناصر حكيم تطلق نغماً يصل الرواد المتحلقين حول الموائد الدائرية المغطاة بالشراشف البيض. يترنم بعضهم مع موجة الغناء القادمة فيروح ينقر بأصابعه على حافة المنضدة نقرات خفيفة؛ ثم يقترح على الجلاس معه أن ينهضوا فيعبروا الجسر ويأخذوا شارع الكورنيش ثم ينعطفوا لشارع مصيوي؛ وهناك سيرفعون الصوت ويلوحون بالأيدي تحية لمطربهم الذي سيستمر بوصلة الغناء بناء على رجاءاتهم في نهل السعادة وتغذية الروح بفاكهة الطرب. سيسعد عطية أن صديقه لم يخذله بوصلة غناء قصيرة بل لأجل أهل السماوة الطيبين سيظل حتى الصباح كما همس بأذنه، ويهنأ الصديق لخيلاء عطيه وهو يحصد امتنان أبناء المدينة في ليلة لن ينسوها : سمر، وانتشاء،, بهجة، وتحليق، وهيام، وشعر، وغناء؛ إنصات باستعذاب وترديد بتذوق؛ تجاوز على هموم وتخطّي فقر؛ محاورة نجوم ومناغاة قمر.. ليلة سيظلون ينسجون أجمل ديباجات السرور من خيوط سعادتها، وسيتبارون للجلوس في مقهى جلس فيها ناصر حكيم وغنى، وسيأتي أبناء المدينة بكل صديق أو قريب يأتي لزيارتهم فيأخذون بيده ليجلسوه في مكان اتخذه ناصر حكيم مجلساً، وينطلقون بسردٍ تتخلله حركةُ الأيادي والأصابع، وتغيير تقاسيم الوجه بين الإعجاب والاندهاش والتباهي يتحدثون عن زيارة تاريخية. لم لا وهي مناسبة قد لا تتكرر عن وجود لم يحسبوا له ولم يتوقعوه فجَّر مواهب الغناء لدى شباب المدينة فصار جلاس المقاهي المحاذية للنهر يترنمون على أصوات كانت خجلة وخائفة. تتناهى لمسامعهم ليلاً آتية من الشريط الرملي في صوب القشلة حيث العتمة تسود والقرائح تنفتح فيندلق الغناء عذباً وشجيّاً يحاكي غناء ناصر حكيم ويتمثل به.
في اليوم الثاني كانت صورة ناصر حكيم تلصق في إطار جميل وتزجج ويضعها ناصر الجبلاوي في واجهة معرضه.. التفاتة ذكية تعلَّمها من أستاذه المصور الأهلي وهو يعرض أية صورة جديدة يلتقطها للملك وللعائلة المالكة فيهب من أحبَّهم وأخلص لهم لاقتنائها. لذلك ما أن شاهد محبو ناصر حكيم ومن تعلَّق به تلك الليلة حتى تهافتوا على الأستوديو يشترون نسخاً منها علقوها على جدران بيوتهم او محلاتهم؛ وكلُّ يقصّ كيف قابله، وكيف تحدث معه، وكيف لبّى دعوته عندما طلب منه أن يغني موالاً أو ترجّاه إعادة مقطع أغنية في تلك الليلة الخرافية الساحر.
حبيب
الصورة التي تجاور ناصر حكيم كانت لحبيب. العينان الكبيرتان الواسعتان تملأن وجهه أسفل جبهة عريضة احتل شعره الأسود الكثيف النصف الأعلى منها، وبدت تسريحة الشعر كتسريحة هتلر في صوره الكثيرة. نعم بتسريحته تلك كان يشبه القائد النازي. زاد من الشبه به قص الشارب وجعله كشاربه.. لا ندري لماذا استمر بهذه التقليعة رغم أن الكثير من شباب المدينة الذين أُعجِبوا يوماً ما بهتلر وقلدوه في تسريحة شعره وشكل شاربه تخلوا عنها بعدما هُزم وانتحر وعُدَّ مجرم حرب، وصار الذي يجاهر بحبه وتقليده شخصاً منبوذاً ومثار ريبة.
كنّا مجموعة أصدقاء : كاظم قصير وبدين يعمل موظفاً في مصفى المدينة؛ محمد علي شاب معتدل الطول ونحيف، ضعيف البصر يضع على عينيه نظارات ثخينة الزجاج يُطلَق عليه لقب ( أبو زهرة ) مع انه أعزب ويكره الزواج؛ كاتب عرائض مارس هذه المهنة اضطراراً بعدما أُطلق سراحه من سجن قضى فيه سنة كاملة بتهمة انتمائه الى حزب محظور ومباهاته به اثناء عمله ككاتب العدل فسحبت يده ولم يُرجَع الى الوظيفة. يحب القراءة ويقتني الكتب. يجاهر بما يقرأ بشيء من الفخر والتباهي؛ عدنان معلم طويل ونحيل ويطلق عليه تلامذته لقب ( المسلول )؛ عبد الباقي موظف في دائرة النفوس، وسيم وله وجه متورد؛ حبيب صاحب دكان عطارة وأعشاب يرى فيها الناس رابطة تربطهم بحياة ماضية توارثوا طقوسها عن الآباء فحقَّ عليهم التواصل معها.
نهاراً، نروح نتسكع في شارع الرشيد وسوق السراي وشارع المتنبي ) شارع المتنبي يدفعنا إليه ابو زهرة كونه مولع بالقراءة. يلاحق شعراء الجاهلية ويردد متلذذاً بأشعار أبي نؤاس من الحقبة العباسية كلما دخل نطاق الثمالة ورفع الكأس تحيةً ).
مساءً نصرف وقتاً نلعب الطاولي في واحدة من كازينوهات شارع ابي نواس على ضفاف دجلة ثم ننهض لندخل باراً. نحن نكرع ما نرغب من بيرة ذهبية أو عرق أبيض مستحلب تاركين ناصر الجبلاوي يشاهد معارض المصورين الفوتوغرافيين، متخيلاً لقطة يمكن للكاميرا أن تلتقطها هنا، ولقطة هناك؛ ونعطي لحبيب الحرية في ما يبغي.. كان حبيب مولع بمشاهدة الأفلام؛ يناشدنا حين نلح عليه بتناول كأس من عسل إثارة الخيال وعمل فيلم من المخيلة، يقول :" أمشي معكم أينما تذهبون، فقط لا تضغطوا عليّ بمسألة الشرب، والنسوان ما أقربها.".. احتراماً لرأيه وتوافقا مع مشاعره ورجاءاته نتركه لحاله ورغبته.
ننهض، مخلّفين البار ومولين وجوهنا شطر ملهى الامباسي أو علاء الدين، محمّلين بالشوق لما نرى ونسمع.. هناك نرسم لوحة المتعة بالغرق في بحر الموسيقى الصاخبة المصاحبة لانثناءات وانحناءات وتمايل أجساد الراقصات.. راقصات عراقيات وأخريات من مصر وسوريا ولبنان، فلبينيات وتايلنديات. أنوثة نرى أنفسنا نحن الذين نعيش في واقع اكتشفناه مع مرور الأيام وترعرع الوعي داخلنا يعوم في الزيف ويستلقي على شاطئ المراءات وسط فضاء يخلو من العلاقات الصادقة والتعامل النقي وصلات البراءة. وحين يقف معنا الحظ نستمتع بوصلة رقص فرقة بريطانية أو ايطالية هي لوحة تعري تدريجي؛ تتمثل لنا حياة البدء يوم رمى الله آدم إلى جنة الأرض ودفع له بعد ذلك بحواء؛ وكانا عاريين إلا من شغفهم لما شاهدوا، وبهجتهم بما نالوا، ودهشتهم ليسر ما حصلوا... يرفع عدنان قدح البيرة الذهبية ويهتف على موجة الجذل : إلى الجحيم ايتها السياسة، وفي النار أيها السياسيون. يقول ذلك مكايداً محمد علي الذي فقد وظيفته من أجلها؛ صارخاً في غمرة الثمل : أيّةُ سياسة في مجتمعات بدوية يا معتوه ؟!.. يبتسم محمد علي أولاً. ثم بتأثير الخمرة يحتدم متهيئاً للرد عليه والوثوب على ما يقول. غير أننا نغير مجرى الحديث. وينقذنا حبيب من المحنة حين يطل علينا قادماً من سينما دخلها وفيلم شاهده.
كان ولع حبيب بالسينما ومتابعة الأفلام شديداً.. يتركنا بعد تجوالنا في شارع الرشيد ليقطع تذكرة دخول سينما الزوراء في المربعة أو يواصل مصاحبتنا لينعطف يساراً نحو سينما غرناطة تاركنا نواصل السير باتجاه شارع أبو نؤاس حيث البار الذي تعودنا ارتياده.. يرغب في قص ما رأى علينا؛ بيد أن لا أحد يستمع اليه؛ ذلك أن اللقاء مع صبيحة كسرى ونزهة وراجحة عبد السيد في الملهى يلغي الرغبة ويتركنا نعد سيناريو لقائهن القادم.
عند العودة يقتحم غرفة ناصر الجبلاوي ويروح يقصّ عليه أحداث الفيلم، يومىء بيديه، وتتغير تقاسيم وجهه، يحتقن، ويسترخي. ينفعل ويهدأ.. وناصر يردد : نعم.. نعم.. المسكين يحسب ناصر الجبلاوي معه بينما الواقع يؤكد رحيل ناصر بعالمه الصوري مرةً وبالمتحرك مرّات.
حبيب يتزوج
حدثان غيّرا نظام اللقاء والسفر والمتعة المرتجاة وشذّا عن مسار مجموعتنا. الأول ملازمة ناصر الجبلاوي لمحله والثاني زواج حبيب.
ففي واحدة من سفراتنا لكربلاء نزلنا في نُزل تديره أم شاهناز، امرأة أعجمية من إيران، حفيدة أحد جنود نادر شاه الذي قدم من بلاد فارس واستوطن بعضهم قريباً من المراقد الشيعية في كربلاء والنجف والكاظمية، تؤجِّر غرفاً للمسافرين والقادمين لزيارة الحسين والعباس.. للمرأة ابنةٌ جميلة بعمر الرابعة عشر. كنا نلمحها تتحرك داخل البيت تساعد أمها في ادارة شؤون النُّزل وتنادي عليها الأم بلهجة إيرانية " شاهناز.. بيا " أي تعالي كلما احتاجت لمساعدتها.
تكرَّرت زياراتنا لكربلاء بعدما أقمنا علاقات صداقة مع كربلائيين وآخرين من مدن متفاوتة يأتون لزيارة العتبات المقدسة. وكنّا في كل مرة نقضي أيام سفرتنا في نُزل أم شاهناز.
مرّت الأيام، سافرنا خلالها للبصرة. والبصرة بجمالها الجنوبي وميسها المحبب نالت منا أكثر من زيارة؛ ثم أخذَنا حب الفضول إلى الأهواز في الجانب الإيراني. اكتشفنا عالماً جديداً : تجوال وشرب وجنس وعودة بلا منغصات ولا مطبّات؛ فقط حمّى الشباب تندلع في دمائنا فنتفاداها بوسائل الترفيه. كانت سفراتنا تلك تفتقد الى حبيب. يقدِّم أعذاراً نرى فيها الواقعية وتفرض علينا التقبّل. ليس لحبيب أخ، وهو الأخ الوحيد لثلاث أخوات وأم ترملت منذ كان هو أكبر أولادها بعمر عشرة أعوام. واصل دراسته بمساعدتها، وكانت تجد كخياطة أزر صوفية اعتمدت على خيالها ومهارتها في إنتاج يُقبِل عليه الناس.. يأتون لها بالصوف فتغسله بإتقان ثم تغزله خيوطاً كروية، تشرع المهارة والموهبة بصناعة تبهر الناظر ما اكسبها سمعة ميزتها عن باقي صانعات الأزر... ولأنها رأت الحال لا يدوم والأولاد يشبّون وجدت أنَّ على حبيب ممارسة عمل مع مواصلة الدراسة. وقررت ما أنْ ينجح في الاثنين، الدراسة والعمل حتى تتخلى عن مهنتها المرهقة.. لذا في واحدة من حالات التحاور مع الذات وحساب ما ادخرته من مال قررت استئجار محل اقترحت عليه ان يكون عطارة. قالت له بشيء من الحماس وكثير من الدعم : كُن رجلاً وانطلق.
الفتى استحال رجلاً كما تمنته، لكن على حساب تعلم صار يتلكأ.. نال الشهادة المتوسطة وقد غدا شاباً تجمعه وإيّانا رفقة حميمية تغذي الروح بشهد الشباب، وفضول اكتشاف ما وراء المدينة كعالم لم نخرج عن مداره من قبل.
في يوم وجّه حبيب دعوة لنا لحضور زفافه.. لم تكن المفاجأة في زواجه إنَّما في الفتاة التي اقترن بها... تلكم كانت شاهناز... تبيّنَ أنه أحبها بصمت دون أن يطلعنا. وببوح خجول وصادق طرح رغبته على الأم باقترانه بابنتها. قبلت الأم فتحرك لإكمال الترتيبات.. وتحركنا نحن نرجو ناصر الجبلاوي رفع صورته الهتلرية من المعرض وإخفائها، أو على الأقل عرضها داخل الأستوديو.. وعدَنا ناصر بتلبية الطلب حالما يراه يرزق بولد. وعندها سيقدمها له هديةً لمَقدَم الابن البكر.
(6)
المركز الحكومي
قبل أنْ يؤرّخَ عبد العزيز القصّاب الذي استلم مهامه كقائمقام لقضاء السماوة في آذار العام 1909 ويكتب مذكراته لم تنتبه المدينة إلى أنَّ لها تاريخاً ينبغي تدوينه ليكون كتاباً يعود إليه أبناؤها ومن له صله بها، يقلّبون صفحاته ليطلعوا أو يتساجلوا مع ما فيه من أحداث وشخوص ومناسبات، ومع ما يعرض من سلوك وتصرف واجه بهما الناس ما يتجسد أمامهم سواء من المحسوب أو الذي من عِداد الغيب. تهافتَ زمنٌ وزمن، وجرت أحداثٌ وأحداث كان أهلها غائبين عن الانخراط في تدوينها على ورق. أحداث مشفوعة بالدوافع والمسببات والنتائج والعظة والحكمة، يلزمُ حفظُها في أماكن تضمن لها الإدامة والخلود، لا في صناديق الذاكرة الآيلة للتهشم وضياع المحتويات. لم يتخذوا من أجدادهم النائين عنهم حقباً والنائمين في أجداث لا تبعد عنهم سوى مسافة كيلومترات معدودة أسوةً. أجداد حسبوا لأهمية وجودهم وفعالية أفكارهم فقرروا التدوين رسماً أولاً، ورموزاً كتابية تالياً. أرّخوا على الطين والحجر، وأنتجوا الرُّقم والمسلاّت فكانوا بحق أجيالاً حيَّة تولَّت المسؤولية فأحسنت وأجادت.. يحدوهم اعتقاد بأحفاد لهم سيمسكون يوماً صولجان التواصل لإدراك حقائق كثيرة مبهمة لديهم آنذاك، لكنَّ الأحفاد دخلوا تحت مظلة دين جاء ليُحرِّر فحُرِّف من قبل سلاطين وأمراء آثروا العيش بذخاً على حساب أخوتهم في الدين.
الأخوة في الدين أكلوا منهم أعمارهم والتهموا أجيالهم وضاعت أربعمائة من الأعوام كانوا يُنظَر إليهم مثل موتى. الأخوة في الدين حملوهم في سفينة نشروا فيها حشرة الأرضة، وأطلقوا فيها يد موالين طامعين جشعين وإيماءة تغاضي تقول خذوا منهم ما تشاءون، فالسفينة تواصل إبحارها ولو على خواء. كانت سفينة ضياع، وكان بحر موات.. ويوم رفع الركّاب المساقون إجباراً وعسفاً والمتهالكون مرضاً وجوعاً رؤوسهم وواجهوا مَن قال أنه جاء محرراً عَبر البحار ينقل لهم بشارة الخلاص انقسموا بين متطلِّع لقدوم يزيل عنهم حجر الذل ويفتح أبواب النور ويطلقهم للفضاء الرحب، ومنكفئ ارتضى ثقل الحجر واعتاد عليه وصار عنده من عِداد نظام حياة لا خير في تغييره. بل تشبَّث به وعدّه من المسلمات والحِكم انطلاقاً من قول حكيم : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.". و " أطيعوا ولي الأمر. "، فصارت الحكومة مجموعة قرارات تُرسّخ نظام ذل الناس، وصار العاملون الفاسدون المرتشون الفاسقون فيها أدوات لتطبيقه.. نظام وجدت السماوة نفسها، كوحدةٍ إدارية من وحدات النظام في مجراه، فتاةً يُمتص دمُها عنوة وتضرب بسياط الغل لحظةَ ترفع الصوت تأوهاً أو تطلق الصرخة احتجاجاً.
جاءها عبد العزيز القصاب في أوائل القرن العشرين مفعماً بروح التغيير، مصمِّماً على جعلها نموذجاً لنظام جديد يهدُّ جبال الضيم الجاثمة على صدرها ويبدد حشود الآهات فاصطدم بحواجز شُيّدت في نفوسها، وليس من اليسر حمل معوله وتهديمها. وإذا كان عزاؤه الاعتماد على من يقف الى جانبه يشدُّ من أزره ويدعمه فأولئك كانوا قليلي العدد؛ قليلين جداً، بينما يحتاجهم صوتاً هادراً وكاسحاً يشق عباب الظلام.
سحب ناصر الجبلاوي كاميرته من جارور المنضدة. ففي نفسه اليوم التقاط صورة للمركز الحكومي. ابتغاها لقطةً يأنس لها التاريخ ويربت على ظهره استحساناً. أرادها صورة تؤرخ للمدينة هيكلها الحكومي وتظهرها مركزاً سلطوياً يُدار بانتظامٍ لا فوضى. فالأمم لم تنهض الا على هدي نظام يسيّر حياتها ويضعها على سكة البناء العلمي الرصين.. كانت واجهة المركز المطلة على النهر تشهد حركة مراجعين دؤوبة. أفندية يدخلون عبر باب الزّان المتين والعريض، مخلفين شرطياً يقف عندها بملابس خضراء داكنة، يتنكب بندقية، وينتصب بلا ملل، بل باهتمام استعداداً لمجيء القائمقام من بيته في صوب القشلة قاطعاً الجسر الخشبي سيراً على القدمين، لذا كان الشرطي ببدلة مهندمة وإن بدت قديمة اقرب إلى البلى وقد صبغ ولمَّعَ حذاءه الأسود وشدّ الشريط الكتّاني الكاكي على ساقيه بإحكام ولم تبَن غير ركبتيه تعلوهما حافات بنطلونه القصير.
طالبات المدارس يمرقن باتجاه مدارسهن.. طالبات ابتدائية يحملن حقائب تتدلى من أيديهن أو من أكتافهن، شرائط بيض حريرية معقودة على شعورهن المنسابة اللامعة في ضوء بدايات الصباح، قمصان ثلجية اللون ناصعة، تنّورات زرقاء بكسرات مرت عليهن حرارة أجهزة المكواة، أحذية جلدية سوداء أو حمراء بعضها مشبَّكة تلم أقدامهن الرقيقة الناعمة.. طالبات المدرسة المتوسطة الوحيدة للبنات بعباءاتهن السود يخطرن صوب المدرسة وينظرن من بعيد لمعرض أستوديو ناصر الجبلاوي؛ يوددن لو توقفن يطالعنها صورة فصورة، لكنها الخشية من كلام الناس لاسيما حين يُعرفن، فيصل إلى آبائهن، فينلن اللوم أو التقريع او حتى التهديد بالحرمان من الدراسة.
مدير دائرة البريد والبرق والهاتف يمر من أمام ناصر الجبلاوي برفقة أمين صندوق القائمقامية. يندهان على مدير المستوصف الملحق بمبنى المركز الحكومي. مدير المستوصف لم يسمع نداءهما فينعطف يميناً ليدخل المستوصف فيما يواصلان السير. مدير البريد يلج فم السوق ليرتقي السلَّمتين اللتين تدخلانه إلى دائرته حيث الموظفون يتَّخذون أماكنهم فيلقي التحية ويتجه لمكتبه بينما يواصل أمين الصندوق طريقه نحو غرفته في المركز الحكومي.. في مدخل السوق عربات بأحصنة وحمير وعربنجية تمسك اللجام. العربات مُحمَّلة بالرقّي والبطيخ، أو بصناديق الباميا و الطماطة والشِّجر، كوشرات فيها حتى الحافة رطب معسّل مقطوف توّاً من نخل السماوة : رطب استعمران، رطب شكَّر، رطب بريم وحلوة حجّي عبّاس وخستاوي وبيض الحمام وأشرسي وجوزي ودِكله وأنواع لا حصر لها، أكياس خيش تحوي خيار أخضر وعطروزي وباذنجان. قرع حنّي اللون بأحجام كبيرة يأخذ مكاناً من العربات يظنه الكثير من الأطفال بطّيخاً فيعجبون لحجمه فيهتفون باندهاش : يااااااااااااااااااه !. قاسم زين العابدين المحامي يتذمر من وقوف عربات نقل الخراف والأبقار المذبوحة لحظة تتوقف عادة أمام مكتبه لنقلها إلى سوق القصابين عبر درب ضيق لا تسلكه العربات. قاسم المحامي يتخيّل بناية المسلخ في بساتين الشرقي عند طرف المدينة وذبح الخراف والأبقار وأحيانا الجواميس والجِمال، يسمع أصوات الرعب من أفواه المخلوقات المدركة لقدوم الموت من سكاكين تقطر دماً بأيدي الذبّاحين، يشم رائحة دماء متخثرة ونفايات أمعاء وجلود متراكمة مُملَّحة. يشم وخمة تبعث على التقزز والقيء؛ لهذا يشرع نافذة مكتبه من الطابق الثاني ويطل برأسه صارخاً بالعربنجية والحمّالين الإسراع في نقل الجثث وترك المكان.. كل ذلك تسحبه كاميرة ناصر الجبلاوي. تسحبه بلقطة ثاقبة اقتضت منه اعتلاء ناصية جزء من برج الجسر الخشبي غير آبه لفضول مارّة أثارهم فعل الارتقاء... ولقد تميّز في تلك اللقطة علم المملكة الذي تجلى مرفرفاً بصارية طولها ثلاثة أمتار وقاعدة إسمنتية تعلو نصف متر فوق جدار المركز الحكومي.
في السابق كان عبد العزيز القصاب كلّما واجه مشكلةً وعجز عن حل إشكال عاد لمقدمة ابن خلدون. اختلى في مكتبه، وطلب من عنصر الجندرمة المنتصب في بابه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه.. يعتلي فرس القراءة ويضرب في براري المُقدِّمة. يقف عند باب ديوان ابن خلدون ينقر بظهر أصابعه أولاً ثم بعد لحظات يدخل بطربوش أحمر وبدلة سوداء وربطة عنق رصاصية يمسكها دبوس. يخطو بحذاء أكلته المسافة المقطوعة يوميّاً من مكتب القائمقامية في الصوب الكبير الى البيت في القشلة وقد علاه غبار الطريق. ينحني، ثم يتحرك ليُقبِّل ظاهر كفّه، يرحّب به الرجل الفيلسوف مبتسماً. ينهض من فوق تخت خشبي تمتد عليه وعلى مسند الظهر جلود صوفية ناصعة البياض.. ينهض ويصافحه. يمد له بكأس الطمأنينة تخفف من حشود غيظه واحتدامه، ثم يقول : عُب لتسترخي. لا قرار كيّس وصائب يُتَّخذ ساعة غضب. وأنا أراك غاضباً، ومتوتراً، وكظيما.. تتراخى عضلات وجه القائمقام وتهتز رموشه كتعبير عن امتنان لروح سمح يغدق عليه مطر الطمأنينة. يطرق برأسه نحو الأرض لحظةً ويرفعه : " كيف وأين أجد حلاً لمجتمع تتآكله الانقسامات، وتوهنه الأهواء، ويتهدده تيه غائر لا مخرج منه ؟.. امنحهم الثقة فلا يثقون بي، واعدهم بالهانئات من الأيام فلا يصدقون.. يمنحوني العهد ثم يتنكرون، ويقسمون إزائي فيحنثون ".. يرفع الرجل النصوح يده تعدّل عمامةً بيضاء زحفت للخلف، يضع طرف سبابته على أرنبة انفه. يتأمل قبل أن يقول : " اعلم، إذا تغلبت أمّة وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقته وزينته ويذهبون إلى إتباع مَن قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها وينزعن مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم.". كل ذلك يحصل على حساب من تحت ملكِهم، ولهم قدرةٌ عليه بالسيف والرمح.. ومن تحت ملكِهم سيحتملون عقداً أو أكثر من السنين ممّا يقع عليهم فكيف إذا هي أربعة قرون. عندها يلتجئون إلى التقيّة. ولأنك جئت لهم ممثلاً عن تلك الأمة المترفة رافعة السيف عليهم ومسددة الرمح إليهم فلن تستطيع قيادهم. يطرونكَ تزلفاً ويقتربون إليك طمعاً.. سينكفئون عليك آن لا تتبّع أهواءهم؛ وسيخذلونك وإن هم أظهروا تأييداً لآرائك ودعماً لمقترحاتك." نهض. أمسك قارورة الحبر. رفعها ووضعها بمواجهة ضوء المشكاة يتفحص نقاء محتواها، ثم استدار يرفع غطاء صندوقٍ صاجي مُطعَّم برؤوس دبابيس فضية محفور عليه بالخط الكوفي " نون والقلم وما يسطرون ". استخرج ريشة كتابة جديدة. أشار بها إلى القائمقام : سأبيّض بهذه مسوَّدة " الموشحات والأزجال للأندلس " التي جعلتها خاتمة لمقدمة ( كِتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.).
أطرق القائمقام برأسه وقلبه يعتصر ألماً. يجد في الكلام خيبة أمل في الإصلاح. يتوافق في ما قاله الرجل الفيلسوف. رفع الرأس كي يؤيده في قوله فوجد نفسه في غرفته وعينيه متصالبتين على الصفحة 131 من كتاب المقدمة.
يرى في قيادة الشؤون الإدارية وتسيير حياة الناس نحو الأفضل مهمة صعبة وعسيرة لكنها خدمة تجعل ذا الشأن مسؤولاً تكافئه السماء حين يجد ويجتهد ويخلص بتفانٍ ونكران ذات وتعيب عليه حين يطمع فتستثار شهوته، فيتجنى، فيجنح نحو ارتكاب الأخطاء، فيتصرف بروح استحواذ واستغلال منصب، فيخفق، فيصبح محط امتعاض التاريخ، فيلفظه، فيرمي به إلى هوّة الذكر اللعين؛ لذلك وضع في ذهنه كل كلمة فاه بها ابن خلدون.
وفي واحدة من إيقاعات أهمية الكلمات التي بمثابة نصيحة آثر ترك المدينة حين أعلن أهلها العصيان ووجد فيهم ما أنبأه الرجل الفيلسوف من جفاء ولَّدته لحظة كانوا ينتظرونها جمع أتباعه من الموظفين وعائلاتهم على زورق انطلق بهم صوب مدنهم البعيدة، ودوَّن في دفتر ذكريات يضعه في جيب سترته الداخلي ويصاحبه أنّى تحرك، وأنى شاء التدوين، ولو برؤوس أقلام ما سيسكبه في مؤلفه الوحيد ( من ذكرياتي ) فيظهر السماوة مدينةً تعيش على تل رملي متحرك ومترجرج لا استقرار له ولا ثبات، يتحرك طبقاً لنسبية الريح في هدوئها وجنونها.
كثيراً سعى عبد العزيز القصاب لجعل الجهاز الإداري يعمل على إيقاع خدمة الناس بصورة خالصة انطلاقاً من أنها واجب وظيفي وإنساني على السواء. كثيراً سعى لمعالجة الأدران والطفح من جسد العمل اليومي وجعله حيوياً، نشطاً، معافى. بيد أنَّ العلّة كبيرةٌ، والجهازَ متهالكٌ، ورِثَ خواءً استحال من الأمراض المزمنة. ظلت العلّة في جسده حتى عندما جاء النظام الملكي وبنيت الدولة العراقية الأولى بناء جهد الملوك على جعلها دولة يحترمها العالم فتأخذ لها مقعداً في عصبة الأمم، وبعدها الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ وحتى عندما جاء النظام الجمهوري، وسقط ليأتي نظام جمهوري آخر، وآخر تحرك على نفس الإيقاع.. استمرت المحسوبية والرشوة والمحاباة قائمة، وظلت الفجوة واسعة بمثابة هوة كبيرة بين حكومة بنظام مريض ومواطن بلسان مقطوع. فتعاقب على المدينة مسؤولون ليسوا من أهلها؛ يُعيَّنون بمراسيم مركزية فيأتون بروح بيروقراطية وتعالي تكرّسهُ لقطة تُظهر راعياً بيده عصا وخرافاً تُساق تحت اهتزاز العصا.. مسؤولون بسلطة حين يفسد رأسُها يشيع فيروسُ الفساد بسائرِ جسدِها.
(7)
جسر السماوة
عقب مرَّور الملك فيصل الثاني صحبة خاله الأمير عبد الإله في صيف العام 1952 على جسر السماوة الخشبي في زيارة تفقدية وفرشت أرض الجسر بالسجاد الكاشاني والأصفهاني جُمعت من برانيات أقطاب المدينة والجامع الكبير والحسينيات أتُّخِذ قرار أنْ يُشيَّد للمدينةِ جسراً حديثاً يليق بها كقضاء له أهميته الاقتصادية وحاجة رافقت تطور المملكة في طرق مواصلاتها. وإذا كان اعتماد السماوة على معمل الاسمنت كمرفق اقتصادي امتص قدراً من البطالة فإن مشروع الجسر الجديد لا يقل أهمية في تشييده، فقد تولت شركة ألمانية مهمة انجازه اعتماداً على معمار حاذق اسمه وليم آرو ترك الحرف الأول لاسمه واسم أبيه بارزين في قمة قوسي الجسر عند كل ضفة من ضفتي النهر ( W A ). ذلك التشكيل المبهر جاء على وتيرة متسارعة لعمل لا يتوقف.. ثلاث شفتات يومياً.. في النهار نور الشمس، وفي الليل بروجكترات تضيء مكان العمل.. مهندسون بنظرات ثاقبة وهمة عالية تجسد ذكاء مرموق.. عمال بسواعد مفتولة وجباه تنز عرقاً وصعود أو هبوط أو غوص إلى أعماق النهر يتطلب المغامرة. صوت الكرِنك يتوالى بدقات تُذكِّر الكادر الفني الانكليزي من مهندسين وفنيين بضربات نواقيس الكنائس.. النائمون على السطوح ليلاً من الأهالي تتنغم مسامعهم بالأصوات المتعالية التي تثير الهمم وتطرد أصابع الكسل حين يدنو لتطبق أجفان العاملين وتشبك رموشهم... الصبّات الكونكريتية الهائلة نهضت من قلب النهر على شكل دعامتين أساسيتين ترفعان الجسر وتسند هيكله المنحني حامل أطنان الحديد الفولاذ.. جسد الجسر يمتد قطعة فقطعة ولوح معدني فلوح. براغي لولبية بطول ساعد تخترق ثقوب الألواح بسعة عين جمل ثم تتعشّق مع صامولة بحجم اضمامة كف. تتكرر المحاولة مئات المرات فتتشكل هيئة جسر... ناصر الجبلاوي عمل ريبورتاجاً صورياً لمراحل البناء. مهندسون وفنيون وعمال مهرة وعمال نقل وتحضير عِدد. قبعات معدنية، وأخرى كتانية، وأخرى قبعات قش، وأخرى محلية مصنوعة يدوياً من خوص سعف النخيل.. بدلات عمل بقمصان وبنطلونات كاكية، بدلات زرقاء قطعة واحدة.. أحذية كتان بيضاء، أحذية نسيجية صفراء، أحذية شامو، أحذية مطاطية، جزمات، أحذية جلدية مشبكة.. كرفان الكادر الهندسي، سقائف استراحة العاملين.. سيارات لاندروفر للمهندس المقيم وكادره، سيارات حمل ثقيلة، حاويات، رافعات، أعمدة كهرباء، بروجكترات شديدة الضوء. لقطات متعددة. لقطة للقائمقام اقتنصتها عدسة الكاميرا لحظة كان يطالع من شباك نافذة مكتبه في مبنى المركز الحكومي. لقطة لصف أناس جلسوا على السياج الحديدي المطل على النهر يطالعون مجريات العمل بفضول مقرون بالدهشة. لقطة لغواصين ارتدوا بدلات الغوص وقفزوا من زورق حملهم لمسافة ثلث النهر، هناك رموا بأنفسهم الى اليم مُحمَّلين بعدة لحام ستشكل هيكل حديدي بامتداد عشرة أمتار. هيكل يرتقي إلى أعلى متجاوزاً مستوى ماء النهر. هذا الهيكل سينتظر خبّاطات الاسمنت والرمل والحصى تدفع الخليط بخرطوم إلى جوفه لتنتصب بعد أسبوع دعامة استحقت التصفيق لربع ساعة من قبل العاملين مع حركة فك لحام الحديد المهيكل لها. حركة حثيثة لم ينته ناصر الجبلاوي منها طوال نهار كامل، لكأنه كان عاملاً في الموقع.. في كل صباح يعرض في معرضه صورةً لآخر ما أُنجِز مع أن الناس تتابع وبحضور يومي تتم ساعات العصر حيث تتدفق الجموع المتشوقة بفضول خرافي من شارع باتا وشارع مصيوي وشارع محطة القطار، من فروع السوق وأفواه الأزقة، من بين حشود أكواخ الشوصة خلف سكّة الحديد ودروب حي الحيدرية جديد الإنشاء. فشاهد الناس الدعامتين الكونكريتيَّتين الضخمتين، وشاهدوا امتداد جسد النهر من الضفتين، والزوارق الضخمة وسط النهار ترفع ألواح الحديد كي تربط الجزأين القادمين من الضفتين. وتلك كانت أصعب المراحل.
وضع الخطى، والعبور على أسفلته كان من عِداد الحلم لدى الناس، وسط دهشة متفاقمة في النفوس تعظم جهد الشركة في الإعمار وتشيد بذكاء المهندسين المعماريين المنهمكين بلا كلل ولا ملل ولا انقطاع في تمشية مراحل البناء.. يوماً فيوماً صار الناس يشهدون هيكلاً حديدياً يعلو؛ حتى إذا قدم العام 1958 انتصب جسر هائل، بدا الجسر الخشبي الذي على مقربة منه كياناً فقيراً وهزيلاً ومتهلهلاً.. وفي اللحظة التي قَص خليل كنّه شريط الافتتاح ونُحِرت الذبائح كتقليد نذري متوارث، وعبرَ ومعه المسؤولون من ضفة لضفة وسُمح للناس باستخدامه تدفق صبية الأزقة مبهورين بسواد الإسفلت.. تمددوا عليه، وراحوا يتقلبون فرحين سعداء. عيون الكبار تتابع بانبهار الانجاز المهول والهيكل الحديدي الخرافي. صار محط تمتع. يؤتى إليه عصراً للانتقال من زمن رتيب ودروب بائسة لزمن حضاري يبدو فيه العمران على أحدث هندسة، وتتجلى الضخامة الحديدية بأبرع مما ينتجه الخيال.
(8)
فندق الصحراء
يوم هطل المطر على السماوة بغزارة ونزل صقيع بارد في شتاء أرعن أغرق السوق بمياه غير معهودة وتدثر أصحاب المحلات بما لديهم من ملابس صوفية اتقاءً، وأشعل الفقراء من الباعة والحمالين والعربنجية قطع كراتين يابسة وأخشاب صناديق طمامة مرمية في قُمامة عادةً ما تُجمع عند أفواه الشوارع الفرعية والأزقة، ذاك اليوم بدت الأبنية المنتصبة على جانبي السوق المكشوف للسماء أكثر تهالكاً من المعتاد. سقطت مُسقَّفات ومالت عوارض، تثلَّمت شرفات وتفطرت جدران. تسربت مياه المطر من عديد السقوف لدواخل الحوانيت. فأفسدت بضاعة؛ وبللت بضاعة. غرق الكثير من الحنطة والشعير المخزَّنة في محلات المجارش القريبة؛ بان خلل وعدم فاعلية سقوف البواري المعمولة سواتر عن المطر والشمس. حتى العمال الذين استعان بهم أصحاب المجارش في نقل الماء بالجرادل وسكبه على أرضية السوق بدوا عاجزين عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه. مستوى ارتفاع ماء المطر كان عالياً يقطع جانبي السوق. ومن سعى للانتقال من جانب لجانب عليه الخوض في غمار المياه وتحمّل برودتها القاسية. الرجال رفعوا دشاديشهم إلى أعلى وعبروا. النساء اللاتي خرجن من بيوتهن للتسوّق خضن في المياه وقد غطست عباءاتهن وأطراف ثيابهن مجبرات. بعض الميسورين مقابل عشرة فلوس استعانوا بأصحاب العربات الخشبية يدوية الدفع بنقلهم بالعربات، وبعض حملتهم كواهل الحمالين. مفردات تذمّر تطلق من أفواه هنا وهناك تعيب على البلدية إهمالها وعدم استعدادها لموسم الأمطار مثلما تعيب على الإدارة الحكومية في عدم مد شبكة مجاري أصولية تجنِّب الناس معاناةٍ تتكرر مع كل موجة مطر.
من نافذة إحدى غرف فندق الصحراء كان عبد الله العسّاف الذي يتولى إدارة الفندق يحث أربعة عمال نده عليهم كي يعينوه. تركوا النار تتوهج وهبوا لرزق ينتظرونه. المطر أسقط واجهة الفندق، والقطعة التي تشير اليه مالت جراء ارتخاء وسقوط مسمار الحلقة حاملة الطرف الأيمن. رخاوة المسمار الثاني الذي بقي يسندها كادت أن تسقطه، فتسقطها. انفعل عبد الله العساف لرؤية القطعة مائلة بهذا الشكل. حسبها كالراية في وطيس المعارك لابد من ارتفاعها.. لا يجب أن تسقط أو تنتكس. رأى في الوميض والرعد ثم المطر وهطوله طوال الليل معركة. لهذا أول شيء طلبه من العمال هو معالجة أمر القطعة وجعلها في مكانها المحدد.. روّاد الفندق على قلتهم قضوا الليل ضجرين. غرف متهالكة؛ سقف يتسرب الماء من خلاله، أسرّة خشبية تميد مع حركة النائم وتقلبه، فراش صلب لا يشعر المستلقي بطراوته بل كأنه يستلقي على لوح من خشب. وسائد كالحجر، بطانيات تغزوها الثقوب. الأُجرة خمسون فلساً. يستاء النزيل حين يسعى عبد الله العساف لرفعها بغية تغيير الافرشة وتحسينها. عبد الله العساف يحتفظ بإدارة يفضل اغلب النزلاء قضاء الوقت فيها. عارضة خشبية عالية عليها سجل النزلاء؛ وخلفه على الجدار لوحة بمسامير معلقة عليها مفاتيح الغرف الخمس وعلى جانبه رف يحوي مسجل غراندك كلما طابت نفسه ضغط زر التشغيل فانطلق سعدي الحلي " اخذني يالسريع وياك للبصرة ". تختان متقابلان بفراشين من الإسفنج الثخين. وعلى الأرض سجّادة كاشانية قديمة كان ابتاعها من سوق هرج بغداد. أربعة كراسٍ، ذات مساند، مبطنة بقطيفة مشجرة وبحشوة قطن ناعمة جلبها في زيارة له للبصرة التي يحبها؛ ففيها ذكريات يبكي إن استعادها... كثيراً ما تستحيل الإدارة غرفةً سادسة لنزلاء ليس لهم غيرها. وكثيراً أيضاً ما رجاه النزلاء الثابتون الرقاد فيها وترك النزلاء الطارئين في غرفهم. يصارحونه بشكوى:" خشب الأسرة أكل ظهورنا وصريرها يقض نومنا.".
من زاوية أرادها لقطة مؤثرة للمطر الغامر لأرضية السوق ثبّت ناصر الجبلاوي كاميرته وتحركت عتلات انفتاح العدسة وانغلاقها فإذا هي صورة تتسم بالوضوح كان فيها فندق الصحراء بارزاً بواجهته البسيطة وقطعته المسندة بإحكام وشرفته الخشبية في السطح تنتشر عليها البطانيات كي تضربها الشمس وتجففها. التقطت العدسة مشهداً عريضاً. الدكاكين على يمين الفندق تعاني من دخول المياه إليها. عمودا كهرباء مائلان وأسلاكهما متدلية تخيف المارة على الرصيف الضيق المحاذي للدكاكين. أحدهم انتبه لخطر تدلّي الأسلاك فعمل على رفعها بقطعة طويلة من الميط استعارها من صاحب المجرش تفادياً لحدث سيتسبب بموت من يمر بغفلة من الخطر. المياه وصلت إلى حلانات التمر المكدسة في دكان يجاور الفندق وقد تشربت بالماء فبانت أكبر حجماً ومترهلة.. على يسار الفندق لفت انتباه ناصر الجبلاوي عربات تقف عند الرصيف مشدودة الى أحصنة وقد أسدل مالكوها العربنجية القطع الجلدية على عيونها لئلا تهتاج من مشهد المياه في مكان كان بالأمس جافاً بينما ثلاثة عتاوي يلاحقون قطة شهباء تحاول الإفلات من تنافسهم المريب للفوز بها. لحظ ناصر الجبلاوي وسط الطريق المغمور بمياه المطر عربة، تتّجه صوبه، يجرها حمار هزيل يقوده فتى يلف رأسه بيشماغ وسخ كأنه لم يغسل من زمن، والحمار يخوض في المياه كما لو كان لا وجود لها. ارتاح ناصر بوجودها في وسط الطريق المغمور وإن بدت بعيدة؛ فتوقفت الصورة على هذا المشهد.
ولقد ضحك لها حين ظهرت كاملة أمامه. ضحك لأنها بدت كأنها التُقطت للفندق بذاته وليس لغدير الماء وغرق السوق. فقد ظهر عبد الله العساف يطل من شرفة الفندق يرفع يدا باتجاه الكاميرا كأنه يريد الصورة له وحده.
(9)
يوسف
اعتاد ناصر الجبلاوي على رؤية يوسف يمشي متماهلاً، متهادياً قادماً من صوب القشلة وعابراً الجسر الخشبي. كثيراً ما رآه يتوقف عند عارضة من عوارض الجسر هنا، وعارضة هناك. يتوقف ليتأمل الماء في جريانه، أو يصالب نظره على الدُّوَب الثلاث الطافية فوق الماء، على مسافات متباعدة ومتساوية، ماسكة الجسر ومثبتته بسلاسل حديدية لئلا يأخذه مدُّ الماء وتنفرط زوارقه الحاملة لألواح الخشب المتراصفة، العاملة درباً يسلكه العابرون، خصوصاً في الربيع عندما تذوب الثلوج من الجبال التركية وتندفع المياه هادرة، لا سدود توقفها ولا عوارض تحد من هيجانها.. يوسف يحمل كتاباً أو أكثر. قلّما يأتي فارغ اليدين. كُتبٌ ينقلها من يد ليد حين يطول مساره *. وإذ يرتقي الدرجات الموصلة لجادة النهر يكون بإمكان ناصر الجبلاوي مشاهدته عن قرب. مُترف ومهندم، يرتدي بدلة شَكَرية افرنجية مستوردة وربطة عنق قهوية من أربطة البلداوي الشهيرة. يلبس حذاء باتا بنّي لامع يحرص على الدوام الدخول للسوق المسقوف والجلوس أمام صبّاغ أحذية كي يرفل بعدها مثالاً للمثقف الذي يتكافأ فيه حسن المظهر وجمال الروح.
- انه الآن طالب جامعي يدرس علم الاجتماع، أحد فروع كلية الآداب لجامعة بغداد. علمٌ جديد فتح له آفاق معرفة وسعت من ميدان فضوله وجعلته كمغامر مهووس في هوى اكتشاف أسلوب حياة وعلائق الناس والمجتمعات والأمم. وصار كل من يفتقد يوسف يجده في " مكتبة المثنى " بشارع المتنبي؛ يخرج من غرفة ليدخل أخرى من غرفها الثلاث عشرة، قد يسأل قاسم محمد الرجب عن عنوان كتاب أو مجلد أو مخطوطة؛ وحين لا يجده يذهب لمكتبة التربية أو مكتبة النهضة أو مكتبة الشطري أو المكتبة الأهلية. ومن يخفق في إيجاده هناك لابد أن يراه في المكتبة الانكليزية ببناية " لنج " بشارع الرشيد، قريباً من سينما سنترال، يجلس مع صاحبها السيد مكنزي - أو مساعده كريم الذي لقب بكريم مكنزي غب وفات السيد وانتقال ملكيتها له كما وردت في الوصية بعد موته – داخلاً في حديث فيه استفهامات عن جديد الكتب وقديمها، الدوريات منها والإصدارات المنفردة. وفي خضم التواجد داخل المكتبة والسياحة المعرفية تنصرف الساعات فينسى نفسه.
يخطو بوقار خارج التكلّف. يتَّخذ الجانب القريب للنهر ولم يحصل أنْ مرَّ من أمام الأستوديو. " فلو جرى ومر كنت أوقفته " يتمتم ناصر الجبلاوي في سره " ولدعوته لالتقاط صورة، أكبِّرُها وأزجِّجها واضعها في واجهة المعرض، جوار صورة حبيب. اللقطة تكون هكذا : أرفع يده حاملة الكتاب وأجعلها على صدره كما لو انه يحتضنه، ثم أرفع وجهه المستدير وأدعوه للنظر للحافة السفلى لدعاية الكوكا كولا المتدلية من مظلة مقهى جاسم. عندها تصبح الصورة جاهزة بمجرد ضغط نابض انفتاح العدسة وانغلاقها. ".
ساعات الضحى، يمر يوسف كعادته كل يومين أو ثلاثة أيام حاملاً كتباً يقصد المكتبة الوطنية التي تقابل بناية الكازينو الحمراء. يعيد ما استعاره من كتب ويستدير ليدخل قاعة القراءة. الصمت سيد المكان. ممارسة طقس القراءة تقرب من طقوس اتصال العبد بخالقه... يتّخذ كرسياً مع عدد من المطالعين جاءوا يتمتعون بقراءة مجانية. يمرُّ على صحيفةِ الأهالي واتحاد الشعب و صوت الأحرار. يمد يده ليسحب مجلة المصور أو الشبكة من قارىء فرغ من قراءتها.
(10)
شرّاد هديب
ما الذي استرعى انتباه ناصر الجبلاوي فجعله يلتقط صورة لشرّاد هديب ويعرضها في الواجهة الأمامية جوار صور لأصحابِها ثقلٌ في المجتمع ؟! وكيف التقط له تلك الصورة التي تظهره بوجه ملفوف بيشماغ اسود وابيض وعقال ثخين يطوق رأسه الصغير الشبيه برأس شمبانزي وعينين ذئبيتين بحاجبين كثين ولحية وشاربين أسودين لا بياض فيهما رغم دخوله الأربعين ؟!.. أين اليدان اللتان عادة ما يظهرهما كل من يلبس العباءة الصوفية الشفّافة عندما يجلس على كرسي كملمح له ضرورته في الصورة بمكانهم الأجمل فوق الركبتين المثنيَّتَين ؟!
يضحك ناصر الجبلاوي.. يضحك حتى تدمع عيناه.. يقول هو مَن دخل عليَّ ظهيرة أحد الأيام وكنت موشكاً على غلق الستوديو والتوجه للبيت لتناول الغداء والظفر بسِنة نوم.. هو مَن قال : " ارتديت هذه الملابس لآخذ صورة تظل لأولادي فليس صحيحاً أن تحتوي الجنسية التي احملها صورة لأخي المتوفي، وغير مقبول أن التقط صورة عند مصوري الأرصفة بالكاميرا الصندوقية الخشبية جوار الدوائر حين يطلب مني ذلك فأرى الصورة لا تشبهني. أريدك يا ناصر أن تأخذ لي واحدة تمثلني بملامحي الحقيقية ويعتز بها أولادي ".... قلت لم لا ! أنا مصور للجميع.
أدخلتُه إلى الاستوديو.. أجلستُه على الكرسي. أضئتُ البروجكترات. رفعت رأسه ووضعت كفَّيه على ركبتيه، لكنه سحبهما. قلت ربما بدرت الحركة لا إرادية منه. فأعدتُ وضع الكفين على الركبتين، فسحبهما بشيء من النفور :" لا أريد لكفيَّ أن يظهرا في الصورة.".. دُهشت !.. لماذا ؟ الصورة تكون أجمل بهما؛ وحين لا تكونان يبدو صاحب الصورة وكأنه مبتور اليدين... بنفس النفور أجاب :" لا عليك.. الصورة لي وليست لك.".. جملته الأخيرة لجمتني. الصورة له فعلاً، فما بالي أنا ؟.
لحظة مررّتُ الورقة الصقيلة في السائل المظهر تجلت صورة شرّاد غريبة؛ كأنها ليست له. لا بملامحه الحقيقية الطبيعية ولا بجلسته التي ارتأيتها بنفسي. لذلك حين حضر في اليوم التالي وطالعها صرخ :" أعوذ بالله ! مَن هذا ؟ كأنه أبو الجنّيب. ".. ضحكة اقرب للقهقهة كادت تنفلت من فمي.. تمالكت نفسي وقلت محاولاً التقليل من وقع تأثيرها السيئ في نفسه : "هو أنت، ولكنك كما يبدو كنتَ متوتراً في جلستك مع أنّي طلبت أن تكون مسترخياً كما لو كنتَ تجلس في مقهى... " لا !.. لا !.. سيكرهني أولادي.. سيمزّقونها من أول نظرة.".. اقترحت عليه التقاط صورة خارج الأستوديو؛ في الهواء الطلق. إذ قد يكون للاستوديو تأثير سلبي عليه... اقتراحي قلَّل من التوتر؛ بل أراحه. قال نعم، في الشارع أفضل.
تركنا الأستوديو.. عبرنا الشارع. اقترحت عليه الوقوف عند السياج الحديدي الذي يفصل الرصيف عن دكّة النزول إلى النهر. وراءه كان الفرات عريضاً. وبعيداً كانت بيوت الاماميين وأشجار الكالبتوس ونادي الموظفين وبساتين الخزاعل.. استحسن الفكرة. انتصب وقد رفع، كما طلبتُ منه، يده اليمنى ليضعها على مكعب كونكريتي تستند عليها الأنابيب مانعة النزول إلى النهر؛ قليلاً وضغطت النابض. سمع صوت انفتاح وانغلاق بوابة العدسة لكنه استمر منتصباً. استمر حتى وأنا أبعد الكاميرا من عيني. قلت انتهت. تأتيني غداً.
في اليوم التالي كان فرِحاً لرؤية صورته بمنظر استحسنه وأسعده.. فعلاً كانت الصورة متميزة جمعت النهر وزوارق ثلاثة، لم ألحظها وقت التقاط الصورة، تجوب المياه وخط أفق جميل من دور الاماميين وصف نخيل الخزاعل وطيور نوارس كانت ترتفع وبعضها يهبط. لكن ما لفت انتباهي مشاهدة غربان سود عديدة، هناك في الصوب الثاني، تتراصف على امتداد سلك كهربائي بين عمودين، مع أني لم أبصر هذه الغربان في الواقع أصلاً.. هو لم ينتبه لذلك.. عدَّها صورةً جميلة. وجود الغربان بهذه الحالة الغريبة جعلني أكبِّر الصورة وأعرضها في المعرض الرئيسي.. فعلا؛ كثيرون ممن شاهدوها توجهوا لي بالسؤال عن وجود غربان سود فيها في حين أنَّ المدينة لا تعرف هذا الصنف من الغربان. واستفسروا في ما إذا كنتُ أضفتها بطريقة فنيّة. وضعتها في المعرض المزجج وكلمات أستاذي المصور الأهلي تراود مسمعي وتدعوني إلى النباهة والحذق والذكاء في اختيار اللقطات الفريدة والمُميَّزة. فمثل تلك الصور - كما يشير – تخترق باصرة المشاهد وتغوص فتلتصق بذاكرته؛ سيبقى ذلك المشاهد يتحدث عنها أينما جلس وفي أية مناسبة تمس موضوع يتعلق بالفن والغرابة والتميّز. حديث مثل هذا وغيره يدخل ضمن الدعاية الايجابية بلا أجور تدفعها لصحيفة أو مجلة، ولا مؤسسة دعائية تروّج لك مقابل مال.
الناس في المدينة ترتاب من شراد هديب. ترى فيه منبتَ شرٍّ، وذكرُه يخلق تشاؤماً عند مَن يسمع اسمه. ذكرُه يعني تمتمةَ الناس بكلام غير واضح، لكن مَن يطالع ملامحهم سيكتشف أنهم كانوا يتعوذون بالله. يغيب عن المدينة لأيام. والغياب قد يطول. أسابيع أو أشهر يُرى بعدها يخطر داخل السوق.. ويأتي من يحمل خبر توقيفه بتهمة سرقة أو قتل.. ولأن الأدلة لا تكفي لإدانته وتجريمه يطلق سراحه.
مرَّةً ولحظات الضحى تتهافت والسوق في نهار خريفي يشهد حركةَ تسوق حثيثة شراد هديب يتهادى بالعقال والصاية والعباءة والخف الجلدي. يخطر كأنه افتقد المدينة وحسب أنه لن يراها؛ فقد قضى شهرين كاملين في مركز شرطة الرميثة موقوف على تهمة قتل تاجر وُجِد مطعوناً في غرفة إدارة خان يدير فيه عملية تجارة تمور ينقل للبصرة ومن هناك تحمله البواخر لأوربا ليُعامل بطريقة فنية تنظيماً وتعبئة وعرضاً. كانت طعنات خنجر قاتلة في صدر الضحية وعنقه، وقاصة مفتوحة، خالية من أيَّما نقود مخزَّنة.. في حيثيات تداول الفعل وأداء الجريمة انصبَّت كلمات الشهود من المحلاّت المجاورة لخان القتيل على ملامح رجل، دخل الخان وخرج، قرّب للمحققين صورةّ ومظهرَ شراد هديب، لاسيما وأسمه في قائمة المشبوهين بارتكاب الجرائم.
السوق المسقف تشوبه خثرةِ ظلٍّ مرغوب من أيامٍ خريف مُحبَّب ومريح.. خريف يجيء بعد أشهر صيف لاهب وريحٍ سموم تلفح الوجوه فتحرق بشرتَها... مثل هذه الأيام يكون السوق مزدحماً يعجُّ بحركة المتسوقين المنتقلين من دكانٍ لآخر.. يتعكَّز رجل خمسيني يلبس ملابس افرنجية ويعتمر خوذة كاكية داكنة على عصا قهوية لامعة يحث الخطى ويجيب بكلمات شكر على صديق من داخل محل بيع أقمشة دعاه للجلوس فأعلمه بصوت جهوري انه يسرع كي يصل مقهى محمد سعد لئلا تفوته نشرة أخبار الساعة السادسة بتوقيت غرينج من إذاعة لندن.. حبيب بدكانه منهمك بوزن وتعبئة طلبات نساء توقفن عنده يبتعن أعشاباً.. درويش الدلال يحمل على كتفه فخذ لحم بقر كبير مخترقاً السوق، و صائحاً : " ذبح اليوم، عِجل عمره ستة أشهر عند عبد الزهيري..لا يفوتكم.. باجة وكبده وكسور.".. يقاطعه حامل لافتة خشبية لـ " فيلم اليوم " يحملها على كتفه ويصيح : " فيلم اليوم.. أحسن ما أنتجت السينما الهندية.. أم الهند؛ بطولة الممثلة المسلمة نرجس.. صراع من أجل الحياة.. ثلاث ساعات.. فيلم شاهده الزعيم عبد الكريم قاسم وأعجبه؛ أحزنته أحداثه.".. شراد هديب يسمع الاثنين؛ يسحب نفَساً من سيجارة الجمهوري.. يتوقَّف. يطالع دعاية الفيلم ويتابع حاملها حتى يقف عند عمود البريد المجاور لدائرة الاستهلاك، قبل الجسر. حامل الدعاية يسندها إلى العمود كي يطَّلع عليها المارة؛ على أمل العودة لها عصراً لإعادتها إلى إدارة السينما.. يتجاوز شراد صناديق كارتونية مرميّة دفع بها بائع أجهزة كهربائية، وأشرطة حريرية مع قطع خشبية رماها بائع أقمشة من أطوال القماش كبقايا لا نفع منها. شاهد جلّو، الرجل المولع بالمخلفات المرمية في المزابل يحملها. يلوذ بمكانٍ قَصي يفكِّك الصناديق الكارتونية، يجعل منها قطعاً يصففها واحدة فوق الاخرى. لا يدرك شراد لماذا؛ فقط عرف أن جلَّو بعدما كسّرَ القطع الخشبية حملها الى دكان خياط، قدَّمها له.. الخياط بتودد قال :" شكراً.. اقعد اشرب شاي ". ندَه على بائع شاي سفري مرَّ حاملاً صينيه وقوري واستكانات يلبي دعوات أصحاب الدكاكين.. يقول لصانعه في داخل الدكان : " خلّي القطع الخشبية بداخل الأوتي ".. شرّاد هديب يضحك في سرّه. لطالما شاهد جلّو عند ضفة النهر يبحث في مخلفات وأزبال السوق التي يرميها عمّال القمامة أو صنّاع المحلات إلى النهر.. كان ينده عليه من أعلى المحجَّر : " ها ولك شلقيت ؟.. شوكت تلقى الفانوس السحري ؟ شوكت يطلع لك مارد سليمان ؟".. يمتعض جلّو من كلامه. يعتبره من باب الفضول أو الاستهانة.. يمتعض، وينهره :" تروح لا أتفل عليك؛ معيدي ".. فيضحك شرّاد. يضحك ويستدير ليعبر الشارع لمكتب شتيوي الياور.. هناك يلقي التحية ويشرب معه الشاي من مقهى جبر المجاور.
قبل ثلاثة أيام مرَّ على الياور. شرب الشاي وأخبره انه التقط صورة عند ناصر الجبلاوي وناصر كبّرها ووضعها بجانب صورته.. يقول شتيوي مندهشاً : " إي شفتها ".. وبشيء من الدهشة يُكمل :" لكن كيف اجت صورتك وصورتي وحده بصف الأخرى ؟!".. بلا أدنى شك يرد شرّاد : " ما أدري؛ صدفة.. كل شي بالصدف.".
عندما اقترب من سوق النجارين الفرعي فضل الجلوس في المقهى.. طلب شاياً، وجعلَ ينتظر انصراف الوقت ليذهب الى الصوب الصغير؛ ومن هناك يصعد الباص الخشبي الى قريته خارج المدينة.
(11)
شتيوي الياور
بثوب عربي يشدّه من وسط البطن حزام جلدي أسود يتدلّى منه على الجانب الأيسر مسدس براوننك في غمد تبرز من نتوءاته رؤوس رصاصات مصفوفة في حاوياتها يقف شتيوي الياور. يحتذي نعالاً جلدياً تتوسطه سفيفة من شريطين دقيقين ومتداخلين، شريط أزرق وآخر أحمر.. القامة ناهضة والوجه مرتوٍ يبرز خدّاه منتفخين، كأنهما مضرَّجان بحمرة خوخ مشوب بالصفرة. انتفاخهما يجعلان العينين حسيريتين. في العين بريق يعكس سِهام شرر.. من يُطالع الصورة التي جعلها ناصر الجبلاوي على الضلع الجانبي لمعرضه سيذهب بأول نظره إلى العينين.. العينان هوية الانسان. العينان منفذ سبر الدواخل.
يوم وقفت سنيّة بشيء من تحدّي صديقاتها المسرعات لحضور حفلة زكريا عند بيت حسون الدفّاعي وانفصلت عنهن للحظة كي تطالع جامخانة الصور ( وهو فعل لا تجرؤ نساء المدينة على ارتكابه خشية النقد السلبي ممن يراهن من الرجال ) وقع نظرُها على صورة شتيوي فانتفضت كالملدوغة : " ياه، وجه سكران، عيونه مثل عيون جبّوري. " وتقصد زوجها.. وانكفأت. لقد استمرت ولسنين تلوم أهلها وترمي بتبعات سوء حياتها على أبيها الذي وافق على اقتران جبّوري بها حتى وهي الآن لديها ثلاثة أولاد وبنتين. ففي ليلة عرسها دخل عليها ورائحة الخمرة في فمه رغم محاولته إزالتها بحبّات هيل كان يمضغها على مرأى منها. كانت رائحة مقزِّزة لها، هي البنت التي لم تدرك الخمسة عشر من الأعوام. لم يكن الزوج الذي تتمنى ولا الفارس الذي تحلم. لذلك ما أن أبصرته حتى قفزت من جلستها على حافة سرير الزوجية واندفعت مخترقة فناء البيت الضيق بالبدلة البيضاء وغطاء الرأس الأبيض المُطعَّم بالخرز الثلجية والدانتيلا وحشد النسوة المنهمكات بالتصفيق والغناء، هاربة الى الزقاق نحو بيت أهلها وسط دهشة والدة العرّيس وأخته وحيرة أمِّها وأختِها التي تكبرها. الصبيات والصبية المتبعثرون في الزقاق على إيقاع بهرجة الزواج وزغردات النسوة تملأ الأرجاء فوجئوا بالعروس تهرول وتتعثر جراء علو كعب حذائها.. ساعة أو أكثر انصرفت أعيدت الى غرفتها بعد محاولات سادَتْها كلمات ترجّي أو عتاب أو تهديد... وبعودتها واقترابه منها شمّت الرائحة الغريبة. فكّرت : اذا كان في هذا اليوم المبارك يجيء سكراناً فكيف في الآتيات من الأيام.. تساؤلها كان فيه نباهة ومثار تعجّب؛ كان فيه توقّع واحتمال حصول. إذ ظلت رائحةُ العرق لا تفارق فمه.. في الصباح والظهيرة والمساء ربعيّة العرق تملأ جيبه.
يقف شتيوي في الصورة منتصباً.. الصورة جعلها ناصر الجبلاوي عمودية على اعتبار أنَّ شتيوي كان واقفاً بقامة تقرب من المترين. حين اتخذ وضع التصوير أدار ناصر الكاميرا ليجعل العدسة تلتقطه بشكل طولي متجاوزاً على جانبين يمثلان معالم الجسر الحديدي الجديد الذي يبدو عن بعدٍ شاهداً مهمّاً ومتميزاً.. قال بفمٍ يطلق رذاذاً : " أريد صورة أتباهى بها أمام الأصدقاء. لا تجعلني أبدو ضبعاً أريد أن يراني الآخرون أسداً." وضحك. جاءت الضحكة قهقهة. قال ناصر الجبلاوي اللاصق عينه بمربع حدود الصورة : " أوقف الضحكة واثبت، ستفسد الصورة.".
رغم أنه يجيء الى البيت متأخراً إلا أنه يستيقظ مبكراً. اعتاد صرف ساعات الليل في نادي الموظفين يكرع أقداح البيرة ويتخذ كرسياً الى جوار الكراسي المشغولة من قبل ندامى يتحلقون حول مائدة مستديرة يلعبون الكونكان ويرمون العملات الورقية فئة الخمسة دنانير لكل شوط فتشرع الأعصاب تتوتر وتحترق. يُنفَث دخان السجائر فيتعالى على شكل فورات للسقف. كان السقف أبيض لكنه الآن يميل إلى الصفرة؛ تشرَّب بصبغة النيكوتين وصارت المروحة السقفية وريشاتها صفراء تموّه لونها الرصاصي الحقيقي.. طوبيّة، ياس، بطرس نادلوا النادي يخشونه. يخافون غضبه. كثيراً ما بصق بوجوههم أو اندفع يهاجمهم شاهراً مطرقة خشبية يستخدمونها لتكسير قوالب الثلج الى كتل صغيرة تُقدَّم على المناضد مع قناني المشروبات والمزّة. هياجه بحماقة يجعلهم يتوارون عنه هاربين الى المطبخ وممراته، وقد يلجأون للبهو الخاص بالقائمقام ومدير البلدية ومدير المال وضابط مركز الشرطة المخصصة للمسامرة أو للشرب فيطلبون النجدة ممن يجدونه هناك.. لكّنه في اليوم التالي يأتيهم بسماحةٍ وبشاشة، يعتذر منهم، ويغدق عليهم حفنة دراهم ليسامحوه.
النهار يقضيه في محل يحمل لافتة " مكتب الثقة للمقولات ".. دكان استأجره من توفيق الإمامي يجاور معمل الثلج.. أثَّثه بمنضدة صاجيّة ونصف طقم أريكة مغلَّف بمخمل بني وأصفر. واجهة المحل جامخانة عريضة خطَّ في وسطِها ما خطَّ في اللافتة الرئيسية. بجوارها برواز وزجاجة كان، يوماً ما، يقف عبد الكريم قاسم وراءها وبقوام نصفي، ثم استبدلها بصورة عبد السلام عارف، ثم أخيراً صورة أخيه الرئيس عبد الرحمن عارف.. وفي الجدار المقابل قطعة مزججة بخط النسخ : " الخدمة غايتنا.. الإخلاص طريقنا ". إذا سُئلَ عنها وعن فحواها يجيب أنه شعار شاهده في مكتب " المقاولات العالمية " بإحدى زيارته لبغداد وجولاته في شارع الرشيد.
كثيراً ما شوهد شرّاد هديب يدخل على شتيوي الياور في مكتبه مع أنْ لا رابط قربى يربطهما ولا صلة عمل تقتضيه المصالح.. يقال أنَّ شتيوي مُعجَب بشجاعته، ويسعى لتقريبه كي يشار إليه على أنّه شجاع لا يقل شجاعة عن شرّاد صاحب الأعصاب الحديدية وقاتل اربع ضحايا بدمٍ بارد دون دالة عليه أو إثبات.
(12)
صندوق الاسرار
يحتفظ ناصر الجبلاوي بخزانة كانت لورق استحال صوراً يعدّها من الصور المهمة والمتميزة لديه. يتمنى لو عرضها لكنه يخشى رد فعل السلطة الملكية.. صور لجانب من تظاهرات كانت تندلع هنا وهناك في المدينة؛ في مناسبة كذا، وكذا.. صور فردية لأشخاص كانوا يحرِّضون المتظاهرين ويحثونهم على الصمود ومواصلة الاحتجاج ثم ينسلون ويتوارون. أولئك قادة التظاهرات ومُسيِّروها الشبحيين؛ مقلقو السلطة وعيونها الفاشلين في اكتشافهم.. صورة لعمال يرفعون لافتات مندِّدة بالقادة والوزراء. صورة ركَّز فيها عدسته على لافتة كتب عليها : يسقط الاستعمار.. يسقط.. يسقط. والشعار مستنسخ من فيلم مصري يحمل نفس الاسم، عُرض في صالة سينما عبد الآله في المدينة وانتفض جراؤه الشباب فانطلقوا بعد انتهائه بتظاهرة لا أحد يعرف من جاء باللافتة ومن خطّها. تلاه بعد شهر فيلم " بورسعيد.. مدينة باسلة " فيلم آخر حماسي انتهى بانتفاضة وتظاهرات ضربت المدينة وتواصلت لثلاثة أيام؛ اعتقل فيها العديد من المتظاهرين المتحمسين؛ أهينوا وضربوا وهددوا بالاعتداء الجنسي عليهم. عملت ضدهم محاضر تحقيق انتهت باتهامهم بتعكير أمن البلاد وتسببهم في ايقاف حركة أعمال الناس.
كان لناصر دورٌّ مهم في توثيق الأحداث.. أحداث أظهرت المدينة مَنبت تطيّر وعدم استقرار خلق في قادمات الأيام صداعاً لم يهدأ للحكومة المحلية وسبَّب إحراجاً لها؛ هي التي اعتادت إرسال الموقف إلى مركز لواء الديوانية باعتبار السماوة، القضاء التابع لها، طيِّع وهادىء ومُسيطَر عليه سياسياً وأمنياً.
ولتواصله مع أستاذه عبد الرحمن، المصور الأهلي وتعلقه بكل ما صوَّره وأنتجه واحتفظ به أرشيفاً تولدت في نفسه رغبة اقتناء نسخة مما كان يحتفظ به أستاذه. فحازَ منه غب زيارات متعاقبة وحنين دائم ووفاء لا ينقطع على صور لأشخاص وأمكنة ومناسبات كان منها صورة تتويج الملك فيصل الأول تجلس إلى جانبه المِس بيل التي قدمت مع المحتلين الانكليز وأشيع عنها أنها أحد الرموز المؤثرة في بناء المملكة العراقية. ولقد عرضها ناصر الجبلاوي في واجهة معرضه لسنين بعدما كبّرها أضعاف حجمها وزججّها وأطّرها بإطار مُميَّز ثم نقلها إلى داخل الأستوديو حين أيقن اشباع عيون الناس منها؛ وصار كلُّ مَن يقبل أو يلج الأستوديو يواجَه بها كصورة جميلة ومُبهرة.. حصل على صورة لأول برلمان في العام 1928؛ صورة لمظاهرات وثبة كانون اثر إعلان اتفاقية جبر- بيفن، أو ما أطلق عليها رسمياً " معاهدة بورتسموث " في كانون ثاني 1948 عام تقسيم فلسطين؛ صور مراسيم تشييع جعفر شقيق الشاعر الجواهري بعد استشهاده في تظاهرة اندلعت احتجاجاً على المعاهدة؛ صورة لشرطة مرور ينظمون السير مهندمين بستر بيضاء وبنطلونات وأحذية سوداء وقد اعتمروا خوذاً معدنية تقيهم حرارة الشمس ورذاذ المطر. صور متعددة لمراحل بناء المتحف الوطني في العلاوي؛ صورة لشارع الرشيد قريباً من جامع الحيدرخانه وقد بدت أرضية الشارع متربة وطينية تقطعها عربات تجرها الحمير والبيوت على الجانبين متهالكة لا أثر لملمح حضاري؛ صورة لفيضان بغداد في العام 1950، وتحديداً شارع الرشيد، ولم يكن الفيضان جرّاء جنون دجلة ومياهه الهادرة القادمة من الشمال إنما من أمطار هطلت واستمرت أربعة أيام جعلت الشارع ينغمر بالمياه فتُظهِر الصورة أكثر من بغدادي يعبر الشارع وقد غمره الماء لنصف قامته وبدت حافلات مصلحة نقل الركاب تسير في مد مائي خرافي والمياه تدخل من بابي الحافلة لجوفها وتغمر أقدام الركاب؛ صور لساحة حافظ القاضي، ونصب الجندي المجهول المتمثل بهيئة أمٍّ تنحني على ولدها القتيل، وجسر مود الذي تلبَّس اسم جسر الأحرار في ما بعد، وكلك في النهر يحمل رجالاً ينوون العبور الى الضفة الأخرى.. سينما رويال، سينما الزوراء، مكتب الخطوط الجوية العراقية في السنك، عربة حمل فورد تقطع ساحة الخلاّني وقد احتشد في حضنها جمع متفاوت الأعمار والأزياء الشعبية، تدلت سيقان بعضهم من الحافة الخلفية للعربة فيما الذين في الأعلى يرفعون صورة كبيرة مؤطرة ومزججة للزعيم قاسم، وإيادٍ تلوح باليشاميغ ابتهاجاً بعيد السنة الثانية من عمر ثورة تموز.. صور لأدباء : الزهاوي والرصافي والأب انستاس الكرملي وساطع الحصري وجعفر أبو التمن، وصور للفنانين محمد القبنجي ويوسف عمر وحضيري ابو عزيز ورشيد القندرجي وحقي الشبلي كروّاد في المقام والمسرح؛ ومغنيات لهنَّ صيتهن وبصماتهن الفنية في رفاهية وإسعاد الناس : جليلة العراقية وجميلة لاطي وبدرية هلال وبدرية أنور وجميلة عراط، والراقصة منيرة الهَوزوَرْ ثمَّ زكية جورج وصديقة الملاّية وسليمة مراد.
يعود لناصر الجبلاوي ذلك الموقف التاريخي الجميل والذي اعتبره المصور الأهلي شهادةً لا تضاهى يوم حمل معه صورة التقطها لجسر السماوة الحديدي الجديد وبدا فيها الجسر شفرة تواصل عملاقة بين ضفتين. تهلل وجه أستاذه وهو يطالعها. رفعها ونظر لها من زوايا متعددة فأشهر إعجابه مردداً : أنت أنا.. لستَ أنتَ من التقط صورة الجسر إنما أنا.. وأخشى القول انك بززتني !.. صرتَ عملاقاً، يا ناصر !.. مباشرة نهض من كرسيه؛ فتح باب المعرض الخشبية، سحب صورةً واستبدلها بصورة الجسر.. وحين وقف ناصر أمام المعرض ونظر من الرصيف لصورته هجمت عليه البهجة وتبارى في الروح الهناء. زاده أضعافاً وقوف المارّة وتفرسهم في الصورة الجديدة وسماع عبارات الثناء والإعجاب على ملتقطها الذي حسبوه المصور الاهلي.
منذ ذلك اليوم اهتمَّ ناصر الجبلاوي بكل ما يراه مميزاً يستحق الأرشفة. اهتمَّ بالباعة في دكاكينهم.. الباعة المتجولون في الحارات والأزقة. باعة الصمّون، باعة البقصم، بيض اللقلق، شعر البنات، االبقلاوة، الاسكيمو، العسلية، العالوجه. اهتم بالعربنجية والحمالين والمتشردين والمعدمين والمتسكعين الباحثين عمَّن يؤويهم أو يطعمهم لقمة خبز ويكسيهم ملبساً يقيهم قسوة الأيام وعسف الأعوام.. أهتم بالمهرة من أصحاب المهن. صوّر عزّوز وهو يلف اللحم المثروم على سيخ يعمل شيش كباب بمهارة وسرعة ويضعه على منقلة الفحم المتوهج. جاءت الصورة جميلة لأنَّها حوت دخان الشحم المتبخر من لحم الشيش. صوّر محمد ورواش يطعن الرقيّة المصلاوية بسكين لامع النصل ويرفع شيفاً أحمر يقطر سائلاً خضِلاً، هاتفاً بصوت جهوري يملأ فناء السوق المسقَّف : أحمر دم الركّي. صوَّر عباس بائع الحريرة والكاستر، الرجل الحزين أبداً، لابس السواد حتى مماته؛ ذلك أنّه زوَّجَ ابنته لغير ما تمنّت، فقضت عامين في حياة زوجية كان فيها الجسد يعل ويضعف حتى داهمها السلّ بسكاكينه الباشطة فصارت تبصق دماً عجزت دورة الأدوية المناهضة للمرض إلى إعادتها للحياة الطبيعية فماتت تئن. صوّر الشباب اليافعين بالبدلات الأجنبية المستوردة، السرج والسموكن، وموضات الشعر وموديلات القمصان بالياقات الطويلة والعريضة، والأربطة بنوعيها التقليدي النازل على الصدر والبطن أو الذي على شكل قرتيلة تأخذ شكلاً عرضياً مع الرقبة، ولبس الأحذية بأنواعها الجلدية ذات اللون الواحد الأسود أو الأبيض، أو تلك التي تصنع بلونين وتُصدر آن رفع القدم ونزوله على إسفلت الطريق صوتاً منغماً. كانت السينما الصيفية آنذاك تعرض فيلم " وسادة تتحدث PILLOW TALKS" وكان فيها " روك هدسن " شاباً وسيماً يعيش مغامرة عاطفية مع " دوريس داي "، يضع الربطة القرتيلة بدل الرباط الطويل ويلبس الحذاء ذا اللونين والصوت الصادر منه متهادياً فتتبارى عواطف الشباب.. يتأجج خيالهم فيروحون يسألون عبد باتا عن هكذا نوع من الأحذية. عبد باتا يخبرهم أنَّه أبصر هذا النوع من الأحذية في المعرض الرئيسي في شارع الرشيد لكنه لم يضعه بحسبان الاتيان به للسماوة وبيعه، ظناً منه أن الأذواق قد لا تتوافق وموديله الحديث جداً.
للحق نقول كان صندوق ناصر الجبلاوي بمثابة غرفة لحيوات محتشدة وأماكن ستأتيها أصابع الزمن لتمسح أو تغير معالم الكثير منها.
(13)
يوسف وعلم الاجتماع.. الصدفة
تعود ابتداءات ولع يوسف بعلم الاجتماع إلى حدث وارب بابه فشاعت من الداخل رائحة فاغمة أبهجت النفس وسلَّمته درباً عندما وضع أولَ خطوةٍ على أديمه توالت خطوات؛ أعقبتها خطوات.. خطوات بدأت بطيئة ثم تسارعت شيئاً فأشياءً حتى وجد نفسه يطير ويحلّق في فضاء معرفة نقلته على غيوم الدهش إلى حيوات أناس بكل ما فيها من نشاط وحركة، أفراح ومأتم، تطلعات وانكفاءات، نوازع فعل خير ودوافع صنع شر، قناعة وطمع، سلب واستحواذ، همود وجثوم... يمكن رسم ذلك الحدث على الشكل التالي :
في ضحى يوم من أيام آب كان الطريق الذي يقوده الى مكتب نقليات أبيه خالياً من المارة؛ فقط مرَّ صبي تكوَّمت فوق رأسه كوفية موحلة وملمومة، يمسك عصاً يهش بها خمسة خراف تمشي متقاربة مع معزى مشاكسة تتقافز هنا وهناك. تعدو قبل الخراف تقضم ورقة مقوى وتلوكها ثم تبلعها. وهناك ديك ينقر قشر بطيخ ودجاجات ينبشن أرضاً متربة ويلتقطن نملاً أصفر. انفرج باب بيت إبراهيم لازار المسيحي وبرز وجه ابنته شميران.. فتاة ببشرة بيضاء غضّة، تكبره بخمسة أعوام. تطلعت يميناً وشمالاً في الشارع ثم خاطبته :
- عيني يوسف، فارغ ؟
- نعم، عندِك شي ؟
ظهرت من فرجة الباب يدها تحمل كتاباً :
- عيني، هذا كتاب استعاريته من المكتبة العامة بالصوب الكبير، ممكن ترجعه إلهُم ؟
***
التهمت قدما يوسف أرض السوق مخلّفاً جامعاً شيّدَ حديثاً ومتجاوزاً كنيس اليهود.. كتاب " مُقدمة ابن خلدون " بيده؛ غير مصِّدق ما هو فيه. إنَّها المرة الأولى التي تنطق شاميران أسمه، وأول مرة تخاطبه بحميمية فتفوه بكلمة " عيني " شيفرة المحبة والاعتزاز.. شميران تنطق اسمه يعني تترنم بأغنية، لا أم كلثوم ولا سعاد محمد ولا نجاة الصغيرة ولا شادية ولا هدى سلطان ارتقين بإيصال الصوت الساحر ولا النغم المغموس بالكلمات الطائرة إلى خميلة الذائقة الخضراء الطرية. وليس ريتا هاورث ومارلين مونرو وصوفيا لورين وفاتن حمامة وهند رستم تسلقن إلى مصافي جمالها.. شميران قالت " عيني يوسف " يعني قالت وداعة عيسى المسيح، يعني تحلَّت بصفات الحواريين، يعني أنشدت للسماحة، للدفء، للهدوء.. عندما دفعت بالكتاب اليه صوَّرت عينياه مرآة رقبتها البيضاء وخطفته خصلة الشعر الذهبية المتدلية على جبهتها وحاجبها الأيمن. لمح في داخل البيت أمَّها تلف رأسها بفوطة زرقاء مُطعّمة بالورود.. امرأة ممتلئة تعجّ بالشحم الأبيض والوجه المتورّد. عيناها زرقاوان يقال انها من أحفاد بقايا الصليبيين الذين جاءوا من أوربا لمحاربة صلاح الدين الأيوبي ومنعه من تحرير القدس، ويوم انكسرت شوكتهم وهزموا تناثر جمعهم وتبعثروا ووجد بعض منهم أنْ لا رجعة الى وطنهم؛ أوجدوا لهم عملاً فتأقلموا، فتناسلوا، فتوارثوا.. ثوبُها مشجّر لا يشبه ما ترتديه أمّه وعموم أمّهات الحي إنّما يقرب مما تلبسه الشابات اليافعات مع أنّها في الخمسين. يعود صوتُ أمِّه حين يأتي الحديث عن عائلة لازار يسمُهم بالغرابة ويبعدهم عن عادات تنأى وعادات مجتمع السماوة : الناس لهم دينُهم وعاداتُهم ولنا دينُنا وعاداتنا.
غالباً ما تقدّم أم شميران اعتذاراً عندما تدعوها نسوة الحي لزيارتهن. زياراتها المحدودة كانت تقتصر على حضور الأفراح والمآتم.. نساء الحي يحببن في أم شميران لهجتها الموصلية التي ما استطاعت تغييرها رغم السنوات الطويلة التي عاشتها في السماوة.. أم شميران حين تنزعج من صياح الصغار أثناء لعبهم في الشارع وقت القيلولة وترى زوجها يتقلَّب في الفراش غير قادر على أخذ سِنة من الرِّقاد تدفع برأسها من الباب، تنادي عليهم :
- يا عجايه.. مو طغّشتونا.. عمكم الغجال أبو شميران ما يعغف ياخذله كسغة نوم من وغاكم.
فيصمت الصغار. ينسحبون مطأطيء الرؤوس، فيدخلون زقاقاً ينفجرون فيه ضحكاً على لهجتها. يحاولون اعادة كلامها لكنهم يفشلون.. توما ابن بطرس هو من يوضّح لهم فيترجم ما قالته : يا صغار.. مو طرَّشتونا، عمّكم الرجال ابو شميران ما يعرف يأخذ له كسرة نوم من وراكم.
مرةً شاركت أم شميران في مراسيم حفلة زفاف الجارة سميرة بنت حميد النجّار *. هي التي حنّت لها شعرها ونقشت ظاهر كفّيها بنقوش جميلة لم تألفها نساء المدينة على عكس نساء الحي اللائي اعتدن وضع كتلة من الحنّاء في باطن كفّ الفتاة والطلب منها القبض عليها ما يقرب من ساعة كي تعمل الصبغة فعلها في بشرة باطن الكف.. أم شميران جعلت الحنّاء خَضِلة وأضافت لها مسحوق الشودر، جلبته من بيتها، صبغة خاصة تعلَّمت استخدامها من أمِّها في قرية تلكيف، مسحوق طحيني يعمّق فعل الصبغة ويطيل زمن بقائها في الشعر والبشرة أطول من المعتاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حميد النجّار هو من صنع تابوت زوجة القائمقام عبد العزيز القصّاب صبيحة خاتون، ابنة عبد الكريم الجلبي، يوم توفيت جراء وباء نقلته أفواج المجاهدين الذين قدموا للسماوة في طريقهم لمحاربة الانكليز بعد احتلالهم الشعيبة عام 1914 ودفنت في أرض على من مركز شرطة الخنّاق صار يطلق على المقبرة الخاتونة.. كان حميد ضمن وفد أهل السماوة الذين ترجّوا القائمقام العودة إلى المدينة لادارتها بعدما عمت الفوضى ونشب قتال بين طرفيها الشرقي والغربي واضطر إلى تركها وإدارتها من الرميثة مقرراً عدم العودة اليها.. ويوم هرب افراد طاقم المدفع في الزورق المتصدي في بساتين السماوة لباخرتين حربيتين بريطانيتين حلَّ حميد محلهم فحشّا المدفع باروداً وسط تشجيع القائمقام ومن جاء معهما وسدده باتجاه إحدى الباخرتين فأصابها، ما ادى إلى تقهرقهما وانسحابهما وفشل تقدمهما لضرب المدينة.. ولاعتزازه بالقائمقام عبد العزيز لبّى الأخير طلبه بمصاحبته فرّاشاً يوم صدر أمر تعيينه قائمقاماً لقضاء " الهندية ". ثم رافقه إلى قضاء " عانه ". وهناك حنَّ للسماوة فتضرع للقائمقام أن يسمح له بالعودة، فكان له ما أراد.
وهي منهمكة في خلط عجينة الحنّاء ودلك شعر العروس بعدما ثنت كمّي ثوبها الكشمير البنفسجي ذي الورود الثلجية شرعت بالحديث :
- أنا من عغست كانت الدنيا هغج ومغج. والناس قاعدين، والحغ يضغب بالوجوه والمهفايات كثيغه لأول مغة يجينو الحغ بهذا الشكل؛ أشنعمل بقه.. نصبوا جادغ بشاغع طويل، طويل من هذا الطغف لذاك الطغف. نقلوني بالغبل والخاتونات يصفقن. أمي خلتلي لوز بجيبي وقالت : اكلينو من تجوعين وهذا بطل شَغبَت مال عنب اغوي روحك من تعطشين.. كانت ليلة حاغه وابراهيم العغيس انشغل يتغس السطل مَي ويغوح يغشه على الحلفاية مالت الشبّاج من بغَّه الحوش.. الحغ مغَّضني. يومين وانا مَغيضه. أمّي قالت هذا ثلج حطينو فوق غاسك اذا اغتفعَت حغاغتك... باليوم الثالث اجت أمي ودقَّت الباب. ها شلون صغتي ؟.. اتغيدين آخذك للحكيم. الخستخانة قغيبه.
النسوة كنَّ يكركرن من سماع هذي اللهجة الغريبة يعتقدن أنّها تتكلم لغة ثانية، تقولها أم شميران بعفوية فيزددن تعلقاً بها. لا يدرين أنها من مجتمع يلفظ الراءَ غاء فقط فتتولد نبرة مموسقة غريبة على مسمعهن. أمّا الأولاد فكثيراً ما تحايلوا على شاكر وباقر اللذين يشترك بيتهما وبيت إبراهيم لازار طالبين منهما اللعب في سطح الدار. وهناك يتسلقون الحائط ويطلّون برؤوسهم الصغيرة مرهفين السمع لكلام ينطلق من فمِها وهي تحادث زوجَها أو ابنتيها شميران وأختها.
أغلب سكان القشلة ينظرون لشميران التي تدرس في جامعة بغداد نظرة انبهار. تخرج سافرة بالشعر الأصفر وكوستم لا يرون له مثيلاً إلا في الأفلام. حافة تنّورة الكوستم تلامس ركبتيها الشمعيتين، والحذاء بالكعب العالي يثير انتباه المارة، لكن اتزانها وقوة شخصيتها يسبغان على وجهها طابع صرامة تجعل من تمر جواره يطأطىء الرأس هيبةً واحتراماً.
شميران تطالع الصحف يومياً. تتابع ما فيها من أخبار، تقرأ أبوابها اليومية. مطالعتُها تبدأ بعد تناول العشاء. لا يدخل أبوها البيت مساءً إلا وصحيفة اتحاد الشعب و الرأي العام تحت إبطه. يمر على مكتبة مطشَّر جبر المقابلة لدائرة البريد فيجد ولده محمد طوى الصحيفتين ولفّهما بقطعة ورق أبيض كتب عليها بالقلم الحبر " العم ابراهيم لازار ". تجلس شميران على كرسي خيزران، تحت ضوء مصباح أصفر يتدلَّى من عارضة خشبية تسند السقف، جوار شجرة السدر الناهضة توّاً بارتفاع مترين وسط الحوش. تواجهها العذراء مريم بوجهٍ وديع يشعُّ براءةً تحتضن مولودها عيسى الرب المحاط بهالة نورانية داخل إطار مذهّب. تجلس شميران وإلى جانبها صف حبّانات جامعة شتلات ورد جوري قرمزي ووردي ناصع. تضع فخذاً فوق فخذ وتشرع بقراءة مستفيضة. أمامها منضدة سطحها من الفورميكا؛ وضعت عليها الأم كاسة فرفوري ملأته بلب الجوز وقدحاً فيه شراب السحلب أعدته بشعور مَن تفخر بابنة ترى فيها فتاة ذكية ومتعلمة تعلماً يليق أن تكون طبيبة أو مهندسة أو محامية أو مدرِّسة. شميران تقرأ باهتمام وشغف. تقلب صفحة لترسو على أخرى.
في الخارج وكعادتهن اليومية الدبّيّات بائعات اللّبن يحملن على الرؤوس صواني تجمع طاسات فخارية مليئة باللبن الرائب المتماسكة؛ يطرقنَّ الأبواب، باباً فباباً. يسألنَ رغبة ربات البيوت بالمُنتَج الطازج. تقرأ شميران وصوت ضرب أخفاف العائدين لبيوتهم على الأرض : حمّالين وعتالين وعمال بناء؛ وعمال ورش.. نساء يحملن على أكتافهن أو تتدلى من أيديهن زنابيل خوص ابتعن المشمش أو الكوجة أو التكّي كفاكهة ليلية توزع بعد العشاء.
طوال الطريق انشغل يوسف بمطالعة غلاف الكتاب، مسترجعاً رجاء نظرات شميران وتحرك شفتيها. ذلك الاسترجاع أيقظ شيطان الروح، فهمس : " لا تكن غبياً؛ قلِّب صفحات الكتاب؛ قد تحظى بورقة كتبت فيها دعوة لعلاقة عاطفية معك.".. " حقّاً ؟!.. بشيء من التمنّي راح يتصفح الكتاب ورقةً فورقة. آخر صفحة طواها كشفت خيبة أمل قاهرة. أشفق على نفسه، وتساءل : ماذا لو كتبت سطراَ واحداً على قصاصة فيها من كلمات الشوق ما يوارب أبواب القلب للتواصل ؟
مخلِّفاً الجسر ومنعطفاً يميناً اتخذ كورنيش الفرات باتجاه المكتبة. في النهر كان جابر حلو يجلس منتصباً وسط زورقه الذي خطَّ على جانبه بصبغة بويا بيضاء " غاكة الفرات " كاسم ثانٍ للنورس يرمي بشبكته الى الماء وينتظر بينما تبعثرَ عدد من الفتية على جرف النهر، أصابعهم تمسك خيوطاً بصنارات تغوص في الماء تحمل ديداناً استخرجوها من طين الجرف بانتظار سمكة بلهاء تسحبها. على يمينه يسمع صوت اصطفاق سلاسل رفع حاويات الثلج من أحواض النشادر في معمل ثلج الاماميين. يرى عربات خشبية تُدفَع بالأيدي متراصفة تأخذ دورها في حمل قوالب الثلج وبيعها في السوق.. وهناك ! في عمق الزقاق، في خثرة الظل شاهد لافتة " فندق الزهراء " تلتصق فوق باب خشبي مفتوح. الوصول للباب يتطلب ارتقاء أربع درجات من سلم كونكريتي يستدعي الحذر في صعوده لذلك يخشى المسافرون من كبار السن النزول فيه.
فتحَ الكتاب يقرأ عناوين الصفحات بالحروف الكبيرة :" الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة وما يعرض فيها من البدو والحضر ".. بشغف شرع يطالع عناوين الفصول : " فصل، إنَّ الأمم الوحشية أقدر على التغلّب ممن سواها "، " فصل، إنَّ المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه "، " فصل في أنَّ الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلَّ أنْ تستحكم فيها دولة "، " فصل في أنَّ العرب إذا تغلبوا على أوطانٍ أسرع اليها الخراب "، " فصل في أنَّ العرب أبعدُ الناس عن الصنائع "، فصل، وفصل وفصول.....
يرفع نظره من الكتاب. يجد نفسه قريباً من دكّان حسن البعثي، مخلِّفاً المعوَّقَين شريدة وحلاّن وصندوق بيع المرطبات الذي يجلسان عنده يبيعان البيبسي والسودا والمشن البارد على المارة. يلقي التحية على حسن البعثي ويرفع نظره إلى دعاية كوكا كولا التي يراها عادةً مضاءة ليلاً من مكانه في كورنيش الجانب الثاني من النهر. يتطلع يساراً نحو شارع مصيوي. متوسطة السماوة للبنات مغلقة. العطلة الصيفية في منتصفها. عيادة الدكتور باقر المشّاط مغلقة هي الأخرى. المشّاط الآن في غرفته في مستشفى السماوة يفحص ويعالج صفّاً من مرضى قدِم أغلبهم من الريف، رجال ونساء، وأطفال محمولين على أكتاف أمهاتهم أكلتهم الحمى أو ضربهم أبو صفار.. يرفع رأسه. شرفة بيت سيد مندل فارغة. كان حين يبرح البيت فجراً للقراءة استعداداً للامتحانات النهائية مع موجة طلبة يفضّلون القراءة تحت مصابيح اعمدة شارع الكورنيش يبصر سيد مَندل في شرفة بيته جالساً على كرسي يتنسم هواء الفجر ويغذي نظراته بعذوبة جمال الفرات مثلما يتابع حركة المستيقظين المُبكرين لأعمالهم.
ترك كازينو علي ازغيّر الحمراء. الكازينو واحدة من ثلاث أنشأتها دائرة البلدية باكورة عمل متميز إعلاناً بأن ثورة قاسم جاءت للبناء والتغيير.. بناية الكازينو غرفة مخمسة الأضلاع، بمساحة لا تتعدى أربعة أمتار مربعة لإعداد الشاي والمشروبات، يحيطها رصيف إسمنتي. مكان انتشار وجلوس الزبائن شريط مع امتداد رصيف الكورنيش أريد له أن يكون مفروشاً بالثيّل الأخضر لكنه تُرك مترباً يتوزعه صفان متقابلان من تخوت ومناضد خشبية.. الكازينو الأولى غرفتها صفراء، ثم الثانية خضراء، والحمراء هي الثالثة.
هواء ما بعد فترة الضحى ساخن ورطب. الفرات نهر أخضر جارٍ تتخلله موجات بلون الطين توحي باستمرارية ذوبان الثلوج التركية وتواصل دفق الطمي. هناك ! بساتين الخزاعل كثيفة في الضفة البعيدة من النهر وزورق متوسط الحجم مثقوب من وسطه تركه أصحابه الصيادون مركوناً على الشريط الرملي للقشلة. طرزان الخزاعل يتَّخذ من المساحة القريبة منه مجلساً.. اعتاد حين يتسلل الليل يضع أمامه ربعية العرق ومزّة خيار وكاسة لبن رائب ثقيل الحموضة تركته جدته ليكون خميرة للبن تشربه الأسرة كثيرة العدد ظهيرة اليوم التالي فيأخذ ما يعتقده لا يؤثر على التخمير.. بعدما يجهز على محتويات ربع العرق ويرطب بلعومه بشطائر الخيار واللبن الحامض يمد كفّه لجيب بنطلونه المتهرىء يسحب ناياً من نوع الفيفرا. يضع طرفه على حافة شفتيه ويوزع أصابعه على الثقوب الخمس ثم تتولى القصبة الهوائية دفع الهواء فينطلق في الفضاء نغم شجي. نغم ما أن يسمعه علي ازغيّر حتى يهب الى جهاز التسجيل الذي يبث مقامات محمد القبنجي فيطفئه، تاركاً الرواد في تلقٍّ آخر. تلقٍّ حيٍّ وعذب، ينشر في الروح تقاسيم حزن جنوبي. حزن عشّاق فقدوا أحبة لن يعودوا. حزن شباب كُبِحوا بفتيات لم يولينَّهم الاهتمام. حزن أرملة فقدت زوجاً في رحلة تهجَّسَ قلبُها خشيةً عليه. حزن أم نقلوا لها خبر وفاة ولدها في بلاد بعيدة حلمَ بها فلم تُسقهِ غير الموت. حزن، وحزن، وحزن،، وأحزان تترى.. في كل مرة يأتي الحزن زائراً؛ ما يلبث أن يستوطن حين تتوفر له بيئة خصبة للمكوث. فأرضٌ كالعراق، جميلة وساحرة ومعافاة، لابد أن تثير شهوة الطامع الحالم برغبة الامتلاك والاستحواذ. هذا الطامع العدو الجلف الغازي يأتي مشحوناً ومشحوذاً بالقسوة فيطيح بكل اعتراض أو تحدٍّ ويوئد أيّما انتفاضة أو ثورة تبدر من أبناء الأرض فتنمو في البيوت شجرةُ حزنٍ وارفة بالألم والذكرى على أفراد قتِلوا تجنّيّاً، وحق سُرِق منهم عنوةً، وكرامة حطَّمها قاتلٌ، جانٍ، ومُحتل.
انعطف يساراً ولم يدخل شارع " أبو الستّين"، بل اتخذ درباً فرعياً جعله يقف عند باب حديدية مُشرعة قرأ فوقها لافتة : المكتبة الوطنية ". وطىء درجتين نزولا لممر ذي بلاط مربع بلونين ابيض وأخضر داكن. على الجانبين حديقة عامرة بأشجار الدفلا المتوهجة بزهور وردية تبث عطراً يشيع في الفضاء. كان الفرّاش في العمق المظلم لرواق المكتبة أشبه بشبح في عيني يوسف، لأنِّ من يدخل من ضوء لعتمة أو شبه عتمة يرى الآخرين في الداخل أشباحاً. الملامح مُنعدِمة، وعيناه بحاجة الى وقتٍ كي تستعيد الرؤية الواضحة.
- أريد إعادة هذا الكتاب ؟
كفُّ الفرّاش ارتفعت وسبابته أشارت إلى نافذة مربعة بقياس قدم ونصف. لم يتكلم. اللافتة في الممر قالت : الرجاء المحافظة على الهدوء والصمت. والفرّاش أول المنفذين على اعتبار : الأقربون أولى بالالتزام بالقانون.
حين تسلم أمين المكتبة الكتاب وشطب على اسم شميران استدار يوسف.. وجّه عين الفضول إلى صالة مضاءة وقرّاء بعدد أصابع اليد، ثم منضدة طويلة جداً من الصاج اللامع، عليها مجلات وصحف متناثرة. يسحب القراء في الداخل منها ما يشاءون، ويقرؤون.
دنا من الفرّاش
- هل مسموح لي أن ادخل وأقرأ ؟
- طبعاً، هذه المكتبة لكل من يحب القراءة.. جاءه صوت المُجيب هامساً.. المكتبة مُلك القراء. مجلات وصحف وكتب.
بتهيّب وقف..
أمامه صالةٌ مضاءة وقرّاء، وإن كانوا معدودين، يبحرون في بحر معرفة. تحملهم زوارق مكدَّسة بلهفة وشوق الى اغتراف كنوز لا تضاهيها أكوام الذهب والفضة، الماس والياقوت والزُمرّد.
وقف يقرأ مستطيلأ ورقياً ابيض خُط عليه بقصبة حبر جيني بيتاً شعرياً بالخط الفارسي خلف زجاج صاف، مؤطر ببرواز خشبي لامع.. عدسة العين سحبت البيت الشعري كلمةً فكلمة :
أعزُّ مكانٍ في الدنى سرجُ سابحٍ // وخيرُ صديقٍ في الزمانِ كتابُ
الكرسي الذي جلس عليه وسحب بيده مجلة الشبكة من بين مجلات : آخر ساعة، الكواكب، روز اليوسف، المصوِّر كممارسة أولى في مكتبة أُعدَّت لعشاق القراءة؛ المنضدة التي امتدت أمامه بملاستها وجمال لونها؛ الوجوه الهادئة الهانئة في مطالعة الكتب والمجلات والصحف؛ روائح العشب الأخضر القادم من بساتين الكتب وجنائنها؛ تحيّات مَن استيقظوا من فوق الرفوف واستقبلوه بعيون طافحة بالبِشر ووجوه مغمورة بالسماحة.. كل ذلك بصموا بإبهام ترحيبهم بقارىء جديد سيضمّه سجلُ القراء في هذا الكون المعرفي المترامي.. جاءته شميران بمسحةِ بهجة ومدَّت كفَّها تصافح كفّ شوقه للقراءة.
لم يُطل البقاء.. تصفّح المجلةَ سريعاً وخرج.
لا يريد للفرح على سعته الفضائية الرحبة أن يموت بين صفحات المجلة. يريد أن يطير على موج لحظة مائية غامرة تنقله إلى بستان له مخلوقاته وطبيعته وهواؤه وعلاقات عناصره.. سواقٍ بخرير مموسق، وحفيف أوراق تترنم، وزقزقة عنادل، وكركرة عصافير، وحوارات لمخلوقات تتغذى على عسل ينتجه نحل معرفة لا مثيل له.. عشّاق كتب، وعشاق عاطفة، وعشاق خير، وعشاق تبادل روحاني، وعشاق تواصل إنساني، وعشاق لعلم مُشاع مقروناً بتلقٍّ لا حدود له.
كان الفرات على مرمى نظر منه. نده عليه : ها يوسف ! ما هذا الجذل الذي ينسكب من جيوب روحك ؟ ولماذا أنتَ كالثمِل بخمرٍ ملائكي تتهادى ؟ تبدو لمن يراك الآن سكراناً أغوته فتاة الخمر فأردته سعيداً. تبدو غائباً عن وعي الواقع، على علّته. تبدو كأنك على موعد مع قرار سيغير تقويم حياتك القادمة.
يقطع كورنيش الفرات كحالم، ويقف عند ناصر الجبلاوي كمتيَّم. يستغرب الرجل، ينهض من وراء منضدته وكلمات ترحيب تسبق وصوله.
- التقط لي صورة. حث عدستك على امتصاصي. وكبّر الصورة.. أريدها هنا في معرضك.
- كأنكَ استجبتَ لمرادي ولهفتي، يا يوسف. قال ناصر الجبلاوي بهمس، وواصل : كم مرة هممت أن اوقفك فأستميحك بلقطة أضعها هنا، كما تطلبه الآن.. أين الكتاب الذي كان معك ؟
- أعدته للمكتبة.
- رغبتي أن التقط لك صورة وأنت تضم الكتاب إلى صدرك... عاد يهمس ويواصل : عيني صوَّرتها قبل أن تصورها كاميرتي.
- غداً سأجلب كتاباً معي.
- إذاً غداً ألتقط لك الصورة.
افترقا سعيدين.. هو يحلم بصورة ستبصرها يوماً ما شميران يحمل كتاب " مقدمة ابن خلدون "، وناصر الجبلاوي يحقق رغبة تمنّى تجسِدها فاستحالت واقعاً.
في اليوم التالي شاهده ناصر الجبلاوي يمرق من أمام الاستوديو ولم يلتفت أو يلقي تحية الصباح. ظنّه نسيَ ما اتفقا عليه أو استثنى الفكرة.. أقلَّ من ساعة مرَّت عندما امتلأ فضاء باب الأستوديو بقامته. ناصر الجبلاوي قال ظننتك استثنيت. قال : لا احتجت للكتاب وأردته مقدمة ابن خلدون تحديداً. أريده بعنوان تظهره اللقطة بوضوح... لم يعلق ناصر الجبلاوي. لا يدري لماذا هذا الكتاب بالتحديد.
***
كانت اللقطة باهرة؛ وصباح اليوم التالي كان يوسف بطوله الفارع وبدلته الإفرنجية المستوردة والكتاب المجلَّد الأسود بالمقدِّمة الواضحة داخل إطار مزخرف، خلف زجاجة شفافة يستقبل شعاع العيون واتساع حدقاتها.
سعُدَ يوسف كثيراً. أعلن فرحه وتمنّى فعلاً مرور شميران يوماً من أمام الأستوديو. شكرَ ناصر الجبلاوي، وقال استنسخ لي واحدة بحجمها وإطارها وزجاجها.. غب ثلاثة أيام كان سلطان شاهر مسروراً يشاهد الصورة فيبتسم وغيوم زهو تمر في سماء خياله تهطل أمطار بهجة. يقول هذا أنت ؟ !. يراه بوقفة أمير وزهو عالم. يقول : علِّقها، يا ولدي، في غرفة الضيوف. ألا نستحق المباهاة ؟
(14)
شعاعُ العينين والثَّمَل
طرقَ الباب. كانت الكف البرونزية الملمومة الماسكة كرة بحجم ثمرة بندق تطرق ثلاث مرات لا أكثر على قرص دائري برونزي يشبه عملة معدنية.. الطرقات أنتجت مواربة الباب. الباب المواربة أظهرت شميران بوجهها المشع وعينيها السوداوين وقامتها الممشوقة، يحتفي بها ثوب همايون أخضر مُشجّر. ارتعش يوسف من رقرقة العينين. كانت كعيني أبيها في اللون، لم تأخذ زرقة عيني أمها. خصلة شعرها المتهدلة على حاجبها الأيمن هي مَن ترجرجت مع الابتسامة العريضة.
- أوصلتُ الكتاب للمكتبة، أشَّروا استلامه بسجلاتهم.
- شكراً، يوسف.. عندي كتاب ثان مستعار، ما زلت مشغولة بمطالعته.
- غداً أذهب إلى هناك.. عرفت الدرب إلى المطالعة.
ابتسمت.. شعرت أنه يبغي الإفصاح عن امتنان انبثق في قلبه. قالت :
- لا شيء أعذب من القراءة. ولا مكان برأيي أقدس من قاعة مطالعة.. المكتبة مثل البستان العامر بالفواكه. أدخله يا يوسف. تجوّل فيه. ستجد روحك تسوح في جنة من جنان الرب.
كلماتُها أسكرته. بدَّدت حمّى الارتعاش. قلَّلت من خفق قلبه. انتصابها والشجرة خلفها أعادت اليه صورة متخيلة يبصرها كثيراً مزججة ومعلقة في جدار مكتبة مطشَّر في السوق. تقف فيها حواء إلى جانبها آدم وشجرة تفاح تعج بالثمار. حواء تمسك تفاحةً، تقدّمها إليه. آدم يستقبل التفاحة بامتنان لكن عينيه تتجولان على جسد حواء:
- كان عظيماً ابن خلدون في مقدمته. قالت.
- تصفحتُه ؟.. يرصد حياة المجتمعات، ويؤشر علاقاتها.
لم يقل لها سأستعيره غداً.. أراد أن يقول أنتِ الساحرة التي ضربتِ بعصاها ففتحت لي درب الوعي.. أنت الطائر الذي أطل بلا انتظار على نافذة مشاعري فنقر ليوقظني على بهاء صباح أستشرفه فاتحة لصباحات مبهرة وأيام تقول البهاء.. أنتِ مَن أخذت بيدي وأرتني دنياً كانت غائبة عني؛ بل غائبة عن الكثير منّا في هذه المدينة البريئة المبتلاة بالخدر والخمول.. أراد أنْ يقول ويقول لكنّه لم يقدر. عقلُه يربكه، لسانه يتخشّب.. الخصلة الراقصة على الحاجب القهوي ألجمت رغبته في البوح، شعاع عينيها أرداه ثملِاً، أشجار الهمايون المهفهفة على قوامها أسقطته أسير دوار لا يحدثه إلا نبيذ معتق مرت عليه عقود من السنين في جب معتم تشرف عليه أصابع الغواية.
تلك الليلة دخل غرفته واغلق خلفه الباب. الساعة الصينية الدائرية المستندة قاعدتها المعدنية الذهبية على منضدة تجاور سريره يشير عقرباها إلى تجاوز انتصاف الليل بعشرين دقيقة. كتاب مقدمة ابن خلدون المُستعار ينام بين كفّيه. يستلقي في فراشه، متكئاً على وسادة تمنحه جلسة مريحة للقراءة. تتردد صفارة الحارس الليلي في الشارع يقطع الطريق ببندقية تتكىء على كتفه، وظلُّه كشبح يتبعه بفعل مصباح يسكب ضوءاً من أعلى العمود المنتصب عند تقاطع شارع التجنيد مع الشارع المؤدي الى مركز شرطة الخنّاق. يسمع تجشؤات أبيه في غرفته جرّاء سجاير" غازي " المُدمن عليها رغم تحذيرات الدكتور باقر المشاط يوم راجعه في عيادته فأشار لخطورة الحال، وأنذره بخذلان القلب له يوماً إنْ تمادى في إدمانه.
يفتح الكتاب على أيّما صفحة. يقرأ عنوان : "علم تعبير الرؤيا".. لم يلج ميدان الأسطر لإدراك فحواها لأنَّ شميران ارتسمت صورة احتلت مساحة الصفحتين. لقد أينعت شجيرة العاطفة في بستان مراهقته.. يتكئ على الوسادة والكتاب بيده. يتكىء وشميران تأتيه. تقول :" تركت ورود الجوري في الحُبّانات بعدما سقيتها الماء ونثرت نظرات دهشتي على وريقاتها الرهيفة وجئت إليك.. هيا، انهض.".. أخذته في جولة؛ قطعا السوق غير مباليين للمكوجي فرهود المنشغل بتمرير المكواة على بنطلون سرج أسود؛ فرهود الذي ما أنْ ابصرهما حتى رفع الكتلة الحديدية الساخنة من البنطلون. أسندها على قاعدتها وراح يطالعهما بعينين يطفحان بالدهشة. تحرك لمقدمة الدكان. أدار وجهه يميناً وشمالاً يبغي حث جيرانه أصحاب الدكاكين لرؤية هذا المشهد الغريب، غير المألوف. يبغي الاستعانة بشاهد يؤكد كلامه حين يأتي على ذكره.. اثنان يتهاديان أمام الأنظار ولا يأبهان لأحد !.. هو يحاذي شميران حتى يتماس الكتفان، وشميران تدفع كفها لتتشابك أصابعهما. هو يقول : يا لهذا الحشري البائس، لا أحد يسلم من عين فضوله ! وهي تقول : كم أبغض دناءة المتطفلين !.. يسعيان لاثارة غيظه، يبغيان إعلان الصفاء لافتة لدواخلهما. يهدفان لإظهار أنَّ مرورَهما يعج بالبراءة ويفوح بالنقاء.
عبرا الشارع. اتَّخذا الرصيف. هناك؛ نده عليهما النهر. تلقفت اقدامهما الدرب الترابي نزولاً للشريط الرملي. اقتربا من الماء. قالت : تعال؛ نحن نُعمَّد بالماء الجاري المدرار. أنا سأعمدك بهواء الفرات رمز الحياة الأزلي. أنتَ اغرف بكفيك بعضاً من الماء، اسكبه على رأسي.".. كلماتها أججت فيه دفعات من أسئلة يشوبها الذهول.. أنا أحلم ؟.. أهذه شميران فعلاً ؟.. أيشهد هذا النهر العظيم تراسيم وجودنا معاً ؟ مَن أنا ؟.. أوووووه، لا.. لا.. شميران ! اعتقيني من أصابعك.. خصلتك الذهبية تكايدني، كأنها تغويني. قدماك الشمعيان على نديف الرمل يقودانني صوب الجنون ".. يتابع حركة الناس على الضفة البعيدة.. يحتشدون هنالك.. هنالك غابة من أجساد وجيش من رؤوس.. عيون تتابع بإدهاش يتماوج.. أطفال يرفعون أغصان خضر تنتهي بورود كبيرة تشبه زهور عباد الشمس، يلوّحون بها توافقاً مع تلويحات الكبار.. شميران تبتسم، تطلق ضحكة جذل. تقول : " انظر؛ إنهم يحتفون بنا !".. هنالك صبية نزلوا مسرعين عبر السلم الحجري إلى النهر كأنهم يتدحرجون. خلعوا أثوابهم؛ رموا بأجسامهم البرونزية إلى النهر. صاروا يعومون، ويجذفون بأذرع نحيفة صغيرة. يغوصون وينطون.. نوارس بأجسام مغزلية بيضاء ورمادية ترتفع محلقة في الفضاء ثم تهبط بتناغم وئيد.. " أين تأخذينني ؟! " , قال.. كانت الشمس زاهية، والضحى ساعات من جذل وسرور وابهار. ريفيات يحملن صرراً على الرؤوس توقفن على الجسر الخشبي العتيق خلف رجالهن القرويين بعقلهم ويشاميغهم وأثوابهم المهفهفة وأكثر من فمٍ يطلق صيحة دهشة وذهول : أنا اخوووووك. !!
أصوات النوارس الزاعقة تأتي في موجات متوالية كما لو كانت تضحك من تعجُّب القرويين وذهولهم. عينا يوسف السائحتان في المكان تتابعان كرنفال الهناء. قلبه يموج سروراً؛ أمّا عقله فيفلسف الأشياء. يبحث عن ماهية السعادة وتكوينها في لحظة جذل.. يبحث عن أبجدية التوافق حين تكون النفس مغموسة في قدرية تتاح لها؛ يستحيل الما حول شيئيات تخدم هوية التوافق؛ فالحزين يرى الاشياء حزينة فيما السعيد تنهال عليه فراشات السعادة وتأتيه فتيات الحبور جميلات باسقات يانعات يغدقن بأمطار البهاء... من أقصى الشريط الرملي للضفة النائية أبصرا رجلاً يتهادى.. عمامته مزينة مقدمتها بفص عقيق. لحيتة شيباء باعثة على الهيبة. قفطانه ممزوج بصوف وحرير، مطعم بنقوش محاكة بفن أخّاذ. خاتم ذو فص عقيق يماني باهر يتلبسه خنصره. بُلغته جلدية مُخرَّمة بخيوط من جلد التماسيح.. خطا باتجاه الماء فاعتلاه.. سار. صار الماء درباً حريرياً سالكاً. بدا كأنه يقف على غيمة، والغيمة تدفعه بأصابع خرافية. كانت أنسام الضحى المتحاورة مع سطح الماء تمر على وجهه فتتفجر، فتتداخل، فتتشكل هالة.. لحظات وكان يقف أمامهما.. ابتسمت شميران وأطلقت هتاف الترحيب. هو وقف ذاهلاً كأنه يتساءل : مَن يكون ؟.. سمعها تهمس : هذا العلامة الجليل ابن خلدون؛ رحِّب به.
ترحيبه كان نظرات عجَب.. ترحيبه كان خفق متسارع للقلب !.. يمد الكف المرتعشة لليد الممتلئة.. يتصافحاً. الكف التي صافحته هي نفسها الكف التي خطَّت أسرار الأمة وطوالع الدول : عيشها وطريقة حياتها؛ تفكيرها ومطامحها، خوالجها وانفعالاتها. قال : " أنا في هيام، أيها الشيخ الجليل. كتاب مقدمتك دلَّني عليه هذا الملاك الأنثوي. المقدمة نثرت في عيني مسحوق السحر. من يومها وأنا بين ضفتين من هيام.. ضفة هذي التي أسمها شميران، وضفة المقدمة.. ابتسم الرجل. قال بوقار حكيم : " الذي يدلك على النور كالذي يهبك المشكاة.".
كانت ابتسامته عريضة؛ ندّت من ترقرق عينيه رسالة تثمين. قال : التعلُّمُ تواصل. تدريبٌ وحثٌّ على الوصول. ابتهجت شميران لكلماته. رفعت كفّها اليمنى. ارتفعت اناملُها البيضاء لا ارادياً تعبث بحافة ياقة قميصها. اسماك صغيرة شذرية تتلاصف عند سطح الماء؛ تهاجم قطعة رغيف جاء بها انحدار النهر.. نظر اليها الشيخ باهتمام وابتسم : " صورة السمك هذه تشبه صورة المجتمع المتوحش. كلاهما يسعى للتغلب والحيازة قبل غيره. كتبتُ ما يشبه هذا في فصل " الأمم الوحشية أقدر على التغلب من سواها ".. هل قرأتَ ذلك في المقدمة ؟ ".. " سأقرؤه أيها الجليل.. دخلتُ عالمَك. ما زلتُ في الخطوة الأولى.". جاءت ابتسامة الشيخ أعرض هذه المرة.. ربت على ظهره، واستدار لشميران : واصلا سروركما.. رأيت في صاحبِكِ هذا القدرةَ على التفهّم، وجدتُ فيه ما يُفخَرُ به مستقبلاً.".. استدار.. خطا.. مشى على الماء.. حملَهُ النسيم للضفة الثانية.. هنالك رفع يده ملوحاً.. وعاد من حيث ظهر.
مررت شميران أصابعها على وجهه : مُتعرِّق، يا يوسف. أمَحموم ؟!.. لا.. لا.. الحضور معك ومجيء الشيخ على غير ما أتوقع رفعا حرارتي.".." هيّا، لنعد.. سنعود مرة أخرى." قالت. ورفعت رأسها الى الطريق.. لحقها.. كانت حديقة نادي الموظفين داكنة، أشجار الكالبتوس الشاهقة خضراء تلمع هاماتهاِ من أثر سطوع شمس الضحى؛ وفي ظلالها شاهدا عربة خشبية بإطارات صغيرة تقف، ينشغل مالكها ببيع النومي الحامض والحصرم والرمّان المقطوف تواً من بساتين المدينة على صغار تحلقوا حول العربة. رجال أفندية وآخرون يرتدون الدشاديش يحثون الخطى ويتقاطعون على ارض متربة. بعضهم قادم من مركز شرطة الخنّاق، وبعض يتجه صوبه. إنَّهم في حمّى مواصلة انجاز معاملات يقهقرها تلكؤ الموظفين وتقاعسهم أو قصديتهم في قبض رشا.
ارتقيا لإدراك الطريق الرئيسي. عبرا الشارع.. دخلا الدرب الى حيث بيتيهما. كان المكوجي بانتظارهما.. تكدَّر وجه شميران. احمرَّت عيناها. وكاد هو أن يندفع اليه ليشبعه ضرباً عندما وعى على نفسه يرتعش وكتاب ابن خلدون بين يديه... لم تكن هناك شاميران؛ ولا وجود للمكوجي. كانت الساعة الصينية الدائرية كما تركها تستند بقاعدتها المعدنية الذهبية لكنَّ عقربيها كانا يتعانقان عند الرقم (2). وكان هو يتكىء على الوسادة وقد تسرب إليها عرق ظهره.. تلك اللحظة كانت شميران في بيتها تقلب الصفحة 11 في جريدة " البلاد " لترسي نظراتها على الصفحة 12 المتخصصة بـ " مفارقات وأخبار من العالم "، والمكوجي يتقلب في فراشه جرّاء تعنيف تلقّاه من زوجته أمام جيرانه من أصحاب المحلات عصراً. تعنيف بمثابة تقريع على استمراره في مهنة لا تفي حقَّ احتياجات بيتٍ وأسرة بسبعة أنفار.
(15)
سبارتكوس محرر العبيد
يوم وراء يوم انهمك يوسف في مطالعة مقدمة ابن خلدون. وكلما انتهى من قراءة صفحة قلبها متشوقاً لمتابعة ما بعدها.. فصول وفصول تناولت أحوال أمم، وأخبار دول؛ انساب واحساب، العرب والبربر، العرب والعجم؛ البناء والهدم، العمران والفساد؛ الممالك والأوطان؛ في التصوف وعلم الكلام. في العلوم العقلية والعلوم العددية؛ في علم أسرار الحروف وعلم الكيمياء؛ في علم الإلهيات وعلم السحر والطلسمات.. لفت انتباهه وأثار اهتمامه التحليل والتمحيص والخروج بأفكار دوّنها الرجل بناء على معطيات كانت حيثياتها هي السائدة آنذاك " إنَّ للرجل نظرةً رمادية تجاه العرب.. إنَّ فيه من الصراحة ما تُعد شجاعة بلا خشية من رد فعل ولا تحسُّب من تقدم خنجر يقتله غيلةً في زمن كان يعيش فيه العرب أسياد وويل لمن يُغضِبُهم." تشكّل في رأسه هذا الانطباع... هل قرأت شميران الكتاب بأكمله ؟ أمرَّت عيناها على الأسطر، وتلقَّت الصفحات أنفاسها ؟.. ما الانطباع الذي خرجت به ؟ وهل تأثرت فقبلت ما عرضته فصول الكتاب أم لها رؤية مناقضة لعدد منها ؟.. أيكون ابن خلدون أخطأ في رؤى دوَّنَها فتجنَّى على أناس ورد ذكرُهم وأمّة ليس فيها الكثير مما أشّر وحدَّد ؟.
بين انطباعِ أنَّ الكتاب فيه من الصعوبة ما لم يدركه، ومحتوىً فيه الكثير مما فنَّدته تواليُات الأعوام والقرون توجَّه يوسف للمكتبةِ العامة.. أعاد الكتاب، وتحرَّك لقاعةِ القراءة. دُهِشَ لرؤية شميران وفتاتين، في كراسٍ متفرقة، يجلسن في قاعة قراءة مخصصة للنساء. كانت تطالع كتاباً، وفتاة منهمكة في تدوين اسطر تنقلها من ثلاثة كتب أفردتها أمامها خمّنَها تعد بحثاً فيما الثالثة كانت تقابلها تركن كتاباً جانباً وتطالع مجلة آخر ساعة المصرية.. ودَّ لو رفعت شميران رأسها. ودَّ لو امتلك الشجاعة وتجاوز النظام فدخل عليها يلقي التحية ويُعلِمُها بحضوره للقراءة ورغبته اليومية في المجيء لمطالعة الصحف واستعارة ما يؤثث بيته المعرفي.
اتخَّذ مكاناً وسطياً بين قرّاء يجلسون على كراس وقد اسندوا مرافقهم على المنضدة الطويلة يطالعون صحفَ أيام سابقة ومجلات دورية محلية وعربية بينما آخرون سحبوا كتباً لمطالعة وقتية داخل القاعة الطويلة السابحة في صمت مهيب. سحب صحيفة ) الرأي العام ( كانت قريبة تطالها يده. شرع بقراءة افتتاحيتها الرئيسية في الصفحة الأولى ) ماذا في الميمونة ( سطَّرها رئيس تحريرها الشاعر محمد مهدي الجواهري؛ يدين فيها ممارسات الشرطة في اعتقال نساء متظاهرات في الميمونة ويستهجنُ سلطةً تمارس كبت الحريات وتعلن حرباً سوداء على نساء متنورات، فتعود أجهزة الشرطة والأمن لزمان عهدها الملكي قمعيةً، متعسِّفةً، جائرة. يعود اكتئاب الناس وتذمّرها.. يتكرس يقين أنَّ القادة الجدد نماذج مستنسخة عن قادة العهد المباد.
كفُّ ابن خلدون تطرق باب ذاكرته، وتعود رؤيته وانطباعه عن العرب. يعود فصل " في أنَّ العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب ".
عندما انتهى ونهض. ألقى بعين زائغة نظرةً على غرفة مطالعة النساء فلم يبصر شميران. كان مكانُها فارغاً. أدار رأسه في محاولة رؤيتها تعيد كتاباً طالعته أو هي في حركة استعارة كتاب ستحمله معها لتطالعه في البيت. لم ير غير أمين المكتبة يجلس وراء منضدته وموظف الإعارة يحمل كتباً قُرِأت فاستُرجِعت ليعيدها لأماكنها على الأرفف حسب تسلسلها. لا يدري أن شميران اللحظة في البيت؛ فما أن جلس وطالع الصحيفة الأولى حتى نهضت من مكانها، استعارت كتاباً وخرجت. لم تتوقع وجوده في المكتبة ولا هي أبصرته يطالع. فلو حدث أحد الأمرين لكانت بصحبته، عائدين للبيت.
خطى خارجاً. في شارع الكورنيش كانت العين تبعث بالنظرات بعيداَ علّها تبصر شميران في طريقها إلى البيت.. ساعة الدنو من الظهيرة تتسارع، حرارة الشمس تهبط إلى الأرض، والهواء يمرُّ على وجهِه ساخناً.. عمال البلدية ببدلات العمل الزرقاء ومكانسهم بالأذرع الخشبية الطويلة يتولّون تنظيف الشارع. عامل منهمك برفع ما لفضته أشجار السدر والخروع والغرَب من أوراق في الجزرة الوسطية أمام محطة إنتاج وتوزيع الكهرباء ووضعها في حوض عربة يدوية.. صبية يسبقهم ضجيجهم يتقافزون وهم يبصرون الفرات ينده عليهم ويبتسم لهم على مرمى نظر. لا يهابون للظى سيتفاقم مع مرور الوقت. أنهم يصيدون اللذة في تحاورهم مع ماء النهر، ويتساجلون على موعد للتوجه إلى السينما لمشاهدة سبارتكوس محرر العبيد؛ فاليوم هو اليوم الثاني للعرض. بالأمس شاهده أحدهم ذهب صحبة أبيه فهيّج مخيلتهم؛ يحكي كيف أن سبارتكوس جمع الفقراء والمعدمين وثار على مضطهديه، وكيف هب المسحوقون من المدن والأرياف للانضمام لثورته حالمين بحرية تنهي لهم أزمنة العذاب والحرمان وشظف العيش.. تمر عربة بيع نفط أبيض يجرها حمار منهك يمسك بلجامه شاب عشريني فرح بمهنة جاءها منذ أسبوع، لذا كان تكرار ضربه للعصا المعدنية على ناقوس برونزي صدىء من عداد الموسيقى المبهجة. بهجة بزغت في فضاء روحه عندما تواربت أبواب وخرجت نساء بعباءات سود يحملن علب التنك الأبيض يطالبن بملئها حتى السطح فلا يُبقي فراغاً ينقصها.. عجوز تمازحه أو هي تفتخر بملء قلبها : " النفط راح ايصير بلا فلوس في عيد العمال القادم. هذا عهد الزعيم؛ عهد الفرح، يا ولدي."؛ وطفقت تترنّم وتردح هازّةً الارض وسط ابتسامات النسوة وكركراتهن، وانشراح العامل وانهماكه في تعبئة الصفائح المعدنية : " ديمقراطية وسَلام // سر يا كريّم للأمام ".
واصل سيره... مر من أمام أستوديو ناصر الجبلاوي. توقَّف.. " لكلِّ زمانٍ دولةٌ ورجالُ " تردد صدى العبارة في رأسه عندما انصبت نظراته على صورة الزعيم عبد الكريم قاسم مزججة في معرض الأستوديو، تماماً في الإطار والمكان اللذين كانت تشغله صورة الملك فيصل الثاني.
صورٌ تأتي، وتزول صور..
وجوهٌ تمر، فتخلِّف وجوهاً..
الزعيم يبتسم كأنه يسخر من كيان ملكي لم يحسن الاستمرار في قيادة دولة أريد لها أن تكون قرينة بدول أوربا ذات النظام البرلماني والحرية الفردية المُصانة ليقول أنا مَن يُحسن القيادة. الزعيم نزل إلى المسحوقين فتجوّل في أزقتهم وجلسَ في مقاهيهم؛ أكل بالصحن الذي يأكلون به، وتناول ما يتناولوه. الزعيم لم يفكّر بالمقام الشخصي بقدر ما فكّر بالسيادة الوطنية؛ لم يسع لبناء مجدٍ يخصه لوحده إنما جهد حثيثاً لبناء وطن يفتح قلبه لكل مواطنيه.. أمّا المَلك فكان نزيهاً لكن البلاد بحاجة لبناء؛ المَلك سُلِّم سفينة وكان عليه الإبحار بها إلى مرافئ الأمان والعيش الرغيد، بعين أب وقلب أم. لكنَّه كان مغلوباً على أمره مِن مستعمرين نصَّبوه فاعتبروا هذا فضلاً عليه؛ له ديون وعليه مستحقات.. لقد قرأ يوسف مما قرأ من مقدمة ابن خلدون أن الإنسان إذا غُلب على أمره وصار آلة لغيره تناقص عمرانه وتلاشت مكاسبه ومساعيه وعجز عن المدافعة عن نفسه.. يذكر أن البلاد قبل تفجر ثورة 14تموز عاشت كأنها تسير بيد غير يد الملك. يؤخذ بها والملك غافل !.. تُدار والملك عاجز أو صاغر لما يُملى عليه. سيقت البلاد لتتكبَّل بمعاهدات وأحلاف هي في غنى عنها.
يطيل يوسف النظر في صورة الزعيم.. تتضبب صورة القادمات من الأيام أمام عينيه.. صورة مَن سيحل في المستقبل بديلاً داخل الإطار المُذهَّب وهو يضم ابتسامة الملك الشاب وقبله أبوه وجدّه، ويضم الآن ابتسامة الزعيم ؟!
استدار.. واصل سيره نحو الجسر الخشبي صوب البيت.. عادت لحظة العتاب مع الحظ ولوم القدر على عدم تحقيق المراد.
كان يمكن للسعد الوقوف الى جانبه فيجعله ما أن ينهض من كرسيّه حتى تنهض شميران من مكانها؛ يتقابل وجهاهما، ترتسم ابتسامة مشتركة، يتحقَّق حلم اليقظة الذي مر به، فيخرجان سوياً. يعبران الجسر الخشبي، وبدل أن يتَّجها للبيت تأخذ بيده الى الدرب النازل للشريط الرملي فيتهاديان؛ وربما يظهر لهما ابن خلدون فعلاً ويحادثهما.
انتبه الى أنه عبر الجسر، وسلك الدرب المفضي للبيت. كان فرهود المكوجي جالساً على كرسي في مقدمة دكانه. لم يكن الرجل ينظر إليه بفضول، ولم يكن في الواقع حشرياً. ألقى يوسف عليه التحية فتلقى أحسن منها.
في البيت عند التخت الذي يجلس عليه كانت شميران تجلس إلى جانبه. تحادثه وتعتذر لعدم انتباهها لوجوده في المكتبة؛ لكن الاعتذارَ يُبتر وحلمَ اليقظة يزول عندما تُطرق باب البيت ويدخل أبوه. أبوه يطلب منه الذهاب للمكتب وملازمته لحين أدائه صلاة الظهر في الجامع القريب.
(16)
عيد وتظاهرة
كانت الاستعدادات في محطة سكك حديد السماوة جارية نهاراً.. في العصر يجتمع أكثر المنتسبين في نقابة العمال؛ يناقشون برنامج وضعوه للمناسبة وشعارات مُفترضة ستحملها لافتات ستجوب الشوارع او ترفع عند مداخل السوق والساحات المستديرة والجزر الوسطية. كانت شقيقة شميران ضمن كادر سيتقدم تظاهرة عمالية لسواعد مفتولة تعمل على تشغيل متقن لقطارات تأتي وتغادر وورشة ضخمة رئيسية لتصليح وإدامة مكائن القطار وحركة عجلات الفاركونات. تظاهرة ستجوب شوارع المدينة وتنفض أمام المركز الحكومي جوار الجسر للسنة الثانية من ثورة تموز.. أُعدَّت اللافتات، وخُطَّت الشعارات. وضِعت فقرات برنامج الاحتفال ونوقشت. كان الحماس كبيراً وشديداً وعظيماً في مناسبة عالمية يحتفل فيها العمال أمميّاً فتستحيل أغلب بلدان العالم كرنفالات احتفالية مبهجة تمجّد يداً تدير الآلة وتصنع الغد الصناعي المشرق للشعوب. غد صناعي تستحيل فيه الأرياف والبطاح إلى جنان يزهو فيها الفلاح العامل بأرض ولد وترعرع فيها، يسمع تغريد البلابل وثغاء الأغنام وخوار الأبقار وهدير التراكتورات، وهناك في السماء تمر ارتال من طيور أوَز وبط وخضيري راحلة صوب مستعمرات مائية سيتناسل ويمرح ويتعانق ويطرطش بمياه خضراء صافية ثم يعود مُحمَّلاً بغناء وجذل ليبيض ويخلف ويعيش حياة الله. غد صناعي في مدن تكبر وتتسع على إيقاع اجتماعي مُبهج. تُشقُّ الطرق وتعلو الأبنية، تُنظَّم الأرصفة وتُشكّل الحدائق : نافورات، تماثيل، أرائك، سيمفونية طبيعة في جنان خلد تشيع في أجوائها موسيقى تحمل أرواح المتجولين أو المطروحين على الحشائش أو المتكئين على الأرائك أو على جذوع الشجر المزدهي بخضرة أوراقه وبهاء ثماره أو المنزوين من عيون الفضوليين المتلصصين ليتبادلوا القبل ويتعاهدوا على لقاءات متكررة، وسيطُهما الحب النقي وجذوة الروح المتَّقِد.
في البيت أم شميران تخاطب ابنتها : " أغيدك اتبيضين وجهي بهذي المناسبة؛ أشلون بَقه !!".. تبتسم البنت وتسعد لكلام أمِّها، تعقِّب ضاحكة : " أنتِ وجهكِ أبيض أصلاً، يا أمي ".. شميران منشغلة بكتاب " بُناة العالم ". استعارته من المكتبة. صرفت ثلاثة أيام مستمتعة بمضمونه ومندهشة للغة ستيفان زفايج الثاقبة وخياله الخصب في رسم مشاهد خيالية مصاحبة لتواريخ حقيقية. شميران مندهشة لتناولٍ مُثير شملَ شخوصاً أحدثوا انعطافات مهمّة في مسار الإنسانية وأحداثاً توقف عندها التاريخ طويلاً حفرها على صوان مسيرته. كان بلزاك وستندال الفرنسيين، هولدرن وكلايست الالمانيين، ديستوفسكي الروسي، ديكنز الانكليزي يزورنها في البيت ساعة المطالعة.. يجلسون معها جوار شجرة السدر ويبتسمون بإطراء لاهتمامها بالورد وعشقها للقراءة. تبدي إعجابها بما أنتجت مواهبهم وما عرضت. تتبرعم على شفتيها ورود سرور وكلمات تريد البوح المقرون بشيء من الحسد على خلق جميل جسَّدوه من غيوم الخيال على أرض تنعم بالرخاء الإبداعي. فتهمس : يااااااه !.. يا أنتم ! كأنها ارض الواقع... تقطع عليها الأم اللقاء والحوار باقتراح أن تصاحب أختها في التظاهرة لدعمها، فترد باندفاع بعدما عادت من جزيرة الخيال : طبعاً، طبعاً. المناسبات الوطنية الحقّة تتطلب الاحتفاء والاحتفال بها طالما تشير لكفاح يقود الإنسان نحو بناء حياة أرقى.
تعود لارتقاء زورق القراءة.. تقف عند مرفأ ديكنز؛ تكتشفه غارقاً في الضحك مع حركة سكب القلم جذوته على الورقة. يعلمها انه يضحك لسلوك " بمبل كوك " السمين الممتلىء سارق قوت أطفال الملجأ والمتوافق مع موزع الطعام على الصغار الجائعين وهم يتلمظون على حساء بائس تسرق مواده العضوية منظومة كاملة من إداريين وعاملين وحتى طباخين، وبَمبُل فوق ذلك يعيب على أوليفر تقدّمه بالطاسة الفارغة من موزع الطعام ليطلب سوباً مضافاً فيحسب فعلَ الطفلِ الجائعِ هذا جريمةً يجب ألاّ تمر دون حساب وعقاب.. تضحك شميران للموقف تسيل في روحها مرارة مقرونة بالألم على معاناة إنسانية لا حدود لها. طفولة تنتهك من طمع بشري يرتكبونه أناس مدركون وواعون." كيف يحدث هذا، أيها الرب ؟! " تتمتم.
****
كانت التظاهرة حاشدة والمشاعر عارمة أمام مبنى السينما، بجانب مستوصف حماية الأطفال. مكان حُدد ليكون مثابة الانطلاق. تدخل التظاهرة عبر شارع مصيوي وصولاً إلى الفرات. وعلى امتداد شارع الكورنيش تواصل التظاهرة تقدمَها حتى تقف عند مبنى الحكومة. هناك سيشاهدون عمال السكك غيرهم من عمال المهن الأخرى تقودهم نقاباتهم الفرعية قد سبقوهم؛ وسيأتي غيرهم لاحقاً. قد يجدون الفلاحين الذين يؤتى بهم من الأرياف والقرى والمجاورة محتشدين ينشدون هوساتهم وإشعارهم وهم يتقافزون برقصاتهم الريفية المعهودة... فرق كشافة المدارس الابتدائية، بنين وبنات، على إيقاع الطبول ونفير الأبواق تضرب بإيقاع منغم على أرضية الشوارع التي رُشت منذ الصباح بسيارات البلدية. شباب قادهم الحماس وقد زودوا بأعلام عراقية يلوّحون بها خفّاقة فوق رؤوس المارة المتخذين من الأرصفة ميادين للفرجة.
هتاف " عمال السكك فدوة لابن قاسم "، يرتفع ويعلو من حناجر مُستنفَرة وأعناق مُحتقِنة. مُحتقنة بحماسةِ مَن يؤمِن بصدق فيتصرَّف بانفعال.. صوتُ مائدة نزهت يصدح بأنشودة " أنا العراق ".. ناصر الجبلاوي يصور بكاميرة " زينث " اشتراها للتو واستخدم بنجاح حركة الزوم في تقريب وإبعاد ما يراه يصنع لقطة مميزة في صور سابقة. يلتقط الأكف تصفق بتوافق، الأفواه الفاغرة مُطلقة هتافات تعلو في فضاء الشوارع المشرعة على أهمية المناسبة، اللافتات المحملة بشعارات وطنية وأخرى تحيي الزعيم قائد الثورة، ابن الشعب البار. الأعلام العراقية تخفق بأكف تهزّها بتناغم مع صدى التصفيق.. قفزات ورقصات مَن يتقدم التظاهرة تبعث على الزهو.. لم تكن شقيقة شميران وحدها. كانت شميران إلى جانبها. ترى في المناسبة احتفالاً إنسانياً يمجِّد العمل ويكرّم اليد العاملة. شعار ) يا عمال العالم اتحدوا ( يرتفع بقلم ماركس وينطلق بحنجرة لينين. خط نسخ أحمر على لافتات من القماش الأبيض. منجل ومطرقة تتعانق في لحظة تاريخية تمطَّت فعبرت العقود من السنين، وانطلقت تعبر الجغرافية الأوربية لقارات العالم تبشّر بأممية ينتفي فيها العسف ويموت الجور. فقط الفرح والبهجة حَمامات بيضاء بمدٍّ غيمي ناصع تحلَّق في فضاء مُبهر وضاحك؛ تصفق الأجنحة احتفاءً بعرس يرفل العامل والفلاح على خميلة سروره الأبدي ويتصافحا في وثاق تاريخي يصنع الغد المشرق للإنسانية جمعاء... المشاركون المثقفون من كوادر الحزب الشيوعي يترنمون في دواخلهم بالنشيد الأممي متذكرين كومونة باريس الهاتفة : هبّوا ضحايا الاضطهاد، ضحايا جوع الاضطرار.
ناصر الجبلاوي استعد لهذه المناسبة. وضع فيلماً بست وثلاثين صورة. وقبل يوم استطلع أماكن ستخترقها التظاهرة، يحسبها ستراتيجية. أماكن سيعتليها ليلتقط ما يؤرخ للمدينة مناسبة يشترك فيها كل ذي وعي بأهمية العامل في بناء الأوطان.
ضحى اليوم الأول من مايس كراديس التظاهرة متواصلة تمر بلافتات وشعارات تُمجِّد العمل وتحيّي العامل؛ تحيّي الزعيم الأوحد وتبشّر بغدٍ جميل.. الأرصفة تزدحم بالمشاهدين المتطلعين بشوق لكرنفال كانت فيه الأعلام تخفق وشرائط من أقمشة لمّاعة بأطوال كاملة برتقالية ووردية وبيضاء وسمائية مشدودة لرؤوس الأعمدة الكهربائية أو ممدودة على جدران البيوت.. رتل سيارات متفاوتة الأحجام زُيِّنت بنديف قطن حمل مختلف الألوان تحمل صور الزعيم ونماذج صور لعمال يرتدون البدلات الزرقاء من جنسيات دولية متفاوتة رغم أن العمال ذوي الطاقيات المنقوش عليها النجمة الخماسية لجمهوريات الاتحاد السوفيتي تزيد صورهم على الصور الأخرى.. ناصر الجبلاوي يرى في التظاهرة العمالية لنقابة السكك نموذج لمسيرة عمالية راقية.. يتقدَّم التظاهرة صف من رؤساء العمال وقد شبكوا الأيدي ورفعوها تحية للجمهور مثلما أرادوها شيفرة هاتفة بوحدة الطبقة العاملة.
مع الأكف المتشابكة شميران تشارك أختها الاحتفال في الصف الأول. الشقيقتان تقصَّدتا الظهور بملابس متشابهة كتعبير عن ازدهاء في مدينة تحتاج الى الكثير كي تزيل عن وجهها بثور الخمول وعلّة الهمود.. ظهرتا كأنهنَّ توأمان، كل واحدة ترتدي : قميص أبيض يُلبس لأول مرّة، يخرج من جيبه غصن ينتهي بوردة جوري قطفتهما شاميران من أصص زهورها؛ تنورة زرقاء داكنة تتماهى ولون بدلة العمل؛ حذاء أسود بكعب عالٍ ابتاعته من معرض الماسة للأحذية النسائية في شارع النهر بالعاصمة، بناء على اتصال هاتفي من شقيقتها وهي تذكّرها بالمناسبة وضرورة الاستعداد لها بكمٍّ هائل من الحفاوة.... مَشهد حرص ناصر الجبلاوي على عدم تركه مع أنه التقط أكثر من صورة لتظاهرة نسائية. آخرها التي جرت قبل أسابيع، تظاهرة قادتها بنت المؤمن، المرأة الشيوعية التي حضرت قبل أكثر من عام مهرجاناً للشبيبة العالمية في موسكو. جوق نسائي انتهز هكذا مناسبة لإعلان رغبة التخلّص من أسار الهيمنة الذكورية وإعلان مساواة المرأة مع الرجل في واجباته وحقوقه ومرافقته يداً بيد في مسيرته ونضاله، جمع نسوي يرفل على ثرى المطالبة بازدهاء وكبرياء بكسر قيود الأعراف الجلمودية المقيتة وجعل هذه المسيرة باباً للامساك بصولجان الإنسانية القافزة على لظى نظم بائدة غير متجانسة مع ديالكتيك الحياة وإيقاعها الناحي صوب قارات النور. نساء لم يصدِّقن حضور مَن يفجّر في دواخلهن البارود الكامن منذ قرون ليطيح بمملكةِ الذكورة والاستحواذ على مقدراتهن. لم يساورهن أدنى شك في أنها فرصة تاريخية إن لم يُحسِنَّ التعامل معها ويَستفِدن من حضورها الآني سيغتالنَّ الحاضر ويخسرن المستقبل. إنهنَّ اليوم وعلى مرأى ومسمع من السلطات وطواطم الجثوم على تطلعاتهن يهتفن ويهتفن، مطالبات بسنِّ قوانين أكثر انفتاحاً على النور وإطلاق حريات تمنحهنَّ حرية الإفصاح عن رأيهن بلا خشية ولا ارتهاب، يجب الإطلال من شرفة الحضارة وقراءة تجارب الآخرين، يجب منح المرأة ثقةً في الحياة والسير مع الرجل في مضمار البناء وصنع الغد المشرق، فـ " المرأة عماد الأسرة " كانت بنت المؤمن تردد في أيَّما محفل تتواجد فيه.. " المرأة أمُّكم وأختكم وزوجتكم وابنتكم.. المرأة أنتم.. نعم المرأة أنتم " تقول مخاطبة حشد المتظاهرين، ومن ورائها تصطف النسوة بوجوه تعج بالبِشر وعيون تزدهي بألق بهجة غامرة. إنهنَّ يجدن في المتحدثة الصوت المُعبر والشجاع؛ يمثلهن خير تمثيل.. صفَّقن بتواصل عندما رفعت صوتَها لمرتبة الهتاف : نريد تحقيق العدالة الاجتماعية، نطالب بتفعيل مبدأ تكافؤ الفرص.
يدفع ناصر الجبلاوي بجسده إلى الوراء كي تستوعب عدسة الكاميرا نسبة أكبر وأوسع من الحشد المتظاهر واللافتات المرفوعة. بنت المؤمن في الوسط رافعة يدها متوائمة مع هتافها.. ناصر الجبلاوي التقط بعينه يوسف مع الجمهور المنتصب على الرصيف يصيخ السمع لما تقوله المرأة بخطابها.. لم يدر بخلده أنَّ شميران مع شقيقتها يتقدمان تظاهرة عمال السكك. فلو رآهن أو عرف لن يتوانَ عن الانخراط بالتظاهرة حتى ولو كانت لا تخصّه كطالب يفترض به الاحتفال مع المتظاهرين الطلبة... ومثلما خسر لقاء شميران في المكتبة خسر مشاهدتها في التظاهرة. إذ ترك المكان مكتفياً بما شاهد وخطا داخل السوق المسقوف يبغي شراء دفتر قرر تضمينه عنوانات كتبٍ يقرأها، ورأياً شخصياً يخص الفحوى والمضمون لكل كتاب يطالعه.. انه يسعى لتطبيق فكرة قرأها في كتاب لا يتذكر اسمه ومؤلفه من أن القارىء الجيد هو الذي يلم بالجوانب المهمة في كتاب ينتهي من قراءته ويترك رؤيته مدونة على ورق بمثابة كتيب مؤلَّف.
(17)
بائعة القيمر
وهو يقفل عائداً من تصوير مكان ارتكاب جريمة قتل سلطان شاهر ويلتقط ما يراه كافياً لفت انتباه ناصر الجبلاوي جلوس بائعات القيمر على الرصيف. أمامهن صواني الألمنيوم تحوي طبقات من القشطة الثلجية الناصعة وقد غطست ملاعق البيع في الحليب الثخين الدِّسم. كانت وجوههن تشحب من هول الجريمة وحركة الناس ولغطهم المبهم وتصوراتهم عن فعل منكر لا يمكن ارتكابه إلا بيد قاتل لا رحمة في قلبه.. الأكثر شحوباً كانت الجالسة على مبعدة منهن. شابة تتعدى الثلاثين، تلف رأسها بعصابة سوداء فيظهر وجهها دائرياً؛ حضرت مع الفجر حضور اعتادت عليه منذ ما يزيد على أسبوعين عندما اقترح عليها جوق عمال الحضور المبكِّر ليبتاعوا منها فطوراً ثم تحملهم سيارة بيك أب إلى ميدان العمل.. يتناولون الفطور على أرضية الرصيف مع شاي يقدمه لهم عامل يتخذ من جدار التوراة اليهودي مكاناً اسند فيه كشك صغير.
الفتاة اليوم أكثر ارتياباً من رفيقاتها البائعات.. وهي حائرة، مكتئِبة، قلقة. لم تر أحداً منذ حضورها فجراً للمكان يدنو من بيت حاج سلطان شاهر، فكيف حدثت الجريمة.. لم تشاهد غير عمّال يحثّون الخطى إلى أعمالهم وشراد هديب ابن قريتها البعيدة يسير مع المقاول شتيوي الياور الذي كثيرا ما اشترى منها القيمر بلا مساومة على السعر أو الوزن، واعتاد ترك بقايا العملة الصغيرة. ما الذي جلب شراد هديب قاتل خاله على ماء ساقية سلبها من حصة أرض الخال ليخطو مع شتيوي ؟!
شاهدتهما يسيران باتجاه الحديقة المستديرة. ظنتهما سينعطفان يميناً إلى شارع التجنيد إلا انهما اتخذا الاتجاه المعاكس فدخلا الشارع المفضي لمركز شرطة الخنّاق.
فعلاً، استدار الاثنان باتجاه مركز شرطة الخناق.. كان يسيران صامتين. خلّفا وراءهما متوسطة السماوة وروضة الأطفال فصارا عند الباب الواسع العريض لمبنى مركز الشرطة.. تكلم شتيوي الياور بضع كلمات سمعها شراد وتمتم بكلمة أو كلمتين، ثم انفصلا.. واصل شراد هديب طريقه باتجاه شارع النهر جوار نادي الموظفين بحديقته الوارفة الشجر بينما استدار شراد الياور داخلاً مركز الشرطة. هناك تكلم مع الشرطي الحارس المنتصب عند بوابة المركز. الشرطي أومأ برأسه إلى الداخل فتحرّك إلى فناء المركز واتجه إلى غرفة مأمور المركز.
****
في طريق عودته إلى البيت شاهد ناصر الجبلاوي حبيب يدخل مطعم أحمد لتناول طعام الفطور، كبّة برغل مع خبز مشبّع بسوبٍ ساخن وبهارات تشيع رائحتُها الفاغمة في فضاءَ المطعم. أراد اللحاق به لكنّه تراجع. لم يشأ إرباكه بخبر الجريمة ولون الدم ما قد يتسبب في تعكير مزاجه وإثارة غثيانه وحرمانه من تناول الفطور... ترك الأمر لساعة. ليسمع الخبر من غيره. سينتشر الخبر سريعاً، ومعه تأخذ الشائعات مدى أوسع ويفعل خيال المتحدثين فعله في تصوير الجريمة ومبرراتها، ومآلها.
(18)
حبيب يصعق للخبر
غب وقت قصير، وحالما رفع حبيب كبنك دكانه توجه لسمّاعة الهاتف يرفعها ويتصل بعامل البدالة يطلب منه ربطه ببيتنا.
– ألو؛ أسمعت بخبر مقتل والد يوسف ؟
- نعم.. قلتُ بشيء من الجزع... أخبرته أنَّ عدنان نقل لي الخبر، واسترسلتُ : صرخة الرعب عبرت الفرات وأيقظتني. تألمتُ كثيراً.
- يقال أوقفوا يوسف للتحقيق.
- أوقفوه أم طلبوه للشهادة ؟
- لا، أوقفوه. جعلوه ضمن مَن يُشك بهم.
- هذا يعني أنهم عاجزون عن اكتشاف المجرم الحقيقي.
- لا أدري.. أخشى عليه.
الفصل الثاني
السينما
سحر الصورة وتأجيج المخيلة
(1)
عمل المخيلة
لم تقتصر حرفة ناصر الجبلاوي على التصوير الفوتوغرافي الذي ابتدأ هواية وولع وانتهى إلى حرفة إنَّما تعدّى ذلك الى السينما؛ العالم الذي جمع سحر الصورة وتأجيج المخيلة كما يصرح دائماً بعدما هام بهذا الفن الجميل كهيامه بالصورة الفوتغرافية.
له الحق في ذلك.
فالسينما شكلت مفترقاً هائلاً في عمل المخيلة ودخلت حياة البشرية لتحقق حلماً هو سيل من أمنيات تترى.. ذلك الحلم الذي يحوِّل الخيال إلى صورة، والسرد المسموع إلى حياة مُعاشة فيصنع متعةً ولذاذة تستعذبُهما الذائقة مثلما يخلق ثقافة تتغلغل في الذات البسيطة البيضاء التي بحاجة إلى مَن يملأها فيوجِّهُها صوب شواطئ المعرفة لتنهل منها... ولدت السينما فنقلت الإنسان إلى ثقافة الصورة المتحركة التي قدمت له حياة أمم، ومشاعر شعوب، وتدوينات أفراد فدخل عوالم جديدة كانت من عِداد الخيال ومصافي الأمنية.. عرَّفته على قارات ومحيطات، جزر وغابات، مرافىء وأرخبيلات، سفن تبحر وأخرى تلوح رؤوس صواريها في الافق، موانىء تجري فيها مطاردات ويحدث فيها قتل. ميناء يُسحب فيه أدمون دانتيس إثر وشاية مفبركة سجيناً ليُرمى في سجن قصر " أيف " الرهيب، ويعود للميناء نفسه باسم " الكونت دي مونت كريستو "، رجل باذخ الثراء، ثاقب الذكاء كل همّه الانتقام ممَّن تآمروا عليه وسببوا له هوان لم يُطَق؛ وميناء ينطلق منه بسفينة تحمل البحار النجار " لاتياري " ورفاقه في رحلات تجارية وهم يلوحون لجزيرة غرناسي توديعاً، ويهبطون في بحر المانش، دخولاً إلى المحيط الاطلسي ومَخراً في عباب المحيط الهادىء.. عرَّفته على مدن بأبنية حجرية وأناس يرتدون أقمشة قطنية يقولون عليهم نبلاء يجلسون فيتحاورون ثم يصدر قائدهم الذي يطلقون عليه القيصر أمراً فتبدأ الحروب همجية، وحشية، طاحنة : رماح تقذف، وسيوف تتبارز، صيحات تعلن النصر برايات ترتفع إلى أعلى مرفرفة في الفضاء، آهات تنطلق من هنا وهناك تعلن موتاً متحققاً.. أدخلته مدناً كبيرة بأبنية لها طوابق متعددة تبهر الناظر يقال عنها عمارات وناطحات سحاب وشوارع عريضة وعربات حديثة طويلة بلا سقف، يهفهف فيها شعر الشقراوات اللاتي يقدنها.. أرته قرى صغيرة تتبعثر في روابي خضراء وسط زروع وماء أو صحراوات ليس فيها غير الهجير والصفير واللفح.. أطلعته على دسائس ومكائد، صراعات وحروب، حب واحتراقات، لقاءات وافتراقات؛ ثم قالت له سترى.. وترى.. وترى.
في البدء جاءت كأي شيء جديد يتلكأ: حركة أفراد بسرعة تثير الكوميديا؛ صامتة بلا حوار ولا مؤثرات صوتية، ومع ذلك كانت انتقالة نوعية؛ ثورة علمية هائلة ومهولة تعدت وتجاوزت ثورة الصورة الثابتة. خلَّفت الفوتوغراف وراءها، بل صار الفونوغراف تابعاً يوظَّف للإشهار والدعاية بهيئة ملصقات، وجاءت بالفيلم المتحرك يتفاعل مع الضوء الوهاج سقوطاً على جدار منبسط يأخذ اللون الأبيض مساحة للاستقبال. جاءت السينما ليتلقفها الأغنياء الميسورون مادياً ليشاهدوا أنفسهم في فيلم يتحرك على بكرة معدنية وبمساعدة ضوء وهاج. تسقط أجسامهم المتحركة على شاشة، وسط عتمة إجبارية تسود الفضاء بغية مجيء حركة الشخوص في أبهى صورة وانصع مشهد.
ولأنها فن ينمو وينهض يافعاً ومؤثراً من مملكة أحاسيس إبداع يتوهج لينشر عبقه وشذاه في فضاء الرغبة، في التحليق والاكتشاف، في التفاعل والتماهي فقد خرجت من أسار فكرة أن تبقى بيد الأغنياء فوظِّفت فنياً؛ ما أفشى سر نجاحها وانتشارها السريع والواسع، سارقةً من المسرح فن الحركة والأداء ومن الأدب سرده وحكاياته، فاردةً ذراعيها لمواهب فنية تحتدم اعماقهم بحمى الخلق.
ثمة عين ترصد، وتدقق، وتعمل لحسابات النفع المادي.. تلك كانت عين الاقتصاد الذي سرعان ما وظف المال من أجل تحقيق ربح لا سعة له يجيء به هذا الاختراع الخرافي، فأنشئت الدور وأثثت بما يُغري ويُسقط في يم الغواية والسحر، مستقطبةً الطاقات الفنية لممثلين اندفعوا بدافع حب الفن والهواية أولا ثم فرش الدروب أمامهم بورود إغراءات مادية ومعنوية تكافئ جهدهم المبذول وطاقاتهم الإبداعية المتميزة. ما لبثت أن استُحدِثت جوائزُ تُمنح لأفلامٍ استقطبتها دورُ العرض ولممثلين مثلوا، فأتقنوا، فأجادوا، فبرعوا، فحق أن ينالوا استحقاق الفوز والتكريم في مهرجانات كرنفالية مبهجة تتخللها عروض فنية راقصة ومقاطع لأفلام دخلت حلبة المنافسة على نيل الجوائز.
(2)
سينما عبد الاله، سينما الشعب
دخلت السينما العراق مبتدأ القرن العشرين كملمح ترفيهي، ثقافي توخّى جالبوه نفعاً اقتصادياً يتوازى وحقيقة متعة يخلقها للناس وسعة نافذة يطلُّ منها العراقي للتعرف على تفاصيل دنيا غائبة أو مغيَّبة عنه.
وفي السماوة التي كانت تعيش جهلاً مطبقاً وتخلّفاً رماه في وجهها حكمٌ عثماني دام قروناً وفتح عينها استعمار بريطاني كان يمثل آنذاك وجهاً حضارياً كرَّسَ صناعات حديثة متقنة وتجارة عابرة للقارات وجاء حضوره ليفتح آفاقاً واسعة للتواصل مع العالم نفّذ عبد الستار الإمامي، الرجل المتنوّر مع شريك له، مشروع بناء سينما اعتماداً على ما رآه في بغداد من رغبة الناس في الرفاهية، وشعور بتحقيق كسب اقتصادي؛ فاختار مكاناً على مساحة 1800 متر مربع سينما شتوية وأخرى صيفية تجاورها. افتتحها في العام 1948 بواجهة واحدة ومدخل واحد حملت اسم " سينما عبد الاله " ثم بُدِّلَت إلى " سينما الشعب " بمجيء الجمهورية بعد عشرة أعوام. جاء بناء السينما الشتوية وفق الهندسة والمواصفات المعمول بها لسينما عصرية. فضمت أربعمائة كرسي أرضي، وخلفهما تقاطعات " لوج "، في كل تقاطع وضعت أربعة كراسي للذين يفضلون الجلوس منعزلين عن المشاهدين الآخرين. وهناك طابق ثان للعائلات يضم مائة كرسي... واحتلت السينما الصيفية مساحة مستطيلة مكشوفة نحو السماء. أرضها ترابية يتوزع عليها عشرون صفاً من التخوت الخشبية المعرضة للشمس والغبار والأمطار في الشتاء ما جعلها غب الأعوام المتتالية بلا انتظام وجعل أرضها تعج بقشور المكسرات من البزر الأحمر والأبيض والفستق الأخضر وأغلفة السجائر الفارغة : غازي ولوكس وتركي والمختار، وسجائر الروثمن و الكريفن والكَمِل والدنهل المُهربة... وفي الخلف كان اللوج المخصص للعائلات. لم يشاهد الذي يدخل السينما ويلتفت إلّا عائلات الموظفين الغرباء وعائلات الإماميين القريبة اجتماعياً من شريحة الموظفين. ولم يحدث أن دخلت عائلة من عائلات السماوة تشغل كرسياً أو لوجاً بفعل تحفظ كان شائعاً، وتزمتٍ مفروض، وخشية من نقد سلبي يأخذ باعاً على ألسنة من لا يروق لهم هذا المنبت الحضاري النيّر.
كان مدخل السينما مربعاً يغلق ويفتح بباب من الحديد المشبك السلايد. تواجهنا عندما نقف في وسطه باب الدخول الى رواق مستطيل يقع على يساره بعد كل خمسة أمتار باب للدخول إلى القاعة الشتوية المغلقة. وبعدها بخمسة أمتار أخرى باب آخر ثم يعقبهما في نهاية المدخل سلم يرتقي بالرواد إلى الطابق الثاني المخصص للعائلات ثم صعوداً توجد غرفة تشغيل ماكينة العرض التي تبث ضوءها لتسقطه على الشاشة البيضاء.. وعلى يمين الفناء باب تأخذ بالرواد من العائلات إلى اللوج في حين يوجد بابٍ ثانٍ بعد خمسة أمتار وثالث بنفس المسافة تؤديان إلى فناء السينما الصيفية.
على يمين مدخل السينما باب وضعت على جانبها قطعة خشب من الصاج اللامع كتب عليها بخط الرقعة " الإدارة "، وعلى يساره باب تقابل باب الإدارة وعلى جانب منها ثمة فتحة مربعة وضعت فوقها قطعة مماثلة من الصاج كتب عليها " بيع التذاكر". على الجدران ألصقت إعلانات تشير إلى أفلام عربية وأجنبية. ملصقات ملونة لأفلام سبق عرضها تلفت انتباه المشاهد وتحفزه على رغبة الدخول لمشاهدة فيلم اليوم، وملصقات لأفلام أخرى ستعرض في الايام اللاحقة.
(3)
الأفلام قاموس المتعة
الدخول إلى السينما يعني الدخول إلى جنة الأحلام أو دعوة إلى قاموس حياة يزودك بما تتمنى وما تحتاج من مفردات التعرف على الدنيا بكل تفاصيلها، الظاهرة والدفينة.
حضور السينما إلى السماوة جسَّد الانتقال من ضفة رتابة تكدِّس جهلاً كاتماً وعتمة تكاد لا تنتهي إلى ضفة نور وهّاج يضيء درباً يمنح بهجة بلا حدود، ويهب متعة بلا قيود.. نور يهبك صولجان السير في طريق الشعور بأن الأحلام لا تقتصر على المسافة القريبة من رموشك بل الدنيا البعيدة عن تصورك.
جاءت الأفلام، عربية وأجنبية، فاتحة عالماً جميلاً تهافتت عليه جموع الغارقين في أنفاق الحرمان، التوّاقين للوصول مشاهدةً إلى آفاق الحياة في العوالم الأخرى. طبيعة متفاوتة وحياة اجتماعية متنوعة. ممثلون وممثلات يؤدّون أدواراً مُتقنة فينالون اعجاب المشاهدين.. قصص وحكايات مُجسَّدة حركياً تعيش مع شخوصها بهنائهم وسرورهم، بعذاباتهم وحرمانهم.. أحلام تحلّق كالفراشات فوق الأسرّة أو دموع تتقاطر كالندى على الوسائد. تتأسّى على نفس تتعذب مثلما تغضب على متجبّر يُعذِّب.. كوميديا مُسرّة تصنع الضحك داخل النفوس ودراما أليمة تُنتح حزناً يُلظي الأرواح.. تدانٍ وابتعاد؛ لقاء وهجر، تواد وعتاب، اعتذار وزعل، توق وجفاء.
الأمزجة تتنوع، والأذواق تتفاوت، لكن السينما واحدة.
الفيلم العربي له حصة الأسد عند الفتية بينما الكبار يهيمون عندما تطل عليهم اشهارات الفيلم الاجنبي.. الممثلون العرب شغلوا الفتية كثيراً بينما الكبار سقطوا أسرى الممثلين الأجانب.. الفتية يغرمون بكل ما يُضحِكُهم، ويقلّدون ما يُسقِطُهم في شِباك المتعة السهلة.
فيلم عنترة وعبلة عُرضَ على شاشة السينما بكادرين تمثيليين في زمنين متباعدين قليلاً. دخلنا لمشاهدة الاثنين. الفيلم الأول مثَّله سراج منير وكوكا؛ والمرة الثانية كان بطله فريد شوقي وكوكا أيضاً. ووفق الحدس والمقارنة وجِدنا أداء سراج منير يفوق روعة أداء فريد شوقي لِما امتاز به من قوام فارع فيه من ضخامة وتقاسيم وجه ما يتوافقان في المخيلة وصورة عنترة الشجاع والفارس الذي لا يُهاب في حين بدا فريد شوقي متكلِّفاً بذراعين مجنحين وحركات لا تمثل عزم عنترة وانفعالاته وإقدامه على السواء، غير أن حركات وأداء شيبوب معه في التمثيل هو ما ما ميّز الفيلم الثاني. أثار انتباه الفتية من الرواد وشجّعهم على متابعته لما كان يؤديه من حركات بهلوانية ودور كوميدي مع شِعر بسيط يتوافق وذائقتهم. شعر صاروا يحفظونه ويرددونه في الشوارع والأزقة بأداء تمثيلي بفعل تكرار مشاهدتهم له، بما فيه من ضحك وبهلوانيات. وباتوا حالما يأتي دوره في الفيلم يروحون يملأون صالة السينما صخباً مرددين قول شيبوب في مخاطبته للحبيبة المفترضة :
انتِ تقلعيلي عين وآنا اقلعلك عين ونعيش عوران اثنين.
إسماعيل ياسين أيضاً استقطب ذائقتهم بأسلوبه الخاص في العرض الكوميدي فشهدوا أفلامه " في الجيش "، و" في الطيران "، و" في البحرية "، و" بحبوح أفندي" يشاركه فيها عبد السلام النابلسي ورياض القصبجي وثلة من الوجوه الكوميدية.
عُرض فيلم سبارتكوس وبطله النجم الأمريكي " كيرك دوغلاس ". أحدثَ ذلك الفيلم وقعاً مؤثراً في نفوس الجميع، صغاراً والكبار. ظلت آثاره تتفاعل مع فشل ثورته في تحرير العبيد وإعدامه دون تحقيق حلمه الكبير في تحريرهم وإعادة نصاب حق المسحوقين من الجياع والمحرومين.. وليس بعيداً عن الذاكرة " طرزان " المخلوق البشري الذي نما وترعرع مع الحيوانات في الغابة، وصار يتعامل معها ويعيش دفاعاً عنها حين يجيء مَن يصطادها أو يقتلها. ولا يمكن نسيان " شيتا " القردة الشمبانزي الأثيرة إلى نفسه، المصاحبه له في عيشه وتحركاته.
الوَسترن..
أفلام " الوسترن" كان لها عظيم الوقع في النفوس. فلافتة عرض الفيلم حين تشير إلى هكذا نوع من الأفلام تُزف البشرى للأصدقاء بإنَّ فيلم اليوم فيلم "عصابجي".. أفلام ازدهرت أواخر الخمسينات وأوائل الستينات بطراز الوسترن حيث ملبس المجتمع الأمريكي في القرن التاسع عشر وما قبله : قميص وبنطلون وحذاء جلدي "بمؤخرة حديدية مستديرة ومسننة"؛ وعلى الرأس قبعة جلدية دائرية عريضة وحول الخصر حزام يتدلى من جانبه الأيمن مسدس " ريفولفر " ويسميه الفتية " أبو البكرة "؛ وعلى ظهر الحزام تتراصف الاطلاقات ذهبية لامعة.. وعادة ما تجري أحداث الفيلم في قرى نائية وفضاء صحراوي منعزل. وكثيراً ما كانت الاحداث تتفاقم جراء عملية قتل يتبعها ثأر وانتقام بلا رحمة، أو تصارع قوى فيها الشر في البدء متسيد وجاثم بوسائله البشرية المتجلمدة قلوبها مع خير يتحرك رويداً رويدا بذكاء وانتباه وقوة داخلية تواجه الشر وأدواته بلا تقهقر أو نكوص. وفي الختام تندحر قوى الشر وتؤول إلى خيبة فضيعة وسط ارتياح الجمهور المتابع الذي مؤكداً يقف مع البطل " رمز الخير " فتراه يُطلق التصفيق والصرخات المبتهجة بالانتصار في فضاء السينما مؤّيدةً وفرِحة.
سفن وقرصنة
القراصنة الجبابرة الدمويون وقطاع الطرق البحرية كان لهم حصةً في السينما. موجة الانقضاض على السفن الكبيرة لمصادرة حمولاتها والاستيلاء على ثرواتها وانتزاع مملتكات ركابها يستفز ذائقة المشاهد وهو يطالع : مال وذهب ولآلىء ومجوهرات وتجارة منقولة تشمل السجاد والطنافس والعاج والبهارات الهندية والملح. موجة مهاجمة الجزر المأهولة. يقتلون رجالاتها ويفتكون بنسائها ثم يعودون محمّلين بالعبيد والنساء والمال المسروق.. لا يتقايضون ولا يتبادلون. الاستحواذ بمعناه الجلي والصلافة بأبجديتها الجلفة. تعاملهم بحد السيف والبارود. بهما يتخّذون قرار السيطرة والامتلاك، وبالدم المراق يدوّنون انتصاراتهم الوحشية.. يعبّون الخمرة دهاقاً على نجاحاتهم فينطلقون بالرقص والغناء والثَّمَل، يتمايلون ويتعثرون ويسقطون، يفتكون بالنساء المأسورات ويتنافسون على الترتيب في الاغتصاب.
يتقدم بيرت لانكستر الايطالي قائمة الممثلين الشهيرين ممّن يؤدون أدواراً متميزة وناجحة في مغامرات القرصنة. فمع فيلم القرصان الاحمر THE CRIMSON PIRATE مشترِكاً مع نِك كرافات والحسناء أيفا باتروك وعلى مدى مائة دقيقة وفوقها خمس رحلَ المشاهدون الحالمون وذوو الخيالات الجامحة في أول فيلم شاهدوه.. بحار وخلجان وأرخبيلات وسفن تجوب المسافات المائية في أفق يشابه لون الذي تحته من ماء والذي فوقه من فضاء حيث الزرقة الشذرية الغامقة المشوبة كثيراً بالغيوم تناسباً مع مَقدم الفصول : غيوم كنديف القطن بيضاء ناصعة تتكتل في السماء بحشود زاهية تبهر النفوس تزرع فيها قصيدة هناء متراغية توارب ابواب النفوس المبحرة على عطاء السماء الثر؛ غيوم دكناء رصاصية تزحف جالبة معها أظافر الكدر لتخدّش خدود النفوس المحملة بالخشية من المجهول في رحلات طويلة غريبة وغامضة، غيوم تُنبيء لحظة التحديق في عمقها وغورها بمصير يصل حدَّ الموت الزؤام عبر عاصفة عاتية تأتي بها رياح مجنونة تأمر الغيوم أن تنزع احشاءها من الماء وتطلق بريقها المصحوب برعود مرعبة كأنها غضب السماء حين تعتورها حالة هستيريا. شحنات كهربائية تحتك وتتصادم منتجة هولاً تتمايل فيه السفن وتتطوِّح. يرتفع الموج أمتاراً وينخفض أمتاراً. تنقذف اجساد البحارة من جانب لجانب، من مقدمة السفينة الى مؤخرتها. تنكسر أعمدة الشراع ويتمزق قماشها. تتدلّى الحبال من أعلى الصواري، وتتمايل البراميل مع حركة تمايل السفينة، وبالعكس. تنقلب الصناديق فوق بعضها، ويخشى البحارة المنشغلون في السيطرة على توازن السفينة التي تستحيل أمام الهياج المهول مثل قشّة من أن تنقذف عليهم الصناديق فيلاقون الموت بعيداً عن الأهل، أو يصابون بتكسّرات الأعضاء وخطورة الجراح فيبقون يعانون من آلام لا شفاء منها وسط هيولي ينأى عن موانىء ومرافىء يمكن ايجاد مَن يعالجهم ويشفيهم فيها. إنَّ جلَّ ما يخشونه هو عربدة الطبيعة وهياجها؛ لذلك كثيراً ما تعتريهم رغبة التخلّي عن ذهب حلموا بالاستيلاء عليه من سفن مارة، وصرفوا النظر على زمرد وياقوت وعقيق ومجوهرات ومعادن ثمينة أخرى كانوا يتلمظون ويسيل لعابهم فتظهر بعض من اسنانهم الذهبية بديلة اسنان سقطت في معارك واشتباكات سابقة لمجرد ذكر اسمائها عندما تأتيهم بواكير رياح مسرعة أو دفقة غيوم رمادية تمرُّ على عجل.
الرؤوس الحالمة والقلوب المحتدمة من الفتية والمراهقين المتابعين لعالم البحار وجزئياته وتفاصيله وأبجديته تمنّوا كثيراً التلبِّس بلبوس البحارة الفرسان الباحثين عن المغامرة العصية والمصمّمين على ادراك مكامن المجهول. فرسان سيقضون على القراصنة القتلة الأجلاف متحجّري القلوب، متجمّدي المشاعر؛ ولكن من أين لهم بالسفينة وأنّى لهم الإبحار والفرات نهرٌ محدود المياه متجاور الضفتين !
لا يمكن نسيان فيلم " أم الهند " ! الملحمة السينمائية التي تعرض صراع الانسان المُستَلَب ضد أخيه الانسان المتسلِّط.. لا يمكن نسيان أفلام هيتشكوك الغريبة ومتاهاته الغامضة غوراً في النفس البشرية وسلوكيات الانسان في تعامله مع ذاته وما تفرزه سنوات عمر خلت.. وهل يمكن نسيان سقوط الامبراطورية الرومانية وعمر الشريف مع الايطالية صوفيا لورين بإدارة اخراجية قل مثيلها وحسن صنيع مبهر في ادارة جموع الكومبارس بأعدادهم المهولة ؟.. هل يمكن التجاوز على فيلم " ذهب مع الريح" وصراع الشمال الامريكي الناحي باتجاه تحرير العبيد واحترام كرامة الانسان بعيداً عن لونه مع الجنوب المنفعل والغاضب على قانون التحرير المعلن من قبل الرئيس الامريكي ابراهام لنكولن فيركن في خانة النسيان. لقد شاهدناه خمس مرات حتى بعد أن ملَّ عدنان من مشاهدته وشاركته أنا، لكن أبا زهرة أصرَّ وبرجاء أن نرافقه ونشاهده احتراماً لعشقه له وتماهيه في احداثه وإكباره لسكارليت اوهارا التي صممت على انقاذ مزرعة أبيها بأي ثمن ؟.. ماذا عن فيلم " صانع المطر " لبرت لانكستر مع كاترين هيبورن، و" تعالَ سلِّم " تمثيل فريد الاطرش وسامية جمال، و" ايامنا الحلوة " لعبد الحليم حافظ وعمر الشريف وفاتن حمامة، و" حياة او موت " ليوسف وهبي وعماد حمدي ومديحة يسري، و" اغلى من حياتي " لصلاح ذو الفقار وشادية، وأفلام تترى تسعى عبر المتعة إلى تربية الذوق الانساني، مُدينةً ظلم الانسان لأخيه الانسان وفاضحة ما تعانيه الانسانية المُعذَّبة وعارضةً إلى العاطفة البشرية حياةَ المعذبين في الارض وما يواجهون من عسفٍ مُبرمَج، وتهميش مقصود، وحرمان حقوق سماوية، مقرون بسلب عرق مسفوح بلا مقابل يعادل العطاء؛ وقتل بلا رحمة، وسفك دماء بتشفّي، وترنم على ايقاع آهات.. عناء، وأنين، ولوعة ؟!
(4)
شخوص افرزتهم السينما
أنتجت السينما نماذج صارت العين السماوية تشاهدها ترفل على أديم الشوارع والطرقات.. شارع مصيوي كان ميداناً، وشارع الكورنيش كان ميداناً، وبساتين الخزاعل في صوب القشلة كانت ميداناً. أما التأثر في المظهر فكانت المدينة بأحيائها وأسواقها وشوارعها تُقدِّم وجوهاً تستطيع بسهولة ادراك فعل السينما عليهم: موضة الملابس، شكل الشعر وتسريحته، طريقة المشي والتحدث.. تأثر لا يمكن اغفاله. وإذا كان مصطفى الاخرس الذي اعتاد اعتلاء المسرح في السينما الصيفية وقبل ابتداء الفيلم ورفع يديه دعوة لإثارة انتباه الجلاس ومن ثم يرفع صوته بنبرات متلعثمة يحيي الزعيم عبد الكريم قاسم بعد أن كان يهتف بتحية الملك فيصل الثاني ويهتف بحياته فيطلق الجلاس بعده كلمة " يعيش " لثلاث مرات يعقبها التصفيق فإن ثلاثة من الفتية أو الشباب جمعتهم السينما بأفلامها الساحرة لكنَّ الاهواءَ فرقتهم بتأثيراتها المتنوعة.
مجيد وأفلام الوَسترن
سادت موجة افلام الويسترن في خمسينات القرن العشرين. تلقفتها ذاكرة عشاق السينما من المشاهدين لتتعرف على ممثلين أجادوا فن التمثيل وبرعوا في أداء الأدوار. اشتهر غاري كوبر وكيرك دوغلاس وجون وين وغريغوري بَك وجون ستيوارت وبرت لانكستر ورولاند ريغن الذي أصبح بعد ثلاثة عقود رئيساً لأمريكا يديرها بشيء من قسوة يتصف بها بطل افلام رعاة البقر. قسوة كرّسها اليانكي الامريكي لإبادة الهنود الحمر سكان أمريكا الاصليين بتهمة الوحشية وعدم رضا حياة الحضارة وقبول أبجدية التطور. قسوة خارقة من باب الدفاع عن النفس أثّرت بشكل فاعل، حافرة وجودها في ذاكرة الناس البسطاء من المشاهدين في ولادة كرهٍ طبعَ مفردة "الوحوش " على أسئلة المتابعين. وفعلت الصورة فعلها العكسي فجعلت أولئك المشاهدين يتعاطفون مع رعاة البقر ويسقون أرض دواخلهم بكره لذوي البشرة الحمراء الذين يهجمون بوسائل بدائية لقض مضجع المتحضرين الساعين للزراعة المنظمة وتربية المواشي بعلمية وبناء التجمعات القروية الحضارية، فانطلت عليهم الحيلة المبرمجة؛ ناظرين لأصحاب الحق والمدافعين على أنهم معتدون يستحقون القتل بنزعة تشفّي تريحهم مع انتهاء الفيلم، والخروج محمَّلين بنشوى انتصار البطل على اعدائه الوحوش.
يسرع مجيد مخترقاً السوق المسقَّف خارجاً من بيوتات " آلعاقول ".. يخرج غير آبه للناس وحركتهم.. يخرج من ظل وعتمة السوق الى الجزء المكشوف تحت الشمس.. لم يحسن غسل وجهه ولم يجلس أمام والدته كي يتناول فطور الخبز البائت من الأمس وقدح الشاي الاسود المحترق لكثرة بقائه على طباخ النفط الابيض.. مَن يبصر مجيد تلك اللحظة يظن انه مُرسل من قِبل أبيه الى عمل فيه من الاهمية ما يستدعي الهرولة. لكن مجيد ما كان يحث الخطى إلا ليقف أمام واجهة السينما التي تكون تلك اللحظة مغلقة بالباب الحديدي المشبك ليشاهد من بين التشابكات الفيلم الذي سيعرض ذلك المساء. يعرفه من خلال قطعة صغيرة معمولة من خشب المعاكس وقد كتب عليها " فيلم الليلة "، ثم تنتقل عيناه لقراءة لافتة أخرى على الجانب الثاني من جدار صالة بيع التذاكر كتبت عليها كلمة " قريباً ".. وبقدر ما كان مجيد يحب أفلام الأكشن والدراما المصرية فانَّ ولعه الشديد انصبَّ غب مشاهدات متعددة على افلام الوَسترن، أفلام تكساس والصحراء الامريكية. أفلام رعاة البقر بزيِّهم الخاص. قميص كتان له جيبان مزرران في الصدر وذؤابات خيطية تتدلى من نقطة ارتباط الذراع بالكتف حتى ظاهر الكف؛ بنطلون جينز ينتهي بحذاء جلدي بنصف عنق؛ قبّعة جلدية مستديرة عريضة بشكل ملفت للنظر؛ حزام جلدي عريض يحيط بالورك ويتدلّى من جانبه غمد برصاص مصفوف ومسدس سريع الاطلاق، لكن بطل الفيلم لمهارته وتفوقه وسرعة حدسه في مواجهة أكثر من عدو بآن واحد عادةً ما يتمنطق بمسدسين يستخدمهما سوية لحظة المواجهة.. مع هذه الافلام يتيه الخيال وتُستفَز المخيلة. إنَّ الخيال مبعث خلق السعادة؛ والسعادة رجاء انساني سهل التحقق في الخيال. مَن تطرق بابه السعادة يهنأ، لكن زمن زيارتها قصير جداً، يتهشم بالتطيّر والخشية من شعور ان الحضور لن يأتي بغير ثمن. والثمن قد يكون كبيراً ومدمِّراً وماحقاً؛ نتائجه الجنون.
في يوم عرض أحد هذه الافلام بمقدور من يقترب من السينما قبل بدء بيع التذاكر بوقتٍ مشاهدة مجيد بدشداشة مقلَّمة ونعال مطاطي مترب وقد اشترى بعشرة فلوس بزر أبيض من دكان ستّار حنوش أو كاظم لوفه ودسَّ الكيس الأسمر الصغير في جيبه. لا تغريه النفس ولا تدفعه الذائقة الى فتح الكيس وتناول جزء مما فيه عند الانتظار. إنَّ له مع البزر طقساً لا يستعذبه إلا مع شروع عرض الفيلم؛ فيروح يتابع ويكرّز بلذّة لا تضاهيها لذة.
بدأ عشقُه لأفلام الويسترن من فيلم " قتال القوافل FIGHTING CARAVANS" الذي جعله مترجم السينما بعنوان " العربة الاخيرة " لكاري كوبر، وفيلم " الرجل من لارمي THE MAN FROM LARAMIE" لجيمس ستيوارت وكاثي أودونيل، وبعده " القيادة THE COMMAND " لغي ماديسون وجوان ولدن. ثم تتالت مشاهداته وولعه حتى استحال الولع سلوكاً يومياً ومشاهدات من باب الادمان. ذلك أثار انتباه الناس وقسَّمهم الى قسمين : قسم يسخر من تصرفاته ويحسبها مثيرة للتفكّه والضحك، وقسم يتأسى ويحزن لأن مثل هاتيك السلوكيات قد تسوقه نحو هاوية فقدان العقل.
ومن أجل أن يبدو ككاري كوبر وجون وَين وغريغوري بَك استعان بالبنطلون والقميص والحذاء الذي يرتديه في المدرسة واحتاج لقبعة تشبه قبعة كاري كوبر.. ولما شكلت القبعة عائقاً لتحقيق كامل الحلم والظهور بمظهر راعي بقر لا تنقصه ناقصة جذبته تسريحة شعر جيمس دين في فيلمه " ثائر دون سبب REBEL WITHOUT CAUSE " وأعجب بها، مقرراً أن تكون بديلة للقبعة. ماذا يفعل؛ العين بصيرة واليد قصيرة.. دام ذلك ما يربو على الشهر.. ولقد فؤجي بعمّه، يوماً، يجلب له قبعة بنّيّة عتيقة ابتاعها من سوق الهرج في بغداد.. تذكَّر مجيد رجاءً أمطره على العم إن سافر إلى بغداد الاتيان بقبعة تشبه قبعة جون وين.. المفاجأة حدثت من شدة يأس الحصول عليها في السماوة لاعتياد اهلها لبس العقال واليشماغ فيما الموظفون والمتحضرون يترجلون حاسري الرؤوس؛ يتركون المشط يمارس حواره التجميلي مع الشعر.
يترجل في الزقاق تاركاً البيت وسط لوعة الأم وخجلها من منظر ستنهال على مسمعها استفهامات الجارات وتعليقاتهن وتنبؤاتهن بجنون لابدَّ سيقع في بركته فيتلوث عقله ولن تستطع لا هي ولا أبوه وأعمامه من انتشاله. يخرج الى شارع مصيوي. يترك صيدلية مؤيد قدوري، يتجاوز عيادة بولص بهنام سياوش قس. يمر بجوار أطفال تجمعوا حول عربة خشبية بثلاث عجلات صغيرة؛ أطفال يمسكون بطاسات معدنية وشوكات ترفع قطع شوندر حمراء إلى أفواههم المفغورة لالتهامها ثم يكرعون السائل البارد اللذيذ فيما أطفال ينتظرون دورهم بعدما سلّموا البائع عملةَ الخمسة فلسات. يخاطبه جبّار النجّار من داخل دكّانه فلا يلتفت إليه، ولا يرد. تحاذيه، مارةً، سيارة مرسيدس بثمانية عشر مقعداً استؤجرت من سلطان الشاهر لسفرة مدرسية انطلقت إلى آثار الوركاء تحمل طالبات متوسطة السماوة، المدرسة الوحيدة التي تكرست بعد صراع عنيف استمر أعواماً بين معارضين لتعلم البنات ومتحمسين للأخذ بيدهن إلى مرافىء النور. الفتيات تطلّعن من وراء زجاج النوافذ لمنظر مجيد الغريب ففجّرن ضحكات لم يسمعها. فقط شاهد قسمات وجوههن يسكب دهشةً.. يقترب من بيت معلمه رؤوف جيجان فلا يكترث إن خرج وشاهده بهذا المظهر. إنّه في عالم الوَسترن وأمامه معركة لابد من الانغمار في هياجها والاستمتاع بلعلعة الرصاص والغبار المتعالي في الفضاء.. يصل مدرسة سومر. يتسلق سياجها الحجري، ويروح يتهادى. يطالع الأرجاء بحثاً عن منافسين بالمسدسات الريفولفر ذي البكرة المتحركة يبغون مقارعته أو هنود حمر يكمنون لحيان الفرصة والهجوم عليه.. بين لحظة وأخرى يستدير فيستل بسرعة خارقة فكي خروف من غِمدين هما كيسا جلد ربطهما بحزامه حول خصره. الفكّان استخرجهما من مخلفات بائع باجة وكوارع وجعلهما مسدسين تدرب كثيراً على استخدامهما.
يتبختر على السياج العريض. يختار أهدافاً يخمّنها عدوّة؛ يروح يخطو ثم يستدير بسرعة خاطفة موجِّهاً مسدسيه العظميين الى هدف مُفتَرَض فيطلق الرصاص من فمه : كيو، كيو، كيو، كيوووووو؛ فينتعش. يتخيَّل سقوط الهدف مُضرَّجاً بالدماء متلّويّاً من شدة الألم، يتخيّل رصاصةً نفذت إلى القلب المرتعَب، ورصاصة اخترقت الجبهة وخرجت من خلف الجمجمة، يتخيَّل صف المشاهدين للمنازلة يطالعون المشهد باهتمام وتوفّز ثم يتفجر الاعجاب في العيون وتندلع الأكف بالتصفيق. ترتخي اسارير وجهه. يرفع نهايات مسدسيه العظميين، وبنفخة من فمه يوجهّها لفوَّهتي المسدسين. حركة تمثيلية متقنة شاهد أحد ابطال الوَسترن يؤديها طرداً لدخان البارود بعدما حقق اصابة مباشرة لأهدافه البشرية التي سقطت صرعى، بلا نفَس ولا حركة.. لا يخشى مجيد السخرية ولا يأبه للعيون المستهجِنة المُلاحِقة لمظهرهِ الغريب ومساره غير المعتاد بل ينتشي لتصفيق زمر الصبية المنبهرين بمشهدٍ تمثيلي يعجزون هم عن ادائه، مُكبرين فيه شجاعةً يتحلّى بها ومدينين جُبناً يعشش فيهم.
يهبط من السياج وقد أرضى غروره وأشبع دواخله بما يجعله قادراً على الوقوف إلى جانب رعاة البقر، يضاهيهم في البطولة ويقارعهم في الأداء.
ناصر الجبلاوي التقط له صورةً وكان يخشى عرضها للمارة في معرضه الزجاجي خشيةً من أمرين : الأول هو احتشاد صبية الازقة الذين سيُستثار فضولهم لرؤية الصورة والتمنّي بأداء وارتداء يشبه أداءه وارتداءه؛ والثاني خشية سخرية ستقود مجيد إلى الغضب والهياج وتهشيم زجاج المعرض بحجارة سيجمعها من الطريق اعتقاداً منه أن عرض الصورة يُراد منه الاستهانة به والتفكّه عليه. وذلك ما لا يبغيه ناصر الجبلاوي، الرجل الحذِر في تعامله مع الناس في مهنة يراها خطيرة تتطلب الحذر مع الآخرين وتستدعي السريّة في ما يخص تصوير النساء اللاتي يأتين لالتقاط صور لهن سواء لمعاملات رسمية أو لتأرخة مراحل حياة يمررن بها، وأرشفة بهاء وألق يتَّصفن بهما.
مجيد يُعلن ولعه
كل شيء حولي يسحرني.. أستيقظُ مع الصباح فأسمعُ صوت النهر؛ ماؤه يستحم بفيض الشمس وينغمس في صفرة مبهرة كالذهب. أسمع النهر جذلاناً لأن بيتنا قريب منه. ليس غير زقاقين وأربعة بيوت تفصلنا عنه. كل صباح، ومع سعادة النهر أسمع ضربات حوافر الحمير القادمة من جهة بساتين محمد علي. حمير تأتي محملة بخضروات وفواكه محلية قُطِفت قبل وقت قصير لذا تُعرض في الصباح يانعة يُقبل عليها الناس اقبال مَن ينتظر لحظة حصاد سنابل مالت من سويقاتها مُثقلة بالشوق لمن يحصدها فيحقق حيازة امتلاكها.
كل شيء يسحرني.. النهر صديقي. جرّني شقيقي من غير أمي. يكبرني بعشرة أعوام. هو ابن زوجة أبي الأولى، ذلك أن أبي متزوج من أربع نساء. الدين يبيح له التزوج من أربع أو أكثر شرط أن يعدل.. هل عدل أبي فعلاً ؟.. هل يعدل أي أب تزوج من أربع ؟.. هل يتلقى الأبناء وهم كثر رعاية أب يخرج صباحاً ليشقى ويكد في مدينة تتوسل الله أن يغدق عليها سلامه ورزقه على قلته ورضاه ؟ كل يوم اسمع تذمّر زوجات أبي، منهالات عليَّ وعلى أخوتي بما في افواههن من حجارة التقذيع، وحين نخرج من البيت نسمع جاراتنا العجائز وهنَّ يكنسن مقدمات بيوتهن يرددن : " جاءت عجّة الغبار !.. يا للرجل الذي لا يفكر إلا بشهوته ! ".. محقّات هنَّ بتعليقاتهن. فأمي إذ يأتي الدور عليها في عمل العجين تضع ثلاثة كيلوات من الطحين في الطشت وتدوفها بقبضة يدها؛ أسمعها تتألم وتتمتم متذمرة : سم.. سم وزحير. وساعة تشرع في لقم التنور بأقراص العجين وإخراجها أرغفة جاهزة للالتهام يتكوَّم تل نلتهمه جميعاً في وجبة الغداء. وتعود لدوامة العجن والخبز عند الغروب وإعادة تكويم تل آخر سنفترسه بشراهةٍ مثل جيش عوقب بالحرمان من الأكل ثم اطلق سراح شهيته... أقول جرّني أخي من غير أمي مع ثلاثة من اخوتي وخمسة من صبية الجيران المقاربين لي بالعمر إلى ضفة النهر؛ وطفق يطلق الأوامر :
- اخلعوا ثيابكم وأخفوها بين الحجر.
خلعنا نحن التسعة جميعاً الثياب، ومعها الفانيلات القطنية الموحلة وبقينا بالشورت الداخلي.
- سأدخل قبلكم إلى الماء، وعندما اقول لكم هيّا. تبدؤون بالنزول إلى الماء ببطء ولا تتعدوا حدود ذراعيَّ اللتين افرجهما لكم بخط مستقيم.
دخل الماء واثقاً وسط اعجابنا بشجاعته. انتصب في مكان ينأى ثلاثة امتار عنّا. رفع ذراعيه فبدا لنا كعيسى المسيح في صورة صلبه.. قال : هيّا.
بحركة خطى مشوبة بالخوف والتهجّس شرعنا بالنزول. تلقت اقدامنا الماء ثم غطست سيقاننا، ثم انغمست شورتاتنا الداخلية في التيار ولم نعد نراها. وحين وصل الماء الى أدنى القفص الصدري وشعرنا ببرودته تدغدغ بطوننا الملساء قال : قفوا.
توقفنا..رفع بعضنا ذراعيه باستقامة تشبه استقامة ذراعي أخي وبعض لصق عضديه بصدره. لم تكن الحركة تقليداً لأخي ورفع الذراعين محاكاة لما فعل انما البرودة التي تسربت إلى اجسامنا من الماء جعلتنا نجفل فنفعل ذلك.
- حسنا.. وقوفُكم داخل الماء لهذا الحد جيد.. اعجبني التزامكم.. الآن اثنوا ركبكم داخل الماء بالتدريج واجعلوا اجسامكم جميعاً تغطس في الماء.. لا اريد هامة رأس احدكم جافّة.. الشجاعة تبدأ من هنا.. شجاعة مقرونة بانتباه وحذر.
غطسنا جميعاً؛ ومع غطسنا سرت في اجسامنا قشعريرة قاومناها خشية من عقاب أخي الذي حذَّرنا ونحن نقطع الطريق الى النهر مشياً بإلغاء تدريب وتعليم غير الملتزم بتعليماته، محذراً أن الخطأ يؤدي إلى الغرق. فتعلم السباحة ليس في النهاية نزهة ونزق انما مهارة.. والمهارة تحتاج إلى تدريب ومران وصبر، بعيداً عن العبث، تجنباً اللامبالاة.
ساعة من الغطس، وساعة من خشية أخي علينا عدنا إلى بيوتنا محمليّن بشغف العودة إلى النهر، ومتأججين بأحلام السباحة بلا مراقبة ولا أوامر. فقط اتقان وكلام واثق ينطلق من فم أخي، هاتفاً بنا : اذهبوا، فأنتم الطلقاء.
ويا لعباس ابن علاهن !.. يا لتلك الليلة التي جاءنا ونحن نلعب " اجانا كس النَّعَجه " وسط خلاء الزقاق من النساء بفعل صيحاتنا وصخبنا ونحن نؤدي اللعبة غير مبالين بحكم براءتنا وطفولتنا. بل في الواقع لا نفقه تأثير الكلمات عليهن.. جاءنا عبّاس وعيناه تطفحان بانبهار جعلنا نتوقف ونسأله : " وين كنت ؟.. افتقدنا حضورك. ".. وبشيء من العتب رددنا : " مو إنت قائد مجموعتنا، يا عباس ".. صمته الطويل وانتقال نظراته من وجه لوجه جعلنا نهتف بصوت واحد : ها!..شنو ؟... فتأتي دهشته مدافة بسرور امطرته عيناه.. " اجيت هسه من فيلم عصابجي ". وراح بحركة افتراضية يستل من خصره مسدساً ويطلق علينا النار من فمه " كيو.. كيو.. كيو " واحداً فواحداً... راح يقص متعته لمشاهدة فيلم كله قتال بالمسدسات، ويمثل انتقام البطل ممن قتل زوجته وطفليه بغيابه.. ومَن قتلهم بلا رحمة سيعرفهم بحكم ذكائه وحدسه المصيب عصابة من ستة اجلاف يقودهم رجل عتي لا شبيه لقسوته.. سأصحبكم غداً.. قال.. سأجعلكم تشاهدون المواقف في العارضة الزجاجية للصالة الخارجية. ستشاهدون البطل كيف انتقم من الجميع شر انتقام.
متى يأتي الصباح.؟. ولماذا طال هذا الليل ؟
ليلة اليوم الثاني كانت اصواتنا تمزق هدوء السوق ونحن نخترقه متحدثين عن المواقف البطولية وضاحكين على تصرفات جبن القتلة حين يواجههم رجل شجاع.. ويوم عرض فيلم " القطار الأخير " كنا أول الداخلين في صفوف تخوت بطاقات الاربعين فلساً. تعرفنا فيه على كيرك دوغلاس المارشال الذي انيط به تحقيق العدالة وإشاعة النظام في قرية من قرى الشمال الامريكي مثلما عرفنا انطوني كوين.. ومثلما شاهدنا الفيلم السابق وانتقام البطل من قاتل اسرته شهدنا المارشال يلاحق قاتل الفتاة الهندية بعدما لاحقها اثنان هي وأخوها الفتي وهي تقود عربة عائدة من المدينة باتجاه اسرتها فاعتدى احدهما الذي سنعرفه الابن المدلل لانطوني كوين عليها جنسياً. وعرف المارشال من خلال سرج الحصان الذي هرب به الصغير واعلم من قبل الفتى بما حدث لأخته. فيهب الى قريته بالقطار وهناك يلقي القبض عليه، لكن احد اصدقاء القاتل الشاب يتهور فيطلق النار على المارشال بقصد قتله فتخطيء الرصاصة طريقها لتصيب قلب الصديق. عندها يشعر انطوني كوين بالجزع لمقتل ابنه المدلل فيتقابل مع المارشال عند محطة القطار وسط رجاء الأخير في عدم المجابهة. وأخيراً تسرع رصاصة المارشال لتصيب قلب الأب فتطيش رصاصته في الفضاء.
توالي الافلام وتهافتها أشعل مخيلتي بما يجب أن أكون.. وما سأكونه هو أحد ابطال الوَسترن.
شاهدني احمد بائع الباجة وأنا اقترب من عربته وأفتش في حاوية المخلفات العظمية التي يبيعها لزبائن بأسعار ارخص من باجة اصحاب المطاعم.. سألني عمّا ابحث عنه. فقلت : فكوك. ضحك لطلبي واندهش : ماذا تريد بالفكوك ؟!.. واستخرج لي بعضاً.. سحبت من يده اثنين دون أن أرد على سؤاله.
كنت وأنا اقطع السوق عائداً إلى البيت احقق نصف مرادي، وكان حضيري ابو عزيز يصدح بأغنية " يحضيري بطل النوح واهدأ اشوية // نوحك بعد شيفيد راحت هدية " من راديو يضعه جبار سمير على رف في مقدمة مقهاه فيكثر عدد الرواد لا لشيء إلا ليتيهوا مع الغناء الجميل واستنهاض ذكرى احباب رحلوا وغابوا. هل يدركون انني أحمل فكي خروف مسكين ذُبح وصارا قطعتي مسدس سأطلق من خلالهما رصاصات انتقامي على القتلة والسارقين ومنتهكي اعراض الناس معتمدين على جاه يضمن لهم السلامة، ينأى بهم عن الحساب ويبعدهم عن العقاب ؟
في اليوم التالي رحت استطلع الأماكن التي سأجعل منها ميداناً لقتالي ومواجهتي.. تركت الزقاق ودخلت درب آلرباط. مررت بشريدة وحلاّن المعوقين عند صندوقيهما الذي يبيعان فيه المشروبات الغازية ويعرضون السجائر والعلكة. طالعاني بنظرة اهتمام فحدست انهما فهما مقصدي فأسرعت دون القاء التحية مع اني اعتدت تحيتهما ولو بشيء من المكايدة. خرجت الى شارع الكورنيش. عبرت الشارع الى الجانب الآخر. وقفت عند السياج المطل على الفرات. بعثت بنظراتي الى جرف النهر وتساءلت : ايمكنني اداء الدور هنا ؟.. دواخلي سريعاً رفضت. فاستدرت. دخلت شارع مصيوي.. تركت خلفي عيادة باقر المشاط. مررت من أمام صيدلية مؤيد قدوري، خطوات وجابهتني لافتة عيادة الدكتور بولص بهنام سياوش قس، هذا الطبيب الذي كثيراً ما دخلت عليه بعد شوط سباحة طويل في النهر حيث اقطع تذكرة الدخول المجانية من مسجل الباصات. يسألني بعينين تقطران حناناً ووجه مسيحي مرتوي لا يشبهه أحد من رجالات مدينتنا. أقول اشعر بالإنهاك والخمول، فيقول وجهك أصفر، سأسجل لك حقناً مقوية B12. ومعها حبوب فيتامين سي تمصها مص وليس بلع.. أخرج وأذهب إلى الصيدلية واستلم العبوات. وحين أخرج أبحث عن زاوية لأرمي ما بيدي من دواء استلمته وأهرب.
أواصل السير.. وأجد نفسي عند مدرسة سومر وسياجها العالي، وساحتها المشرعة لمواجهة الاعداء.
غداً سأجيء إلى هنا.
غداً.
نجم وستيف ريفز
ظل سحر قامة وبناء جسم ستيف ريفز الجميل بالعضلات المنتفخة اللامعة يتنامى في مخيلة نجم، وظل نجم لأيام متتالية يدخل فيلم " هرقل الجبار ". يطالع الصدر الممتلىء وعضلات البطن الست تبرز بتناسق يشبه تناسق رخامات على صفين، لكل صف ثلاث عضلات يكون ترتيبها عمودياً : عضلة كبيرة اسفل القفص الصدري، فعضلة أصغر فأصغر بينما عضلة عضده ممتلئة ومنتفخة تشبه جسم فأر ضخم، مع عضلة الترايسِبس تبرز مظهره وجوداً يشبه الهيكل العلوي لكوخ. أما عضلات الفخذين " الدبني " فقد أخذت من نجم الكثير من الوقت والتفكير.. لقد وقف في واحدة من دوّامات التفكير والتأمل طويلاً أمام المرآة. خلع قميصه وفانيلته الداخلية حدَّق في صدره، وتملى بطنه. نظر جانبياً إلى ساعديه والجزء القادر على رؤيته من ظهره. شعور بالزهو تنامى في رأسه. قال : يمكن أن اصبح مثل ستيف ريفز، فأنا أملك ما يملكه؛ فقط تمارين متواصلة وغذاء جيد : حليب، لحم أحمر، كبد غنم وبقر، كرفس ورشاد وريحان، بروتين اشتريه من صيدلية مؤيد قدّوري. بار الحديد وأقراص التمرين بالإمكان عملهما من الاسمنت بعدما اصنع قوالب وخلطة اسمنت ورمل وحصى. أصف كرسيين من كراسي البيت لاستلقاء الظهر وإجراء تمرين البنج بريس. نعم كل شيء تحت السيطرة، كل شيء أقدر عليه. سأكون ستيف ريفز السماوة، سأكون هرقل الجبار. ستكون قمصاني الصيفية القادمة بنصف كُم، سأشتري بلوزات تي شيرت شفّافة بحيث يرى الناظر عن بعد حجم عضلاتي المثيرة فيخرج بحصيلة أن مَن يسير في الشارع بطلاً من ابطال الكمال الجسماني. قد يحالفني الحظ فاشترك في بطولات الجمهورية وأخطف كأس البطولة من علي الكيّار وعباس الهنداوي؛ وقد انافس سيرجيو اوليفيه عالمياً.. تاه في الأمنيات، وأبحر في مياه التخيّلات. وصل جزر التحقّق وعاد بكؤوس وميداليات ذهبية فقط، تاركاً الفضية منها والبرونزية للحُسّاد من اقرانه وللذين يحلمون بمضاهاته... لكنه حين خلع بنطلونه وحدَّق في المرآة داهمته كآبة ثقيلة. لمح ساقيه وفخذيه مقوسين. لا يشبها ساقي وفخذي ستيف ريفز. ذلك أخذ منه الكثير. صار دخوله إلى الفيلم مراراً يصاحبه هاجس الخشية من أن لا يصبح كبطله النموذج. وبين ظهور هرقل بعضلاته المحتقنة، وهو يهد القلاع المتحركة التي تشبه قلاع احجار الشطرنج أو يسحب بالسلسلتين المشدودتين إلى معصميه عشرات الحراس والمقاتلين. وبانتهاء تفاصيل المعركة كانت مشاعر نجم تحتدم. يود لو يدوم المشهد وقتاً أطول كي يتملى حركة عضلات الساقين وتضخم الفخذين وتصلب اليدين وهما ترفعان ما عجز عن فعله الفرسان المقاتلون.
بغضون اسبوع كان سطح الدار يجمع في زاوية منه طاولة مستطيلة من كرسيين مصفوفين، وبارات حديد، وأقراص كونكريتية مختلفة السُّمك. صار سطح الدار ميداناً للتمرين.. كل فعالية يؤديها ثمان مرات بثلاث دفعات بين لحظة استراحة قصيرة وأخرى.. وحين يصل لفعالية البنج بريس لابد من الاستلقاء بظهره على الطاولة المستطيلة ورفع البار الحديدي بطرفين يحملان قرصين اسمنتيين متساويي الوزن. هذا يتطلب وجود رافعة يسند عليها البار. ولأنه عجز عن استحداث ذلك عملياً قرر الاستعانة بصديق.. صار كلما يأتي وقتُ الاداء تسلَّقَ الحائطَ المطل على الزقاق ونادى على اثنين من فتية يحسبهما قادرين على رفع البار، كلٌّ من طرف.
ستة أشهر صرفها في التمرين المتواصل والغذاء النوعي ومتابعة ستيف ريفز من سينما الشعب.. ستة أشهر تابع خلالها أفلام ستيف التي جاءت بها ادارة السينما تباعاً وبعناوين أخرى : لص بغداد، وساندوكان، وموركن القرصان. وكان كل مرة يشاهد فيلماً تزداد في داخله رغبة ان يُنظر اليه كبطل.. صار يرفع ذراعيه قليلاً وهو يخطو في الشارع دلالة أنَّ عضلات الابطين كبرتا وتضخمتا فجعلتا الذراعين المنتفخين أيضاً مجنحين.. عند الحلاقة صار يطلب من الحلاق عمل قَصَّة شعر تشبه قصة ستيف. وحين أبدى الحلاق جهله أتاه بصورة يقف فيها هرقل وبيديه سلسلتين حديديتن يقارع بهما جموع المهاجمين من الجنود الأعداء.
المرآة صارت قرينة له في البيت أو المقهى التي تضم جدرانها مرايا أو الواجهات الزجاجية التي تعكس بشكل نسبي صورة المنتصب إزاءها. المرآة عامل اغراء ومكمَن غواية. يطالع قوامه فيحس أن شهراً من التمرين جعل عضلاته تسحب العيون الى الغرق في بحيرة الاعجاب والدهشة والإكبار. يحدِّق في وجهه فيخرج باستنتاج يُقر بتشابه ملامحه مع ملامح ستيف.. إنَّ سمرة ستيف البرونزية في " هرقل الجبار" تشبه سمرته، وعيناه الحسيرتان الدقيقتان رغم صغرهما تشبهان عيني ستيف... ودَّ لو ذهب الى بزّاز فاشترى ما يعينه على تفصيل بدله تشابه ما يرتديها هرقل؛ والى سرّاج يعمل له حزاماً جلدياً عريضاً، وحزامين جلديين قصيرين يشدَّهما حول معصميه، ونعلين بخيوط جلدية دقيقة يلفها حول ساقية؛ وبذلك يغدو التمييز بينه وبين هرقل صعباً للناظرين.
يُمعن نجم في التأمل.. يقارن بين واقع متحضّر بعيد يعيش فيه ستيف نجماً سينمائياً لامعاً وسط بهرجة اعلامية مثيرة تلاحقه فلاشات الكاميرات وأقلام الصحفيين وكراريس المعجبين، وواقعه المرصود بعيون الفضول وأفواه التفكّه وإشارات السخرية.. لطالما تمنّى الذهاب الى عبّاس جباره، معلمه الفنان التشكيلي ذي الاسهامات الاخراجية في المسرح وأداء التمثيليات ومقابلته بغية عرض مقترح اقامة مسرحية لهرقل الجبار قاهر الأعداء يؤدي هو فيها دور هرقل عارضاً مقدرته وإمكانيته المتميزة على الاداء.
مرةً، وفي لحظة رحيل يحمله زورق حلم يقظة تحاوره فتيات الأمل ترك نجم سريره قاطعاً رحلة استرخاء. ارتدى قميصه وبنطلونه، مشَّط شعره، نظر في المرآة كداعم لكل أمر ينوي الولوج اليه؛ نثر قطرات من عطر الـريف دور على خديه، استدار يطالع قوامه من الخلف، ثم بلحظة كان يبرح الزقاق داخلاً السوق المكشوف.. روح هرقل تمور في داخله، عضلات ستيف تأخذ مكان عضلاته. تلبِّس عنجهية وكبرياء هرقل. يرتفع الذراعان، تنقبض البطن، ينكمش الخصران.. إنه الآن هرقل يخطو في مدينة السماوة، أو ستيف يقول جئتكم من هوليوود لأطبع انفاسي على أديم فضائكم.. سيقابل معلمه دون تردد، متخايلاً يخطو وسعة ابتسامة المعلم تخيلها ستستقبله مقرونة بفخار واعتزاز.. معلمه يجاهر على الدوام بضرورة تخطّي السائد وركل الماضي. مجاهرته تلك متأتية من ثقافته الفنية وعمق قراءاته للأفذاذ والعظماء الباصمين بصمات نقل الانسانية من حقبة لأخرى مقرونة بنور ومحفوفة بهناء تضيئلاً لعذابات سرمدية عانتها الاجيال البشرية. فالاثنان " السائد والماضي "، يرددها بصوت تمثيلي يقلّد فيه الفنان يوسف وهبي " أصفاد مقيّدة لحرية المعاصم، ومثقِلة لحركة القدمين ".
يخطو نجم متجاوزاً مقهى علي عمّار وروّاده من شاربي النارجيلات وهم يطالعونه بعيون يسرق احتراق التبغ انفراج عيونهم ويفعل الخدر فعله في رؤوسهم. يمر من أمام بائع احذية وشباشب وجزم مطاطية وكواليش ترتديها العجائز، يفضلنها لخفتها وقت جريهن لحضور التعازي والزيارات من بيت لبيت. يطالعه عبد الله العساف من شرفة الفندق فيبتسم ويهز رأسه مبرراً تألق وتأنق نجم لفترة الشباب والمطامح المنفتحة على قهر المستحيل. يتجاوز ثلاث خراف ربطهما صاحب مجرش الحبوب أمام محله متسلياً بقضمها الجت والتهام الشعير أو السحالة من اناء حجري غير مهتم لانزعاج المارة وضجر جيرانه اصحاب المحلات.. ينحرف يساراً ليكون عند مدخل المدرسة. يلج الباب المشرع ليكون بمواجهة جمع التلاميذ المنشغلين في أداء تمثيلي إزاء مخرج العمل، معلمهم متعدد المواهب.
لم يلقَ من استاذه التشجيع؛ إذ المسرحية السائدة والمُراد عرضها على المسرح، آنذاك، هي المسرحية الاجتماعية التي تثير المشاعر لا التي تعرض بطولة جسمانية قد يمتعض لها الجمهور ويمقتها.
اقتنع بكلام استاذه لكنه لم يقع أسير براثن الاحباط. فراح يواصل تمارينه الرياضية في سطح الدار.. يواصل ويواصل... ولما كان نمو العضلات بطيئاً ويتطلب غذاءً جيداً ومركَّزاً شرع الملل يدب في روحه. فقد مر عام كامل لم تظهر له عضلات كالتي يمتلكها ستيف ريفز؛ مضافاً لها عدم لفت انتباه أقرانه وأصدقائه إلى ما يشير أنه يمارس هذه اللعبة المقرونة بالصبر والتحمّل. ويوم سأل صديقاً بشيء من الابهار عن رؤيته له كبطل ضحك الصديق ساخراً ومتفكِّها، وكانت الطعنة الكبرى في ذاته عندما قال له الصديق : " ما أشوفك غير ديك مهلوس."... بعدها ترك التمرّن واكتفى بمتابعة ستيف ومشاهدة افلامه وقراءة أخباره إلى أن حلت ساعة انطفاء نجمه المفضل عندما وقعت بيده مجلة " نجوم الرياضة " التي يصدرها مليح عليوان من بيروت، وهي مجلة متخصصة ببناء الاجسام، استعارها من قريبٍ جلبها معه من البصرة، فتاه بها سحراً.. شاهد ابطال العالم بعروض تبعث على الابهار، وبدا له ستيف ريفز " ديكاً مهلوساً " مقارنة مع الأجسام المتفصدة عضلات والهياكل المتباهية بتقاسيم جسدية تبعث على الرهبة، والدهشة، والإعجاب. بدا له ستيف ريفز عجوزاً بعضلات تثير الضحك، لا تنفع الدهون التي اريد لها تلميع التشريحات العضلية وإظهارها بارزة متضخمة في اخفاء جسد لا يملك من الحيوية الا ما يبعث على البؤس.
نجم يقول اندهاشه
بالأمس ذهبت إلى ناصر الجبلاوي. عرضت عليه راجياً الحصول على صورة ملونة لستيف ريفز من مجموعة الصور التي يلصقونها داخل المعرض المزجج في الصالة الخارجية بحكم معرفته بعبد الستار الامامي صاحب السينما وتواجده المستمر مع مشغل الفيلم في كابينة العرض. أشرت عليه بالحصول على تلك التي يقف فيها ستيف ريفز وهو يصارع نمراً بينما نمران مرميان على الارض المتربة وقد تمزقت اشداقهما ولفظا انفاسهما بعد معركة حامية كان ستيف المنتصر بفعل قواه الخرافية الخارقة.. الدم ينز من صدره أحدثتها مخالب النمور المتوحشة التي نشبتها في عضلة الصدر وستيف لم يأبه للدم ولا للألم. انصبَّ همّه في أن لا يتمرغ بتراب الهزيمة فيسخر منه القيصر المشرف من مقصورته على ميدان المصارعة لحظة يغرز النمر انيابه ويمزق له حنجرته فيصرعه وتنطلق قهقهات المشاهدين وهم يملئون المدرجات بالصخب، رافعين القبضات يحيون النمر المنتصر ويسكبون من ما وراء محفّات رموشهم غيوم الشماتة على هرقل الطريح الذبيح.
أربكني ناصر الجبلاوي حين واجهته وفي قلبي يقين أن سيعلن بشارة حصوله.. أفهمني معتذراً أن الصور الملونة المعروضة لابد من اعادتها حسبما اعلمه عبد الستار الامامي مع بكرتي الفيلم والدعايات الورقية إلى تاجر الافلام في بغداد.. وبحكم دماثة خلقه ورهافة حسّه اقترح عليَّ فكرة أن سيحصل من المشغّل على لقطة سيقصها له من شريط الفيلم. وبدوره سيقوم هو بتكبيرها في الاستوديو. فقط الصورة ستكون بالأسود والأبيض كما قال... شكرت للرجل عرضه لكني استثنيت الفكرة ووجدت في الصورة ذات اللونين شكلاً شبحياً لا تُظهر ستيف ريفز كما هو في الصورة الملونة بطلاً لا يضاهيه أحد في امتلاء عضلاته ومقارعته الاهوال.
ولتجنّب خيبتي، وخشيةً من فقدان الصورة الدقيقة لبطلي الخرافي في المخيلة طفقت اذهب الى الصالة الخارجية للسينما بعد فتحها فأصرف وقتاً طويلاً مُحدقاً في الصور الملونة المعروضة خلف الزجاج.. كانت الصور مثبتة بالترتيب :
الصورة الأولى : ستيف بذقن مكسو بلحية سوداء كثيفة متخذاً دور هرقل والى جانبه سيلفا كوسينا بثوب أثيني شكَري مفتوح الصدر، وحاسراً في الاسفل لمنتصف الفخذين. يلفه من الخصر حزام جلدي عريض مُطعم بفصوص من الزمرّد؛ فتاة مثل وردة مُعطرة مغموسة بندى الصباح، على عربة يجرها حصانان بلون الحليب. ستيف يمسك بلجام الحصانين وقد بدت على وجهه صرامة القيادة فيما سيلفا تطالعه بعين الاعجاب الغارق بحب يتنامى مع كل استدارة في طريق أو انحراف حاد يثبت فيه سيطرته على جموح الحصانين وحسن توجيههما آن يحدوهما هاجس السقوط في منحدر صخري يجعلهما يجفلان ويحوران، ثم يسقطان إلى جوف الوادي.
الصورة الثانية : هرقل داخل مغارة مع سيلفا ويوليسس ابن لارتيس ملك ايثاكا الذي صاحبهما في العربة بعدما ترجى أبوه من هرقل العناية به من أجل الوصول بسلامة. يقف هرقل على حافة صخرة بركانية بمواجهة الشيخ أديبوس الملك على عرش ثيبات وهو يمسك عصا وقد بدا متذمراً جراء شكوى قدمها الابن، مفادها سرقة أخيه السلطة منه وتركه مهمشاً.. يتولى هرقل مهمة مواجهة الأخ المستحوذ وإبلاغ غضب أبيه على سلوكه ووعيده بالويل إن لم يعد لأخيه مكانته.
الصورة الثالثة : ستيف يرفع تمثالاً عملاقاً هو تابوت للإله اخناتون فيرميه بوجه مقاتلين دعتهم الاميرة عاشقة الرجال الاقوياء لمواجهة هرقل وصحبه بعدما فشلت في ترويضه وتحنيطه كعهدها بمن تقضي زمنا شبقياً معه ثم تعطي أمر التحنيط على أيدي مصريين مهرة يتقنون فن التحنيط بحيث يبدو المحنَّط كأنّه حي.
الصورة الرابعة : وفيها يستنهض هرقل كل قواه فيوقف حركة بابين حديديين ضخمين مسننين يتحركان ببط جراء ثقلهما حتى تتداخل الاسنان الفولاذية في ثقوب تنتظرها، فيحكم الاغلاق، ويغدو انفتاحهما من عِداد الخوارق والمعجزات.. يفعل هرقل ذلك كي يتسلل اتباعه إلى ممر يقودهم إلى منفذ يطل على البحر فيعتلون سفينةً تنتظرهم للإبحار لمقاتلة سارق عرش أثينا من أخيه.
وعندما أُلصق فيلم هرقل المنتقِم Hercules the Avenger على جدار الصالة الخارجية وكُتِبَ تحته " قريباً " ضاق صدري وتعسَّر نفَسي، ووجدتني اتحرَّق شوقاً. فلو كان قد كتب تحت خانة عرض " الاسبوع القادم " لقلت عليكِ يا روحي بالصبر؛ أما أن يكون قريباً فالقريب قد يكون اسبوعين او ثلاثة أو أكثر، وقد يتم استثناء جلبه من العاصمة.
ولم يكد يمر اسبوع واحد حتى رفع ملصق الفيلم ووضع في خانة الاسبوع القادم.. ولم يكن الموعد كاذباً فقد انفرجت اسارير النفس عندما مرَّ في السوق حامل الدعاية وهو يردد كأنه يعلن البشارة : هرقل مرة ثانية.. هرقل يحرر الأسيرات.. لا تفوتكم مشاهدة الفيلم ".. صوته لا يثير انتباه الكبار بقدر ما أثار الصبية فراحوا يتراكضون، يسبقونه؛ ثم يتوقفون. يتفرسون بمحتويات الاعلان : ساقا هرقل المطويان بخيوط من جلد منفرجان بثوب متهدل اعلى الركبتين.. وما بين الركبتين المنفرجتين تنتصب عن بعد فتاة شقراء بثوب من قطعتين؛ القطعة الاولى تخفي الصدر وتبان البطن كمرآة، والثانية تبدأ من أسفل الخصر حتى منتصف الفخذين وقد افرجت ساقيها وأخفت كفيها خلفها تتيح للمحدق بحدس أنها مكبلة.
ذلك المساء كان ملحمة. كان فيلماً وارب أبوابه وكنت بعينيَّ المتابعتين، وذاكرتي التي تصوّر، وعاطفتي المتأججة، وانصاتي الشديد لنبرات صوت هرقل الرخيم وملاحقة متى يسترخي ومتى يغضب، ما الذي يريحه وما يوتّره فيجعل جسده كتلة عضلات تثير داخلي حب تقليده عندما أعود إلى البيت وأشرع في التمرين ثم أقف إزاء المرآة أحاكي حركاته وانفعالاته.
بعد أيام من انتهاء عرض الفيلم وإعادته إلى العاصمة حدث ما لم اتوقعه.. صبي وهو يدفع بطائرته الورقية الى السماء ويطعمها خيطاً فتذهب بعيداً وسط متعته وإشباع فضوله البطولي في انتصار حقَّقه لمحني من فوق جدار بيته. الطفل ترك التطلع للطائرة وراح وسط دهشة مستحمة بالذهول يطالعني.. أداء التمارين ولمعان جسدي من التعرق اثار فضوله. رأيته يهبط ويغيب... بعد دقائق عاد ومعه صبيّان ارتقوا الجدار وصاروا يتابعونني باهتمام.
يوماً بعد يوم ازداد عدد الصبية المرتقين جدران بيوتهم. ازداد تعلقهم بمتابعتي مع كل تمرين أمارسه؛ ثم تجاوزوا المتابعة إلى طلب برجاء أن أقدم لهم عرضاً بحركات كالتي يؤديها ستيف ريفز في أفلامه.
طرزان الخزاعل
كان جوني ويسملر بقامةٍ ممشوقة اكتسبها من هوايته كسبّاح نال الجوائز وحصد الميداليات خير نموذج ومثال يحتذى. تلقفته السينما في الثلاثينات ليحقق حلم ادغار رايس بورغس الذي اخترع بخياله السردي شخصية فطرية اسماها طرزانTARZAN. مخلوق بشري جعله يعيش في أدغال افريقيا وغاباتها كقارة بِكر ترافقها حميمية وتعاطف مع مخلوقات الغابة فينبري رافضاً ومناهضاً ومحارباً محاولات الرجل الابيض المستعمِر الطامع بثراء على حساب قتل هذه المخلوقات.
ولأنه عاش من طفولته في الغابة فقد مارس الانتقال عبر اجزائها، من شجرة لشجرة، بواسطة حبال يعلقها أو هي من شيئيات الاشجار الكثيفة. بنى بيته على اغصان شجرة ضخمة، وآوى اقرب مخلوق يتآلف معه؛ قردة أطلق عليها اسم شيتا. اعتاد طرزان على اطلاق صرخة خاصة به كتعبير عن غضب أو تنبيه حيوانات لخطر قادم يدنو منها ,. السينما التي تبني وجودها على الاثارة وتحقق الربح الوفير كمؤسسة ترفيهية لابد أن تبحث عمّن يكون أداة لذلك. لهذا وجدت بالبطل السبّاح ممثلاً رئيسياً حملته إلى غابات افريقيا السوداء. وهناك حيث العالم الغامض والحيوانات التي تعيش بأنواع وأحجام غريبة على الانسان الامريكي كانت الكاميرات والكوادر الفنية تتحرك فتتحرك معها مخيلة المشاهدين لطرزان في سلوكه وتصرفه وتعاطفه وغضبه وحنوه وانتقاله من شجرة لشجرة دون أن تمس قدماه الارض إلا عند الضرورة.
وكان إن جلب عبد الستار الامامي مجموعة افلام من بينها " طرزان الرجل القرد"،" طرزان والمرأة النمرة "، طرزان يجد ابناً "، " انتقام طرزان "،" كنز طرزان السري " سلسلة من محفزات خيال الفتوة.
وضع المشغِّل بكرةَ "هروب طرزان Tarzan Escape " في عتلة الدوران، أشعل الضوء المتوهج بفولتية عالية، أدار عتلة التشغيل فانطلقت حزمة النور من مربع في جدار غرفة التشغيل الى الشاشة البيضاء المستطيلة قاطعاً 30 متراً لتظهر خارطة افريقيا مرسومة على لافتة ومؤطرة ببرواز من ورق اشجار وأغصان فيما زاويته اليسرى السفلى تحتل مخطط الاتجاهات الاربع وقد توزعت أحرف ( AFRICA ) على الخارطة. اعقبتها لقطة حملت اسم شركة فوكس ( TWENTIETH CENTURY- FOX FILM CORPORATION ) وأسفلها بحروف صغيرة كلمة " تُقدِّم "، ثم أدناها جاء اسما : جوني ويسملر و مورين اوسيلفان
ساد الصمت فضاء القاعة، وتصالبت العيون على الفيلم الجديد بالأسود والأبيض.. مشهد انجلى عن غابة دكناء كثيفة الشجر. من بين المشاهدين في القاعة ثمة شاب اسمر البشرة، طويل القامة. له نحافة أو بالأحرى رشاقة خلقها العشق المستديم للسباحة في نهر الفرات، كون النهر قريباً من بيته. هذا الشاب، المشاهد، ركّز النظر، أرهف السمع، شحذ الذاكرة لاستقبال ما ترى. هذا الشاب انقطع تلك اللحظة عن العالم المحيط. انقطع عن صديقين يجلسان جواره، صحبهما عابرين الجسر الخشبي ومخترقين السوق المسقف باتجاه الدخول الى الفيلم الجديد.
كان بثوب موحل، وخف جلدي عتيق، وشعر مر المشط عليه ليوصل الدهان الابيض من القنينة الزجاجية الشفافة التي اشتراها من بائع كماليات. اشتراها ليخفف من خشونة الشعر الأكرد ويرطب البصيلات. هذا الشاب وارب أبواب الروح شوقاً، ودهشة، وانبهاراً وهو يرى الغابة تشبه بستان أبيه وبساتين اعمامه المجاورة. ومثلما في الغابة أشجار جوز عالية وأشجار بأسماء متنوعة : بلزا، إلوان، بقم، كابوك متشابكة ففي البستان شجرة توت وغَرب وكالبتوس وسدِر تتداخل اغصانه ونخيل تتقارب سعفاته وإن كانت تخلو من السعادين والسناجب والببغاوات والطيور ذات المناقير الصفراء الطويلة التي يشاهدها تتقافز وتطير مع تحركات طرزان وانتقاله.. شاهد طرزان بقوام رياضي يشبه قوام سبّاح، قال في سره جسمي يشبه جسمه.. ولمّا كان طرزان عارياً إلا من جلد يغطي وسطه وسكين يشده الى حزام فرك كفيه فرحاً :" أنا كل يوم اسبح باللباس الداخلي، وهذا يشبه الجلد الذي يغطي وسطه، ولدينا في المطبخ اكثر من سكين؛ سأختار الاقرب الى سكين طرزان. أما صرخته المتميزة فبمقدوري الدخول الى البستان وممارسة الصراخ كما يصرخها هو. فقط ما يعوزني" الشيتا.". من أين له بأفريقي يبيعه شيتا.. لكنه وبومضة بارقة في الرأس :" استطيع استبدالها بمرهون..القط الابيض ذو الاذن الصفراء.".
الخيال والحوار مع الذات، التداعي والاسترجاع سرقوا منه الكثير من مشاهد يفترض التركيز فيها. لذلك خرج تلك الليلة ولم يشبع فضوله.. تلك الليلة كانت الوسادة الطرف الثاني في الحوار مع ذاته؛ ونهار اليوم التالي كان طويلاً كي يستدين من جدته مبلغ اربعين فلساً يبتاع به تذكرة الدخول لوحده هذه المرة. انه يبغي التقاط الفيلم بكامله، ومتابعة حركات طرزان حركة فحركة، فيتقمصها ويؤدّيها.
***
سألته جدته : أسمع عواء كلب.. من اين دخل لبستاننا ؟.. أبوك يتطيَّر من وجود الكلاب النجسة. اذهب.. ابحث عنها وارشقها بالحجارة لتترك البستان.
كلام الجدّة يثير فيه روح الفكاهة. يريد اخبارها أنَّ ما سمعته انَّما هو صوته يقلّد فيه بطلاً لفيلم مولع به جاداً لا مازحاً، مولعاً لا عابراً؛ فيستدرك في سره : مهما أوضحتُ لن تفهمه. وما سأقول لابد سيثير تهكمها.. أيُّ طرزان، وأيُّ عواء !.. ستقول أخرح الى السوق ابحث لك عن عمل بدل تقليد الكلاب والارتماء في بئر الترهات.
بين انغماره وتماهيه في شخصية طرزان وابتسامات رسميّة التي تأتيه من ما وراء جدار السعف الفاصل بين بستان اهله وبستان اهلها تقلبت أيامه.
أُعجبت رسمية برشاقته وخفته؛ تعلقت به، وكانت ترهف السمع لقش يُداس وأغصان يابسة تنقصف على أرض البستان المجاور. ترهف السمع لحفيف اوراق شجر الرمان والتوت والبرتقال لتدرك أنَّ أحداً يمر فتُحدث فتحةً في جدار السعف لمشاهدة مَن يكون. وإذ تلمحه وتتأكد من وجوده تشرع متظاهرةً بجلب الحشيش للبقرة المربوطة إلى جذع نخلة بغناء الشعر الدارمي سعياً لإثارة اهتمامه.. شعرٌ تجيد تنغيمه يطرق باب مسمعه بطرقات شغف.. تردد بصوت ملؤه العاطفة :
شو خاله ملتمّات كلجن على هواي
جبته برشيح العين ومراجف جلاي
يتكرر هذا البيت مراراً. يسمعه يومياً يقطر لوعةً ويمطر دعوةً للحب.
في واحدة من هذه الدعوات اعتلى كومة طين متحجّر جوار جدار السعف. شاهد قواماً يتثنى في ثوب أخضر تتراقص عليه ورود صغيرة كثيفة الورق بيضاء وصفراء ووردية كأنها نثرت لتقول قصيدة. الساقان طويلتان لفتا بشريط من قماش قطني أبيض يقارع لفح الحر وصبغة الشمس ينتهي بقدمين يضمَّهما حذاء كتّان رمادي. الشعر بلون القهوة جمع في ربطةِ قماشٍ ناصعة مُستعملة للمرّة الأولى. الوجهُ مستدير. خُيّل اليه انه يشبه رغيف خبز جنوبي مُحمَّص. العينان واسعتان فيهما حور أرداه دهِشاً.. فاه بنبرة خجل تترجم تردداً : صباح الخير !
انقطع الغناء وتوقفت اسطوانة النغم الولوع. انفرجت عيناها ولهاً !.. أحقاً تسمع تحيةُ من فمِ فتى الأمنيات ؟!.. قالت له : أسمي رسمية، وقال لها: اسمي حسّان.
التعارف بالأسماء ولّد مواعيد صارت تحصل يومياً؛ تتحقق عند جدار السعف. يتبادلان الكلام عبر هذا العازل الواهن أمامهما، البرزخ السرمدي إزاء رغبتهما.
في عالم سعادة تتجسد واقعاً وحياة برارٍ تشبه حياة طرزان بكل تفاصيلها عاش أيامه. ينتهي من لقاء رسمية فيقفز ليمسك حبلاً متدلياً يحمله إلى أعلى شجرة كالبتوس صنع بين تقاطعات اغصانه مكاناً للجلوس والارتماء على اوراق خضراء كانت كالفراش وعريشة تقيه ضوء الشمس وحرارتها اللاهبة. يقضي اوقات ضحى أو ساعات قيلولة مرتمياً. يغمض عينيه فتأخذه زوارق الكرى الى جزيرة عامرة بالغابات وغزيرة بشلالات وأنهر وسواقي ماء نمير. ماء يشبه فضةً تجري وتترقرق لميعةً، بهيةً، زاهية ونهار يصدح باشراقات النور الباهر. هناك يعيش مع رسمية؛ عاريان إلا من قطعة جلد تغطي أماكن محظورة من جسديهما؛ معهما تتقافز الشيتا، ويتهامسان في موضوع انجاب ولدٍ يعيش سعادة حياة البراري وينهل من شهد ثمار الغابات.
تتوالى الأيام مهمة تواصلهما.. يعيشان حياة العشق. تأخذهما طيور الأحلام في رحلات سعادة ينفتح امامهما فضاء فسيح. يشاهدان من علٍّ السماوة ببيوتاتها وشوارعها ونهرها الخالد.. يشاهدان بستانَي اهلهما فيسران لرؤية النهر يسقيهما عذب مائه وصف اشجار الغَرَب يعمل سياجاً أخضر مع النهر ونخيل البستانين مع البساتين المجاورة. سجادة خضراء تزهو تحت وهج الشمس. يقول في سرّه كأنه يخاطبها : انظري فعل الخلود الذي صنعه اجدادنا كي تستمر الحياة يانعة والأرض معطاء، وقدّري حماسة الآباء في استمرار عطاء جنة الاجداد. أما نحن فعلينا الامساك بمقوَد العمل على ديمومة الخير.. " كأنها جنّة.. كأننا أنا وأنتِ مثل آدم وحواء. "يبوح لها.. تسعد لبوحِه. تهنأ وتكركر كركرة طفلة أغواها عسل الكلام... يصرفان وقتاً على أمل اللقاء يوم الغد.. تعود هي الى البيت. وينطلق هو للتمثّل بسلوكيات طرزان.
****
في واحدةٍ من ممارسةِ التعلّق بالحِبال والقفز من شجرةٍ لأخرى وإطلاق صوتٍ يتماهى وصوت جوني ويسملر تتفاجأ رسمية بما ترى وتسمع.. لا تصدّق أنَّ حبيبَها يمارس فعلاً غريباً يقرب من فعلٍ يمارسه المجانين. المفاجأة في مشاهدته عارياً إلا من قطعة جلد تأخذ دور اللباس الداخلي ومدية تتدلّى من جانبِ خصره الايمن. بين ضحك ظاهر وانتقاد دفين تستفهمه بسيل من الاسئلة الغارقة في خضيب التعجّب : ما هذا !ماذا تفعل ؟ ! لماذا أنتَ بهلذا الشكل ؟! من أين تعلمت هذا الشيء ؟! من علَّق هذي الحبال بين الاشجار ؟! كيف تتعلق بها وتنتقل دون أت تسقط ؟! ما هذه العرائش بين الاشجار ؟!
يضحك !.. ويضحك !
يجمع ورود الكلمات. يعمل باقة يقدمها جواباً : " شاهدت بالسينما شخص يشبهني. أنا الآن أتشبّه بمظهر وسلوك مخلوق نظيف في عالم البستان الطبيعي.. سحر ونقاء، وسلام، وعيش رغد.. السينما، يا رسمية، تقدم قصص وتعرض تجارب جميلة ومفيدة."
يطلق حسرةً ثم يعلن تأسيه : أنتنَّ محرومات من مشاهدة ما تعرضه السينما. أنتن مقموعات من أعراف مجتمعنا القاسي على نفسه. مجتمع يدري انه يعيش القسوة والعذاب.
تقول له : اشاهد بنات ونساء الإماميين والدهّان والقدّوري ونساء الموظفين الغرباء يطلعن من بيوتهن وقت الغروب. تقول أمّي انهن يذهبن للسينما. تتحسر عندما تقول هذا الكلام على حياة نعيشها محرومات من حقوقنا.
" نعم.. نعم ! "يقول.
يطأطىء رأسه ويرفعه ليخاطبها :
- تمنيتك واحدة من بنات هذي العائلات لكُنا ذهبنا سويةً إلى السينما؛ نحجز لوجاً ونتابع طرزان ملك الغابة، تشاهدين ذاك المخلوق وسط الطبيعة كيف يعيش الحياةً مع الحيوانات بعيداً عن شر الانسان وبغضه. تمنيت لو نعيش أنا وأنت مثل ما يعيش طرزان. حياة سعيدة مع زوجته في الادغال. نصحو الصبح على تغريد البلابل وننام بالليل على موسيقى الصمت.
تكلّمه بلسان المخلوق القانع : "لنشكر الله لما نحن فيه. لا تطير لبعيد بالأحلام. قل متى يا رب تحقق رغبتنا ونعيش سويةً.".
كانت أكثر واقعية منه وأبعد رؤية لما يخبئه القدر وتأتي به الايام.
كان أشد حريةً في الخيال منها وبعيداً عن تقدير المفاجآت.. المفاجآت التي جسدت واحدة منها بكل قسوةٍ وسحقٍ صورةَ الافتراق، فقصمت ظهر أمانيه في الاقتران والعيش تحت عريشة زواجٍ أبدي.
مفاجأة ترجمها ردُّ فعلِ والد رسمية حين حضر اليه حفنة رجال يخطبونها باستحالة اقتران ابنته بشاب لا عمل له غير التسكع داخل البستان والعواء الذي لا ينقطع أو السباحة في النهر كأنه عبد الشط... تلك الاستحالة آلت برسمية بعد أشهر الى زواج نقلها لأبي الخصيب. هناك في أقصى الجنوب عاشت في بستان كان شط العرب يسقيه عذب ماءِ المدِّ، وكانت هي تعيش جَزرَ السعادةِ المفترضة والمتخيلة مع حبيب كان اسمه حسّان.. غب سنوات صار لها أولاد، بددّوا صور الذكريات ونثروها شاحبةً على أديم الذاكرة.
غياب رسمية ملكَ على حسّان حياته وعكّر أيامه وبدد جموح تلك المخيلة المجنونة.
ترك حياة البراري وتخلّى عن الانتقال بين الشجر.. لم يعد يأبه لافلام جديدة تحمل اسم طرزان
صار قليل الكلام، قليل الظهور.. وإذا حدث وظهر مخترقاً السوق وقاطعاً الشوارع ظهر كالذاهل أو المُخدَّر او السائر في نومه.
طرزان يعترف
لاشيء غير الضباب يلف البستان وينتشر، حاجباً هامات النخيل. نحن في أوائل مَقدم الشتاء، نهاية شهر تشرين الثاني. العصافير هذا الصباح أقل مشاكسة في كركراتها؛ البقرات أقل انهماك في قضم العشب. جدتي تركت غرفتها ووقفت بوجه الضباب المتراغي ثم قفلت عائدة. اختزلت خطواتها فلم تغُص كعادتها اليومية صباحاً في عمق البستان.. أمس نمتُ على مشاهدة ثالثة لفيلم طرزان، وكان جوني ويسملر داخل دائرة حسدي.. حسدت هذا الممثل حسداً يعادل مقدار دهشتي لعالم يعيش فيه يقارع عصابات قتل أو أسر المخلوقات المسالمة، وحتى المتوحشة داخل الغابة. سمعت خرير ماء الساقية القادم من بستان جارنا. كان الماء دافقاً، والناس بين حب للماء وخوف من فيضان الفرات تتداول أحاديث طويلة بناء على تنبؤ ورد عبر اذاعة بغداد بموسم شتوي سيكون ممطراً وقد يسقط الحالوب بكتل كبيرة.
أمطارنا تأتي في الشتاء القارص القاسي فيستدعي هطولها ارتداء ملابس سميكة بينما مطر الغابات التي يعيش فيها طرزان دافئة، والجو دافىء لذا اشاهده عارياً إلا من جلد يستر وسطه، لا بل يتقافز وسط المطر المدرار؛ تحاكيه الشيتا بما يفعل.. أمطارنا مجنونة لا وقت لها محدد للتوقف. امطار تأتي فيكتئب لها الفقير ويتشاءم. لكأنها عدو لا تقل شراسةً عن الفقر الذي يتربص به.. له الحق في تشاؤمه؛ فضرر يجيء به لا يمكن تجاوزه إلا بتضحيات.. في شتاء العام قبل الماضي قدمت غيوم بزحوف يثير القلق والهلع. صاح الشيوخ : لم نشهد في حياتنا مثل هذا القادم المريب. دكنة قاتمة يصاحبها رعد يلي تكسرات من ضوء كأنه يمزق السماء. غيوم انبأتنا بويلات وكوارث سقطت فيها سقوف البيوت؛ وأكواخ سكان القرى استحالت كتلاً طينية سرعان ما ذابت مع استمرار المطر الثقيل المتواصل وصارت وحلاً طمر اطفالاً وحنّط شيوخاً وعجائز لا طاقة لها للانسلال من هيمنته.. وكلما صرخ الناس بتذمر : ما هذا يا ألله ؟!.. جاءت صرخات أخرى تلوم بشدة : لا تكفرون.. ما هذا إلا خير السماء.. اتمنى أن لا تتكرر موجة الامطار تلك، لأنني سأتمثَّل بشخصية طرزان. سأصنع حبالاً وأعلقها بهامات النخيل وأشجار الكالبتوس والغَرب. لن آبه لنظرات استغراب مَن يراني اتسلق من شجرة لأخرى وأتعلق بالحبل فأنتقل من واحدة لواحدة.
عندما شاهدت فيلم طرزان وابنه طار خيالي إلى رسمية.. سأتزوجها واجعلها تخلِّف ولداً يصاحبني في قفزاتي وتعلقي وانتقالي بالحبال، سأعلمه كيف يقوّس كفيّه فيحيط بهما فمه ثم يطلق صيحة التحذير للحيوانات بقدوم عدو غادر يسعى لهتك ستر الغابة وإثارة الرعب بين مخلوقاتها الحرّة الطليقة في عالم حر وطليق. سأقوده إلى النهر، وهناك أعلّمه السباحة والغوص إلى الاعماق ليبصر ويعيش مع مخلوقات الأعماق.. سأحمله إلى العريشة عند هامات الشجر وأقول له سيكون نوم قيلولتك هنا.. أدري أنَّ أمَّك سترفض رقادَك هناك خشيةً عليك من الاستيقاظ لحظة نومك وسقوطك إلى الأرض. لقد حاولت تعليمها على التسلّق والعيش كما فعلت زوجة طرزان لكنها أبت، وحسبت بفعلي هذا أمام أنظار أهلها سيعيق تزويجها إلي. طالبتني بالكف عن تلك الافعال، لكن طرزان خلب عقلي وسحرني.
(5)
يسقط الاستعمار
كان افتتاح سينما عبد الاله في السماوة في عام توقيع معاهدة صالح جبر - بيفن في ميناء بورتسموث.. افتتاح جاء على هدي أفلام فتحت باب الدهشة واسعة لحملة الفضول وحب الاكتشاف. هبَّ التائقون الى معرفة ما وراء رقعة الشطرنج. جموعٌ أمطرَ عليها هذا الوافد النوراني رذاذ المتعة ممزوجاً ببذور الوعي.. جموع صارت مع مرور الوقت وتوالي المشاهدة تقارِن وجودَها البائس بحياة شعوب تحاور الشمس وتتناغى مع القمر.
عبد الستار الامامي حضر من بغداد أمس. جاء ومعه خمسة أفلام. صديقه حبيب الملاّك مدير ومالك سينما النجوم أشار عليه بأربعة منها : " ذهب مع الريح " الذي يجمع كلارك غيبل مع فيفيان لَي، " الباحثون "، " كفاية يا عين " لماجدة وكمال الشناوي، " في كاليفورنيا القديمة " بطولة جون وَين، ولم ينصحه بالفيلم الخامس.. الفيلم الخامس كان ( يسقط الاستعمار ).. " أخاف عليك من غضب السلطة عندكم في السماوة، فعرض الفيلم قد يسبب احتجاجات تخلق فوضى وقد تتسبب بانفلات أمني فينحون باللائمة عليك." حذّره الملاّك. تلك اللحظة ضحك عبد الستار الامامي. سحب من جيب سترته الداخلي علبة سجائره المعدنية الفضية بتفاحة ذهبية ناصعة. علبة يفضل ملأها بسجائر غازي تشبهاً بـأوناسيس المليونير اليوناني الشهير، استلَّ واحدةً، احكم جلوسه في الكرسي الصاجي ذي المسندين ووضع ساقاً على ساق؛ ارتفع دخان السيجارة، طالع صديقه النصوح الجالس وراء منضدة مكتبه، ثم قال : السماوة يا حبيب بحاجة إلى هكذا افلام.. السينما في المدينة فتحت آفاقاً لوعي جديد. وعي مقرون برغبة تحوّل نحو شواطىء الحضارة. شباب المدينة صاروا من خلال السينما يدركون أنَّ الحياة تطلع إلى مرافيء الضوء لا البقاء في بحار الخمول والضجر.. دعني هذه المرة آخذ معي خمسة افلام وليست اربعة كوجبة شهرية.
في اليوم الذي الصقت في الصالة الكبيرة اعلانات أربعة افلام. تهافتت العيون تقرأ وتشاهد عناوينها ونجومها.. تساءلوا من سيكون فيلم الغد إذ لم توضع كالعادة اشارة لذلك.. لم يحصدوا الرد من ادارة السينما، ولا من عمّالها.. ضاعوا في التخمين.
في اليوم التالي كان حامل الدعاية يخترق السوق يعلن عرض فيلم " يسقط الاستعمار " لتلك الليلة. العيون طالعت حسين صدقي وشادية. العيون تحاورت وتساءلت : أصدقاً هذا فيلم يسقط الاستعمار ؟!.. أحقا سنشاهد هذا الفيلم الذي فجّر التظاهرات واربك الحكومة في بغداد ؟.
بسرعة انتشار نار في هشيم انتشر خبر عرض فيلم الليلة.
الخامسة عصراً.. اللحظات تدنو من الغروب.
الوقت ثقيل وبطيء وممل.. النفوس متلهفة، ومتحمِّسة، ولائبة... الباب الحديدي المشبّك يعلن عدم ابتداء بيع التذاكر رغم حضور البائع ووقوف بواب الدخول وصعود مشغل الفيلم الى غرفة التشغيل وتوزع العمال في قاعة العرض.
على الرصيف احتشد المتحرقون للمشاهدة. ولكثرتهم نزلوا الى الشارع.. تدافع الداخلون لاختيار مكان مناسب.
عبد الله العساف من شرفة الفندق يُباغَت بالجموع فيستدير؛ يتخذ السلم نزولاً إلى السوق. يسأل بائع الدبس والتمر والدهن الحر المنشغل بهفهفة المقشة المعمولة من سعفة خضراء لمنع الذباب من الهبوط على بضاعته المكشوفة للهواء والتراب المتعالي من خفق احذية وأخفاف المارَّة على ارضية السوق المتربة. بائع الدبس لم ينتبه للتجمع. يرفع بصره ويطالع المسافة البعيدة، يرد : لا أدري.. وبدهشة، يقول : صحيح، الناس في تجمع، كأنها تظاهرة... يندفع عبد العساف باتجاه السينما ويلتفت يرفع يده يومىء لعامله المُطل من شرفة الفندق : انتبه، دقائق وأرجع.
لحظات الغروب تمتص برد شباط فتندفع تيارات هواء باردة تصفع وجوه المارة وتجعل اصحاب الدكاكين على يمين وشمال واجهة السينما ينكمشون في معاطفهم الصوفية ويتوسلون دفئاً تجود به المصابيح الصفراء المتدلية من السقوف.
يرفع بائع التذاكر سماعة الهاتف يرد على اتصال عبد الستار الامامي الجالس في مكتبه في الصوب الصغير يستمع إلى الراديو يعلن آخر اخبار اضراب عمال شركة نفط البصرة وإصرارهم على زيادة الاجور وتفاقم الامر الى صدامات وإعلان الملك فيصل الثاني الاحكام العرفية في لواء البصرة بينما عينه تلتقط يوم 15 كانون أول 1953 في الروزنامة المعلقة على الجدار اسفل صورة كبيرة للملك فيصل الأول ببدلة عسكرية وخوذة معركة، الى جانبه حفيده الصغير فيصل يجلس على كرسي الملوكية الواسع والكبير عليه :
- نفذت التذاكر بوقت قياسي؛ لكن الاجواء غير طبيعية.
- ماذا تقصد ؟
- تصفيق حاد يضج داخل صالة العرض لكل مشهد حماسي.
- وبعد ؟
- الاجواء ملغومة.. المشاهدون في الداخل يبعثون على القلق.
- كيف ؟
- اسمع الآن هتافاتهم، يرددون يسقط الاستعمار.
لحظة انهى المكالمة استرجع عبد الستار الامامي تحذير حبيب الملاك... ولم يكد ينتهي من الاستماع لخبر اضراب حتى رن الهاتف، وبائع التذاكر يعلمه من جديد بخروج المشاهدين في مظاهرة حماسية حاشدة، وشعارات تندد بالحكومة متَّهمينها بمطية الاستعمار.
لم يكد يضع سماعة الهاتف حتى تناهت اليه لعلعة بعيدة لصوت رصاص متقطع.. لا يدري أن اندفاع رواد السينما الى الخارج ودخولهم السوق أربك الحكومة المحلية.. لا يدري أنَّ الشرطة هبّوا بهراواتهم ورجال الأمن على قلتهم بدؤوا يواجهون المتظاهرين الذين اجتازوا تلك اللحظة فندق الصحراء ومجارش الحبوب، متوجهين الى السوق المسقف سعياً للوصول الى مركز القائمقامية لإعلان احتجاجهم على استعمار يتخفى وراء مملكة تجاهر بالوطنية والاستقلال، طالبين التحرر من هيمنته ورافضين حكومات يحسبونها ذيلية ذليلة تطيع أوامره، وتنفذ بطريقة عمياء كل ما يريد.
أُطِلق الرصاصُ الذي صار يئز فرفع حمّى حماسة التحدّي في نفوس المحتجين.. ليل شباط قارس والريح تلطم الوجوه. الغيوم داكنة في السماء ولا وجود للقمر. المصابيح خافتة وقد أطفأ اصحاب الحوانيت المصابيح وأغلقوا حوانيتهم وفروا نحو بيوتهم خشيةً من رصاص طائش يرديهم صرعى.. الزمهرير القاسي لم يؤثر في المتظاهرين المتحمّسين، والفقراء انصاف العراة المحتجون كانوا متعرِّقين لشدة حماستهم وتواصل اطلاق اصواتهم المناهضة لاستعمار يحسبونه يهدر كرامتهم.
كان عبد الله العساف نهض من كرسي وضعه في الشرفة وجلس ينتظر اندلاع التظاهرة بعدما عاد مسرعاً من مشاهدة " يسقط الاستعمار" يأخذ مساحة اعلان " فيلم المساء" وخمّن أن الليلة ستشهد احتجاجاً وصداماً بين المحتجين، ورجال الأمن والشرطة. مشاهدته لدعاية الفيلم أعاده سريعاً لشريط دخول شابين متوردي البشرة يرتديان البدلة الافرنجية والسدارة السوداء، يتكلمان باللهجة البغدادية قبل ما يربو على الشهر، يطلبان غرفة بسريرين. بقاؤهما في الفندق وعدم خروجهما وطلب أن يؤتَ الى غرفتهما بوجبات الأكل الثلاث أثار ريبته. حسن استقباله وترحيبه الجنوبي خلق مودة سريعة معهما. فهِم وبشيء من كشف السر انهما جاءا هاربين من بغداد بعد عرض الفيلم نفسه واندلاع تظاهرات هزَّت العاصمة وأربكت الملك ورئاسة الوزراء فاستنفرت الاجهزة الامنية استنفاراً لم تعهده المملكة منذ تأسيسها، وتم ملاحقة المنظمّين والمحرضين عليها ومداهمة بيوت وأوكار خمنت السلطات انها مكامن لاختباء الرؤوس المخططة. لهذا وخشية على سلامتهما فضلا النأي بعيداً عن العاصمة.. قضيا في الفندق عشرة ايام كان عبد الله العساف فيها يعيش القلق المتفاقم ويتطيَّر من كل وجه غريب يشك انه لرجل أمن متخف أو مخبر سرّي من مخبري المدينة الذين يعرفهم خلال مراجعاتهم له والاستفهام منه عن أمور النزلاء وهوياتهم.
مرَّت التظاهرة عارمة.. ومن شرفته أبصر الجموع المتحمسة تهتف بسقوط الاستعمار مثلما شاهد مفوض مركز الخنّاق وأربعة من اتباعه يمسكون هراوات ويستعدون لمواجهة الاندفاع البشري القادم، والمشحون بطاقة احتجاج تكاد تكون عصيّة على التقدير.
لحظة سحبَ المفوض آمر مفرزة الشرطة المكلفة بالتصدي للتظاهرة مسدسه من الغمد المتدلي من حزامه الجلدي وأطلق رصاصة اولى في الهواء بغية اخافة المتظاهرين وإيقاف اندفاعهم لمع بريقُ فلاش كاميرا، والتقطت صورةُ ليليةٍ سيعتز بها ناصر الجبلاوي ويعدها من أجمل ما صوَّر في الليل لشدة الوضوح وعمق المعنى، حيث المتظاهرون عزّل يجابهون الرصاص بلا خوف.
في الصباح استدعي عبد الستار الامامي ليُعنَّف من قبل القائمقام، ويُحذَّر من رئيس شعبة الأمن ويؤمر بإيقاف عرض الفيلم واستبداله بآخر.
****
بعد الظهر رن الهاتف في البيت. رفع عبد الستار الامامي السماعة، ورد : " هالو ! ".. جاءه صوت توفيق السويدي، رئيس الوزراء السابق بتحية وسؤال عن الحال. وسؤال عن الشقيقة التي تعيش في السماوة.. رد عبد الستار بتحية حارة وشكر لهذا النداء؛ إذ كان قبل اسبوع في بغداد والتقى السويدي وتناول معه الغداء قي بيته.. السويدي كلَّمه عن الفيلم الذي حمله معه الى السماوة، معاتباً على عرضه في مدينة يؤاخذ عليها أنها منبت مشاكل ومبعث انتفاضات.. ضحك عبد الستار لهذا العتب ونبرة الغضب التي شابته.. وكان على وشك أن يرد عندما جاءه صوت السويدي يستفهم :
"- ألم تحذرك شقيقتي وتطالبك بالابتعاد عن المشاكل ؟
- يا سيدي، زوجتي دائماً مصدر نصائح لي؛ لكن هل تعلم أنها وافقتني على عرض الفيلم حين اخبرتها به ؟ !.. الصورة يا سيدي لافتة والفيلم منشور. وأنا أردت الاثنين يؤديان واجبهما للناس. مجتمع مدينتنا يحتاج إلى وعي أكثر لما يجري لوطننا. لندع السينما تفعل فعلها التثقيفي.
- " لكنني تعرضت لعتب حين عرفوا أن شقيقتي هي زوجتك. كانوا ينوون اعتقالك.".
ضحك عبد الستار :
"- على أي حال أوقفنا عرض الفيلم.. لكن هناك افلام وأفلام ستأتي، هل يتوقف صوت الاحتجاج الحق.".
"- المهم؛ طمنتني عندما قلت اوقفت عرضه؛ أما الآتي فدعه لعالم الغيب."
(6)
تردّي الاوضاع
صباحاتُ السماوة منذ ثلاثة أيام تأتي كئيبةً، والسماءُ طيلة هذا المدّ الزمني ملبدة بغيوم رصاصية داكنة. هناك زخّات مطر لسحابات مارّة ترشق الأحياءَ وتبتعد. شتاء ممطر ورياح كأنها مُرسلة بقصد اغاضة الفقراء البائسين والمُعدمين. مبنى محطة القطار العالية يغرق في ضباب حليبي والعربات الحديدية المتوقفة على سكة الحديد تستحم بندى كثيف يذوب على جسدها فيُظهرها كما لو كانت سلاحف خرافية جاثمة بلا حراك.. هامة قاعة سينما عبد الإله المُحدَّبة تختفي في الضباب ويبدو صف الدكاكين صناديق مموهة بغشاوة تُخفي محتوياتها من البضائع بينما الناس في الشوارع هياكل شمعية تتحرك بآلية شخوص فيلمٍ يُقدَّم بالعرض البطيء.. مستوصف حماية الاطفال مشرع الابواب، والماسيرات في داخله يستعذبن الدقائق ويرششن المطهرات في الردهات والممرات المعتمة، فطقس كهذا يذكرهن بأجواء ويلز والريف الانكليزي الذي ولدن فيه وترعرعن وحملن في ذاكراتهن تضاريسه ومناخه ودنيا احلامهن العذاب. يعيد إليهن صباحات الأحد حيث الملابس الزاهية يرتدين، وطريق الكنيسة المعمدانية يتخذن. هناك يؤدين الطقوس ويجلسن خلف النافذة المشبّكة يعترفن للقس المُنصت. يطلبن الغفران ويتلقين النصائح ليأخذن بها. ومنها قدومهن الى هنا، إلى السماوة المدينة النائية كثيراً كثيرا، متطوعات لخدمة الانسانية المعذبة، ممرضات ينقذن الامهات الحوامل ساعات المخاض لينلن من السماء رحمة توصلهن إلى الجنة فيعشن مع الرب والأم العذراء.. مقهى عطية حذاف هُدم. سقطت اعمدته الخشبية وتهاوى السقف المعمول من سعف النخيل وبواري القصب وبدا انقاضاً؛ فقط شجرة الغَرَب وسط المقهى بأوراقها الخضراء الناصعة بقيت منتصبة تذكّر بجلسات رواد جمعتهم أحاديث صرف الوقت، فالوقت في السماوة ثقيل وبطيء وممل، ليس لهم إلا مقهى يطيح به ويبددّه. عطية هاجر الى الكويت بعد تلقي نداء من صديق له يعمل في ثكنة عسكرية انكليزية بشَّره بعمل افضل من ادارة المقهى وخدمة الزبائن.. دكاكين تعرض جلود الابقار والخراف مدبوغة ومملحة تشيع رائحتها العطنة في فضاء السوق، تجاورها دكاكين تبيع التمر والدبس والزبدة واللبن الرائب هي الأخرى تشارك دكاكين الجلود المدبوغة الرائحة الوخمة تكرسها الرطوبة المتفشية وتبقيها اكبر زمناً. فندق الصحراء المجاور يفتح عبد الله العساف بابه على صباح جديد ونزيلين فقط دوّنهما في سجل النزلاء : قروي عجوز جاء به أولاده ليراجع المستشفى من التهاب في الحنجرة يمنعه من النطق وتركوه على أمل العودة اليه في اليوم التالي لإكمال المراجعة، ونزيل دخل مخموراً آخر الليل بعدما فاته القطار السريع الذي قصد أن يستقله إلى مدينته الناصرية... صوت الشقاء والكد اليومي والحياة بلا أمل يتجوَّل في شوارع المدينة. يخترق السوق الرئيس والأسواق الفرعية؛ يدخل الأزقة ويتعثر بالحفر. يجابه بصرخات الامهات في بيوت كأقنان الدجاج من ابناء شياطين نزقين يتشاجرون أو يتقافزون من بيت لبيت وسط دمدمة عجائز مُهمَلات في غرف فوق السطوح وتذمرهن ممن لا يرحم سعيهن لنيل غفوة في النهار بعدما صرفن ساعات الليل مسهدات يخشين قدوم المختلس المتحيّن سرقة انفاسهن... الوضع السياسي متردٍّ.. بعض من بنود معاهدة بورتسموث سُربت. تناولتها اعمدة الجرائد على انها تكبيل مضاف لقيود سابقة وإذلال يبقيهم أسرى لا انعتاق منه. الفقر يواصل حصاد الطاقات عند الشباب ويُردي المرضى صرعى جراء ضعف الخدمات وشحة دواء يعيد للجسد طاقته.. الأمية في النساء متفشية يرتكب فعلها الرجال اعتماداً على رؤية أنَّ المدارس تفسد البنات.
ناصر الجبلاوي يتألم للوجوه الشاحبة والمكفهرة والممصوصة. يتأسى للقامات الهزيلة التي تلتقطها عدسة كاميرته وتثبتها على الورق. شهادات صورية لخواء مجتمع منكفىء تمثله رموز متهرئة من صميم وجوده. يحمل كاميرته ويلف الشوارع. يتذكّر ملاحظة استاذه المصور الاهلي في ضرورة ملازمة الكاميرا لالتقاط ما قد لا يتكرر من المشاهد أو الحالات. فاللقطة البارعة والصورة المتميزة هي ما تأتي خارج الاستعداد والتهيؤ والتحضير. إن أجمل الصور تلك التي تجيء بعيدة عن التكلف قريبة من العفوية؛ فيها مفارقة، وغير مألوفة. إحدى المرّات فازت له صورة بعثها إلى مسابقة أجرتها صحيفة البلاد. الصورة تعرض شابا مصاباً بمرض جلدي والدمامل تملأ جسده يقف وسط ماء الفرات الجاري وجيش من أسماك صغيرة شذرية لامعة تتلاصف منهمكة في مهاجمة الدمامل والجلد المتقيح والشاب يستعذب الدغدغة التي تحدثها افواه المخلوقات الصغيرة. يتذكّر يومها أن الصورة نشرت كأجمل لقطة وإطراء رئيس التحرير فاروق بطي مقرونة بثناء لجنة التقييم وإشارة إلى موهبة وحاسة بصرية ثاقبة يمتلكها ملتقط الصورة.
مكتب مقاولات
بمشورة ونصيحة نسيب موظف حكومي جاء منقولاً من العاصمة وتسلَّم ادارة المشاريع في قضاء السماوة وأريافها افتتح شتيوي الياور مكتب مقاولات. وعده النسيب بما يفيده... أول مقاولة وقَّع موافقته على بنودها كانت بناء قاعة مُلحقة لمدرسة المأمون الابتدائية تجري فيها انشطة التلاميذ اللاصفية واجتماعات الآباء والمعلمين، ومعارض التربية السنوية لنتاجات التلاميذ والمعلمين، وامتحانات نصف السنة ونهايتها، كذلك احتفالات المناسبات الوطنية.. شتيوي تلقّى مائة دينار ربح المقاولة بعد انجازها، لقاء جهد أخذ منه خمسة اسابيع شيّد خلالها القاعة حسب " تندر" الاتفاق وزوَّدها بإنارة ومراوح سقفية وستائر شبابيك.
جمع من نسوة بعباءات موحلة يتبعهن جوق أطفال صغار، بنين وبنات، بملابس ممزقة ووجوه معفرة بالغبار. الجميع يتجه إلى زقاق فرعي يتداخل مع ازقة ملتوية كالأمعاء. النسوة وصغارهنَّ يقصدن الطريق إلى حمّام " قبيلة "؛ هناك سيدخلن عالم البخار الكثيف ويجعلن اجسادهن تتحاور مع الماء الساخن المندلق من حنفيات تملأ احواضاً حجرية بالماء المغلي والبارد. وإذ لا تستأنس اعضاؤهن لماء يستشعرنه فاتراً يحملن الدلاء ويتحركن إلى " القزانة "، يغترفن الماء المغلي جداً، يدوّي اسفله مرجل ناري يحصل من اشتعال النفط الاسود طوال وقت الاستحمام، فيدلقنه على اجسادهن المحمرة والمسلوخة جراء مرور كيس التدليك وليفة الصابون من قِمم رؤوسهن حتى الأخمص.
يمر أربعة عمّال بناء يحمل أحدهم على ظهره كيس من الخيش يحوي عِدد البناء : مطارق برؤوس حديدية وأعمدة خشبية، شاهول، ميزان زئبقي، كور خيط حريري، جمجات بحجوم كبيرة لتسطيح الاسمنت على الجدار وجمجات صغيرات لتكحيل الفواصل بين طابوق الحائط بالاسمنت الاسود فيما آخر يحمل مسحاة على كتفه، وآخر يحمل كركاً بنفس الوضع، وآخر يتدلى من يده كيس قطني فيه فطور وغداء رئيس العمال وهم يقطعون شارع الكورنيش باتجاه البساتين الشرقية. هناك سيبنون غرفة لحارس ماكينة سحب ماء من الفرات إلى البساتين الجديدة ومالكها طاهر زين العابدين بعدما أسر له عبد الرزاق الامامي صاحب ثلاث مكائن على النهر بوفير ربحها وقلة استهلاكها من الوقود مع حارس يشكر السماء لأنه سيحصل على غرفة تجمعه وأسرته باعتبارها مَسكناً ومثابة للحراسة.
شتيوي الياور شعر بالسعادة في مهنة المقاولات. وجد فيها عملاً توجيهياً ومتابعة ثم حيازة مال لا يأتي باليسر في مهنٍ أخرى.. لذلك كان ظهوره بين الناس في الاسواق واللقاءات الاجتماعية ظهور الشخصية البارزة صاحب الشأن الاجتماعي الكبير. يغدق المال هنا ويصرفه بكرم هناك. خاتم ذهب بفص عقيق ثمين في بنصره، ومسبحة يسر مطعَّمة احجارها بالفضة النقية البيضاء. صار يحضر لنادي الموظفين بملابس مترفة. يتناول الويسكي بدلاً من العرق المحلي. فالعرق صار يسبب له صداعاً عندما ينهض صباحاً.. صارت له علاقات مع موظفي الحكومة الذين يجدون الفراغ ثقيلاً في قضاء محدود العمل والنشاط. صار يكلم القائمقام ويجالس مدير مركز شرطة القضاء؛ يحادث مدير المال ويلعب الورق مع موظفي الري، والكمرك، والبريد والبرق، والاستهلاك. صار يكُثر من الذهاب للعاصمة فيُشاهَد في الملاهي يفتح زجاجات الدمبل والبلاك أند وايت لراقصات الملاهي بعد اتمام رقصاتهن على المسرح وإمتاع الجمهور المتعطش للأجساد البضة والضحكات المتفجرة من أفواههن وحمرة الروج الدموية التي تطلي شفاههن مُحرّكةً مَجسّات الشبق والتخيّل في اعماقهم تاركةً إيّاهم يطلقون الآهات لوعة من قلّة حيلة امتلاكهن أو حتى الجلوس معهن على طاولة واحدة.
لا يأبه شتيوي لما يجري في المدينة وما يحصل في الوطن. لا يرى في الاحتجاجات والتظاهرات غير افعال عقيمة لأناس يستولي على ملكاتهم الحقد وتحركهم أصابع لا تريد للبلاد الاستقرار.. لهذا كان يجاهر برأيه هذا في جلساته على موائد الشرب حاصداً رضا المسؤولين ومنميّاً شعور أنه معهم، لا يرتضي ما يصدع رأس الوطن ويخلخل كيانه.
(7)
بورسعيد.. المدينة الباسلة
العدوان الثلاثي على مصر في 1956 شحن الأجواء، وفاقم التوتر.. فضاء السماوة يميد بحماس مغموس بغضب يطفح من العيون والنفوس تحتدم؛ فالأعداء مستعمِرون وطامعون شاركهم في العدوان سالبو وطن وجدوا الفرصة مثلى وتاريخية ليضموا أرضاً جديدة بينما السلطة العراقية الحاكمة تدين العدوان بخجل وترفضه بحياء.. اعلان الحرب يعني القتل بالمجّان والاستيلاء على مواقع جغرافية، والشعب المصري أعد العدّة لمواجهة العدوان بشجاعة خرافية فصمد، فقاتل، فتلقى الضربات، فأعطى الشهداء، فمزق الأعداء، فانتصر.
عبد الستار الإمامي عاد بالأمس من بغداد وقد حمل معه حقيبة تحوي ثلاثة أفلام وصلت العاصمة حديثاً. أصر في جلسة تعامل مع المتعهد حبيب الملاّك جلب فيلم " بور سعيد.. المدينة الباسلة ". الملاّك ذكّره بتحذيره السابق في موضوع فيلم يسقط الاستعمار الذي لم يوله بالاً فحصل ما حصل من تعنيف وتحذير ووعيد مبطن من قبل سلطة المدينة. فضَّلَ استبدال الفيلم بآخر لأن عرضه سيجعل السلطة المحلية هناك تنظر إليه على أنه محرّض يبغي تفجير الموقف رغم التحذير الآنف.
ولقد انتهزت القوى السياسية في المدينة بمختلف توجّهاتها الفكرية فرصة عرض الفيلم فعبأت سريعاً اتباعها للدخول الى السينما والخروج بعد انتهاء العرض بتظاهرة تخلخل هيبة السلطة وتوصل لبلاط المملكة رسالة أن الشعب لن يسكت على محاولات اذلاله بربطه بمعاهدات وأحلاف تقيد حركته وتتركه عاجزاً عن مساندة أخوته في بلد يتعرض للعدوان.
ذلك اليوم الخريفي من شهر تشرين أول 1957 السينما الصيفية تكتظ وبصورة غريبة بالرواد. لا مكان للجلوس. والمشاهدون تقبلوا الوقوف لرؤية فيلم الليلة. المقاعد في اللوج التي عادة ما تكون غير مشغولة جميعاً حجزت وراح كل اثنين يجلسان على كرسي واحد. بائع البزر ولفات الباذنجان والبطاطا والمرطبات يجد صعوبة في الحركة لكنه فرِح لتصريف مبيعاته.. بائع التذاكر اغلق نافذة البيع، وخرج يعلن للمتزاحمين على الشراء ان بطاقات اليوم وحتى البطاقات المهيأة ليوم الغد نفذت. السينما ممتلئة، فأين تجلسون أو تقفون ؟ ".
كان الفيلم من بطولة فريد شوقي وهدى سلطان. جاء انتاجه بطلب من الرئيس عبد الناصر في لقاء خاص مع فريد شوقي ضم عبد الحكيم عامر وأنور السادات لتخليد ملحمة دفاع مدينة بورسعيد وشعبها أمام عدوان ثلاثي عاتٍ.
ذلك الصباح كان يوسف حزيناً وغاضباً ومكتئباً.. مرد اكتئابه يعود لمعرفته بانطلاق سيارة الركّاب التي تحمل شميران الى بغداد بعدما صرفت إجازة ثلاثة أيام. كان صمّمَ الليلة الفائتة على النهوض مبكراً لمشاهدتها وهي تخرج من بيتها حاملة حقيبة ملابسها فيسعى لمواجهتها على اساس المصادفةً ويقترح حمل الحقيبة حتى كراج النقليات.. لا يدري ان كانت ستتقبل أم ترفض؛ المهم ان هذا ما شغله الليلة الفائتة وجعله يسهر ويسهد طويلاً ما فوّت عليه فرصة النهوض والاستيقاظ مبكراً، وجعله طوال النهار يشعر بفقدان شيء عزيز لا قدرة له على تعويضه. لذلك، وكمحاولة لقتل الوقت وتبديد غيمة الضجر من فضاء يومه اتجه إلى السينما.
منذ اسبوعين لم تنقله قدمه الى هناك. وحتى اللافتة الحاملة لفيلم الليلة المستندة على العمود المجاور لـدائرة الاستهلاك لم يرفع نظره للإطلاع عليها.
لفت انتباهه زحاماً غير طبيعي على رصيف السينما. صالة بيع التذاكر تغص بالمصمّمين على الدخول. طالع مكان لافتة عرض فيلم الليلة فألفاه يحمل عنوان " بور سعيد.. المدينة الباسلة ". لم يستفزه العنوان بقدر ما اثار فضوله الحشد المتزاحم والتنافس للوصول الى شباك التذاكر لاستحصال بطاقة دخول. لا يدري لماذا انتفض قرار الحصول على بطاقة للتعرف على مسببات اهتمام الحشد في الدخول والمشاهدة.
في صالة العرض استطاع الحصول على مقعد في الوسط... منتظراً كان ومستفزّاً. يعوم في حيرة ويغرق في دهشة. صالة العرض امتلأت واكتظّت. تفاقم عدد الداخلين. أكثرهم كان مستعدّاً للوقوف ساعة ونصف هو وقت العرض المعتاد للأفلام، وقد يزيد.
هناك، فوق، في غرفة تشغيل الماكينة وعرض الفيلم كان العامل الفني قد هيأ البكرة واستعد لتحريك نابض التشغيل. اوقف جهاز التسجيل فتوقفت أم كلثوم عن " الأوله في الغرام ". تطلّع من خلال مربّع انبثاق الضوء فهاله مشاهدة الصالة المكشوفة للسماء تضج بالرواد. حمد الله لأنهم في الصالة الصيفية وليسوا في الشتوية المغلقة لكانوا ماتوا اختناقاً.
لحظة أطفأ الانارة وغرق الجميع في العتمة ووضع يده على اكرة التشغيل ودارت البكرة المحملة بشريط الفيلم لتتلقفه بكرة فارغة تدور بنفس الاتجاه تمتم بقلق : سترك، يا رب. مرّرها بسلام.
ما أن ظهر اسم " أفلام العهد الجديد " الشركة المنتجة يملأ الشاشة حتى تفجر النشيد الحماسي ( الله اكبر ) اربع مرات؛ تبعها ( الله اكبر فوق كيد المعتدي.. الله للمظلومِ خير مؤيّدِ ) يرافق اسماء الممثلين على الشاشة. ذلك النشيد الذي لحنه محمود الشريف على وقع العدوان الثلاثي وحاجة تأجيج حماس المواطنين وتعبئتهم للدفاع عن ارضهم ووطنهم. ضجَّ المشاهدون بالتصفيق وانطلق كمٌّ هائل من الحناجر تحاكي النشيد مستذكرة ايام العدوان قبل عام. تلك الأيام التي هبَّت فيها السماوة تُعلن الاضراب شأنها شأن مدن البلاد كلها ويساهم أهلُها في تظاهرات عارمة ظلت السلطة الملكية عاجزة عن إيقافها فتركتها تطوف في الشوارع وتخترق الأسواق.
بانتهاء النشيد الحماسي وشروع الفيلم بخطاب تسجيلي القاه عبد الناصر عبر اذاعة القاهرة يعلن فيه تأميم قناة السويس تدفقت الجماهير في الفيلم مع أغنية وطنية شرعت هدى سلطان التي تأخذ دور ضريرة ترددها محاكاة لإعلان عبد الناصر، ساهم فيها ابناء الحي مرددين ومهللين :" أمِم جمال ولا تخَف ".. ارتفاع قبضات الحشد ألب الحماس في روّاد السينما فنهضوا من مقاعدهم رافعين القبضات وسط العتمة ومردّدين مع الجموع " أمم جمالَ.. أمم جمالَ؛ ولا تخَف ".
في الوقت الذي كانت الماكينة تعرض الفيلم كانت كاميرة ناصر الجبلاوي تلتقط صوراً.. التقط هديراً عاصفاً تماهى مع صوت المنشدين المتحمسين الجارف، تبثه السمّاعتان المعلقتان على جانبي الشاشة الكبيرة جداً. صوّر أرواحاً ثائرة ترتفع في الاجسام المحتدمة حتى تبلغ الحناجر. صوّر مدّاً لاحتجاج يمتزج حال انبعاثه من الافواه فيستحيل غيمة ترتفع وتعلو في سماء المدينة تمطر غضباً محتدماً يتواصل مع احتجاجات دفينة وغيظ مكتوم ضد سلطات جائرة، تناسلت سلطةً فسلطة، منذ بدء الخليقة حتى اللحظة. سلطات قمعية توارثت الدهاء والمكر والضغينة وتلبست لبوسات متنوعة، كان فيها القادةُ الطغاة المهيمنون، آلهةً وخلفاءَ وسلاطين : أجلافاً، قساة، دمويين، أنانيين، موتورين، ساديين، شبقين، شهوانيين.. كانوا ذئاباً غادرة، وضباعاً شرهة. يفزعهم صوت مظلوم، وترعبهم آهة احتجاج. يدركون انعدام ثقة المواطن بهم، مستشعرين هوّة كبيرة وواسعة تفصلهم والناس... اندفع حاملاً كاميرته يصوِّر الحشود التي تركت السينما ونزلت الى الساحة المواجهة لها تهتف بخاتمة الفيلم التي كانت كبدايته : " أمم جمال ولا تخف.. إنّا هنا نِعمَ الفدا / بسلاحنا وبعزمنا.. سندكُّ طغيانَ العدا ".. هتاف سرعان ما تغيَّر إلى هتافات محلية تندد بنوري السعيد ووزير خارجيته وحكومته، وتصفهم بالعمالة، ثم تتهكم بهما عبر ترديد جمعي : " نوري سعيد القندرة، وصالح جبر قيطانها ". يتفجر فلاش ناصر الجبلاوي وتسحب العدسة بانفتاحها وانغلاقها حركات تطبع وجودها على الفيلم ليظهر في ما بعد وجوه متحمسة بأشداق مفتوحة وأفواه تطلق كلمات التنديد بحكومة لا تسعى إلا الى ارضاء مستعمر نصبهما أدوات لمآرب يبغيها. قاماتٌ ترفع الايادي بقبضات محكمة الاغلاق وأيادٍ تلوّح وتهفهف باليشاميغ والكوفيات والعقل في مسار حثيث وخطى تتعجل الوصول إلى مبنى الحكومة لترشق مسامع المسؤولين قائمقاماً ومدير مركز شرطة وشعبة أمن... لفت انتباه ناصر الجبلاوي في مطالعته الصور بعد اظهارها وتجفيفها وجود يوسف وسط التظاهرة يهتف بحماسة متميزة، لكأن الجمع الثائر أطلق في داخله صرخة الكبرياء وأشعل بيدر الاحتجاج، لكأن الاعلان عن انطلاق شرارة الوعي حانت فكان حماسه تلك اللحظة مضاع فاً واندفاعه يثير الانتباه، لكأن أصابع الوفاء حان مرورها على وجه الوطن وشفتا العشق بشغف تطبع قبلةً حرّى على جبهته، لكأن الدموع المنسكبة من العينين المشرعتين على البوح الصادق والتي اقتنصها ناصر الجبلاوي في واحدة من اللقطات تُمهر اخلاصاً لن تُنقَض مواثيقه. لذلك حين هجمت مفرزة الشرطة وعناصر الأمن على المتظاهرين وفر الكثير من المحتجين أصرَّ يوسف على مواصلة احتجاجه، فألقي القبض عليه مع نخبة من المتحمسين وبات ليلة في نضّارة التوقيف قبل أن يتعهد والده أمام مأمور مركز شرطة القضاء بعدم تكرار ولده لفعل لا يخدم المملكة ولا يتسبب للعائلة إلا بأضرار نفسية وتنغيص في احتجاجات لا طائل منها.
بنت المؤمن
صباحات صيف العام 1957 تتلظى، تأتيها الشمسُ ساخنة تدفع صبية الأزقة إلى الفرات يستعذبون ماءه ويطردون عرقاً غرقوا فيه طوال ساعات الليل الفائت مزيلين لسعات البعوض الجاعل من وجوههم وأطرافهم المكشوفة وليمة مفتوحة تنتهي بآثار خراطيم أبرية دخلت، فامتصت، فامتلأت.
فتاة بعمر العشرين تمر بعباءة تهفهف وبوجه مكشوف يناهض العرف الذي يجبره على الاختباء خلف طرف العباءة فلا يظهر منه غير عين خُصِّصت للنظر تفادياً للتعثر.. الفتاة تتذمّر من حر الصباح فتروح تهفهف قريباً من الوجه. تطالع الصبية كجوق فراشات يتجهون إلى النهر؛ تبتسم، تتمنى لو كانت ولداً ينضم اليهم فيشاركهم العوم والسباحة لساعات بلا ملل.. الفتاة تتوقف، تلاحقهم بنظراتها وهم يعبرون الحاجز الانبوبي الذي يفصل الرصيف عن حافة النزول عبر السلم الحجري الى الشاطىء... هتف ناصر الجبلاوي من مكان جلوسه داخل الاستوديو :" بنت المؤمن.. هذه مشيتُها وذاك نفورُها ".. همَّ بالنهوض وحمل الكاميرا؛ همَّ بالتقاطِ صورة لهذه التي تكسر حاجزَ خوفِ النسوة من قسوةِ الرجال وأعراف المجتمع المكرسة لتحطيمها. يريد الاحتفاظ بصورة لها تؤرخ بالدليل شروع الوعي النسوي في المجتمع السماوي. فليس غير هذه الفتاة استطاعت مدعومة من الوالدين المجاهرة بمطلب اخذ المرأة حقوقها وإدانة فعل القسوة من لدن اعراف وضعت لجعلها نكرة ومخلوق ولود.
كان والدها تجاوز ناموس المجتمع بتسجيلها في المدرسة الابتدائية المكرسة للبنات بعدما حاول القائمقام وبجهود مكثفة مع متصرف لواء الديوانية التي تتبعه السماوة ادارياً استحصال موافقة افتتاح مدرسة للبنات. المدرسة احتضنت بنات الموظفين الغرباء القادمين من مدن مختلفة بحكم القانون الوظيفي ورأى الشيخ محمد ضرورة تسجيل ابنته. فاصطحبها صباح أحد الأيام تلفُّ جسدَها الصغير بعباءة وتعبر الجسر الخشبي الى الصوب الصغير حيث اصوات التلميذات يعلو في الفضاء جماعياً. ارتعشت البنت الصغيرة. أخذتها رجفة لا تدري أهي خشية من موقف جديد ومبهم عليها أم هو عظم فرحة ترجرجت داخلها فأحدثت الارتعاش ؟.. المهم أنَّ مدير المدرسة رحَّب بالوالد وأسدى كلمات التشجيع على البنت.. وفي اليوم الثاني كانت تجلس على مقعد الدراسة بين قرينات لها ينطقن لهجات مختلفة ويتفوقن عليها بترافة الملابس وحسن الهندام.
فعلُ الوالد وشجاعته فتح عليه مدفع النقد والتجريح فأُدين لجعل ابنته تدخل مدرسة حكومية لن تعلمها غير الانحراف وتردي الاخلاق. يسمع سيل الكلمات من الأقرباء والأصدقاء تعنّفه معيبة عليه فعله فيبددها بالصمت، يتلقى احتدام العيون وانكماش قسمات الوجوه فيواجهها بالابتسام. يقول في سره : نعم، أنا مَن يكسر قمقم جهلِكم وتخلفِكم، أنا مَن سيضيء درب عتمة ترمون ابناءكم وبناتكم في متاهتها. وأيضا أنا مَن سيسامحكم على سلبيتكم نحوي... ولم يمر العام الأول وتجتاز البنت مشوارها الدراسي بتفوق وتستعد للعام الثاني حتى بات باب بيته يطرق ليلاً ليُسأل عن الاجراءات التي اتَّبعها في تسجيل ابنته.. إنهم يرغبون تسجيل بناتهم في المدرسة.
الفتاة تقطع الدرب واثقة الخطى، تلم العباءة على جسدها والهواء يداعب رموشها والشمس تهمس لها بأبيات شعر تتغنى بهاته التي ستكتب مدينة السماوة على قرطاس تهالكها الابدي صفحات من جهد مضنٍ وكفاح لا يعرف المهادنة، صفحات سعي حثيث لتنوير شريحة تقارب نصف المجتمع، صفحات مواجهات مستمرة وتظاهرات تواجه بالعصي والركل وشتائم كالسيل فلم تكلُّ ولم تُهادن.. الفتاة تقضم الاعوام على هدي ايمان بحتمية نيل المرأة السماوية مع منظومة المرأة العراقية نضالاً مع نساء العالم حقوق تضامنت رماح وسيوف ومجانيق الذكورة المارقة على طعنها وتهميشها وتهشيمها بسادية تتواصل على مد زمني أكل القرون وتعالى على الحقب.
تلك الفتاة يواجهها ناصر بعدسة كاميرته فترفض أن تكون لقطة تظهرها منفردة؛ بل تريدها لقطة تاريخية تجمعها مع قرينات لها يناضلن ويكافحن ويصارعن قدراً وضعهن في دائرة بشرية تستلب كرامتهن وتسرق احلامهن وتطيح بهيبتهن كبانيات اصيلات للأسر التي لولاها لتوزعت البشرية شذراً مذراً تهيم في طبيعة تطبّق عليها نواميس الوحشية.
قالت له : يا ناصر، يا ابن مدينتي وظّف جهدك وجهز كاميرتك لأنشطتنا التي نريدها ان لا تتوقف. نريد الخروج من مستنقع الذل، نسعى للتقدم إلى أمام فلا نجعل خطواتنا تتخلف عن خطى الرجل.. ألا ترى كيف أنَّ أمك وأختك تتعثر وتكاد تسقط ارضاً من خمار سميك وثخين يحجب عينيها من النظر الى الطريق ؟ ألا ترى كيف يجلس الرجل في قمارة السيارة ويجعل المرأة تجلس في حوضها مع الخراف والدجاج ؟.. التقط لنا في قادمات الايام تفجرنا في مدينتنا التي تشبهنا في تلقيها الضيم والهوان. وظّف كاميرتك للتحاور مع المرأة السماوية في التعبير عن خلجاتها. اتركها تلتقط صرخة أم رَميَ ولدها في أتون بطالة قاهرة فصار قلبُها كل يوم يعتصر لرؤيته طاقة معطلة وساعد مكسور، قسمات زوجة كبرت قبل وقتها جراء شقاء وكد يومي لا ينتهي وذل من لدن زوج لا يفقه حقها ولا يحسبها شريكة في بناء اسرة يراد لها ان تكون مُثلى، دمعة طفل وطفلة يمشيان حفاة، سرق ضحكتهما سياسيون جلسوا على مقاعد النيابة فنسوا مهامهم في بناء حديقة غناء تفتح ابوابها للطفولة كي ترفل على خميلة اللعب والجذل والمرح وتنشئة أجيال لها حق صعود قطار الحضارة كما الامم التي اغترفت النور واستقلت تغني لغد ضاحك؛ سياسيون لم يدركوا مسؤولية انيطت بهم وواجبات حُتِّم عليها أداءها لصنع صورة بانورامية لمجتمع عاش الجهل المُطبِق جرّاء حقب من التجهيل المنظم والتذليل المبرمج فبات يحلم بصباح مشرق يأتي به ابن وطن غيور قرر أن يدوس على رأس تنين الخوف ويعبر محيط الآلام إلى جزيرة النور ليقود بعدها سفينة الانقاذ ليحمل مواطنيه وينقلهم إلى جنان الحرية.
نزلت يد ناصر الجبلاوي الحاملة للكاميرا. ابتسم لها ابتسامة مَن تأثر بكلامها وأعلن الاعتذار.
واصلت سيرها؛ وفي رأسها ارتسم برنامج نشاطها القادم وسعيها للتواصل مع فتيات رأت فيهن دافع الشجاعة للانضمام اليها والتحرك على أمل، وإن يكن بطيئاَ، في جعلهنَّ يعلنَّ رفض الجور ويزحنَ جدار الحيف عن واقعهن. عادت زيارتها الى كربلاء صحبة والديها ولقاءها بالدكتورة نزيهة الدليمي، الطبيبة التي شرعت تفحص والدتها المصابة بداء النقرس. عاد ذلك اللقاء الذي حسبته تاريخياً بعدما خرجوا مع الدكتورة لمسافة وهي في طريقها لبيتها مرتدية عباءةً مجاراة لواقع كربلاء الديني والاجتماعي. كانت هي تصغي لكل كلمة تتحدث فيها الدكتورة عن الواقع الاجتماعي القاسي وحرمان المرأة من حقوقها وكيف جهدت هي من أجل مواصلة تعليمها وقيادتها حركة تحقق للمرأة مكانتها الحقيقية في المجتمع. عاد ذلك اللقاء وعاد إعلانها الانضمام للحركة والتواصل عبر أبيها الشيخ محمد عندما تسلَّم من المرأة رقم هاتفها في المستشفى ودعوتها لتتواصل.
كان التواصل مستمراً. وكان الأب بزياراته المتكررة إلى كربلاء تحقق تقدماً في هذا الأمر. تحققت للبنت زيارتان كانت بمثابة محاضرتين مهمتين تضمنتا العمل والبرنامج اللذين عليها تطبيقه في المدينة. فكان التحرك، وكان النجاح. نجاح وصل إلى تأسيس رابطة نسوية فرعية من " رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية" كانت الدكتورة الدليمي ترأسها.
ويوم استحال اسم الرابطة " رابطة المرأة العراقية " واستحال العام 1961 عاماً لنشاط المرأة العلني والفاعل كبرت أعداد النساء المجاهرات بانتزاع حقوقهن، وكبر اسم بنت المؤمن في عيون مَن كُنَّ يلمنها أو يرفضنها أو حتى اللاتي تجنينَ عليها بالكلام والنميمة. وكان على ناصر الجبلاوي حمل كاميرته والوقوف أمامها بلا خشية ولا مواربة هذه المرة.
تلك الأيام كانت هي التي تدعوه لالتقاط اجتماعاتهن ومؤتمراتهن؛ وهي التي ترجوه الإكثار من الصور فتبعثها للصحافة مع خبر أنشطة الرابطة وجهودها في تنوير ما ظل الظلام يتكلس على جدرانه ويتكتل كغيوم دكناء في سمائه.
بنت المؤمن تفوه الألم
في الثانية عشر من عمري حلمت أنني أسير في درب محفوف بوجوه نسائية شاحبة.. أفواههنَّ تطلق نداء طلب المساعدة من خضيب طين اسود يغرقن فيه لما فوق صدورهن ويقرب من أعناقهن كأنهن سيغطسن حد الموت والانطمار في مدٍّ يتواصل حد الأفق بينما ملح يسقط كنديف الثلج من فوق.. وهناك؛ على جزر تعلو يحتشد رجال بملابس وأزياء متعددة يعود بعضها لعصور غائرة في التاريخ. أيديهم تلوح بسياط يضربون بها الهواء تهديداً ووعيداً فيملأ أزيزها الأرجاء وسط صرخات نسائية تهاجم مسمعي وتجعلني كما لو كنت في دوامة مائية مرعبة ستلفني إلى أسفل اليم وتغرقني حد الموت.. استيقظت فزعة وسط غرابة أمي التي كانت تمسك المكنسة المعمولة من خوص سعف النخيل وتنظف أرضية الحوش المبلَّطة بالطابوق الفرشي المربع، واتشاح سحنتها بالحنان والألم، وسؤالها الشغوف لتوضيحي : ما بك، يا ابنتي ؟!!.. فصَّلتُ الحلم وأصابعي ترتعش، وقلبي يخفق بنبضات هَلع.. حرَّكت رأسها تململاً، وقالت : كلُّ امرأة سبقتكِ بالعمر حلمت هذا الحلم في مثلِ عمرك.".. ثم عادت تواصل مهمة كنس الحوش... طالعت أمي تلك اللحظة وراقبت انهماكها. لا أدري لماذا بدت لي كأنها ليست أمي فقط، إنمّا أم العراقيات جميعاً. أولئك اللاتي تهافتت عليهن مصائب الزمان فاحدودبن وفعالُ الإنسان الظالم فانسحقن.
ظل ذلك الحلم يراودني كلما فتحت أمي باب البيت على طرقات واهنة لجارة تأتيها لطلب المساعدة في رأي سديد تجعله درباً لتجاوز أزمة أو حل لمشكلة يتمثل فيها الرجل جبروتاً قاسياً، غضوباً وأنانياً.. أسمع من بين النشيج وسيل الدموع على الوجنتين صوت الجارة يتكسر وهي تعرض وسائل شتى اتبعتها مع زوج لم تجنِ منه غير عقاب مريع وتهديد بطلاقٍ نُطقه عنده أسهل من شربة ماء. زوج كأنها غريبة عنه رغم الأبناء التي خلفتهم وظنتهم يقوُّون وشيجة الحياة معه. لماذا كل هذه القسوة ؟ وما هذا السلوك المريع ؟!.. كثيراً ما وجدت أمي تنشج مواساة لمن تأتي للتشكّى.
أسمع أمي تنصح الكثير ممن كنَّ يعرضن معاناتهن بالابتعاد عن زيارة مَن يقرأن البخت ويكشفن الطالع ثم يمارسن أفعال هي من عِداد السحر الكاذب.. لا حل لمعضلتنا، لا طريق يأخذ بنا إلى شريعة النور.. نحن في زورق وسط نهر مجنون.. كل ما تمارسن وتتأملن لا قيامة له... اسمعها بيقين اليأس تخاطب جارةً غيرهَا جاءتها ترجو المشورة في أمل ينقذها : " لا يا أختي؛ اللي احنه بيه ما يمكن تجاوزه. يا ما شفت أمي تشكي، ويا ما سمعتها تحكي عن معاناة أمها. معاناتنا دولاب ضيم وقهر يدور، ويدور، ويدور.".
المرأة في مدينتنا لا تخرج مع الرجل. لا يظهر رجل في شارع أو سوق ومعه زوجته أو ابنته. هذا عيب في نظر رجل مدينتنا. وإذا حدث وخرجت فلا بد أن تسير خلفه بخطوات. انها لا تضاهيه بل هي تابع له تخطو متعثرة، مرتبكة، خجلة... القماش الذي تحمله إلى الخيّاطة كي تنجز لها ثوباً الرجل هو الذي يشتريه. هو مَن يقف عند دكان البزّاز ويختار النوع واللون الذي يريده. ليس لها الحرية في الاختيار. إعطاؤها الاختيار يعني انفلاتها.. هي ضلعٌ ناقص. لحضور فرح أو مشاركة في مأتم تخرج لوحدها أو مع جارة لها أو جارات يتفقن.. خروجهن يمارسنه بطقس مبهج ومفرح حتى وإن توجهن لمأتم ذلك أن مبارحة قلعة البيت الحصينة يعنى تنفس هواء منعش يزيل صدأ قهر تعاني منه كسجينة.
تمر المرأة عندنا فتحمل معها تاريخاً من المرارات، وصوراً لو اطَّلع عليها منصفٌ صريح لطأطأ رأسه وبكى !.. ستهرب منه الكلمات ويضل طريقاً جهد بالتقوى ونظافة الضمير أن يكون للحقِّ منبراً. سيعجز في حل معضلة تهافتت عليها صخور القرون وجلاميد الحقب.. من ينقذنا ؟!
حدث مرةً ولمّا أدنو من العشرة أعوام إن انفرجت أشداق النساء من الأمهات والجدات ونأت شفاههن دهشةً لمشاهدتي أخرج إلى الزقاق كما أنا عليه؛ طفلة امتلئ بالبراءة والعفوية. رحن ينبهنَّ أمي لكبري وتراكم سنواتي ووصولي إلى مراتب الفتيات البالغات المستحقات الزواج؛ ويلمنّها على تركي بلا عباءة تستر جسدي ولا فوطة تخفي شعري. وقتها أتذكّر أمي احمرت حماسةً مقرونةً بتقطيب حاجبيها رافضة كلامهنّ ورادةً عليهن لومهنَّ. أظهرت عجباً لازدواجيتهن في التصرف وذكرتهنَّ بدموع يسكبنها، يوم يؤتين أمامها، لسوء تصرفات زوج أو محاولة انتقام حمي. تروح تعنفهن معيبة عليهن تقهقرهن إزاء واقع اجتماعي يهضم حقوقهنَّ ويقودهنَّ صوب وادي الذل والخنوع.
رأي أمي في مقارعة الظلم على المرأة واجهها تفهم أبي.. أبي كان على تواصل دائم مع صحب له في العاصمة.. في العاصمة تتقدم الحياة واثقة؛ والمرأةُ تبصم تطلعاتها على رقيم يبغي تأرخة صراعها من أجل تكريس قيمها كمخلوقة تضاهي الرجل، حواء وقفت قرينة لآدم، تكريس حياة رسمها الخالق لتكون للقرينين على قدم المساواة فانحرف ابن آدم ولم ينظر لها إلا على انها وعاء لتفريغ شهوته وتفريخ أولاد يتولون الإمساك بصولجان قهره وظلمه.. في العاصمة كان أبي يبصر النساء المتحضرات يتوجهن إلى العمل واثقات، متزنات، ويخطون متأنقات ومتألقات ومتفائلات. يأتي أبي ليحدثنا عن حياة تقل فيها الضغوط الاجتماعية قياساً بما هو مكرس في مدينتنا والناس في بناء حثيث يتقبلون برضاً وتقبُّل ما تأتي به رياح الحضارة، هناك، في البلدان الشمالية من كرتنا الأرضية. لذلك حين افتتحت أول مدرسة للبنات في مدينتنا قادني مقتنعاً بما يفعل ضارباً آراء مَن حذروه من عواقب فعلته في تسجيلي مع بنات الموظفين الغرباء. فأدخلني عالماً ساحراً كانت فيه المثابرة على التعلم ديدناً وصحبة البنات ممن يعشن في عائلات متحضرة انفتاح على واقع جديد وارب أمامي ناظري مدّاً من تهافتات ظلم واقع على قريناتي من البنات في حصاد النور وجمعه لتنوير درب الحياة القادمة.
النور الذي جمعته في غرفة ذاكرتي هو مَن جعلني بمرور الأيام أرصد معاناة النساء وابحث في مكامن قهرهن؛ هو مَن أثار فيَّ جموح الدفاع عنهن والاندفاع لتنويرهن بما ملكت يدي. أخرجهن من ظل غيمة يومهن العتيم وأفصح لهن عن حقوق لهن يجب الكفاح من أجل استردادها من كف تقبض عليها بتجبّر.. كان أبي يبتسم لي مع كل عبارة منبعثة من غرفة النور تبدو غريبة على مسامع نساء ورجال مدينتي وأنا أبصرهم وأبصرهن يفغرون ويفغرن أفواههم وأفواههن دَهَشاً ويخشين من تبعات يرونها ويرَينها خطراً على حياتي وتجاوزاً على قيم حسبوها وظننَّها مقدسة؛ وكانت أمّي تقول : أخشى عليك ! فهذا مجتمع عصي على تقبل ما تقولين. وإذا كان الرجال سيرفضون رأيك بشدة فإن النساء سيقفن معهم. سيحسبنك تسترجلين حتى وأنتِ تسعين لاسترداد حقوقهن المستلبة.
لم يكن الدرب يسيراً؛ وما كان فضاء العمل بالصفاء الذي يُراد.
مع الأيام كنت اشهد عيوناً تنفث غيوم الريبة، وأسمع ألسنةً تلوك كلمات الغيظ.. ليس من الرجال فقط بل ومن النساء كذلك.. لم أعر همّاً للرجال؛ فهؤلاء الطرف الثاني في المعركة لكن همّي انصب على ما تقوله النساء، على ما أسمع : متمردة تنكرت لناسها.. صاحبة لسان زفر.. تربية مدارس.. صلفة.. وقحة.. مسترجلة.. حقيرة لا تدري أنها بفعلها تؤلب الرجال علينا فتجعلهم يزدادون حقداً وقسوة.. همّي انصب على ما يصلني من رجاءات مقرونة بنصائح من أفواه النساء : اتركي الناس على حالها.. أنتِ تنفخين في قربة مثقوبة.. ترمين نفسك في تنور لاهب.. نحن خلقنا على ما نحن عليه.. بدون الرجال نضيع فمن لنا غيرهم حِمى ؟!
لفتـه جواد
حُمّى التظاهرات يشتدُّ أوارُها؛ ومعها يشتد استنفارُ الشرطةِ وقمعُها.. الصحف تتناقل أخبار الاحتجاجات في عموم المملكة العراقية. إذاعة لندن تفعل فعلتَها بتصوير شيء من حقيقة ما يجري في المدن. تسقيط جنسية اليهود. هناك بقايا منهم في المدينة.. الصوب الصغير يشهد تناقص أعدادهم بشكل سافر.. رَحل أدور وايماض.. سُفّر زلخا وساسون وأولاد يوسف بلبول.. التوراة أغلق.. صار البقايا من اليهود يؤدون طقوسهم في بيوتهم.. إسرائيل تنده عليهم.. إسرائيل تساهم مع فرنسا وبريطانيا في ضرب مصر. عبد الناصر يُحذِّر.. إسرائيل وجدتها فرصة لترهيب ما تبقى من اليهود في الدول العربية، وفرصة ليهود العالم كي يحتشدوا في المطارات لتنقلهم الطائرات والسفن بالمجان الى حيفا ويافا، يحتشدون في الموانىء البحرية العالمية ففرنسا حليفة لها وبريطانيا ترعاها، وها هم الثلاثة يسعون لكسر شوكة عبد الناصر. يطعنون خاصرة اكبر وأقوى دولة عربية... إذاعةُ صوتِ العرب من القاهرة توظّف برامجَها السياسية ونداءاتها التحريضية على الثورة وطرد المستعمر، تُعبّئ المستمعين في العراق للقضاء على النظام الملكي واستحداث نظام جمهوري.. عاصمةٌ تمور، مدنٌ تغلي : عدوانٌ ثلاثي، معاهدة بورتسموث، معاهدة حلف بغداد، بيع السيادة للمستعمر، انقلاب بكر صدقي، حركة عالي الكيلاني، ثورة يوليو 1952 في مصر ثم العدوان الثلاثي عليها بعد أربعة أعوام.. السماوة تنهض من رحم الانتفاضات المتعاقبة.. السماوة تريد استعادةَ أحداثِ ثورة العشرين منتظرة ما يرَدها من المرجعيات الدينية في النجف.. السماوة فيها تنظيمات سياسية ليبرالية؛ بيئة حاضنة للأفكار المحرضة وراسمة غد أفضل تنتعش فيه الحرية ويتحقق مبدأ تكافؤ الفرص. تنظيمات تناهض الحكم باعتباره ذيل لمستعمر جاء ليستحوذ ويهيمن إن لم يكن بنفسه فبأدواته وعملائه. السماوة تعيش الفقر الساحق الماحق : بيوت خربة بمثابة أطلال، أزقة هي لافتات صارخة بالهمود، شوارع أرضها تراب، أرصفتها دروب عثرات. قمامة متناثرة، عربات تجرها حمير تترك فضلاتها منابت لمستعمرات الذباب والبعوض، بدو يجيئون من البادية بجغرافيتها الرملية مخلّفين العميّد ونقرة السلمان وبصيَّة مارّين على برارٍ ومخترقين تلال على هدي بيع ما يحملون معهم من سمن حيواني ومصل لبن مجفف وجلود خراف مدبوغة وبعر جمال يابس للمواقد يبيعونه على أصحاب المقاهي ويبتاعون بأثمانها القهوة والسكر وقِرب الماء والتبغ وأوراق اللَّف ويوفرون حاجتهم مما يظنونه ضروريّاً من الملابس. لفح شمسي قاهر تمطره سماء صافية يُنعش التيفوئيد والسحايا ويشيعهما في الدروب وزحمة السوق وبين مراجعي الدوائر الحكومية والمستوصفات الطبية جاعلاً الأجساد المنتهكة خواء والرؤوس مراجل نار لاهبة أو زمهرير عنيف قاطع يردي الفقراء العراة وذوي الأسمال والملابس البالية موتى أشبه بالمومياءات المتحنطة المتصلبة.. هناك تقاطرُ نسوة بوجوه صفر وهياكل خاوية تخفي سرياليتها عباءات موحلة، حوامل يجرجرن أنفسهن أو يقدن أطفالاً هزيلي الأجساد باتجاه " مركز حماية الأطفال" فيَشكين بعبارات متقطعة وأنفاس لاهثة وعيون تقطر أسىً للماسيرات المسيحيات القادمات من أقاصي أوربا لمدينة جنوبية اختيرت من لدن لجان طبية كونها بائسة تفتقر للخدمات الصحية وفق مشروع مارشال الأمريكي لنشر الوعي الصحي وتقليل نسب الأجنة الموتى في البطون أو المواليد الذين يموتون أثناء لحظات الولادة.. مشروع أقيم ليشيع وسط النفوس الغارقة في الحرمان البعد الإنساني لأنظمة ليست من طينتنا ولا ديننا ولا قوميتنا استفزها الجور والعذاب والإهمال والعَسَف والاستحواذ وموت الضمير وسحق الوجدان الذي يعانيه الوطن الغني الكريم النقي البريء فاندفعت توصل بؤر خدمية صحية وتثقيفية وإن كانت صغيرة ويسيرة ومحدودة.
في السوق والشوارع تترجل دوريات شرطة، حاملة هراوات مهيأة للانهيال على الرؤوس والظهور وترضيض الأطراف؛ وفي الأغماد الجلدية السوداء مسدسات فيما الأحزمة تجمع جعباً صغيرة من ذوات العشر رصاصات.. الدوريات تتابع بتوفّز وتحفّز كل ما ترتاب به أو تحسبه ينم عن حركة ستؤول إلى تظاهرة تبدأ باستفزازهم من قبل عنصر صِدامي أو أكثر توجههم الأحزاب المثيرة لغضب الحكومة بغية اندلاع مواجهة لتقويض سلطة الدولة في المدينة.
لفته جواد بقامته الناهضة وسمرته الداكنة يمر وقد رفع ذراعيه وجعلهما كجناحين صورةً للشجاعة بينما عيناه تبعثان رسائل تحدّي لدوريّة سبق وإن اعتقله أفرادُها وجروه مع جموع المتظاهرين في مسيرة منفعلة عُبِّئت بضرورة المواجهة وعدم التراجع. تظاهرة غاب عنها مَن حرضها فكانت هادرة. رُفعت فيها شعارات تطالب بإسقاط الحكومة. تظاهرة دوّى فيها رصاص السلطة فجُرِح الكثيرون.. هو أحس بلسعة ساخنة بلوح كتفه. أعلمته أصابعه التي وصلت لها بدم أحمر تشرب به القميص والسترة. سريعاً ساوره شعور بضرورة التسلل والعودة للبيت لئلا يسقط في يد السلطة فتتهمه بالمواجهة ويكون جرحه شاهداً على محاربة السلطة بالسلاح؛ فقد اعتادت البرقيات المرسلة إلى بغداد حمل أخبار استخدام المتظاهرين للسلاح ما يضطر الشرطة إلى الرد بالرصاص دفاعاً عن النفس.. خلع سترته وعلقها على متنه إخفاءً للجرح وإشهار الدم. دخل سوق القصابين، ومن هناك اتخذ زقاق آلسيّد طفّار طريقاً للابتعاد، ثم زقاق العرايا كي ما يصبح قريباً من بيته.. شاهد شيخاً يقف عند باب داره ومن وراءه كانت امرأة تهذي، تشتم المتظاهرين وترمي باللائمة عليهم في تعكير حياة الناس. التفت محتدِماً. بصق باتجاهها واسمعها كلمات شتيمة. رفع سترته واستدار يعرض لها ظهره، مردداً : " نحن مَن يؤذي السلطة أم السلطة هي مَن تؤذينا.".. بهتت المرأة، وهالها لون الدم. تراجعت الى الوراء وغابت وسط تضرعات الزوج بمسامحتها كونها عجوز لا تبغي غير السلم حتى لو كان الجور هواءً والظلم سماء.. مع انعطافته واقترابه من زقاق النجارين شاهد امرأتين تلتقيان. وجهاهما تكسوهما صفرة. تحاولان العودة بسرعة إلى البيت. سمعت الأولى وكانت تحمل قدراً فوق رأسها تخاطب الثانية : كنت اشتري طرشي من حسين الطرشجي عندما تعالى صوت الرصاص. سمعت الناس في خوف يعلنون فتح الشرطة النار على متظاهرين يطالبون بإسقاط نوري سعيد." فتردد الأخرى متضرعة بالسماء : يا ستار ! أخشى على أخي. كلما قامت تظاهرة القوا القبض عليه وسجنوه.. سأذهب إلى هناك لأرى. "." لا.. لا ! لا تكوني مجنونة. عودي إلى البيت. ها أنتِ ترينني لم اكمل التسوق.. لا أمان في الدنيا."
مشاركة لفته جواد في تظاهرة فيلم بور سعيد المدينة الباسلة قادته إلى سجن الخناق. ومثلما حصل له في المرات السابقة حصل له هذه المرة؛ إذ قضى أياماً نال فيها اللطمات والسطرات والركل بالأرجل مع البصاق والشتائم.
وفي واحدة من أخبار الاعتقالات في المدن وباستعراض وافٍ أوردت إذاعة لندن في ذيل خبر طويل إشارة لاعتقال الشرطة شاب في مدينة السماوة. سحب من الشارع من قبل شرطيين انهالا عليه بالهراوات أمام أنظار الناس ورمي في نظارة سجن المدينة. لم يكن ذلك الشاب سوى لفتة جواد.
قضى لفته جواد يومين في المعتقل، يُهان ويُضام، يُركل ويُذَل. يُهدَّد بالعقاب القاسي والسجن الطويل. وحين أطلق سراحه بكفالة شفهية من أحد أعيان المدينة وعاد لأهله اندفع الصحاب يحيون شجاعته ويُكبرون فيه تحمله.. ذلك عزز لديه الثقة بالنفس والاستعداد لمواجهة المواقف مهما عظم ثقلها وصعب الأمر.
مشاركاته في أية تظاهرة صارت ديدنا حتى وهو يجهل أسبابها، ولا يعرف مرامي المتظاهرين. إنّه الحماس المقرون بالتطلع ليوم أفضل من سابقه.. تقارير شعبة الأمن عنه تشير إلى عدم انتمائه لتيار أو حزب تضعه السلطة في خانة الأعداء. أدركت حماسته وانفعاله البريئين، لذا صارت دوريات الشرطة ورجال الأمن حين يعتقلون مَن يرونهم يتحدّونها وتقودهم للمعتقل تتركه رقماً هامشياً. أدركوا سعيه لجعل الناس تتحدث عنه في المقاهي والجلسات كبطل. صار ما أن يشاهدونه بين المتظاهرين يلوون أنظارهم عنه، وهو في دفين روحه ينده بهم : هيا اقتربوا.. انهالوا عليَّ بالهراوات.. اعتقلوني.. غيرَ أنَّ ذلك لم يحصل... إهماله له في تظاهرات لاحقة قتلوا فيه روح البطولة التي تمنى.
ناصر الجبلاوي هو الآخر أدرك مسعى مشاركة لفتة جواد. لذا أراد أن لا تفوته تأرختها، وبصورة مميزة.
حين تناهى إليه هدير صوتي لتظاهرة قدمت من شارع مصيوي ودخلت شارع الكورنيش وصولاً إلى مقر الحكومة سحب كاميرته. لم يكن الهدف الأول تصويرها بل التقاط أكثر من صورة للشاب المتحدّي.. سيراه يتقدم التظاهرة رافعاً يده ومتحمساً يردد الهتافات.
ولم يكن مُخطِئاً... فما أن اقترب جمعُ المتظاهرين حتى أبصره، كما عهده، في المقدمة يردد بصوته شبه المبحوح شعارات حماسية تتوعد نوري السعيد وجوقته بيوم أسود.
****
صيفُ السماوة حار وجاف؛ يغلي على مدى شهور أربعة. أرجوزة طويلة لحدث ينتظر شرارة اندلاعه.. صيفُ السماوة فصلٌ مسروقٌ من كتابِ جهنم.
نهارُها شمسٌ ساخنة وعرقٌ غزير تنضحه الأجساد المحمومة جراء واجبات متواصلة وبانوراما إنسانية تُمجّد العمل وتُعلي من شأن العاملين في حين تدين الراكنين أجسادهم في الأفياء يمارسون الملل ويتحاورون مع الضجر.
ليلُها سمرٌ وجلساتٌ على التخوت وكراسي الجرّيد أو على نديف الرمل عند شاطئي الفرات، ارتياد مقاهٍ للعب الدومينو والطاولي، سماع غناء أم كلثوم يصدح من الكازينوهات المطلة على النهر، نوم مبكّر، ارتياد سينما عبد الإله ومشاهدة فيلم جديد أو إصرار على معاودة مشاهدته بحكم إثارةٍ أوقعت المعاودين في حبائلها. إثارة جلبتها كاريزما البطل أو مهارة الحبكة بجعلها المتابع يعيش لذاذةَ التتبع فيسعى من خلال تكرار الدخول إرضاء نزوعه وإشباع دهشته.
السماوة تعيش رتابة حياة جُبلت عليها رُغم اتّساعها قليلاً وظهور مدٍّ سكني أحدثه القائمقام الجديد علي حيدر. وجد في التوسع ضرورةً، خروجاً من المحدودية الجغرافية ودخولاً إلى الانتشار البشري. فقد انهمك ذلك الرجل الممتليء حيويةً بعد طلبات ومتابعات حثيثة وتحرك شخصي لم يعرف الكلل ولا النكوص لجلب موافقة متصرف لواء الديوانية على استحداث حيٍّ بعد فرز مُجهد لمساحة واسعة سيعطي للمدينة سمةً حضارية تتمثل بشق شوارع منتظمة واستحداث مرافق عصرية بما فيها المدرسة والمستوصف والملعب الرياضي والمتنزه الترفيهي. وكان له ما أراد فحمل الحيُّ اسمه، وصارت الحيدرية مصدر اهتمام الاغنياء والقادرين على الشراء والبناء، تلك المبادرة فتحت باب بيع الأراضي في الضجرية فاندفع الفقراء يبنون بيوتهم بالطابوق والجص متخلّين عن أكواخ الشوصة التي كانت تحتل شريطاً أرضياً جوار محطة سكك القطار. أكواخ بائسة اعتادت أمطار الشتاء المدرارة على إغراقها بينما تفعل الرياح الشديدة فعلها في طيران هياكلها المعمولة من جريّد النخل وسيقان القصب؛ وسقوفها من البواري والحصران.. زالت من خارطة المدينة العشوائيات وحلَّ محلّها فناء واسع يجعل الناظر يبصر، عن بعد، لوكة إدامة القطارات : مكائنَ وفراكين.
لفتة جواد يقول الفقر
من رحم المعاناة ولدنا، وفي حارة الحرمان نشأنا؛ لكن الحلم بالجميل ديدن. نقفز على الهموم ونتعدى الجراحات. يأتي أبي ظهراً معروقاً ومنهكاً فتستقبله أمي بصينية فيها صحن رز وصحن مرق باذنجان وصحن خضروات هي مزيج من كرفس ورشاد وكرّاث غسلتهم جيداً فيحتج بعتب هامس : كل يوم بيذنجان، يا مليحة ؟! فترد بنفس نبرة العتب : " هذا ما أقدر على شرائه، الخمسين فلس ما تجيب لحم ولا بالمقدور شراء باميا.". وبشيء من الغنج تردد : " مد ايدك، وإكل !.. راح تأكل أصابعك من طيبتها.. قلّيت مع الشرائح بصل فصارت المرقة تبسي.".. لفته وأخوه وأخته نسفوا الصحون، وطالبوني بأكثر بالمزيد. ولوما اقلهم الباقي هو غده ابوكم كان هجموا عليه وأكلوه وفرِّغوا القدر. ".
أتطلع في وجه أبي فأحصد الشحوب، وأقرأ أسطر البؤس تحكي حكاية إنسان لم أره مرةً يلبس ما يلبسه الأغنياء. وكل ما يحصل عليه من عمل كأجير يتلقى أجره مع مقدم الغروب فيعود الينا خاوياً من وجبتي عمل قاسٍ ومرهق كعامل بناء يعتمد على قوة ساعده وكفاءة جسد يسلمه لأمي كي ترتّب ميزانية البيت من مأكل وملبس.. كلما جلسنا نرتشف الشاي بعد العشاء متحلقين حوله نطالبه بما يشبع نزوعنا من حكايات تخصه. يضحك بشيء من السخرية ويقول : الحظ يتلبَّد وآنا أدَور عليه. وين ما أخليها تخرب.
قال لنا مرة، أنّه عندما كان فتى سمحت له إدارة محطة قطار السماوة ببيع السجائر مقابل أن يتولى تنظيف رصيف المحطة مما يرميه المسافرون من علب سجائر فارغة وإعقابها، وبقايا أطعمة؛ وجمع اوراق الشجر المتطاير من حدائق بيوت الموظفين الانكليز وإداريي المحطة والفنيين الآتين من مدن عراقية مختلفة. كذلك التجوال بين تلك البيوت لجمع الأوراق اليابسة وما يرميه السابلة الذين يسلكون الدروب الضيقة بين البيوت ولا يلتزمون بالنظافة.. التجوال في هذه الدروب يجعلك تشعر أنك لستَ في حي من مدينة بائسة كالسماوة أنما أنت في أحد الأحياء الأجنبية التي تظهر في الأفلام. كانت ملامح وجوه النساء الانكليزيات ورشاقة قاماتهن كتلك الحوريات التي يصوّرها الشيخ موسى للمؤمنين في جنة الله الموعودة للمتقين من فوق منابر التعازي الأسبوعية. وكانت الصبيات والصبية من أبنائهن كأولئك الصغار الممتلئين المُحلّقين بأجنحة ريشية بلون الثلج حول أمهاتهم الممتلئات شبه العاريات والتي نراها في صور مزججة مُعلقة على جدران غرف تلك البيوت تكشفها الشبابيك المشرعة للهواء فترة الضحى.. يقول أبي كنت أمرُّ كالمذهول.. أتطلع بعينين مفتوحتين اندهاشاً على الجمال والنظافة. وقد ساقني الحظ النكِد إلى الوقوف مرةً كصنم أمام انكليزية تحمل طفلاً ملائكيا لا يتعدى العام من العمر.. حورية من حواري الجنّة كانت، لكنَّ الطفل لم يكن مُحلقاً وليس له جناحان بلون الثلج بل كان آدمياً خلقه اله من قيمر وعسل. وقوفي متحجِّراً أثار امتعاض المرأة فاستدارت نافرة. سحبت الباب المشبك مانع دخول الهوام من ذباب وبعوض وحرمس إلى البيت وتوارت. لحظات ودُفِعت الباب فخرج رجل أربعيني أشقر لم أتبينه أول مرة. طالعني بتركيز وسمعته يرطن بكلمات لا أفهمها. لم يكن إلا المستر وليم هوبكنز معاون مدير محطة السكك. كثيراً دخلت غرفته انقل الأوراق من سلة المهملات المركونة في زاوية مكتبه فيبتسم لي ابتسامة التعاطف وتمجيد ما اعمله.. في صباح اليوم التالي عدت إلى بيتنا دون أن ابيع علبة سجائر واحدة، ذلك أن رئيس الملاحظين الذي توسط لي للعمل قد استدعاني وعنفني على فعلي وشرح لي غضب المعاون. لم تنفع توسلاتي ومحاولة إيضاح ذهولي المفاجىء ببراءة إنسان أخذه العجب ليسقطه في بئر الدهشة ليس غير. وبذلك فقدت عملاً كان سيتطور فأصبح عاملاً ثابتاً في أحد أقسام المحطة أو فنياً في ورشة العمال المهرة المناط بهم إصلاح الماكينات أو العربات العاطلة وتزييت وتشحييم عتلاتها وعجلاتها وحركة أبوابها. كانت الورشة عبارة عن جَمَلون مفتوح في بدايته ونهايته.. كنت أقف طويلاً، والدهشة تعوم في فضاء روحي وعيني تتابع حركة المهندسين والفنيين والعتّالين ببدلاتهم الزرق الملطخة بالزيت وسخام الفحم ووجوههم تقطر عرقاً في ساعات الظهيرة الصيفية أو يرتدون القماصل الزرقاء الداكنة وأحرف س، ح، ج، ع متشابكة تشير للأحرف الأولى من " سكك حديد الجمهورية العراقية " وقبعات زرقاء تكمل اكسسوارات بدلة العمل.. بإمكان كل من وقف في مكاني شم رائحة بنزين وزيوت وشحوم وسمع ضربات مطارق وحركة مفكات وأصوات فنيين يتنادون من أجل إحضار ما تتطلبه مهمة العمل أو نقلها بعد الانتهاء منها.
(8)
شميران.. العودة
تستيقظ شميران على نداء أمها وكركرة العصافير في السدرة التي تظلل سريرها في فناء الحديقة الواسع، وعام دراسي انصرف في قسم الجغرافية لكلية الآداب. هي اختارت الفرع وفضلته في جامعة بغداد. فضلته لأنَّ في قلبها نزوعٌ للتعرّف على العالم بجغرافيةِ كرتِه الأرضية وتضاريسها.. تستيقظ فلا تجد أباها. كان خرج للتسوق؛ فهو يفضل خضار وفاكهة الصباح الطازجة. دائماً يقول لأمها : " الفاكهة وجوه نضرة تستقبلك بابتسام وبهجة حين تكون طازجة، والخضرة أجساد تعجُّ بالنشاط والغِناء خصوصاً إذا جئتها في بدايات عرضها ".. لا يُنصَح أبداً بشرائها إذا استمرت معروضة إلى ما بعد الظهيرة".
تنهض تغسل وجهها في المغسلة الفرفوري على يمين باب المطبخ؛ صابون جمال برغوة تنعش رئتيها، والمنشفة القطنية مشبعة برائحة القرنفل؛ عرفت أن أمها وضعت حبّات يابسة من هذه الزهيرات ذات الكأس الطولي الداكن الحمرة لاستعذاب رائحتها في ماء غسيل المناشف. الرائحة إعادتها لطفولتها في «تلكيف»، هناك في الشمال الجبلي البارد تلك اللحظة، والمُثلِج حين يطل كانون ثاني من كل عام. هناك تخطو مع سيمون.. تلميذتان طفلتان تحملان حقيبتيهما الجلديتين المليئتين بالكتب والدفاتر، تقطعان الطريق الثلجي وتطالعان أشجارَ البلوط المسربلة بجليد يجعلها كما لو كانت طواطم منتصبة في الطريق إلى كنيسة مرقس حيث تتلقيان دروسهما في المدرسة الملحقة بالكنيسة. تطالعان الأرانب والسناجب والكُشُك الرمادية تتقافز على النديف الأبيض فتكشف نفسها وتصبح عرضة للصيد بخراطيش البنادق.. كانتا شبعتا من أفراح وهدايا عيد الميلاد قبل أيام. كانتا نَعِمتا بالصحبة البريئة مع صبيان القرية وصباياها. يتبادلان الأحاديث ويتفوهان بالأماني والتطلعات لما سيفعلن في أسابيع وأشهر السنة الجديدة. تُحدِّثُهم سيمون عن عمّها الذي غادر بغداد إلى ديترويت في أمريكا تاركاً الثانوية المركزية كمدرس يدرس اللغة الانكليزية وطامحاً لنيل شهادة الدكتوراه والعودة ليكون أحد أساتذة جامعة بغداد. ويستمعان لتلميذ يقع بيتهم على قمة تلة خارج القرية يستطيع من خلالها مشاهدة الوادي السحيق والبغال المحملة بالشاي والسكر والملح والبهارات وحبال القنب والقدور والطاسات المعدنية المستوردة من الصين وبلدان أوربا، ويستمع لأغاني الرعاة تأتي، يتبعها الصدى والترنّم بعذب الكلام، ما يجعل أمه وأخواته يبرحن البيت ويقفن عند دكَّة الباب للإصغاء بهيام يُهيّج في النفس الشجن ويستدعي الحنين للذكريات البعيدة فيما تحدثهم شميران عن نية أبيها الانتقال إلى العاصمة وتأجير دكان لبيع النبيذ في البتّاويين وسط بغداد؛ فقد تلقى اقتراحاً من ابن خالته ينصحه فيها بجلب الأسرة والعمل، حيث قدِم الكثير من المسيحيين واستطاب لهم العمل والعيش.
غب أشهر؛ ومع قدوم الصيف ودّعت شاميران صديقتها سيمون، وصدق قولها في الانتقال إلى بغداد. فما إن نجحت وأختها في المدرسة وانتهى العام الدراسي حتى حملت سيارة الأجرة الاسكانيا في حوضها الخلفي عفش العائلة وصعد الأب والأم والبنتان في القمرة جوار وخلف السائق منطلقة إلى بغداد في رحلة اكتشاف عالم جديد وتهيئة مقرونة بضرورة التكيف والتواصل. فالمطامح تأبى الركود ولا تتحقق إلا بالحركة.
ومثلما استقرت الأسرة في البتاويين واستطاعت العيش بالرزق المتوفر عامين على إيقاع الطموح للارتقاء بالوضع المادي نحو الأفضل انتقلت للسماوة حين تبادلَ الأبُ والأمُّ حواراً لمقترحٍ أبداه بطرس بهنام توما، الصديق الذي نشأ وإيّاه في عنكاوا وشق طريقه حالما تزوج فانتقل إلى بعقوبة أولاً ثم إلى بغداد، وأخيراً استقر في السماوة. جاءت رؤيةُ الأم الأخذ بالمقترح. استقبله توما بعد ثلاثة أشهر من عرض الاقتراح. وفَّر له دكاناً في صوب القشلة؛ وعلى مقربةٍ سكنَ بيتاً متواضعاً بحديقة استطاعت الأم بمرور الأيام جعلها روضاً يُعتَد به مثلما تمكنت شميران من عمل حديقة مصغرة في أصص أنتجت لها ورد الجوري... وجد الرجل وأسرته في السماوة تجمعاً بشرياً يمكن لأي غريب التعايش بيسر فلا نظرة سلبية لغريب، ولا اعتداء يُخشى منه الضرر.
****
صبيحة الرابع عشر من تموز 1958 غيرت الخارطة الزمنية.. بغداد شهدت حركة دبابات ولعلعة رصاص ومنع تجول وتهيب ناس في بيوتهم. ذهول وترقب وتساؤلات.. الآذان منشدة إلى الإذاعة الوطنية. البرامج اليومية التقليدية انقطعت واستبدلت بنشيد " اللهُ أكبر " الذي سمعه الناس لأول مرة في العدوان الثلاثي على مصر.. ما أن ينتهي النشيد حتى يُعاد مجدداً لتتّجدّد الحيرة في نفوس المستمعين.. الأذكياء والنابهون هم وحدهم الذين أداروا مؤشر المحطات فأوقفوه عند إذاعة لندن.. إذاعة لندن قدَّمت تقارير مشوَّشة لا تتعدى بث أخبار لعلعة الرصاص وخلو شوارع بغداد من المارة.. وشيئاً فشيئاً أدرك كادر الإذاعة بناء على معلومات زودتها به السفارة البريطانية في بغداد مؤشِّرة تحركاً عسكرياً، تطويق لقصر الرحاب، عدم معرفة وجود رئيس الوزراء نوري السعيد ووزراء حكومته. إبهام حول مصير العائلة المالكة والملك الشاب الذي كان يستعد للقاء خطيبته التركية في أوربا وانشغلت الصحافة طيلة أسبوع بنشر صوره والخطيبة والاستعدادات الجارية لسفره. صور أظهرت الملك مسروراً والبهجة دافقةً من عينيه وساكبةً تباشيرَ مستقبل سعيد.. لكنَّ السرور سرعان ما انطفأ وتعتَّمت حياته بموتٍ مأساوي هو وعائلته مُنهياً حكماً ملكياً دام خمساً وثلاثين عاماً وعشرة أشهر وإحدى وعشرين يوماً.
هبَّ الشعب في فورة هياج وحب انتقام. حسبت ثورة ولم تعتبر انقلاب.. سقطت رموز السلطة البائدة واقتيدت إلى قفص الاتهام والمحاكمة. بشّر البيان الأول بإعلان " الجمهورية العراقية " بديلاً لـ " المملكة العراقية ". وصارت رتبةُ " الرئيس " عوضاً عن " الملك ".. جاء القادم من بيدر المعاناة. جاء مُصرِّحاً بما يُنعِش آمال الشعب وطبقاته وشرائحه المحرومة. جاء ليكون نموذجاً.. زرع الحب من بذور التواضع؛ ونادى بالديمقراطية والسلام فشرعت الجموع الفرحة تهتف والأمل يحدوها لإدراك غدٍ مشرق : " سر يا كريّم للأمام // ديمقراطية وسلام "... بيدَ أنَّ الديمقراطيةَ طُعِنت بخناجرَ التنافس الأيدلوجي، والسلام خطا عليلاً يتعثّر بمطبّات غيظ المتنافسين، ويصاب بدوار النزوع البدوي المتأجج برائحة الثأر المتوارَث.
ستيفان زفايج
هروباً من أوار فقده ولفح انتهائه اندفع يوسف إلى المكتبة يستجير بنسمات باردة تُطلقها نافذة كتاب مشرعة على بستان طمأنينة. ترفرف في سمائه لافتة تقول : هلمّي أيتها النفوس الحرّى، وتعالوا يا سليلي الآلام.. تراءت الرفوف إزاءه عوالم وحيوات، وبان الفضاء دنيا تفاؤل وأمل.. اقترب من استيفان زفايج فوجده متكئاً على مسند أريكة لمكتب خمَّنه مكتب صحيفة جاء لزيارة شعبة ثقافيتها. مدَّ كفَّه مصافحاً، وعرض عليه فكرة مصاحبته ليتجولا في شوارع السماوة : لم لا ! قال زفايج بلا اعتراض. سنعمل سوية على إفراغ حزنك ونتحدث عن قيمة ضياع الوقت من الذين قلوبهم ثراء. سنعالج موضوعة المغامرة الزمنية للإنسان ونتائجها على تاريخه وأعرافه ومتواليات حسّه. لنستشرف الذاكرة العائدة إلى الماضي بغية استعذاب المستقبل.
يخاطبه يوسف باندهاش : أتراني أسير معك مثل ما يسير تلميذ مع معلمه ؟
يرد زفايج : كيف ؟.. لم افهم.
يقول يوسفُ غريق الدهشة : لقد قرأت كتابك " بُناة العالم " بجزئيه، عرفتني عليه صديقة لي اسمها شميران. وهذه الأيام أبحر في مؤلَّفِكَ " ساعة القدر في تاريخ البشرية " بعذوبة تشبه امتصاص نحلة لرحيق، فاستحق الاعتراف بتلمذتي، واستاذيتِك ؟
يضحكَ زفايج ضحكةً ينضح منها خجل مُداف بعسل الزهو، فيقول بفمِ فيلسوف : غيرُك قرأها أكثر.. نحن نقرأ غيرَنا، وغيرُنا يقرؤوننا.. تلك استمرارية عجلة المعرفة واعتمادها مُحصِّلة التواصل قصد البقاء.. أنا ممتن للمترجمين الأفذاذ الذين نقلوا إلى لغتكم رؤيتي لمغامرين خاضوا الأهوال متسلحين برؤى الاكتشاف والوصول إلى أقصى بقعة من الجغرافية الأرضية، وكتّاب نهلوا نهر الإنسانية بعيون معرفية وسّعت آفاق فهم الإنسان للحياة.
قلتُ تناولك للإنسان مغامراتياً وعرضك له أدبياً بثَّ عبقَه في سماءِ قراءاتنا فصرنا نرى فيه هوية، وصار لنا ثقافة وتأريخ.. لقد طرقت مؤلفاتك على باب شهوتنا للقراءة وعشق مراهقتنا الجارف للشيئيات.. وشوشت في آذان لهفتنا.. حقاً جاءنا المترجمون بجهد مكين.. قرأتُ كتابَك " ماجلان قاهر البحار" فتهتُ رحيلاً مع أجواء التحدّي للوصول وتحملتُ مثلما تحمّل ماجلان ومنظومةَ رجاله المغامرين الأهوال والشقاء، صارعتُ الطبيعة مثلما صارعوا، وتحاورت مع مياه البحار الزرقاء على ظهورِ سفنِك، نمتُ على الأكياس القطنية المحملة بالرغيف اليابس وسمعت كثيراً قرمشة الأرغفة يصنعها احتكاك أنياب الجرذان المنتعشة بغذاء سيشبعها عقوداً من السنين، الجرذان الراحلة هي الأخرى على أمواج المغامرة.
في المغامرة، يا سيدي تتمثل بوضوح أبجدية التحدّي من أجل الوصول. استنتجت ذلك من قراءتي لموضوعك الأثير "هربٌ إلى الخلود والكفاح من أجل القطب الجنوبي ".. تناولت عناوينَك " فتح القسطنطينية "، و" دقيقة واترلو في تاريخ العالم " وفحواها أحداثَ إثارةِ مَلَكة الخيال وتغذيتها بما يخلق منها كينونةً لا تعرف الضمور.
يبتسم زفايج بعد هذا الكلام؛ يريد بعدما سمع هذا المديح طرح عبارات شكر يتجاوز أو يوازي فيض مكنون القلب. قليلاً ويذهب في سهوم طويل يرى يوسف غب التطلع في وجهه سيلين من دمع على خديه الأحمرين. يقول محاولاً تضئيل شدة وقع ما يريد قوله : " لقد حطمنا هتلر بحماقاته ورعونته وعنجهيته فدمر أحلام شعوب الأرض بحرب هوجاء.. أَما كنتُ محقّاً في رفضه ونبذه من ذاكرتي ؟.. أَما كان احتجاجي المقرون بالانتحار إشهار إدانة للحرب وبغظ لشخصه المَقيت ؟ "... يطالعه يوسف بتعاطف ويقول :" كان يمكن أن تتحدى وتبقى لترفد البشرية بنمير إبداعك فأنت ينبوع معرفي بحاجة لك العطشى للثقافة.".. تتَّسع عيناه، ويتوهج في حدقتيه مشعل احتدام، يرفع كفّه ويضعها على كتف يوسف كتعبير عن حميمية ثم يقول : "حينما تفتح عينيك وترى صفاء السماء يتكَّدر بجوق غربان، حينما يلاحقك عواء ذئب أينما اتجهت، حينما تتلوث الشمس وينكسر القمر، حينما تحلل مجريات الوقت وترى البشرية تُقاد نحو الدمار بواسطة قائد معتوه؛ حينما..... وحينما........ وحينما...... ليس عليك إلا صفعه والبصاق عليه وإظهار انك تحسبه قاتلاً لا بطلاً، منبوذاً لا محبوباً، قميئاً لا عظيماً بعدها ستكون تضحيتك بنفسك لافتةً للشجاعة ورفضاً للرضوخ.".
(9)
نداء مُنَغَّم
يكثر يوسف من القراءة.. تأخذه قراءاته إلى عوالم وأناس في بلدان مترامية أو متجاورة؛ إلى مدن وأرياف، جزر وأرخبيلات، موانىء ومرافىء؛ إلى غابات وحدائق؛ إلى بحار وأنهر وسواقي؛ إلى سفنٍ وزوارق؛ إلى قصور وأكواخ، بيوت عامرة ومتهالكة؛ إلى غرف منزوية وعليّات وشرفات، نوافذ موصدة إلى الأبد وأخرى مشرعة تهفهف ستائرها الريح فترفرف خارجها. أناس تتفاوت اعمارهم وتطلعاتهم يعيشون الحب، الوله، الشقاء، البؤس، الأسى، المجون، التآمر، الاستحواذ، القتل، التواري، التلوّن، الضغينة، الكيد، البراءة، العاطفة. تعيش النقاء مع الآخر، التبادل الحميم للعواطف، الصدق في التعامل، البوح بلا مؤاربة، كتابة رسائل الغرام، السعادة بعيداً عن الألم، الحزن العميق، الوفاء حد الموت، القتل حدّ التشفّي.
يقرأ يوسف الكثير.. بعض مما يقرأ يأتي على اغراء المربعات الكارتونية الحاملة لأسماء الكتب ومؤلفيها وتسلسلها وتصنيفها المعلوماتي في الجوارير التي يسحبها عند تواصل زياراته للمكتبة، وبعض آخر يجيء على هدي اشارة شميران له على ضرورة مطالعتها.
صار حالماً، صار خالقاً لعوالم يبغيها يوتوبيا؛ أبجديتها السعادة وعيش الناس بهناء، رفضاً للحروب والتقاتل ودعوةً للخير والسلام. يرفض التحزّب في بلد كبلده لا تفقه نخبته الحزبية جوهر العمل المبني على التنافس الصادق من أجل عرض وتطبيق برامج تخدم الناس وتقدم ما يرتقي بطموحاتهم سعياً لبناء دولة عصرية يُحترم فيها الانسان وتصان كرامته؛ دولة تكون فيها الحرية ممارسة يومية تنتفي على أديمها الكراهية والبغضاء.. صار مع كل كتاب يطالعه وينتهي منه يفرد ذراعيه ويتخيل نفسه أو هو يتمنى طائراً ينطلق إلى الفضاء فيعيش الحبور الدائم والتحليق على هفو الجذل العميم.. " خلوةً أريدها؛ يمطر فيها الهناء رذاذه فأعدو راكضا، أخلع ملابسي، قطعة فأخرى : القميص أولا، رفس الحذاء في الهواء ورميه، البنطلون، الفانيلة القطنية، اللباس الداخلي. عرياناً، أروح مستحمّاً برذاذ فردوسي يضمخه عطر تتراغى له اعضاء الجسد، فتتفكك عضواً فعضواً. لا أبكي. فقط الروح يهيم ونداء منغم يأتي من مسافات نائية. نداء يتماهى فيه صوت شميران مع صوت ملائكي يمنحني الحبور ويعدني بفيض جنة نتخايل على خميلتها... اقول : من أين دخلتِ عالمي وكيف ؟ فتضحك وتُجيب بهمس : عالمك عالمي.. أراك وأنت تنزوي في غرفتك تكتب رسائل الغرام وتمزق، اسمعك وانت تنشج ويتهدج صوتك لأنك ترى ما تكتب لا يكافئ شوقك لي.. اقول : ولكني سعيد بكِ. وسعادتي تضاعفت من أول رجاء انسكب من عينيك ذلك الصباح الخرافي، لكن الشجاعة تخونني في التعبير عن عظم سعادتي بالتواصل معك."... تكركر. تسكب من عينيها سواقي ابتهاج. تخاطبني مخاطبةَ معلمةٍ لتلميذ : لا.. لا ! لا يجب أن تخجل؛ لا يجب أن تموت كلمات مشاعرك البريئة. ذلك يعني أنك تدخل درب العشق المغلق. نحن لسنا في زمن قيس ابن الملوح يطعن الحب فيه بسكين الحرمان. لا فائدة من البوح بعد ضياع فرصة التلاقي. لا شيء يُرجى من كلام نقوله بعد فوات الأوان.. لا.. لا يوسف. قل ولا تتردد، افضِّ بما في خزانة صدرك، وافتح لي قلبك. ".. " لا أقدر، يا شميران، لا أقدر.. كل ما أقدر عليه هو الأخذ بكتب تستعيرينها فأعيدها الى المكتبة. أما الوقوف أمامك ونثر مكنونات الروح على بساط عينيك وحكمك فهذا ما اعجز عنه، لا شجاعة عندي. لا أقدر.".. يتكَّدر وجه شميران وتظلم سحنتها.. تغيم عيناها وتجف شفتاها. تمسح بمنديل ورقي جبهتها وتحني رأسها.. هل نشجت شميران ؟ هل بكت ؟.. لا يعرف لأنَّ قلبَه حين وعى على نفسه كان يعتصر وأصابعه ترتعش فيما شفتاه يابستان ومتقشرتان ومعهما كانت الورقة والقلم يهويان إلى الارض.
(10)
شرّاد هديب.. الجذور
حين التمعن بشخصية شراد والنظر في عينيه يراود الناظر شعور أنه يقف إزاء مخلوق يثير الريبة ويبعث على الخشية. فالدهاء لا يمكن ابعاد احتمال وجوده في العينين، والمخادعة من غير الصحة محوها من سلوك يمارسه في التعامل مع الناس. أما الصلافة فليس ثمة جدل في طابع راسخ جُبل عيه.. شخصية مركبة نشأت وتشكلت على تراتبية اعوام من التهميش وسط حياة قروية كان فيها المتذبذب المتخلخل بين واقع حرمان وتطلع لأن يكون ذا شأن، هو الذي فتح عينيه على لا شيء. ارض يسودها الملح والسبخ يملكها الاب وأربع نخلات متناثرة لا تدر ما يسد جوع اسرة من ثلاث بنات وولدين كان هو احدهما وريف يشح عنه الماء. وإذا ما وصل هذا الماء فلا يصل الارض إلا حيان موسم الربيع إذْ يختنق الفرات بالمياه الهادرة من الشام بعدما ذابت ثلوج تركيا فتنكسر جهة رخوة من ضفة الفرات تستقبلها الاراضي الواطئة. ولما كانت ارض ابيه تدخل ضمن مساحات هذا التوصيف فإنها تشبع غرقاً ويبقى الماء طافياً لا سبيل لتسريبه الا بالتبخّر، والتبخّر يعني عملية نضوب الماء وبقاء الاملاح. وهكذا يتكرر الحال بين عام وعام أو كل عام.
ينهض شراد الصبي فلا يرغب بالذهاب مع اقرانه الى المدرسة ( المدرسة كوخ بجدران طينية وسقف من سيقان القصب؛ التلاميذ يفترشون الأرض والسبورة خشبية سوداء منصوبة على مرتفع طيني بينما المعلم ينحني حين يكتب على السبورة ويطلب من تلامذته نقل ما يكتبه بعدما يرددونه بأصوات عالية متوافقة بعيداً عن النشاز ) ولا هو يصاحب الأب الى الارض. يزداد غيظاً أذ يراهم عائدين من المدرسة بدشاديشهم وعلى اكتافهم اكياسهم القماشية حاوية الكتب والدفاتر يتحاورون ويتنادهون مستمتعين برفقة ونهل معرفة. هذا المشهد يغيظه كثيراً. الغيظ المتراكم سيولّد حقداً مع مرور الايام.. ومع مرور الايام الحقد ينتج فعلاً خبيثاً يضر الآخرين. الاضرار يخلق ألماً للمتضرر وسادية بلذاذة تترجم حب الانتقام.. الانتقام بنظر المجتمع وقوانينه ونواميسه جريمة تستدعي العقاب.. العقاب مؤلم لمرتكب الفعل الشنيع والجريمة المستنكرة؛ لكن حين يتكرر العقاب، والألم يحصل فتحتمله الروح الحاقدة يصبح الانتقام سمة وتتصرف ما لم يسلكه المرتكِب يساوره شعور بحالة فقدان لابد من عمل لتعويضه. العمل هذا هو فعل الجرم.. وبهذا تتشكل هوية المجرم. ارتكاب جريمة ينتج نيل عقاب؛ العقاب المتواصل يؤدي الى مناعة من الشعور بسوء الفعل وتأنيب الضمير؛ المناعة تمنح حاملها عدم التهيب من العقاب ولا اهتمام لرد فعل المجتمع الذي هو الوسط الذي يتحرك فيه.
ينهض صباحاً؛ يتناول رغيف خبز وشاي. يرفض طلب أمه في الذهاب لمساعدة ابيه في الارض طالما يكره الذهاب الى المدرسة والتعلم. يأخذ طريقه الى القرية. هناك يستظل بفيء اشجار الكالبتوس المشكلة ظلالاً يلتجىء اليها القرويون صباحاً حين ينوون النزول الى المدينة فيستعينون بالظلال ريثما يأتي الباص الخشبي فيحملهم الى هناك ثم يعود بهم عصراً.. يصادف كثيراً أن ينظر من اعلى سياج بستان يمر قربه أو يفتح ثغرة في الجدار المعمول من سعف النخيل. كثيراً ما تستفزه رؤية ثمار الرمان اللامعة او العنب الراوي او البطيخ والرقي الناضح فيلج في غفلة من اصحاب البستان يسرق ما يجده يملأ جوفه.. تلقّى الكثير من البصاق والشتائم والدعاء بويل الايام وغضب الله مقروناً في كثير المرات بضربة عمود على الرأس أو قطعة حجر على الظهر. ما ناله من سوء الافعال روَّض لديه شخصية سلبية لا تأبه لما تلاقي. لذلك حين شبَّ وكبر وتلقفته المراهقة وسحبته يد الشباب تقدم إلى ميدان الحياة بروح مَن يتقبل الضربات والطعنات والإهانات تقبل وخزة ستفرز غدة الادرنالين سائل تخدير ألمها وتبديده.
سَرق فسُجن. والسجن لمثله بلا عمل ولا صنعة أو مهارة يجني منها قوت يومه او يلبي طموح نفس تسعى للتميز يعني المنام والأكل مجاناً، أحاديث وحكايات يرويها السجناء والموقوفون، صرف الايام يتفرج من خلال قضبان السجن لأناس منهمكين بحركة انجاز معاملات يومية، خروج إلى فناء السجن كل ثلاثة ايام : استحمام وغسل ملابس وشمس يغرق في خضيب اشعتها الذهبية، ثم اطلاق سراح.
استدان مبلغاً من هذا ولم يُعِد الدَّين فسجن وانهى فترة السجن وخرج.. ادَّعى أنه شيخ عشيرة ساقه العمل الى تجارة وقع مع زمرة محتالين سرقوا مالاً وفيراً بعهدته وتركوه حاسر اليدين فتناهض مَن سمع مِن تجار المدينة الى اغاثته بعشرات الدنانير كي يستمر بحياته الباذخة لحين العودة الى العشيرة وإرسال اموالهم. وحين توالى استمرار رؤيتهم له في المدينة وعدم عودته تناهضوا للسؤال عنه والتعرف اخيراً على حقيقته فتم توقيفه وقضاء اشهر خلف القضبان.. سرق بشتاً رجالياً وضعه تحت ابطه وسط غفلة البائع المنشغل بالتعامل مع زبائن يطلعهم على ما يرغبون فأُمسِك بالجرم المشهود وصرف اسابيع قبل أن يتقدم المسروق بطلب اسقاط الدعوى وإطلاق سراحه بعد رجاءات كان يبعثها له من وراء القضبان.
أتِّهم بقتل رجل أعرج كان ينتظر الباص النازل إلى المدينة قصد العلاج. صاحبه لخطوات، ثم تبعه عندما هم الرجل لقضاء حاجته خلف جذع نخله فانقض عليه بخنجر من الخلف مزق له عنقه، وعاجله بطعنة أخرى في خاصرته حتى تركه جثة بلا حراك، عندها مد يده يبحث في الجيوب ويأخذ ما كان فيها من نقود على قلتها.
ومثلما كان قتلُ الرجل الأعرج مجرد اتهام وإشاعة لا أساس لها من الحقيقة صار سطوه على بيت في القرية المجاورة وقتل رب الأسرة الذي قدم توّاً من الكويت بعد عامين من العمل المتواصل هناك وخبر جلبه لمال يكفي بناء قرية كذلك اتهام يخلو من الصحة والإثبات إمّا خشية مَن أبصره من عواقب الشهادة أو دهاء القاتل في القيام بجريمته بحذق وتخطيط في وقت تكون ساعة الجريمة بعيدة عن الأعين.
أيضاً، أيضاً قتل خاله.. قتله على كمية ماء حاججه الخال على سرقتها لأرضهم بينما هي من حصته. تنكر لسرقة المياه من خاله. بصق عليه حين شتمه الخال في ساعة غضب. تعدي انسان على قريب له في مجتمع عشائري يعني ارتكاب خطيئة تستدعي العقاب. ولكن، كيف يعاقبه الخال. اكتفى بأن قذفه بكلمة يا ابن الحرام... الكلمة فجرت في رأسه قذيفة الانتقام فجعلته يسحب سكيناً من جيب داخلي في سترته وينهال بها على عنق الرجل وصدره وبطنه وسط ذهول غرق فيه الضحية مع نوافير الدم المتدفقة من الجسد الذي تهالك سريعاً وتوارت العينان خلف أجفان اطبقت عليهما فأنهت فيلم الذهول.
سجن، وكان سيحكم عشرين عاماً سجناً، قضى عاماً واحداً وبضعة اشهر جرت خلالها مفاوضات عشائرية تم فيها دفع الديّة لعائلة خاله القتيل وإعلان التفاهم، ممهور بشرط لازم هو الاجلاء عن القرية بعيداً.
وكانت السماوة المدينة التي استقبلته.
يخطر في سوقها المسقف بصاية وعقال وبشت خفيف ونعال جلدي ثقيل. يطالع المحلات ويتفرس في الوجوه متأملاً ومتمنياً مَن يتحبب له ويدنو منه ليكون مفتاح تعرفه على مجتمع سمع بطيبة ناسه وبساطتهم واستقباله للغريب بحنو وانفتاح قلب.
لم يجد بعد أيام اربعة صرفها هنا مَن يمكن ان يكون صديقاً فيأنس له ويبدد غيوم الغربة وقسوة البعد عن منزل نشأ ونما فيه رغم قسوة الحال.. بعد أن اتعبه التجوال في شوارع المدينة ومرَّ على اسواقها الفرعية ترك السوق المسقف مخلفاً وراءه دائرة البرق والبريد.. جلس في مقهى جبر. اختار تختاً يواجه الجسر الخشبي يستطيع من مكانه مشاهدة النهر يهدر بمياه قدمت اليه منذ عشرة ايام.. قدِم ناصر الجبلاوي خارجاً من دكّانه القى عليه التحية بحكم جلوسه قريباً من مدخل المقهى. ناصر الجبلاوي أشار على عامل المقهى أن يحمل الى الدكان شاياً ساخناً وماء بارداً ثم عاد لدكانه. شتيوي الياور خرج من مكتبه ووقف يطالع النهر. التفت يساراً باتجاه جامع حسّون، ثم استدار يميناً فوقع نظره على شراد هديب يجلس وقد بدا متعباً. رفع نظره يتابع حفنة من القرويين ينزلون صبياً عليلاً من عربة يجرها حمار استأجروها لحملهم الى المستوصف الملحق ببناية مركز الشرطة. قليلاً ودخل الى مكتبه.. شراد هديب لمح شتيوي يطالعه ثم يرفع بصره. تمنّى لو دعاه للدخول والجلوس ليحكي ظروف مجيئه الى السماوة طالباً مساعدته في ايجاد عمل يقيه بطالة ثقيلة ويبعد جوعاً محتملاً. لذلك حين برح المقهى وصار مروره من أمام المكتب القى التحية. كان شتيوي في عمق المكتب يجلس خلف منضدة صاجية بلون باذنجاني لامع.. رد التحية بشيء من التساؤل الدفين عمّن يكون هذا الغريب، وما إذا كانت تحيته عابرة أم وراءها قصد ؟
عندما اجتاز المكتب وجد نفسه عند معرض استوديو ناصر الجبلاوي. استوقفته صور المعرض فراح يطالعها صورةً فصورة. ابتسم لناصر حكيم وأمل يوماً أن يرهف السمع لأغانيه بالصوت والصورة لا عبر الاذاعة والاسطوانات فقط. لفت انتباهه صورة شتيوي الياور ووقفته الرصينة. حدَّق في عينيه فأبصر بريق عيني ذئب.
(11)
شميران.. التعلُّق
كانت شميران تُحبِّب في يوسف هدوءَهُ، تُكبِر فيه سمعةً طيبة تتناقلها الامهات حين يقارنه مع شبان طائشين يؤذون بناتهن ويحرجوهن في الطرقات أو عند ذهابهن إلى المدارس وعودتهن. قامة يوسف الفارعة وبياض بشرته قرَّبتا صورة ابيها في ذاكرتها. ترى فيه اباها إبّان شبابه. تظهر البوم صور يحتفظ به الأب في خزانته الحديدية الى جانب مستمسكات افراد العائلة مستخرجة من ناحية " عنكاوه " : الجنسية وشهادة الجنسية وصورة قيد الطابو لبيتهم، هنالك، بمساحة 600 متر مربع، تقلبه وتؤشّر : هنا يشبه أبي، وهذه الالتفاتة تشبهها التفاتة يوسف، هذا أبي كأنه يوسف، موديل بدلة يوسف التي يلبسها هذه الايام تشبه بدلة أبي قبل عشرين عاماً.. تقارن وتعجب، " طرازات الملابس وموديلاتها تتكرر كل عشرين عاماً، تعود جيلاً بعد جيل. يا للمفارقة البشرية " تتمتم في سرّها. تتأمل وتهفو لملامح الاثنين. لذلك آن نادت عليه وهو مار في الشارع طالبةً برجاء اعادة الكتاب المستعار إلى المكتبة العامة لم تشعر بحرج. كانت كأنها تكلّم أخاً.. ويوم اقتربت من استوديو ناصر الجبلاوي وطالعت معرضه وشاهدت يوسف في الصورة الكبيرة المزججة هفت روحها إليه. تمنَّت، لو امتلكت شجاعة الرجال، الدخول إلى الاستوديو، طالبة منه استنساخ الصورة قصد الاحتفاظ بها جوار صورة أبيها في ألبومه. ودّت لو التقطت معه صورةً للذكرى.. لو التقيا كثيراً للتحدث؛ أحاديث يُطيحان فيها بجدران العلائق المتوارثة، المبنيّة بصخور التهجّس والخشية من اللقاءات الثنائية أو التمازج الاجتماعي؛ ويعبران برازخ صنعها الموتورون المجبولون على الانانية والغيظ الدفين من منابت النور ثم كرَّسوها مواقع في جغرافية الأجيال المتعاقبة.. يوسف يحمل روحاً تفرد ذراعيها لكل ما هو حديث وجميل. " أنا أتوق لكل ما هو جديد. لا أحب الالتفات إلى الوراء يا يوسف.".. " وأنا كذلك يا شميران. أرى القديمَ صورةَ تستحق الدراسة والتقييم ليس غير؛ لا جعلها عُرفاً مُقدَّساً. ".. " يريدوننا أن نلبس ونأكل ونشرب كما كانوا يأكلون ويلبسون قبل قرون بعيدة. ".. " الغباء يا شميران صفة مُقدِّسي الماضي. والأغبياء، لسوء الطالع، هم مَن تتكرس آراؤهم ويتلقفها البُلداء والبلهاء والخائفون من كل ما هو غيبي، لم يحن أوانه بعد. ".. " الشرق يغوص في ثرى الجهالة ورفض النور، يا يوسف ".. " ماذا نفعل ونحن هنا في جزيرة الضياع. تنأى سفينتنا المُقادة بالمعتوهين عن حدائق النور ؟!.. " ماذا لو دعوتك ووضعت كفّي بكفك واشتبكت اصابعنا، وهبطنا إلى عالم الرضا أو ارتقينا الى فضاءات الاحلام الطيبة ؟.. ماذا لو تلقيت همسك النَّغِم مقروناً بدعوة التجوّل في السوق نطالع حركة الناس، نتأمل تعاملهم وأداء طقوسهم الاجتماعية؛ نمر على الصاغة لنُمتِّع نظرنا ونشبع دواخلنا بما أنتجت الذائقة الهندية من منمنمات على المعدن الأصفر المشع بشكل خواتم وأقراط وقلائد، وما قدمت اليد العربية من حجول وأساور وأحزمة تُشد على الوسط مُظهرةً فتنة الخصور الضامرة.. ماذا لو عرّجنا على معارض الملابس بالموديلات الحديثة، كوستمات بقطعتين وأحذية بكعوب عالية مثلتها مارلين مونرو في غنجها وميسها ؟.. هل شاهدت فيلم الدكتاتور، كيف طوَّعت العنجهية وأذلت الكبرياء للتمجهم الصارم الحازم فتركته يبكي لفراقها ؟ ".. عادت اليها كلمات قالها عندما سألته يوماً عن السينما وما يفضل من أفلام " تشدني أفلام هتشكوك وغوره في النفس البشرية لاستنطاق انفعالاتها وتهجساتها ومخاوفها. شاهدتُ له افلام الطيور، والنافذة الخلفية، والدوار. أفلام يتداخل فيها الخوف بالشده، بالاندهاش، بالرعب، بالترقب، بالقلق، بالتراجع للخلف والصاق الظهر بمسند كرسي الجلوس الخلفي والقبض باليدين على ذراعي الكرسي آن تتشكل لقطة مريبة، وتصمت الموسيقى لتترك المُشاهد إلى فراغ سمعي يؤجج فيه طاقته التخييلية وتحفيز العين للانشداد إلى المشهد بانتظار لحظة الانفراج ومعرفة النتائج.".
أغرم في خط مسار الافلام الانكليزية جميعاً، تلك التي تتناول الحالات الاجتماعية وتعالج مشكلات تظهر طافية على سطح المجتمع محتاجة لمن يحاورها فيأخذ بها إلى مرافىء الحلول الكيّسة الرصينة لتكون منهجاً لحل مشكل اجتماعي.".. " فعلاً.. فعلاً " تقول مؤكدة صحة وجهة نظره، وتزيد " الافلام الانكليزية لا تبغي المتعة لمشاهديها فحسب بل وتجعلها موضوعات للنقاش وتبنّي الحلول بجوهرها وهدفها.. الفرد الانكليزي يعيش على ايقاع حياة تبغي الارتقاء نحو مراتب الهناء.. هو لا يشعر بتناقض بين ما يعيش وما يُراد له أن يُعاش.".. آنذاك تنهدت، وأضافت " لقد اعجبتني فكرة لأستاذك علي الوردي يوم ردَّد في محاضرة القاءها علينا عندما استضافته كليتنا لطرح رأي كان مثار جدل جاهر به عن التناشز الاجتماعي. قال عن انساننا العراقي أنه " يعيش في عالمين متضادين : عالم المُثل العليا التي ينادي بها في كتاباته وخطاباته، وعالم الواقع الذي يعيش فيه بمفاخراته ومنابزاته " ذلك أنه يعيش في " بيئة مفعمة بقيم العصبية والثأر والشقاوة والغلبة. " *كما يؤكد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- رؤية وردت في موضوع التناشز الاجتماعي نشرها الدكتور الوردي في ما بعد في كتابه " لمحات من تاريخ العراق الحديث " الجزء الاول.
تمتمت وهي تبتعد عن الاستوديو " لو كنا في عنكاوه لكنّا وقفنا سويةً أمام عدسة ألبير مصوّر القرية. يطالبنا بالابتسام دلالة الاشراق والتفاؤل كعهده عندما يلتقط للعائلات ممتعضاً من اظهار ملامح التشاؤم أو قسمات الحزن والضياع.".. تمنَّت لو كان الواقع الاجتماعي يسمح للشباب من الجنسين الخروج بلا مواربة ولا استهجان لكانت دعته لمشاهدة أحد الافلام سويةً. يجلسان على كرسيين في اللوج، يتابعان على مدى زمن يمتد لمائتين واثنين وعشرين دقيقة فيلم " ذهب مع الريح " الذي أُعجبت به أيّما اعجاب، وكرَّرت مشاهدته ثلاث مرات. كانت فيه شخصيةُ " سكارلت أوهارا " اسطوريةً تقدم صورة المرأة التي تستطيع قيادة نفسها بنجاح فتحقق ما تصمم عليه في التمسك بالهوية والحفاظ على الارث من خلال ابقاء بيت الأهل والمزرعة التي تنتج القطن تعج بالنماء وسط حرب قاصمة فكَّكت التماسك الاجتماعي وأطاحت بهيبة المزارع وأوقفت ماكينة الانتاج. تمنَّت لو كان يوسف معها في الجامعة، وفي نفس الكلية والقسم ليخرجا سوية بعد انتهاء زمن المحاضرات يخترقان شارع الرشيد. تأخذ بيده نحو مكتبة مكنزي فيدخلاها باحثين في المعرفة ومغامرين في اكتشاف العناوين والعوالم المختلفة تضمها بطون الكتب.. يخرجان، يواصلان السير حتى يبلغا المقهى البرازيلية. تبتسم له وتقول : ادعوك لارتشاف قهوة مُرّة، سوداء، داكنة. سنجلس قليلاً أحدثك عن أماكن لابد من دخولها والإطلاع على موجوداتها وما فيها كي تتسع معرفتك بعوالم بغداد. عوالم توارب ابوابها على ما يوجد في بلدان العالم : شركات، ومكاتب، وإنتاج، وبضائع، ومحاصيل، وإصدارات اعلانية تنشر شباكها لاصطياد المقتربين بانبهار للرؤية والاكتشاف.. يتخذان منضدةً قريبة من الواجهة الزجاجية المطلة على الطريق، يشاهدان المارة الحاثين الخطى لأعمال يبغون انجازها أو اولئك الذين يمشون الهوينا، تاركين العيون تستطلع وتصوّر. تشيع رائحة القهوة في فضاء المقهى تأتي مع صوت ماكينة طحن بذورها والهواء الهارب من نار هسهستها وإحالتها سوداء تستحم بلون بني داكن.. تقول لننهض ! فالوقت يسرق صحبتنا الجميلة.
يعبران إلى الجانب الآخر. يمرّان من أمام روّاف عجوز يساعده ولداه. مهنةُ الرجل ترتيق ثقوب تحدثها جمرات السجائر على البدلة الثمينة أو التمزق البسيط جراء فعل مسمار في كرسي أحدث ما يسيء إلى الملبس سواء كان في السترة او البنطلون، أو المعطف الصوفي حتى. عدّةُ الرجل أبر دقيقة وكشتبان ومجموعة خيوط بألوان مختلفة. يعمل هو وأولاده بمهارة ترضي الزبائن المطعونين بغدر المسامير أو خبث الجمرات.
يواصلان السير فيقفان عند محلات جقمقجي.. أصوات متناغمة تطير في الهواء فلا ترى، وصولوات كمانات تتمايل أو تعدو مسرعة، تعلو أو تهبط. تمايلها وهبوطها يجعل ممن يرهف السمع يرى عشاقاً يتهادون بزوارق في بحيرة هادئة تمنح الهناء وتقول سيمفونيةَ تلاقٍ، بعيداً عن عواصف التجني وعيون الغيظ بينما علوها وسرعتها ترسم صورة جيش يعدو بعدما سمع صرخة تدعو للهجوم، صليل سيوف وتصادم رؤوس رماح، صرخات وأنّات ووجع. ثم تتناهى نقرات بيانو تفرد مع مسارها السعادة ذراعيها وتلمِّح بأصابع من حرير أن تعال أيها السامع؛ يا مَن حملت روحاً رهيفاً لا يهنأ إلا بفاكهةِ تناغمٍ هارموني لآلات تصنع الفرح، وتسقي عطاشى المعذبين كؤوس المرح. توافق بإيقاعات تفجر في الروح نوازع الشباب والوثوب إلى هامات جبال الألق... تسحبه شميران من يده ويدخلان.. تطوف نظراتها على الاغلفة تقرأ اسماء الفنانين وعناوين السيمفونيات والكونشرتات والسونيتات. يطالع هو الاعلانات الكبيرة على جدار المحل بتقاطعاته وزواياه. تشتري له اسطوانة " علشان الشوك اللي في الورد " لعبد الوهاب. وتهمس في اذنه سأسمعك فحواها عندما ادعوك إلى بيتنا ونجعل غرامافون أبي يقدمها إليك على طبق من هيام روحي.. سأسمعك أيضا موزارت؛ سيخرج لك ليصافحك ويدعوك إلى محبته والاشتياق له كلّما رجوت رحيلاً مع اللذاذة والمتعة. قد يقص لك موتِه مسموماً على يد مواطنه انطونيو سالييري وبغضه لموهبة خرافية اثارت حسد الرجل فجعلته يحنق ويرتكب حماقة حرمت البشرية من ابداع كان سيشبع ذائقة مرهفي الحس ويغذيهم بعسل الموسيقى.
(12)
المحاكاة
السنة الدراسية لمرحلة الخامس الاعدادي على وشك الانتهاء.. يوسف يجد ويجتهد.. يقرأ مُقسِّماً الوقت على عدد الكتب المدرسية الواجب حفظها والاستعداد لامتحان البكلوريا. لقد صمم على حيازة معدل كبير يؤهله للدراسة في جامعة بغداد.. لن يدخل كلية الطب أو الهندسة. يريد دراسة علم الاجتماع. يريد التعمّق في العلائق الاجتماعية وحياة البشر : تفاعلهم وتواصلهم، تضادهم وتنافرهم، مراميهم وغاياتهم.. يريد الانتقال من مجتمع لمجتمع، ومن دين لدين، ومن مذهب لمذهب خروجاً بحصيلة ووصولاً لنتائج. يريد التعمّق في رؤى ابن خلدون ومقدمته. الدراسات التي تناولتها واهتمام الغرب بها وبه كعالم اجتماع سبق عصره في تلمس حركة المجتمع ووضع اصابعه على مناطق ومجسات لم تثر انتباه احد من قبله... يستعيد لحظة دفعت شميران بكتاب المقدمة اليه ورجته اعادته للمكتبة.. تنشرح دواخله. يبتهج. تمر اصابعه على اسطر كتاب علوم الحياة التي بين يديه فيشعر أنها تمر على جبهة شميران.. تبتسم له شميران. تجلس عند السرير الذي يضمه؛ تقول : حدثني عن نفسك.. تبدو خجولاً... يطأطىء رأسه، ثم يرفعه. يترك شفتيه تعزفان : شميران !.. آه شميران.. أنتِ التي أرشدتني إلى ابن خلدون وإن لم تطلبي مني ذلك. أنتِ التي وضعتِ قدمي على دكّة المكتبة العامة وإن لم تقوديني بيدك. أنتِ مَن اشرت إلى أن القراءة مفتاح ادراك سر الحياة وحيازة النور. جرى ذلك من الصحف اليومية التي أبصر اباك يأتي بها لتطالعينها يومياً. حمله اليومي للصحف زرع داخلي يقين أنك تؤدين طقساً معتاداً لا يمكن القفز عليه أو تجاوزه فاهتديت الى شراء صحيفة أو اكثر يومياً وصرت اطالع صفحاتها وأبوابها. كنتُ يا شميران امتعض من أبي حين يدفع بي الى مشاهدات وأفعال احسبها من باب الضغط غير المبرر، أنا الفتى الذي اريد العيش بعالم طفولي لا يخرج عن ابجدية اللعب، غير آبه لما تأتي به الايام. لكن أبي غير ذلك. أراد بحكمة الايام ان أتعلم، أن أرى، أن أجرب.
تصوّري.. في صباح أحد الايام أيقظني ورفعني من فراشي. قادني إلى السوق الكبير دون تناول الفطور قصداً. قطعنا من السوق مسافة ثم استدرنا يساراً. دخلنا سوقاً فرعياً تنز منه روائح الدماء واللحوم الدافئة وفضلات الامعاء. وجدت نفسي في سوق ضيقٍ تتقابل فيه محلات جزارة. كانت رائحة اللحم ولون الدم يشيعان في فضاء السوق.. سحبني أبي من يدي بقوة وأوقفني امام دكان جزارة. انحنى وهمس في أذني : لا يجب ان تهرب من الدم.. اريدك أن تراه فتعتاد عليه.. الهروب لا يحل مشكلة ". كان يحتقن وينفعل ويغضب حين يبصرني اهرب من لون الدم وهو يذبح بسكين المطبخ ديكاً أو دجاجة وجبةً للغداء أو العشاء.
كان الجزار قبل وصولنا انهمك بتقطيع ثور كبير ذبحه في المجزرة الحكومية خارج المدينة وجاء به مع ثلاثة اغنام مذبوحة. وقفت مذعوراً أبصره ينهال بالسكين على رقبة الثور الذي فصلت قصبته الهوائية ليتم عملية فصل رأسه عن جسمه. ثم توجّه ليقطع قائمتيه الاماميتين، بعدها استدار ليفصل الخلفيتين.
ولقد انقبضت امعائي وتقلصت عضلات بطني آن لمحت الجزار يبقر بطن الثور ويسحب السكين طولياً فيندفع كرشه وأمعاؤه خارج الجسد فتداهم أنفي رائحة غريبة، عظُمَ فزعي.. أُغمض عيني. أحاول الافلات من قبضة ابي لكن القبضة تحكم على رسغي من أول قدم انطبع على ارضية السوق. داهمني شعور بالغثيان.أوشكت على التقيؤ. ألمح الاحشاء تنفصل بفعل حز السكين، يرميها الرجل القصير الممتلىء على الارض المدمّاة.. استمرت السكين تمر طولياً من صدر الثور حتى نهاية عنقه عند الرأس. أوشِك على البكاء وسط دوار طفق يتفاقم.. أرفع رأسي لوجه أبي وأستغيث.. أتضرع ان يترك يدي لأنفلت وأهرب؛ ولكن هيهات من ثني عناده؛ ودموعي التي تهاطات على خدي ما كان لها وقع على عاطفته الابوية.
كرر هذا الفعل لعدة مرات حتى جعلني أدخل السوق بلا قلب تزداد دقاته عن المعتاد ولا ملامح تفشي شحوب الوجه أو رعشة تعتري الأصابع.
(13)
يوماً دراماتيكياً
صباح الثامن من شباط 1963 بارد وصقيعي؛ جمعة رمضانية تتبارك بلمسات رضا خالق السماء، منتظرةً اسبوعاً لتتشبَّع بفيوض ليلة قدر مباركة هي بعين الله خيرٌ من ألفِ شهر. طوَّقت الدبابات مبنى وزارة الدفاع وأعلن الذين على ظهورها انهم جاءوا للإطاحة بمن استفرد بالسلطة وغدر بالرفاق.. يومٌ واحدٌ مرَّ دراماتيكياً بساعاته ودقائقه وثوانيه نُقل كريّم مع المقربين منه فأعدموا في مبنى الاذاعة، وأُرِّخ اعدامه والرفاق بصورة حُفرت تفاصيلها في ذاكرة المعاصرين لحكمه ومطالعة مَن جاء بعدهم من الاجيال
.
الفصل الثالث
يوسف والمدينةُ الرماد
(1)
التوقيف لأول مرّة
انتهت حقبة الحرس القومي، ثمانية أشهر وعشرة أيام، انهزم حزب البعث رافع الشعارات القومية وتحقيق الوحدة العربية بنظام اشتراكي يعتمد مبدأ تكافؤ الفرص وحرية تُعلي كرامة المواطن على يد مَن وضع اليد باليد معه. انتهت حقبة أستطاع ناصر الجبلاوي توثيقها بأمر من التاريخ مقرونة بفظائع وويلات كانت فيه الأيدلوجية مطيّة يقودها موتورون تغذّت قلوبهم بدماء الكراهية وحب الانتقام.. قدَّمَ أعضاء الحزب الصاغرين لأمر السلطة الجديدة، رفاق الأمس، تبرئات خطية نُشرت في الصحف المحلية وسحب الناس الانفاس ارتياحاً.
العراق يخرج من دائرة الخبر الأول في الاذاعات العربية والعالمية، ويتراجع الخط العريض للإخبار عنه في الصحافة الورقية من أعلى الصفحة الرئيسية ليغدو ثانوياً على الصفحات الاولى ثم إلى الأخبار التي عفا عنها الاهتمام في الصفحة الثانية.
السماوة عادت مدينة تمتلك مقوّمات العيش على أبجدية الحركة الديناميكية للحياة اليومية للمدن : بيوت توارب أبوابها، سوق صارت معظم حوانيته تشرع بعدما كان أكثر من نصفها مغلقة، شوارع تشهد خطى أناس يتجهون إلى اعمالهم بهمّة مَن يسعى للاستعاضة عما فقده من قبل، عربات تدفعها أيدي عمّال استبشرت بفصول رزق جديدة كانت بخيلة وحسيرة. شيوعيون مطلوبون كانوا متوارين ظهروا إمّا شماتةً بالمهزومين أو استنشاقاً لنسمات حريّة حُرِموا منها طوال أشهر. شيوعيون خرجوا بعيون اغلبها تسكب غيظاً وحقداً على معذبيهم أو ملاحقيهم الذين باتوا يشاهدونهم يخطرون في الشوارع والأسواق أو يجلسون معهم في المقاهي دون أن يعاقبوا على شناعة اعمال صنعوها وفضاعة جرم ارتكبوه.. قسماتهم تعبِّر عن ثأر سيبقى دفيناً ينتظر أوان تفجّره وتأجيج أواره. كانوا منفعلين ومحتدمين ومأزومين، يشعرون انهم ظلموا من السلطة الجديدة لأنها تركت المجرمين والقتلة طلقاء... شميران طردت الخوف من قلبها، تبعتها اختها في امتلاك التصميم على الخروج بلا خشية هذه المرة. أم شميران هي مَن شجعتهما على الخروج وأطعمتهما حماسة انهما لم تفعلاً شيئاً. الحرس القومي هم مَن تصرفوا بسوء وحاولوا اعتقالهن بدعوى مشاركاتهن الفاعلة في تظاهرات تمجيد عبد الكريم قاسم. ولولا تحرك ابيهما وتسريب قناني العرق والويسكي إلى قادة الحرس وضابط شعبة أمن القضاء لِكُنَّ مع المعتقلات. شميران وأختها خرجتا صباح أحد الايام. قوامان ممشوقان وبشرة بيضاء. شعر ذهبي تعقده قرتيلات تجعله يشكل ذيل حصان يتدلى على ظهريهما. شميران ترتدي قميصاً ازرق وتنّورة سوداء وحذاء أسود بكعب عالٍ بينما أختها آثرت ارتداء قميص أبيض وتنورة بنية وحذاء بنّي نصف كعب. عبرتا الجسر ونظرتا كأنهما يدخلان السوق المسقف لأول مرة. لقد صرفتا اربعة أشعر تقبعان في البيت خشية لفت انظار افراد الحرس القومي فتعود اسطوانة ابتزاز ابيهما أو اعتقالهما.. مرورهما داخل السوق وتوقفهما عند هذا المحل أو ذاك ارساهما على شعور امتعاض الناس من أشهر رعناء انصرفت كأنها أعوام. فرحت شقيقة شميران إذ التقت زميلة معها في المدرسة تتجوّل في السوق. تحول اللقاء إلى كرنفال بهجة.. الفتيات الثلاث تحركن يرسمن الايام القادمة بتفاؤل ويتخيلن السعادة بستان يعج بالثمار الضاحكة. اصحاب المحلات والمارة يترجمون السلام من خلال مرورهن. فلا خشية بعد ولا خوف. التهجس لا مبرر له، وقتل السرور بالتطيّر كارتكاب خطيئة... مررنَ من أمام رجل على كرسي خشبي يطالع مجلة، وآخر يتخذ الأرض مجلساً ومنهمك في لف لفافة تبغ. اجتزن محل صياغة بعدما ابتسم لهن الصائغ. كانت في احدى عينيه عدسة تكبير يطالع نقشاً دقيقاً في مصوغة قالت لهن شميران أنها هندية، وهمست لهن : الهنود أمهر صاغة في العالم.. تلقتا المعلومة بانبهار بينما تفوهت الصديقة : " سنقف عند دكان أبي.". شهقت شقيقة شميران : " حقاً ! أبوك في هذا السوق ؟".. لم يقطعن غير عشرة امتار عندما دخلن قيصرية بدرب ضيق بعرض مترين. ثلاث دكاكين خياطة خلَّفن، ووقفن عند الرابع. ابتهج الأب لرؤية ابنته والفتاتين. رحَّب بهما كما لو كانتا ابنتيه :" اشربن شاياً. هيّا ادخلا.".. لم تدخلا. فقط الشكر أبدينه..عيونهما تطالعان الدشاديش الجديدة، المُخاطة حديثاً معلَّقة بمسامير على مستطيل خشبي تعلوه صورة عبد السلام عارف. ضحكن للصورة. هز الرجل رأسه : " كانت بدلها صورة الزعيم، وقبله المليك الشاب.. ماذا نفعل. لكلِّ زمانٍ دولةٌ ورجالُ. السياسةُ في بلداننا العربية دمار.. كلُّ مَن يأتي يرفع لواءَ الثورة ويرسم الغد الوردي ثم بعد وقت يبدأ طريق الدم والانتقام ويصبح حجّاج عهده، ثم تكون خاتمته القتل بيد مَن سيناله القتل بعد ذلك.".
كانت نظرة الرجل تطابق نظرتنا المجاهرة بعقم السياسة وغباء السياسيين :
- نور السعيد ومن على شاكلته في العهد الملكي سعوا للبقاء تحت الاضواء عبر مقولة ميكافيلي " الغاية تبرر الوسيلة ".
- عبد الكريم قاسم رغم نقائه وصفاء قلبه دمَّر حياةً سياسية مبنية على أساس نظام برلماني كان سيتطور مستقبلاً وتتغير أدواته ويتجاوز عثراته عندما يرتقي إلى منصته أناس أكفاء يحملون الوطن نقياً في قلوبهم، وفي ذاكرتهم عهدٌ على البناء بصمت ولا جعجعة.
- البعثيون كانوا يحلمون ببناء وطن قومي كبير وأدبياتهم تؤكد السعي الحثيث لتحقيقه لكنهم بدلاً من ذلك لوثوا وجه الوطن الصغير بضغينة حملوها على اعداء سبق وساموا بعضهم العذاب مقروناً بالوعيد والتهديد بالثبور.
- عبد السلام عارف أراد عبر كاريزما أن يكون بطلاً قومياً لكن نظرته إلى السياسة وقصر نظرته للوطن القومي رسمت طريق مقتله في ما بعد.
- وها هو عبد الرحمن عارف يتسلم قيادة الدولة فيلاقي قبول الشعب ليس لحكمةٍ يمتاز بها وقيادة ينجح فيها انما لتعب الشعب من مرارات وتهالكات ودماء أريقت بلا طائل.
ترسخت نظرتنا. فحسبنا انفسنا الناجحين فقط حين لم تؤثر فينا السياسة؛ ما جعل ناصر الجبلاوي يوماً يرجونا الاجتماع سويةً لالتقاط صورةً جماعية لنا. يرفع صوته مقهقهاً قبل أن يثبت الكاميرا ويحبس نفسه ويضغط النابض : راح اخلّي للصورة عنوان " اللامنتمون ".. اثبتوا.".. كان الفرات خلفنا يجري فيهب الناظر اليه فكرةَ أنه شيفرة لجدلية الحياة وتوالي سير الزمن.. فالصورةُ تبقى بما حملت من ذكرى؛ ويبقى هو السرمدي الذي يحكي لحظة الإطلال عليه والجلوس عند ضفته حياة أناس ولدوا، وعاشوا، ثم رحلوا بعربة الموت إلى بريّة الاندثار والنسيان.. فقط مَن ترك للإنسانية ارثاً معرفياً يُنتَفع منه يبقى حيّاً، لا يموت.
إزاء أشهر الانتقام المريرة بدا يوسف مخلوقاً يتَّسم بسماحة ويبرر سوءات الصنيع الشائن، واضعاً إيّاها في خانة الحقد السايكلوجي للنفوس المرضى بفايروسات تربية متوارثة تعود بجذورها إلى منابت البداوة على أرض الغل والحقد والثأر الدفين... ثلاثة أسابيع من الاعتقال كان ذاق عذابها عندما جّرَّ الى التوقيف كما تُجر الخراف للذبح آن كان راقداً في سريره مع زميل له يشاركه غرفة القسم الداخلي لجامعة بغداد بعد شهر من بدء الانتقام.
جرى ذلك في ليلة ممطرة وباردة مقرونة بزوابع رعدية ونباح كلاب رشقها المطر بحبات برَد بيضاء صلبة وقاسية ولم يشفع لها إلا الانزواء في شقوق الابنية المتهالكة وفجوات الاكشاك المغلقة في علوة الخضار. كانت الزمرة التي اقتحمت القسم الداخلي وداهمت عدد من الطلبة الغارقين في النوم خمسة انفار يرتدون البدلات الكاكية ويشهرون رشاشات بورسعيد. صرخوا به والرشاشات مصوبة إلى رأسه :
- قُم.
- ليش ؟! شكو ؟
سحبوه ببجامة النوم؛ الفراش مبعثر ودافىء، أنفاسه تشيع في فضاء الغرفة حرّى مضمخة بالغرابة والغموض تتصادم مع سؤال الحيرة " ليش"، والدهشة " شكو ". الحيرة تركها على وجوه طلبة القسم وسؤالهم عن سبب جرّه بهذا المشهد المُهين.
لم يكن يوسف شيوعياً كما اتهموه وقادوه، بل كان بنظر زملائه ليبرالياً. لم يجاهر بشعار أو يطرح رأياً يستفز الآخر انما كان كما عهدوه مثقفاً قرأ الكثير وتنقل بين ممالك المعرفة. يحترم الآراء ويتمناها تخدم الناس المبتلين بإرث أهلكهم وجعلهم حرثاً منهوباً. خبروه مولعاً بالقراءة يتابع بعين صقر حركة المجتمع فيؤشّر مسارات خاطئة، وأفراداً يتصرَّفون بما يناقض المسار الديالكتيكي لحركة المجتمعات الانسانية.
في غرفة التوقيف التي هي جزء من بيت جعله افراد الحرس القومي مَقرّاً لوجودهم ومثابة لغاراتهم ومداهماتهم الليلية لمن يروه مناهضاً لأيدلوجيتهم صرف الايام مُعلَّقاً من يديه في مروحة سقفية. يُضرب ويُعذَّب، يتلقّى التهديد بالانتقام والوعيد بالموت.. يحاول عرض افكاره وايصال تصوراته فيُزجر ويُنهر، مَرميّاً في خانةِ الأفكار الهدّامة.. يسمع صراخ المعتقلين في غرفة مجاورة، ويتناهى اليه أنين مَن عُذبوا فتُركوا يلتقطون الانفاس إيذاناً بصولة قادمة تُمارَس معهم دورة تعذيب تالية.
فؤجىء بعد ثلاثة أيام بلجنة من الحرس القومي يدخلون على المعتقلين فيسألون عنهم وعن جناياتهم.. وكانت عناية السماء إلى جانبه عندما حدَّق فيه أحد اعضاء اللجنة وتفرَّس بوجهه ثم سأل عن اسمه واسم عائلته. الاسم الكامل أعاد للسائل ذكرى.. بعد خروج اللجنة بوقت دخل عضواً من الحرس القومي سريعاً عرفه يوسف. كان أبو داوود شقيق حسن البعثي صاحب الدكان في شارع الكورنيش في السماوة. كثيراً ما توقف عنده ليشتري منه اقلاماً للكتابة.. قال سلمان الذي كان يرتدي بدلة كاكية ويحمل رشاش بورسعيد على كتفه مخاطباً بعض الحرس : انزلوه.. وقف بمواجهة سلمان الذي عاتبه على نشاطه المعادي للحكومة، وقال : سأكفلك احتراماً لأبيك، فأبوك انسانٌ تقيٌّ وورع.. هيا، تعال معي.
خرجا من المعتقل.. أية عناية هبطت من السماء ؟!.. وأية قدرة عجيبة طارت به وهبطت على شواطىء الحرية ؟! لا يصدق ما جرى.. كيف اطلق سراحه بهذه السهولة، هو الذي كان ينتظر قرار اعدامه بعدما صفيَّ في الغرف المجاورة عدد من زملائه في الجامعة بلا محاكمات.
على الرصيف رفع سلمان يده لسائق أجرة حملهما إلى القسم الداخلي.. هناك قال ليوسف :" خذ جنطتك وسافر للسماوة. انتظر مني اتصال تلفوني حتى ترجع لدراستك.. لحسن حظك أخبرني عضو اللجنة اللي زارتكم بوجود طالب من السماوة بين المعتقلين. كلامه أثار بي فضول مَن يكون فإجيت بسرعة. حضوري إجه بوقته فأنت شاب لا تستحق الضرر.".
(2)
الجرائم أبجدية الموت
الجريمة في مدينتنا يمكن حدوثها في أي وقت، وأي مكان.. لا مناسبة لها؛ وليس ثمة طقوس لارتكابها.
شوارع المدينة صفحات في سجل التجنّي والدم المراق وقَطع الانفاس والقتلِ بلا رحمة.. انها متواليةٌ من التواصل مع الجَّد القاتل قابيل والضحية القتيل هابيل. إذ لا تدخل شارعاً في المدينة إلا وتناهت اليك آهة اطلقها صدر طعين، ولا تخطو على درب إلا وأبصرت اجفاناً تذوي ورموشاً تنطبق إلى الأبد... يأتي الموت متسللاً يكمن تحت ابط طالب ثأر تنامى الحقد والغل والبغض في مسارات روحه وجعل يتحين قدومَ فرصةٍ جمعَ عدَّته النفسية للانتقام، وهيّأ أداةَ تنفيذ سلب روح الضحية الراجلة على أديم الغيب. قد يأتي بصيغة قتل طمعاً في مال واستحواذاً على ذهب وفضة أو غسلاً للعار بناء على عرف بداوة متأصلة في نفس حاملها، فيُهدر دم مخلوق بريء يعجز الزمن عن درء خطر تقدَّم بسكين يعكس نصلُها شررَ عيون تخلت عن الترميش وأجبرت على تصوير مشهد ذبح الضحية. أو قد يُستدعى الموت دون سابق انذار؛ أي أنه لم يكن يخطر في طريق القتل بل ربما كان نائماً أو متكئاً على أريكة أو يتهادى على خميلة يريح قبضتيه المنهكتين جراء واجبات لا تنتهي.. قتل بسبب شجار غير محسوب، ترتفع فيه مستويات الحماقة فيستل احدهم سكينه ينهال بها على عنق المقابل.. قتل على اختلاف في الرأي وتناقض في الايدولوجيا فتأخذ الضغينة طريقها في النفوس فيغدو سفك الدم جمعياً لا فردياً؛ إذْ البغضُ كبير والانتقام لا تسعه حدود.
أفلام الجرائم المتواصلة أرشفها ناصر الجبلاوي بمشاهد لم يجهد كثيراً في تصويرها. فالتاريخ ما أن يهمس في أذنه عن دمٍ جرى هنا أو روحٍ زهق هناك حتى يهب حاملاً كاميرته، ضاغطاً على نابض التصوير تاركاً الفيلم يدون مرثية انتقام الانسان من أخيه الانسان.
فيلم صباح الطعن بالسّكّين
التاريخ استقرأ حركة غير اعتيادية لشابين يرتديان الدشاديش والستر يجلسان متجاورين على تخت وجداه فارغاً من تخوت مقهى جبار اسمير المشغولة دائماً كونها في قلب شارع باتا، في مدخل السوق. عيونهما ترمقان المارّة ودواخلهما تحتدم بغيظ دفين. شربا الشاي بعصبية. اصابع احدهما تنقر بقلق على مقبض التخت الخشبي، ويد الآخر بين لحظة وأخرى تتحسس شيئاً في جيب السترة الداخلي، مكان القلب.
اليوم شتائي؛ والوقت ضحى.
امرأة ثلاثينية العمر انتهت توّاً وجارة لها من تسوّق خضار غداء ذلك اليوم حيث سيأتي الزوج غب انتهاء عمله في دائرة البرق والبريد ليستقبله اولاده الثلاثة وابنته التي تصغرهم وسط انتهاء الأم من اعداد وجبة الغداء لتجتمع الاسرة على مائدة بسيطة ومتواضعة من رز ومرق وبعض من الكرفس والرشاد.
بعدما انتهت المرأتان من عملية التسوق اتجهتا الى مكان وقوف عربات الربل. صعدتا العربة، ومعهما صعدت متسوقة ثالثة وانطلق العربنجي يضرب على حصان عجوز بسوط واهٍ فتحركت العربة.. اخترقت السوق المزدحم وتجاوزت السينما ثم عبرت سكة القطار. تلقفت الشارع الذي يوصل الى حي الحيدرية. وما أنْ ادركت منتصف الطريق حتى ووجهت بشابين يعترضانها.. الجم العربنجي حصانه فتوقف جافلاً. اتجه الشابان كلٌّ الى جهة نزول او صعود الركاب وراحا يتفحصان النسوة الثلاث التي اصفَّر وجه احداهن بصفرة رعب متأتية من مباغتة لم تمر بخاطرها مطلقاً... هتف أحدهم : انزلي يا نجمة !... لم تتفوه نجمة الا بـ : ها يخوي حَمد، ها يا خوي عويّد !... لم يتفوَّه حمد بعدها إلا بشرر يتطاير من عينيه. يمد يده تسحب المخلوقة المتفاجئة بأخيها الغاضب. يسحبها من جوف العربة الى الارض، حتى انها تعثرت وسقطت على وجهها، ثم نهضت تحدّق بعين الرعب الى اليد التي سحبت سكيناً من غمدٍ في جيب السترة الداخلي وبرقت بتأثير سقوط حزمة شمس على نصلها. يد خزَّنت جهد عشرة أعوام من الانقباض والانبساط وغل روح تعبأت بشحنات الانتقام. راح حمد يغرز سكين الغل في عنق وصدر وأمعاء الاخت التي لم ترتكب جريمة بعين الرب بزواجها من رجل احبته واختطت معه طريقاً شرعياً انجبت منه أربعة ابناء.. صوت الانتقام تفجَّر من فم الطاعن فيما انطلق الكلام من فم الثاني يقطر غيظاً اكبر : تتزوجين دون رضانا، يا فاجرة ؟.".. جاء صوتُها واهناً، وهن مَن يرحل بعربة الموت : على سنَّة الله ورسوله يا عويّد.. على سنة الله ورسولــــ.....ـه.".
فيلم الصعقة.. دليل الموت
جواد البوري بائع خراف يمتلك طولة ملحقة ببيته القريب من ملعب الحيدرية الرياضي.
الساعة الثامنة صباحاً يخرج من بيته.. يفتح باب الطولة.. ربع ساعة تمر ويخرج حاملاً على ظهره خروفاً سميناً.. بعد ساعةٍ يعود حاملاً أكياس خضر وفاكهة ابتاعها من السوق بعد بيعه الخروف.. يوقفه جار له.. الجار يشكو تربية الاغنام بين البيوت.. ينظم جار ثانٍ وثالث يسمعونه ضجرهم والبيوت المجاورة من رائحة فضلاتها وتسببها في جلب البعوض والحشرات، وحتى الفئران.
يعدهم جواد البوري خيراً وبلسان معسول : انتظروني اسبوعين أو أقل. ما راح تسمعون بعدها الثغاء ولا تزعجكم بعوضة أو يقرض ثيابكم فار؛ سامحوني.
النفوس التي ساورها ارتياح للوعد انتظرت اسبوعين، وأضافت آخر؛ ثم آخر؛ ثم آخر. ولكن دون جدوى.
الجار يهمس في أذن صاحبه : من أين يأتي بهذه الخراف الهزيلة ؟ ألا تبصرها عليلة، يجرها جراً ؟
الجار المستمع يتطيَّر ويعلن تشاؤمه : أهجس أنها تحمل امراضاً قد تنتقل الينا وإلى صغارنا.
الغريب في الأمر أنَّ الخراف الهزيلة تصبح سمينة ومليئة بالشحوم غب أيام لا تتعدى اصابع اليد.
في علوة بيع الماشية يبيع جواد البوري خرافه بسعر أرخص بكثير مما يبيعه اقرانه لهذا يقبل عليه المشترون ممن لديهم مناسبة عرس أو عشاء مأتم.
يوماً ما جاء إلى الشارع مَن يسأل عن جواد البوري. الغضب يتفجَّر من عينيه، والشتائم تندلق من فم زاعق بينما عمود من خشب الزان تقبض عليه كفُّه المتشنجة.
طرق طرقات فيها انفعال يثير حفيظتي الذين في الداخل ويدفعهم إلى ترديد : يا ستار ! كدعاء طلب من الله ابعاد ما تخفيه الأقدار.. جواد البوري كان في البيت، لكنَّ امرأته فتحت الباب وأعلنت غب مشاهدة الغاضب ماسك عمود خشب الزان سؤاله عن زوجها أنه لم يعد لحد الآن.
الجيران الذين في بيوتهم استفزتهم الشتائم وصوت الزعيق. فتحوا الأبواب وتطلعوا.
الغاضب توجه إليهم : " تصوروا؛ هذا الافّاك باعني خروفاً حسبته سمين وبيه لحم وشحم، بس وصلت البيت صار جلد وعظم."
ضحك الجيران لسماع الرجل، وتأسّوا عليه.
اكتشفوا غب تطلعهم من أسطح بيوتهم أنَّ جواد البوري ينفخ تحت جلود الخراف بقصبة قبل أخذها الى علوة البيع بلحظات فتبدو سمينة ومتعافية يُقبِل عليها المشترون.. وإذ يسوقونها الى بيوتهم أو يحملونها بعيداً حتى تعود تضمر شيئاً فشيئاً مسترجعةً حجمَها الحقيقي وهزالها المريع.
تكرَّرت حيل جواد البوري، ولسانه ظل يقطر عسلاً في الكلام، وحيلةً في التعامل، وغشاً في البيع.
وفي يوم دخل الحمام ليستحم.
في غمرة الاستحمام ورغوة الصابون تملأ وجهه وتغلق عينيه رفع ذراعاً لا يدري انها ستصطدم بسلك كهربائي سائب صعقهُ فرماه بقوة مهولة. ارتطم رأسه بحافة المغسلة؛ ومات.
الخنجر الشطري.. الموت فائزاً
مقهى عطيّة تتقدمها ثلاثة تخوت خشبية عليها حصران من خوص سعف النخيل. التخوت على الرصيف المترب , وفي جوف المقهى عطيّة يُعد الشاي. وسط شارع مصيوي ساقية يجري فيها ماء رفعته مضخة النهر. الماء يجري باتجاه حديقة تقابل محطة القطار. شارع مصيوي أرض ترابية لأن التاريخ 1950، وحنش المقاول لا يشمل عقد مقاولته مع الحكومة المحلية تبليط هذا الشارع.. ابراهيم ابن الشطراوية شاب يلبس البنطلون والقميص ويلبس كيوه كردية قطنية بديلاً عن الحذاء الجلد وعلى رأسه عرقجين ينحرف يميناً وينزل حتى حاجبه الأيسر. إنه يتمثل بإبراهيم ابن عبدكه، الشقي الكردي الأفيلي الذي ذاع صيته زمن العهد العثماني عندما قتل وجرح الكثير من الجندرمة. ابراهيم ابن الشطراوية وابراهيم ابن عبدكه ! يا لهذا التقارب في الاسم !
كريم بن جويد عامل يبيع السجائر في محطة قطار السماوة. ويصعد إلى القطار القادم من بغداد إلى البصرة أو القادم من البصرة باتجاه بغداد رافعاً صوتاً بين المسافرين : " جكاير.. جكاير.. غازي، لوكس، مزبّن." ثم يترك عربات القطار ويهبط سريعاً مع بدء تحرك عجلات القطار؛ ويعود لأهله على أمل أن يعاود المجيء إلى المحطة في منتصف الليل انتظاراً للقطار السريع فيبيع للمنتظرين؛ ثم بقدوم القطارين يصعد فيبيع، ويعود إلى بيته.. هكذا هي خارطة عمله.
ابراهيم ابن الشطراوية لم يرق لتصرف كريم بن جويد مرةً عندما اشترى منه سجائر فرط. طلب منه أن يزيده من السجائر. كريم رفض مبرراً أن ذلك يسبب له الخسارة. رفضه أزعج ابراهيم. هذا الانزعاج ظل دفيناً في الصدر.
تلك الظهيرة الصيفية من أواخر شهر تموز يمر كريم بن جويد من أمام مقهى عطية.. ابراهيم يجلس على تخت منتظراً شاياً...ابراهيم ينده على كريم أن يذهب إلى البيت ويأتي له بعدد من السجائر.. كريم يعتذر، فينفعل ابراهيم ويروح ينهال عليه بكلمات نابية.. كريم يقابله بكلمات نابية أيضاً ويواصل طريقه نحو البيت.
بالصدفة يمر شقيق كريم من أمام مقهى عطية فيسمع ابراهيم يسب ويشتم ويتلفظ الفاظاً تمس أخاه وعائلته.
الاستغراب والعتب والتصايح، وحضور شقاوة ابن عبدكه في رأس ابن الشطراوية دفع هذا إلى استلال خنجر معقوف من جيب بنطلونه، وعلى طريقة عنف ابن عبدكه غرز ابراهيم ابن الشطراوية خنجره وبطعنات متعددة في معدة شقيق كريم فأرداه مضرجاً بدمائه وسط اتساع عيني عطيّة للمشهد وسقوط استكان الشاي وصحنه إلى الأرض.
وأيضاً، وعلى طريقة ابن عبدكه في الهرب والتواري هرب ابن الشطراوية وتوارى؛ تاركاً الموت فائزاً في مشهد لا يمكن احتسابه معركة لأنَّ المعركة تتكينن على أساس طرفي صراع، تنازعاً وتصارعاً، وكانت الغلبة للأقوى بينما كان الطرف الذي يمثله أخو كريم الأضعف لأنه جاء مُعاتِباً فحدث له ما حدث.
(3)
المفوَّض الجديد للمركز
جاء المفوض رشّاش جاسب نقلا لاستلام منصبه كمأمور مركز شرطة الخناق مع بدايات العام 1964.. جاء أثر انتقال ضابط صرف سنتين شاعت خلالها رائحة فساده غامرةً فضاء المدينة، ثم انتشرت الى الارياف والقصبات، وابتعدت اكثر لدرجة وجدت السلطات المركزية في لواء الديوانية ضرورة ملحّة لاستبداله.
جاء رشاش جاسب بوداعة رسمت للناس الفرق الشاسع بينه وبين سلفه، مُظهراً بساطة صارت مَحط حديث زرع في النفوس شعور بنزاهة الرجل، وقول انه أول مأمور مركز يتحلّى بصفات الاتقياء. ذلك جعل ناصر الجبلاوي يأخذ كاميرته. يعلقها من حزامها الجلدي على كتفه ويروح يتهادى الى مركز الخناق، عابراً الجسر الخشبي غير آبه للقطة كانت ستكون صورة غاية في الجمال. لقطة كان فيها صياد ينتصب في حضن زورقه، يسحب الشباك وسمك الشبوط والبني والكطّان والشلك يتلاصف خلل الخيوط المعقودة ويتلابط في محاولة الافلات من حومة الهواء والعودة الى مملكة الماء. يدندن ناصر الجبلاوي بـ " خذني وطير بيَّ للسماوة // وذبني بكاع ما بيها نداوه ".. لقد حلم يوماً أنْ سيلتقط لصديقة الملاية صورة سيعرضها كوسيلة من وسائل دعاية تثبت انه ليس مصوراً بحدود مدينته انما تتسع خطاه وتنتشر للوصول لأي مكان يريده. كان سيصورها وهي واقفة على المسرح. يتمناها بشعر منسدل على كتفين عريضين وفستان لقامة اقرب إلى الطول منها إلى المتوسطة؛ تمسك منديلاً حريرياً طويلاً يتدلى من احدى يديها، تشدّه وتسحبه وقد تمزقه في لحظة الانفعال والتماهي بموال أو مقام. كان سيجعلها صورة توازي ما التقطه استاذه المصور الاهلي لأم كلثوم وفرقتها يوم قدمت الى بغداد وغنّت في أوتيل الهلال في العشرينات، يدندن ويتخيَّل ملامح مأمور المركز وقامته.
الشرطي المنتصب عند باب مركز الخناق العريض متنكباً بندقية سيمينوف لها حربة فضية طويلة لم يعره اهتماماً وهو يخترق الباب دخولاً الى باحة مربعة واسعة ومفتوحة على السماء والشمس الباهرة. مراجعون كثر. بعضهم يبحلق في مداخل الغرف المفتوحة على الباحة وبعض يتحاور مع افندية، مظهرهم يدل على انهم موظفون في المركز. عناصر شرطة يتحركون بقيافات مرتبة وأحذية جلدية سوداء لامعة. احدهم خرج من غرفة الاضابير يحمل ملفاً صوب غرفة قلم المركز. عنصر يقف عند باب المحقّق، ينظر في عريضة سحبها من يد رجل ريفي جاء ليقدَّم شكوى على حفنة اشقياء نصبوا عليه في سوق المدينة.. عينا ناصر الجبلاوي سحبت المستطيل الخشبي الصغير وكلمتي " مأمور المركز " على يمين الزاوية اليمنى العلوية لباب مغلق. هرع اليها. نقر على الباب عدة نقرات منتظراً رد السماح له بالدخول؛ لكن صدى خطى متسارعة اقتربت من وراءه فووجه بشرطي يسأله : تفضل شتريد ؟.. " " جيت لمقابلة المفوض الجديد وأخِذ صورة له. ".. " المفوض عند القائمقام، عدهم اجتماعهم يمكن يطول أكثر من ساعة.. اذا رغبت انتظر ". وجد الوقت طويلاً، والعودة الى محله أفضل، إذْ تركه مفتوحاً دون الرجاء من جاسم القهوجي الرد على مَن يسأل عنه في غيابه. استدار. وقع بصره على غرفة النضّارة.. قضبان الحديد العمودية تظهر خلفها موقوفين صفر الوجوه، عيونهم طافحة كأنهم لم يذوقوا النوم لأيام. دنا منهم. نظروا إليه بأسى. صاح بشرطي يقف عند باب مدير المال : هل مسموح التقاط صورة للموقوفين.. جاءه الرد بصيغة رفض مشفوع برجاء : لا.. لا.. عقوبة مأمور المركز تجينا اتفرفر ".
استدار خارجاً، متفهماً الوضع. ترك الفناء المشمس واجتاز الرواق خروجاً الى الشارع عندما تناهى اليه مَن يناديه.. " تعال، يطلبوك.".. كان مأمور المركز منتصباً في باب غرفته.. رحب به. ادخله الى مكتبه. جلس خلف المنضدة. وراءه، على الجدار، صورة عبد السلام عارف بملابس مدنية.. انتصب ناصر الجبلاوي وسط الغرفة. قرَّب الكاميرا من وجهه. حدَّق بمربع الصورة يبحث عما يرسي قراره بحسن اللقطة وتميزها. قليلاً وانتهك صمت الغرفة الانفتاح الخاطف لأبواب العدسة وانغلاقها. صاحبَ الحركة ابتسامة رسمها ناصر الجبلاوي وتخمين اسمعه للمفوض بجمالها وتميزها.
ما الذي جعل ناصر الجبلاوي يصمم على التقاط صورة لمأمور المركز فيجشم نفسه عناء التحرك وعبور الجسر ودخول المركز واقتراح التقاط صورة ؟!.. لماذا قرر العودة مرة أخرى حين اعلمه الشرطي باجتماع قد يطول ؟ ولماذا لم يضع في حسبانه أنَّ المأمور قد يرفض طلبه بنفور ويحسب فعلته من باب الفضول المذموم ؟... حين سألناه عن ذلك لحظة كان يبحث عن مكان أمثل في الجامخانه كي يضع الصورة بعدما كبّرها وزججها وأطّرها، أجاب" : لا أدري ! شيء ما في داخلي دفعني الى ترك المحل والتوجه اليه دون حساب لرد الفعل.".
(4)
نادي الموظفين
حديقة نادي الموظفين يانعة.. النادي مساحة خضراء اقتطعت من بساتين الخزاعل في الثلاثينات ليكون مكاناً لإراحة موظفي الحكومة بعد دوام طويل وزحمة مراجعات ومدينة حسيرة يكون أمراً غريباً تجوال الغرباء في شوارعها يومياً.. الحديقة يانعة تُضاء حال مقدم الغروب.. شتيوي الياور اتخذ منضدةً قريبة من صف شجيرات الياس الخضراء بانتظار مَن يأتي من الندامى لينده عليه فيجلس لتبدأ ملحمة تناول الاقداح مليئة بالبيرة الذهبية أو بالعرق الابيض المستحلب.. ترك شتيوي لبس الدشداشة والعقال والكوفية البيضاء منذ أن تسلم أول مردود مغري من مقاولته الأولى وصار يرتدي السترة والبنطلون والحذاء الجلدي اللامع. أما هذه الايام فعاد يلبس زيّه القديم؛ إذ ساءت الحال وقلت مشاريع البناء، وحتى القريب الذي يعتمد عليه في ارساء المناقصة لجانبه نُقل من المدينة... الآن شتيوي يتكىء على ترافة ملابسه وجلساته اليومية في النادي وعلاقاته بالموظفين الغرباء من أجل تبادل الأحاديث ليس إلا. لذلك حين دخل المفوض رشاش جاسب لأول مرة وطالعه متملياً قوامه وملامحه استأنس لطلته. رغب في دعوته لكنه تراجع. ترك ذلك للأيام.
ذلك الحضور للمفوض كشف لشتيوي أنه يتناول العرق. يشرب نصف قارورة وينهض عائداً للمركز حيث ينام في غرفة مخصصة له. غرفة بسرير ودولاب حديدي لتعليق الملابس ومنضدة خشبية لتناول وجبات الأكل؛ وفي الجوار غرفة صغيرة بمثابة مطبخ جهز بطباخ نفطي وسِنك اسمنتي فوقه شبكة خشبية لتثبيت الصحون بين تقاطعاتها، إضافة لمجموعة قدور ومقلات وسكاكين وملاعق.. ومع تعاقب الأيام صار المفوض رشاش يُدعى لغرف لعب الورق. هناك حيث يتبارى عشاق اللعبة بتنافس محموم تنتقل فيه الدنانير من الخاسرين إلى الرابحين؛ وينهض الجميع مع دنو انتصاف الليل عائدين إلى بيوتهم ممنين النفس بالحضور في المساء التالي.
مرةً دخل عفات احدى الغرف فأبصر المفوض يشارك اللاعبين لعبهم؛ بدا أمامهم محترفاً يتقن اكثر من لعبة.
في الليلة التالية كان شتيوي يقابله في لعبة ضمّت اربعة لاعبين. يساهم اللاعبون بالدنانير فيطالبهم عفّات باللعب بخمسة دنانير سعياً للفت نظره... المفوض رأى في شتيوي وملابسه المترفة وسهولة رمي الخمسة دنانير أو حتى العشرة شخصاً غنيّاً لاسيما عندما تبادل اللاعبون دعابة انه مقاول يكسب المال بسهولة بينما هم موظفون محسوب راتبهم على عدد ايام الشهر. ذلك جعل المفوض يحفز اهتمامه بشتيوي ويرغب بصداقته.
حين ترك شتيوي النادي وخرج يترنح قفزت اليه موضوعة المال الذي خسره بيسر بينما صرف وقتاً يتضرع لقريب له أن يقرضه هذا المال، متذرعاً أن سيتعرض للحبس إن لم يسدد دينا عليه. حقق مسعاه بتليين قلب القريب شرط اعادته خلال اسبوع. شرع الخدر يتبدد من رأسه حين كبرت شفرة المال وضرورة اعادته. قليلاً وبزغ المفوض رشاش أمامه مبتسماً؛ وهمس. لا يدري إن كان همسه يقول لا تقلق أنا معك أم كان وعيداً بالويل.
يومان قتلهما شتيوي في جلوسه عند مصطبته المعهودة في حديقة النادي دون التقرّب من غرف لعب القمار. يومان لم يحضر فيهما المفوض. كان في واجب خفارة وخروج في دورية للعشائر القريبة. وحين ظهر شخصه داخلاً نهض شتيوي من كرسيه اشارة تلقي السلام والدعوة للجلوس.
كان لقاءً ثنائياً شكّل لىشتيوي نجاحاً في كسب صداقة القادم الجديد بينما وجد المفوض فيه شخصاً يستحق الصداقة كونه مقاول يتسرب المال من كفّه كما يتسرب الماء. والمقاولون كرماء، باذخون، "خوارديّة ".
في تلك الجلسة لم يشرب المفوض العرق الأبيض بل كانت قارورة الويسكي الدمبل تنتصب أمامه وثلاث انواع من المزة جاء بها النادل مسرعاً بإشارة من شتيوي.. شتيوي طلب عرقاً كعادته كل ليلة موضحاً للمفوض أنه لا يخون صديقاً صاحبه منذ أول الشباب.
ليلةٌ ثمينة انصرفت؛ حسبها شتيوي تاريخية، لا تُنسى.
ولما كانت الديون تثقله، والمقاولات لا أثر لها؛ وإنْ حصلت فلا ترسو عليه فكَّر في التحرّك بين الناس لانجاز معاملاتهم بطرق مختصرة اعتماداً على مأمور مركز صديق لا يرُد له طلب.
في البدء كان المفوَّض يقدّر صديقه المقاول وينجز له معاملة هنا ومعاملة هناك على أنها تعود لأقاربه. لكن الأمر استدعى في احدى الجلسات المصارحة.. أبدى المفوض شيئا من الامتعاض المداف بعتب، تلاه رسالة مقتضبة فهِم منها شتيوي أن الصديق المُعاتِب لن يستمر مستقبلاً في انجاز معاملات الأقرباء دون ايفاءٍ للخدمة.
وكانت تلك فاتحةً لعملٍ صار يُخطط له على المنضدة بين الأقداح والمزات ليلاً، وينجز في المكاتب وعبر الهاتف حتى لو تعلق الأمر مع الدوائر الأخرى نهاراً.
شرّاد هديب.. أيام التسكّع
الخروج من السوق المسقوف وجلوسه على تخت مقهى جبر يروي ظمأً ويشرب شاياً ولَّد لدى شراد هديب حالة من التذمَّر.. أخرج كيس التبغ من جيب سترته. فتحه؛ استلَّ دفتر الورق الشفاف، فصل ورقة وراح يملأها بورق التبغ الناعم ويلفها. يطعم طرفها شفتيه ويطعم الطرف الثاني ناراً من قدّاحة احشاؤها قطن مشبع بالبنزين. نفث أول نفس بانفعال ينم عن قلق دفين.. ما لديه من مال شرع ينضب وهو بلا عمل يدر عليه ما يجعله يواصل حياته. إلى متى يؤخر صاحب فندق الصحراء ما بذمته من اجور منام تعدى العشرين يوماً بعدما وعده بالتسديد حالما تأتيه حوالة مالية من اهله كما وعد الرجل ؟ وكيف يكون موقفه حين يعتذر عزوز صاحب المطعم من تقديم وجبات الطعام وقد مرت عشرة أيام لم يسدد دينه معتمداً على نفس العذر ؟
النهر أمامه. زوارق تنساب مع مد الماء المتوسط الحركة والأشرعة ملفوفة على الصواري. الصيادون وفتيان يصاحبونهم يتولون التجديف ينتظرون لحظة حيان سحب الشباك وقياس مدى وقوف الحظ معهم بسمَك عالق، وفير. كان مستعداً للعمل معهم صياداً يعيش بين الماء والسماء، ولكن كيف الوصول ؟
لفت انتباهه اناس تدخل مكتب شتيوي الياور وتخرج بوجوه عليها البشر وقسمات تفصح عن استقرار.. لم يواصل حرق اللفافة حتى نهايتها. رماها أرضاً. سدد قيمة الشاي وتحرك. أمام باب المكتب المشرع شاهد شتيوي يتحدث مع رجل وإمرأة يمسكان اوراقاً. يدعون له بالخير والرحمة لوالديه.
قالت له الشجاعة ادخل، ولا تتهيب.
دخل.. القى السلام وجلس. لم ينتظر الرد ( لم يهتم إن كان سيأتيه الرد أو لا.(
طالع وجوه الجلاس فاستشف عيوناً تمطر استعطافاً، ورجاء في أداء فضل.. شاهد شتيوي بوجه سمح يتحدث مع المستعطفين، ويتفوه بكلمات تطمئنهم وتشيع في دواخلهم أن ما جاءوا لأجله سينجز.
كلمات شتيوي وسماحته.. ابتسامته العريضة التي تترجم طيبة قلبه شجّع شراد هديب على التحدث بعدما فرغ المكتب من المراجعين.
لمح شتيوي سحنة أسى على الجالس أمامه، يقبض على تكية التخت بكف تكاد تهشمها وتطحنها من القلق.. ترجم مللاً يسيل من العينين ولم يبصر ذلاً.
ربع ساعة مرت استوعب شتيوي شخصية شراد هديب، فوعده بالمساعدة والوقوف إلى جانبه.. فقط وضع في حسبانه معرفة خلفية هذا الغريب الباحث عن عمل.
أيام وجاءه المفوض رشاش بصحيفة حياته عبر مخاطبات أمنية فهم منها شتيوي كل شيء.
شتيوي.. أيام المتعة
نَعِمَ شتيوي الياور بصداقة المفوض رشاش جاسب. يدخل مركز الخناق بلا استئذان. شرطة المركز يعرفون توجهه نحو غرفة المفوض.. وفي الليل كان نادي الموظفين مكاناً للقاء على طاولة وسط حديقة خضراء وورود تضحك للناظرين، ولازقين رئيس جوقة البويات المتعاقد على ادارة بار النادي أيزيدي يعاونه بويات جاء بهم من قريته بحزاني في لواء الموصل، وأوصاهم بتلبية طلبات الرواد : " يجب عدم التلكؤ.. يجب عدم اظهار ملل أو ضجر من خدمتهم.. يجب تحمل غضبهم وعدم اغضابهم.. يجب بروحٍ سمحة تلقّي شتائمهم إن أطلقوا الشتائم بوجوهكم.. كما تعرفون الشتائم لا تأتي في صحوهم إنما في سكرهم وثمالتهم وغياب العقل عنهم. " وبشيء من الحذر يردد : " كما ترون أنهم رأس السلطة وموظفوها الكبار ".
يومياً؛ حال تراجع الشمس وخمولها يبكّر شتيوي في الحضور. ينادي على هذا أو ذاك من البويات لإعداد الطاولة كما ينبغي ويوصيهم بتلبية الطلب حالما يؤمى لهم بإشارة من يده.
يبتهج لحضور الصديق المفوض.. يصرفان ساعةً في خثرة ظلمة يحببانها وضوء مصباح أصفر يحييهما من عمود بعيد في زاوية الحديقة. بعدها ينهضان إلى غرفة لعب الورق.
خسارتهما تفوق ربحهما.. لا رابح في لعبة القمار.. المقامر خسران على الدوام. إن ربح لذَّةٌ محدودةٌ لا بد أن يعقبها احتراقٌ داخلي وطوفانٌ من احتدام وغضب مصحوب بدخان يعلو من سجائر تحترق سريعاً وأصابع تصفر من صبغة التبغ.
لا يكتفي المفوض رشاش بما يحتسيه ويعبّه في النادي، بل يحمل معه نصف قارورة عرق يواصل شربها في غرفته، فيصرف الليل حتى يدركه الفجر فينام لساعة.
شتيوي لم يرغب بمواصلة المفوض للشرب. لقد دعاه كثيراً لترك هذه العادة واكتفائه بما يتناوله في النادي؛ غير أن هذه الدعوة لم تلقَ القبول.
لم تكن خشية شتيوي على احتمال اساءة سمعة المفوض كصديق إنما الخوف من حصول ما لا يسر. أي قد تتدهور صحته فيموت، فيفقد بذلك مصدر رزقه الذي انفرجت ابوابه على مصاريعها فبات في بحبوحة، يأكل ويشرب، ويسهر، ويسافر كثيراً إلى العاصمة ليعيش ليالي البذخ في ملاهي " الامباسي " و " علي بابا " و " الكروان ".. يزور بيوت أم سهام، وأم جميلة. ترحبان به وتقدمان له خيرة عاهراتهما. فالمال يغدقه عليهما بكرم لم يألفنه مع روّاد آخرين. اشترى لنورهان أحلى عقد بنقوش هندية فائقة الجمال لأنها منحته ليلة بساعاتها ودقائقها : تعرٍّ وتقبيل..آهات وحمحمات تطلقها أمام رهزاته فيشعر كأنه امتلكها. صار سلطاناً، وصارت محظية... وفي الصباح نهض. ارتشف القهوة من فنجان رفعته اناملها الى شفتيه. سمع مفردات غنجها الممزوجة بآهة عشق ووله، وخرج.
تعاقب على مطالعة محلات الصاغة؛ وكانت عينه تبحث عن أجمل مصوغة سيهديها لها لأن له ليلتين سيصرفهما معها قبل العودة إلى السماوة.. عرضَ الصاغة بشيء من التحبب وبكثير من كلمات الاغراء أجمل ما وصلتهم من مصوغات. وكان يتخيل حين يرفع له الصائغ العقد المقترح ويشاهده يبرق على الخميلة الحمراء للصندوق الذي يحتويه توهجه على صدر نورهان. لذلك تنقل من صائغ لصائغ بناء على مخيلة لم ترتض ما شاهد وما عُرض، حتى توقف عند معرض لصائغ كان منشغلاً في تصفيف مصوغات وصلته تواً من الهند. سريعاً تسمرت عيناه على عقدٍ هتف به : تعال خذني؛ سأكون أجمل هدية. ستشبعك نورهان بالقبل؛ وستصرف معك ليلتين لن تقضيهما حتى في الأحلام... وفعلاً برقت عينا نورهان لمشاهدته، وأناملها مرت على النقوش المحفورة والخطوط المتعرجة، وعلى اغصان متشعبة سكب عليها نقّاشها لوناً أخضرَ مموَّه بصفرةٍ مبهرة فيما انطلق فمُها يفجر كلمات الاعجاب حاصداً بمنجل شهوته فرحتها وابتهاجها بهدية ستتباهى أمام قريناتها من العاهرات، وتقول : لو لم أكن الاجمل والأبهى لما تقدَّم لي بهذا. فهاتنَّ أنتنَّ من قدَّم لكنَّ.
مع الايام لاحظ شتيوي أنَّ صديقه المفوض لا يتمتع بأجازته الدورية كاملةً. فهو ما أن يسافر إلى عائلته بإجازة أمدها اسبوع حتى يدق هاتف مكتبه بعد ثلاثة أيام ليسمع صوته يخبره أنه في السماوة، قطع الاجازة وعاد.
(5)
يوسف مُتَّهماً
كان وقع خبر توقيف يوسف بدعوى قتل ابيه ثقيلاً على مسامعنا.. عدنان اكتأب، وذُهلت أنا بينما ضحك أبو زهرة ساخراً ": يا للأغبياء ! يوسف يرتكب فعل القتل !.. يوسف الذي تمور الثقافة في دمه ويترفع عن سلوكيات يحسبها تستحق المقت يرتكب فعلاً همجياً لا تؤديه إلا الوحوش، ومع مَن ! مع أبيه ؟.. اسألوني عنه فأنا اتقن فهم نوازع المثقفين.. كلما قرأتَ كتاباً أورقَ وعيكَ وأفرد أبواب عينيكَ لاستقبال النور.. كلما هفوتَ إلى مكتبة قال لك الله ابشر بالجنّة.. هل رأيتم عاشق نور يهوى الديجور لارتكاب خطيئة ؟ هل تناهى لمسمعكم يوماً أنَّ مثقفاً شهر سلاحاً على أحدٍ فارتكب جرماً ؟ ".
في الطريق نسمع العجوز كريمة بائعة الملح تستنكر الفعل الشنيع، مرددة : " يا ستّار يارب. إبن يقتل أباه، كلام لا يمكن تصديقه ! هذا افتراء وتجنّي ".. تدس الطاسة الخشبية في كيس ملح متدلٍ من جانب حمارها لتملأه لصبيّة قدمت لها عشرة فلوس وقارورة زجاجية تبرق في قاعها ذرات ملح ناصعة. تغرف وتسكب الملح في القارورة وتعد للخمسة فتناولها الى الصبيّة. تمسك لجام الحمار وتجرّه فيتبعها.. نبصر الحاج حسّون الدفاعي يخرج من الجامع الذي بناه وصرف عمراً في خدمته. يغلق الباب بمفتاح حديدي طويل يدور مرتين ثم يسحبه، يدسه في جيب سترته ويهبط من درجات السلم الثلاث. يوقفنا ليسأل : " أهذا الكلام صحيح ؟! "، ويقصد جريمة القتل. وحين نجيب بنعم يطأطئ رأسه ويروح يعلّق : أنا اعرف سلطان شاهر واعرف ولده يوسف.. الاثنان على وئام. أب يعطف على ولده، والولد خلوق ومطيع لوالده.. لا !.. لا !.. هذا لا يمكن. هذا اتهام باطل !
روّاد مقهى عبد الله حطحوط نخبة من المعلمين والمثقفين. نسمعهم يتحاورون ويتناقلون الخبر مبعدين شناعة الجريمة، ومجمعين على أنَّها بفعل مجرم طامع في مال.. أصحاب المحلات في السوق استنكروا الفعل المشين ورأوا في يوسف شاباً مَهما دنا الطمع من نفسه وارتفعت شهوة المال في روحه لا تأتيه الجرأة فيقتل أباه. حبيب تولّى الدفاع لأكثر من مرة حين يأتي الحديثُ عن النفس الأمارة بالسوء، ويقول : صحيح، إلا يوسف !.. له نفس تترفع على الصغائر وتمتعض من فعل السوء.
حادثة القتل المريع والاتهام الباطل عكَّرتا مزاج الناس.. صرَّحوا أن لا سعادة، يأتي بها الله للإنسان تدوم. فما أن يهنأ ويعوم جذلاناً منتشياً في بحيرة طمأنينة حتى تهب عاصفة هوجاء تطيح بصرحها وتتركها أطلال قلق.. لقد سحبت الناس أنفاس الارتياح لانتهاء أشهر ثأر الاحزاب وتصارعها. خمدت أنّات المعتقلين وصارت فترات الضغينة بين البعثيين القوميين والشيوعيين الأممين من عداد لطخة داكنة على لوحة بهاء الوطن. عاشت المدينة تنعم بهدوء؛ وظن الناس إن الآهات لن تعاود الانطلاق من الصدور مرة أخرى.
على أي حال، وضِع يوسف في غرفة منفرداً، بعيداً عن الموقوفين والسجناء.. وضع في غرفة معتمة يدخلها في الليل مَن يقرأ في أذنه ضرورة الاعتراف بالجريمة أمام قاضي التحقيق الذي سيستدعيه في اليوم التالي دون مماطلة لأن الشواهد جميعاً تشير اليه كقاتل... يرفض يوسف ما يسمع. يدين مَن يتهمه، مطالباً بالتحري الدقيق عن الجاني الحقيقي.
الرفض والإدانة حملتا رسالة تؤشِّر صلابته وعناده؛ لذلك قضى منتصف الليل يتعرض لتعذيب ساهم فيه اثنان بعدما عصبا عينيه. انهالا عليه بالصفعات واللكمات، ثم استعانا بالهراوات تغذي جسده بالألم. وبين انهيال وآخر يسألاه إن كان سيعترف أم لا.. وهو الذي خبر تعذيب الحرس القومي له أيام توقيفه في بغداد استعد لما يمارسه المعذِبون.. هي.. هي؛ هذه الوسائل مع تلك.. اضربوا، وعذبوا؛ لن تنفعكم وحشيتكم بإقرار جريمة لم ارتكبها.
أياماً استمر الحال معه في غرفة مدلَهمّة، وأياماً تُمارس معه وجبةَ تعذيب تلوَ وجبة.
الأهل يحاولون الوصول إلى المركز فيُنهرون؛ يراجعون القائمقام فيرمي الكرة في ملعب القانون والتحقيق وما يسفر عنه.. الناس في المدينة تتساءل ما الذي يجري، وما هو حال المتَّهم. هل تكلم ؟.. وماذا قال ؟... شيء واحد تسرَّب سراً عن طريق فمٍ مقرّب من الشرطة.. التعذيب مستمر، ويوسف ينكر معرفته بالجريمة؛ بل هو يسخر من متهميه.
شاع خبر التعذيب.. سرى تذمّر ينفجر من أفواه الناس.ونفوسهم. لا أحد يصدّق ارتكاب يوسف للجريمة. وإذا حدث وقيل اعترف فإن ذلك لابد حصل تحت طائلة التعذيب.
التذمِّر ولَّد خوفاً لدى السلطة المحلية والمحققين.. التذمِّر دفع القائمقام إلى الاجتماع بقاضي التحقيق واستشفاف حيثيات القضية.
ثلاثة أسابيع، وتقرر اطلاق سراح يوسف. أُلقي الاتهام على جانٍّ لم يترك دالةً لجريمته يمكن من خلالها تعقبه.. الأسبوع الثالث أدّى بيوسف الى الوقوع في بئر الهذيان. يصارع حمّى مصحوبة بآلام جسدية لا تطاق.. اسبوع تبدّى لمعذبيه خطورة مواصلة التعذيب. فالركلات على الرأس وتلقيه الهراوات أحدثت رجرجة في رأسه.. وجدوه يجيب حين السؤال بكلام لا رابط له.
مترنحاً ومرتبكاً يقوده شرطي نحو غرفة مأمور المركز.. هناك قُدمت إليه ورقة مكتوبة بخط اليد. الورقة تشير إلى أنه عومل معاملة حسنة ولم يتعرض لتعذيب. يطلب منه المأمور التوقيع ببصمة ابهامه الأيسر. عيناه غائرتان، خداه ضمرا، فقط بانت عظمتا الفكين بارزتين. الشاربان تداخلا مع شعر اللحية التي نمت غزيرة ولم يحلقها طيلة فترة التوقيف.. يسأله المأمور بشيء من الاحتجاج عن سبب عدم حلق لحيته والتهيؤ للخروج بمظهر مهندم في هذا اليوم السعيد الذي بُرىءَ فيه فلا يرد.. من أين يأتيه الرد ؟!
استلمه عمّه المطعون بالحزن والأسى والنقمة على نظام تتيه فيه الجريمة ويُدان البريء. عمُّه قاده نحو البيت وفي فمه غصّةٌ، وفي قلبه غيظ.
في الطريق شرعَ يسأله فلا يسمع جواباً مترابطاً.. هذيان تارة وصمت تارات.. يتوقف ويتفرس به : ماذا بك، يا ولدي ؟ ماذا بك ؟.. قل الحمد لله، أنت حر الآن.. يوسف، قل ما بك يا عزيزي ؟
تدمع عينا يوسف. لا يدري ما به.
****
عاشت عائلة سلطان شاهر غمّاً. تتراكم أيام الحزن والألم على رب أسرة قُتل غدراً وبلا ذنب، وإبن خرج مُحطَّماً جراء أجواء غريبة عليه وتعذيب لا يستحقه. هو الشاب الرهيف، المثقف، الحسّاس.
باعتقاله وتوالي أيام وجوده في السجن مُرِّغت ثقافته بوحل التجني. كُسِرت رهافته. شرعت آجرات صلابته تتهشم، وكان عليه أن يعيش مُعطّلاً.
****
في ردهة التوقيف كان يوسف يجلس على أرض اسمنية متربة. يسند ظهره بجلسة قرفصاء على جدار اسمنتي موحل فقد طلاءًه الأخضر الزيتوني يوم بني المركز بكامل منشآته لأول مرة في العام 1935. يقاسمه الردهة اربعة موقوفين بملامح ريفية كوموا بيشاميغهم عند وسائدهم وتربعوا على بطانيات عتيقة، يشعلون لفافات تبغ يصنعونها بأناملهم ثم يطعمونها شفاههم لتمتصّ دخانها بعمق وشراهة، ومعها تتحرك اصابعهم تفرز حبات مسابح كروية تتساقط حبة فوق حبةٍ محدثة صوتاً ينقر في رأسه المتصدع. يتمنى لو يوقفوا دوامة المطارق. يهم برجائهم متوسلاً لكنَّه يتراجع اذ يحسبها وسائل تبدد قلقهم وتصرف لهم وقتاً يجدونه ثقيلاً.. ثلاثة منهم القي القبض عليهم في محاولة تسللهم إلى الكويت، والرابع أُمسك متلبساً بتهريب سجائر الروثمان والكريفن في منطقة " الحفر " عند الحدود السعودية. مر أكثر من شهر على توقيفهم بانتظار قرارات الحكم. لا يبدو أنهم ضجرون، ولا أبدوا احتجاجاً على تأخرهم. الحياة لديهم سواء، خارج السجن أو داخله.
تأسّوا على يوسف عندما أسمعهم التهمة الموَجَّهة اليه.
يوسف يلتزم الصمت طوال الوقت. يعيش الذهول؛ ويراجع أياماً مرّت كان فيها قد خطط لانجاز مشروع ثقافي يقتضي دراسة معمقة لحركة المجتمع. مشروع يتطلب استعداداتٍ كي ينطلق ببحث ابتغاه مُدَّوناً في كتاب تضمه أرفف المكتبات. ( لقد شدَّ الدكتور علي الوردي، استاذه في قسم الاجتماع، على يده إذ وجد فيه طالباً قادراً، إذا استمر بهمّة وتصميم، على تقديم رؤية اجتماعية لها فعلها وتأثيرها. كان كلما ساهم في نقاش أو طرح رأياً في المحاضرة ابتسم له الدكتور الوردي وردَّد : " زياراتك لابن خلدون ومقدمته مثمرة.. أنا مثلك، وقبلك فتح ابن خلدون باب المقدمة حين نقرت عليها نقرة واحدة. ".. كان الرجل عالم اجتماع فلتة. ألفتُ فيه كتاب " منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته.. يوجه كلامه لطلبة الفصل : أتمنى مطالعتكم له ). يومها صار كلما توفرت له فرصة ارتقى درجات سلم قسم الاجتماع في كلية الآداب، وسلك الدرب إلى غرفة يجد فيها استاذه فيجلس معه؛ والأستاذ يوجهه؛ يسقيه اكسير التشجيع على القراءة وسلوك درب البحث الاجتماعي، منطلقاً من أن علم الاجتماع علمٌ حديث في العالم، وأن الواقع يستدعي الدراسة وتحليل العلائق الاجتماعية وتتبع حياة الناس وتعاملاتهم.. يثني عليه عندما يقدِّم أمامه صفحات جرائد نشرت له فيما يعلن هو تأثره بما حصل عليه من مؤلفات.. يخبره الاستاذ أنه منهمك في كتابة عدة اجزاء تتناول حركة المجتمع العراقي منذ بداية العهد العثماني حتى ثورة العشرين؛ وضع لها عنوان " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ". ولا أخفيك أنني اعدّه كتاب العمر لأنني " بذلت فيه من الجهد والوقت أكثر مما بذلت في أي كتاب آخر سابق له." *.. بخجل تلميذ يحادث استاذه : لقد زودني كريم مكنزي بمؤلفاتك؛ دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، وشخصية الفرد العراقي، ووعاظ السلاطين عندما سألته؛ ووعدني أن سيجلب لي كتابيك اسطورة الادب الرفيع ومهزلة العقل البشري.. يرسم الدكتور الوردي ابتسامة عريضة ترجمت عظم ابتهاجه. عدّه سيكون باحثاً يحمل بعضاً من رؤاه وتحليلاته. فالعلم يتواصل عبر التوارث؛ وكلٌّ يستعين بالآخر ويجري خلفه في رحلة المعرفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- من مقدمة " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث "، ج1، ص5 _ د. علي الوردي
صوتٌ خشن وناهر يسحبه من هذا الحوار الحميمي فيرميه في هوة عينين تحدِّقان فيه بشرر وصوت يصرخ : انهض واستعد. استدر. وجهك الى الحائط ويداك خلف ظهرك. يدخل شرطيٌّ. يُحكم القابضتين المعدنيتين حول معصميه بينما شرطيٌّ آخر يمسك هراوة يطبطب بها على جانب ساقه في عملية تعبير عن ويل إن أبدى حركة تحدّي أو تفوَّه بما يعني التذمّر.
تقدما به إلى الفناء المضيء بشمس تموز الساخنة. الشمس بهذا الوقت من النهار أعادت اليه سريعاً الرفقة الحميمية لما قبل شهرين؛ يوم كانوا خمسة طلاب، كان هو أحدهم، وبينهم طالبتان يقطعون الدرب من باب المعظم ليدخلوا إلى ساحة الميدان متَّخذين شارع الجمهورية وصولاً إلى الباب الشرقي. هناك مرّوا على المكتبات المتجاورة في شارع السعدون بحثاً عن مصادر لبحوث سيقدمونها خاتمة لعامهم الدراسي مأخوذين بنصيحة اساتذتهم من أن البحث كلما كثرت مصادره زادت رصانته وعُدَّ بحثاً ناجحاً ومهمّاً.. يومها كانوا يعيشون حياةً دراسية تراجعت فيها السياسة ومماحكات حزبية.. إنهم طلبة يتحركون على ايقاع زمالة تضمخها البراءة وتمر في فضائها انسام الصحبة الصافية.. وكان كلما ورد ما يشير إلى ابتداء نقاش سيقود إلى السياسة هب واحد أو أكثر ليقطعه، واضعاً الحديث على سكّة رفقة يُراد لها الديمومة، متذكرين ويلات ما حصل لهم ولغيرهم من الطلبة ولشرائح اجتماعية متنوعة. فما زال العام لم يكتمل على انتهاء فترة الحرس القومي، وما زالت الناس على مقربة من الاحداث والمآسي. ولم يزل الجميع يعيش تذوق الهدوء والسلام، متمنين الاستمرار بغية محو كل ما يعكر الأيام القادمة بساعاتها وتفاصيلها.. قفزت تلك اللحظة الى ذاكرته اقتراحه الدخول الى شارع الرشيد وعَرضه الوقوف عند شربت حاج زبالة لارتشاف عصير الزبيب وقضم قطع الكعك المحمص المصنوع من محل كعك السيد المقابل على حسابه كعزومة يبادر بها تعبيراً عن الألفة.. استقبلهم حاج زبالة بابتسامة اعتاد على رسمها لهم كطلبة يمثلون هوية الوطن الراكض نحو شمس العلم ومرافيء المعرفة.. يقدّم لهم الشربت بأقداح كبيرة يندهشون لمشاهدتها، فيسألونه : أنستطيع شربها كاملةً ؟!.. فيجيبهم بشيء من التحدي : " نعم عندما تتذوقونها ستنتهون منها جميعاً.. وقد يطلب أحدكم قدحاً آخر.". شكروه وساروا. عبروا الطريق، مارّين بالشورجة. ثم اذا وصلوا ساحة حافظ القاضي اوقفتهم احدى الطالبتين ودعتهم إلى التقاط صورة جماعية. فالعام يوشك على الانتهاء، ومن الأولى تأرخته بصورة تلتقطها عدسة كاميرة ارشاك. ضحك الجميع ووجدوها فرصة ليبصم التاريخ بصمته على زمالتهم الحيية... وجّه ارشاك عامله الشاب المهندم لالتقاط الصورة فخرج يسبقهم إلى ساحة حافظ القاضي.. هناك أوقفهم بعدما طالع أفضل وأجمل مكانٍ يمكن أن تكون خلفيته مُكمّلة لجمال شخوصهم... التقط الصورة. وكان يوسف في اليوم الثاني يحمل خمس نسخ منها.. كان الجميع بوقفة أحسن العامل الشاب اختيارها.. خلفهم كانت الحديقة البيضوية بنخلتين ترتفعان إلى أعلى وقد تدلَّت عذوقها بثمر كوي ما زال في بداية نموه؛ وبانت عند طرف الحديقة مظلة واسعة يقف تحتها شرطي مرور يمسك عصاً خشبية تنتهي بقطعة مدوَّرة لتنظيم سير المركبات القادمة من الميدان باتجاه الباب الشرقي والمركبات القادمة من جسر الاحرار الذي بان مدخله في الصورة واضحاً وقد قدمت منه عربة ربل بحصانين ومظلة مسدلة وثلاث فتية يركبون دراجات هوائية ويتقاطرون امام حصانيه كأنهم يضايقونه عن قصد.. يتذكر مواصلة السير والخروج من فم شارع الرشيد ومواجهتهم حديقة الأمة ونصب جواد سليم الذي شكَّل معَلماً مميزاً، صار يجذب كل مَن مرَّ به، فيشدّه اليه ويدهشه ثم يترك في ذاكرته جمال فن أثير وتجسيد نضال شعب يعشق الحرية.
وكان على وشك استذكار لحظة دخلوا مكتبة المثنى عندما أنتبه على سحب عنيف من ذراعيه، فعله الشرطيان ليُظهرا حزمهما وبغضهما إزاء عُظم جريمته. يطالعانه بشزر، واضعَين بحسبانهما أن مأمور المركز والقاضي وربما حتى القائمقام يطالعونهما من خلف سلك النوافذ وزجاجها فيسارورهم ارتياح للقيام بواجبهما تصرفاً مع مرتكب جريمة شنعاء.
يقوداه فيدخلاه غرفة مأمور المركز. هناك يوقفاه بمواجهه المفوض رشاش. المفوض رشاش أشعل سيجارة كانت بين اصابعه لم يطعمها النار بعد. سحب نفساً ووضعها على حافة المنفضة ثم نهض من كرسيه. دنا من يوسف وتظاهر أنه يطالعه بعين تقطر عطفاً : " أنت يا يوسف شاب مثقف، وآراؤك تنم عن تطلعات يقولون عنها انسانية أو أممية، أو غيرها من الكلمات الرنانة التي ليست غير جعجعة.. هل توافقني الرأي ؟ ".. لم يجب يوسف. يوسف غير مصدق ما يرى، لم يصدق ما فيه من حال.
مطالعته ليوسف للمرة الثانية كانت بشيء من الحنق.. سحب نَفَساً عميقاً من سيجارته وعاد إلى كرسيه. وضع السيجارة على طرف المنفضةمن جديد، ثم رفع رأسه : " لن تفلحوا بما تنوون وما تخططون. ولدينا معلومات عن كل ما تصرفت به. لدينا توجهاتك. ولدينا محضر توقيفك في بغداد.. لا تظن أنَّ عهد الحرس القومي إذا ولّى ولّت معه ملفات التحقيقات معك أو مع غيرك.. اعترف بقتل أبيك وانهي عذابنا ".
رفع السيجارة من المنفضة. سحب كمية من الدخان، نفثه باتجاه وجه يوسف : " ها، ما تقول ؟ ".. " أقول لم اقتل أبي، وابحثوا عن القاتل. "
بغضب وانفعال مرّغ المفوض السيجارة في حوض المنفضة بعصبية.. قال : خذوه. الكلام الطيب لا ينفع معه.
ساقاه إلى غرفة مظلمة. ادخلاه.. سمعهما يكلمان شخصاً : لا يريد الاعتراف والمفوض أشار إلى ادخاله الى هنا.. خذ دورك.
كان دورُ الشخص الانهيال بالهراوة على رأس يوسف وظهره وساقيه. كان دوره الركل والرفس واللطمات على الوجه، وكلمات : لا اتركك حتى تعترف.. لقد اتعبتنا.
ليس لدى يوسف غير التأوه واطلاق الصرخات من الألم.. ليس لديه غير الرفض واعلان رغبة الموت على الاعتراف بما لم يرتكب.
بانصراف دورة التعذيب تُرك في مكانه ثم أُقتيد عند الفجر إلى ردهة السجن وقد انهكته أدوات القسوة.
(6)
ارتياب بائعة القيمر
كان ارتياب بائعة القيمر الشابة لرؤية شراد هديب بمصاحبة شتيوي كبيراً.. ظلت نظراتها تلاحقهما حتى انعطافهما يساراً :
- هي غرقت في غمرة العمل وابعاد الشك عما يخامرها من ظن سيء بابن قريتها البعيدة. كانت نظرتها حيادية عندما اتخذا طريقاً يمران فيه من أمام مركز شرطة الخناق. ومع حضور ساعة الضحى عادت الى طرف المدينة حيث تعيش مع زوجها وأهله والجواميس جوار الفرات.
- هما واصلا سيرهما كأنهما يقصدان نادي الموظفين أو يحبذان مواصلة السير وصولا الى الشريط الرملي للنهر.حين بلغا مركز الشرطة انفصلا..
شتيوي دخل المركز ملقياً تحية الصباح على الشرطي المنتصب عند الباب يقاوم نعاساً شديداً بالتثاؤب.
شراد واصل سيره ثم انحرف يساراً متخذاً شارع الكورنيش؛ هناك مشى لمسافة ثم عبر الجسر الخشبي ودخل السوق المسقف ليتوارى بعدها عن عين بنت قريته ما يزيد عن عام. ظهر بعدها لأيامٍ ثم اختفى.
صارت بعد ذلك تلمحه بين حين وحين.
(7)
غياب الاناقة
الصوب الصغير صوب الدوائر الحكومية؛ جانب المدينة الاصغر.. يسميه الناس : القشلة. سكنته الاقليات أيضاً لأنَّ قربها من السلطة الحكومية يشعرها بالأمان ويبعدها عن مشاكل وخفايا هي في غنى عنها.. عائلات يهودية ضاربة جذورها في عمق تاريخ المدينة فضّلت السكن في هذا الصوب بينما جعلت عملها في الصوب الكبير كمركز اقتصادي فاعل.. عائلات مسيحية قدمت على هدي عمل تمارسه فطاب لها العمل والسكن مفضلةً البقاء، والتوارث.. عائلات عديدة قدمت بعد افتتاح معمل اسمنت السماوة من مدن مختلفة تتكلم الكردية والتركمانية وأخرى تنطق بلهجات عراقية متفاوتة. الذين جاءوا فنيّون؛ مهاراتهم تدير عجلة الانتاج وتقدم اسمنتاً فاخر التصنيع، مع وجود مواد أولية تجود بها الارض.
الصوب الصغير ميدان عمل محدود وسوق جلُّ بضاعته ما يلبي حاجات عائلات الموظفين الحكوميين، حاجات الاقليات، حاجات القرويين القادمين من الارياف. يتوزعون: باعة خضر وقصابون، عطارون ونجارون.. بائعو سجاير يطوفون؛ معلقين على صدورهم معارض مكشوفة، يبيعون سجائر الجمهوري واللوكس، والمزبَّن الذي يُصنَّع في المدينة على أيدي عمال متخصصين، مقهيان اغلب روادهما من الريفيين يدخِّنون النارجيلات ويصرفون الوقت بانتظار مقدم باصات خشبية تعيدهم إلى قراهم. هؤلاء يطالعون المارة القادمين من الصوب الكبير أو العابرين اليه بعين الفضول. يرمقون ما يلبسون، وبفضول يصيخون السمع لما ينطقون به.. حادثة مقتل سلطان شاهر شرعت تتبدَّد من فضاء النفوس وتصبح حكاية منسية. فقط ما بقي منها ادانة لحكومة فاسدة وقضاء عجز عن اكتشاف جريمة في مدينة صغيرة ليس من الصعب وضع اليد على القاتل، وذكرى حزينة يثيرها يوسف كلما مرَّ ذاهلاً، صامتاً.
يمر يوسف وقد تخلى عن هندامٍ جميل عُرف به. فمظهر الترافة والتأنق استُبدِل بالعبث واللامبالاة.. البدلة التي كان لا يرتديها إلا بعد أن تمر عليها مهارة المكوجي وتتعطّر بأفخر العطور الفرنسية صارت لا تثير اهتمامه؛ يرتديها بلا تذوق ولا تملي. والعطور حين فرغت قواريرها ظلت على قاعدة المرآة هياكل زجاجية فارغة. لم تستبدل ولم تحل محلها قوارير جديدة بماركات حديثة دخلت السوق وعلق باعتها الاعلانات الجاذبة للاذواق التائقة للجمال؛ والكلام الذي كان يقطر عسل الحكمة والرؤية الصائبة في تقدير الاشياء وتفسير المواقف استبدل بالصمت.
يمر يوسف من أمام شميران. وجه شاحب وقوام عفت عنه الاناقة. ذهبت تلك الملابس الزاهية المترفة القادمة من تحت حرارة المكواة وحلت محلها القمصان المهملة المدعوكة والبناطيل المجعدة والاحذية المتربة. غاب الشعر اللميع المصفف المدهون بأرقى المستحضرات الزيتية واستبدله شعر أشعث يمر عليه المشط مرة في اليوم أو قد لا يمر.
شميران تطالعه بعين الحزن وبانكسار القلب. لا تصدّق مشاهدته بذلك الشرود والضياع. لقد سلبَ الجُّناة منه طمأنينته، وكسروا فرشاة تفاؤل كان يرسم بها دنيا أمل ومشاهد مستقبل جميل. لوثوا قماشة الرسم البيضاء العازم على سكب جذوة روحه عليها بغية خلق منظر مدينة تسعى لأن تشرب من ضوء الشمس وسحر القمر. كان يردد انه سيرسم مدينة متخيلة بديلة لمدينته، تغرقها الحدائق اليانعة وتشيع فيها نافورات الماء العذب ألرقراق تفتح صدرها للفقراء والمسحوقين وتنده بلسان الأم الرءوم : تعالوا، هيّا، هلموا، ارتشفوا من شهد خيراتكم التي استعدناها من دنان الطغاة وانتزعناها من مخالب السراق. استمتعوا ايها المحرومون، المضطهدون، المقموعون، المهمشون، المنبوذون، المتهالكون، المعذبون، المخدوعون، المذبوحون من الوريد الى الوريد بسكاكين السادية والاستغلال والتشفّي... أحياء المدينة بعين يوسف استحالت مقابر، والشوارع طرقات تؤدي إلى منصات اعدام وسرقة حياة من هياكل شمعية تتحرك بآلية لها سنوات صلاحية محددة تؤول إلى أبواب قبور مشرعة. جدران القبور تحمل صوراً شاحبة لوجوه تتشظى ملامحها فتبدو متشابهة. نساء بأوشحة سود وعيون تقطر دمعاً ناضباً تبكي ابناء سرقوا من بين اصابعها وعُلقوا مومياءات تضاء وتطفأ كأضوية المرور على مفترقات المقابر. رجل يحمل ملامح حكيم يستنطق التاريخ ويستشرف المستقبل؛ يحمل كتاباً، حين يسأله : " ماذا، وكيف ترانا، أيها الحكيم ؟ ".. يهز رأسه ويطأطئه ثم يرفع وجهاً يشي بعينين تفيضان أسىً.. يفتح الكتاب ويقول : اعلموا، أنكم سيضيق بكم الحال، ويهرب منكم الهواء. تتشرذمون وتتشظون، تتنازعون وتتقاتلون، تهيمون كالضواري العطشى بحثاً عن جرعة ماء فلا تجدون، وتسعون الى ظل شجرة تتفيأون به فلا ترون. أغدقت عليكم السماء نعمةً فانكرتموها وركلتموها. همتم كالوحوش يكره أحدكم أخاه فيضمر له العداوة. والعداوة تتجاوز الى اعتداء، والاعتداء يولد الثأر، والثأر يؤدي إلى الحقد، والحقد يصنع الشناعة.. سيذبح أحدكم أخاه وينحره نحر الشاة. سيحرق أحدكم بيت أخيه فلا تتحرك له شعرة من تأنيب ضمير ولا تعرق له جبهة بسبب الحياء.. وستسمعون التاريخ يتململ ويضجر من عظم جرائمكم وهول شروركم، وسيتنهد في جلسة خاصة يحاكمكم بها محاكمة الانذال، هاتفاً بكم : " يا أمةً ضحكت من جهلِها الاممُ.".
تدمع عينا شميران..
غربة الروح تشيع في نظرات يوسف.. يوسف ذاهل وحزين.. يرفع سبابته كأنه يكتب على جدار الهواء. الهواء يشيع ماراً على الوجوه يذكرها بمقدم الخريف، أجمل فصول السنة في العراق. فالشتاء زمهرير وبرد قارص، والربيع غبار وعواصف تتلوها عواصف، والصيف لفح وريح سموم وقطعة مسروقة من جهنم. الخريف ترجمة للطمأنينة والارتياح : تجوال ليلي في شوارع المدينة بإبحار هوائي عذب، اشغال لأرائك متروكة بمواجهة النهر لا يجلس عليها احد هروباً من الرطوبة ووخمة فضلات المدينة التي تُرمى فيه بشكل مزابل أو مياه صرف صحي لا ترحم، نوم في السطوح على أسرّة لا تُرش على افرشتها الماء لترطيب الجو، عشاء في فناء البيت بلا تململ ولا ضجر من عرق ينزُّ كالغدران على الوجوه، نزول الى البساتين في حوار روحي مع مفردات الطبيعة، تجوال على الجسر الحديدي الجديد والتقاط صور للذكرى بعدسة ناصر الجبلاوي.
يوسف اليوم معطوب..
يعبر سكة القطار المخترقة وسط المدينة. روائح زنخة ورطوبة وخمة تأتي من المستنقع المجاور لورشة تصليح وإدامة مكينة و فراكين القطار.. يرى اكوام البعوض تتكدس على سيقان القصب الطالع من المياه الخضراء الخضلة، وضفادع تنط، تدفع بألسنتها اللزجة لالتهام ما يلتصق بها.. اكواخ الشوصة على يمينه.. اطفال بثياب رثة وممزقة يحفرون بسكاكين صدئة وسط التراب. يقوم احدهم بطريقة طفولية مشاكسة بنثر التراب على رأس طفل يلعب معه. الطفل يبكي ويرفع بصره ثم يهرول فيدخل من باب صفيحي يولول، يستنجد بأمه التي سرعان ما تخرج على تواترات بكائه فتصرخ بالمشاكس الذي فرَّ فتوقف عند باب صفيحي واطيء : " نزول، هذا مثل اخوك ليش اترّب راسه.".
على شماله مبنى ثكنة الخيّالة. عند بابها جلس شرطي على صف متعال من طابوق فرشي بهيئة كرسي، وشرطي من بعيد يكلمه بشيء من السخرية : ها.. اليوم مو اجازتك، شعندك قاعد هنا."
أمامه على مرمى نظر تنتصب مقهى كريم الشَّقي.. كوخ معمول من الطين والحصران بشكل طولي واسع. داخل الكوخ مصاطب خشبية ومناضد ووجاق اعداد الشاي وصندوق مرطبات، ثلاثة مصابيح صفر تتدلى، يحوم حولها جيش من البرغش والفراشات الرمادية بينما يلتصق بأسلاكها ذباب خامل يبقّعها ببرازه الاسود. يأتي لاعبو الدومينو يلعبون القمار بمتعة منقطعة التخيل وإن كانت الخسارة ثقيلة تكسر الظهر. لا أحد ينكر الربح على الآخر وليس ثمة تحايل وخداع، والخسارة يجب ان يتحملها الخاسر ويخضع للأمر الواقع وإلا لن يرحمه كريم الشقي الذي يكره التجاوز والطرق غير الملتوية في اللعب؛ سمعة مقهاه فوق التجاوزات. انه يضمن لهم غض نظر الشرطة عن ممارستهم للعبة هي من عداد الممنوعات. فكم من شرطي لاحظه المارّة يلف ساعده بلفّاف شاش، أو اصابع متورمة وحين يُسأل عن السبب يرد : " شنسوي.. كريم عَزيز علينا وما نكدر نزعله ". إذ ما من شرطي من شرطة السماوة لم يُعاقب بكسر اليد أو فصخ الاصابع إنْ هو زعَّل كريم وأغاضه.
يبعث يوسف بنظره الى داخل المقهى. يتذكر سعدي الحلي الذي جاء في أواخر الخمسينات يلبّي دعوة نقلها له شرطي من مدينة الحلة. قال له : جمهور كبير من شباب السماوة يعشقون طريقتك في الغناء ويهيمون على وقع صوتك وكلمات اغانيك. كريم يدعوك ويضمن نجاح وصلتك الغنائية، فلا احد يقاطعك وويل لمن يفكر في افشال حفلتك.
يجلس سعدي على كرسي من جرّيد النخل في الزاوية البعيدة وأمامه منضدة سطحها من الفايبر البني الصقيل، عليها بطل عرق مسيَّح وصحنا جاجيك ولبلبي وطاسة مملوءة بحبات كوجة خضراء لاذعة الطعم.. الى جواره جلس الملَّه، رفيقه وكاتب اشعاره، يقابله عازف الايقاع. لا عود ولا كمان، لا ناي ولا مزمار. فقط طبلة معمولة من الطين المفخور وغشاء جلد رقيق لحَمَل نزع عنه صوفه بعد ذبحه فدبغ ودهن بالدهن الحر.
صوت سعدي ينطلق مع أبوذية " يصير اتعب وأذب تعباي، بالماي / أنا واحد وإلي عدوان، بلماي / أنا من دون البلامه غرق، بلماي / ينجيني الحبيب الخان بيه "... بلم الخيال يحمل جموع المشاهدين المأسورين بقدوم مطرب سمعوا عنه الكثير ورددوا أغانيه بشجن آسر.. البلم توجّه بالكثير منهم نحو جزر اللوعة والبكاء عند قدم الحبيب ذي القلب القاسي المتجلمد أعقبه ببستة بكائية استهلالها " اللوم غيّر حالتي / اللوم عذَّب مهجتي / آنا وحبيبي طلابتي / يا ناس شلكم لازم ".. بعد القدح الثالث والرابع من العرق المًستحلَب ركعوا عند قدمي الحبيب البعيد المرسوم في الخيال فقط. يقبلون نعله ويتوسّلون شيئاً من رضا تُغدقه كفّه على رؤوسِهم المطأطئة. يناشدون الحلّي الاكثار في ابوذياته وبستاته لتكبُر لوعتُهم ويزداد ذلُّهم للحبيب... هكذا عالم العشاق ودنيا المحبين : ذلٌّ، ولوعةٌ، واحتراق.
يوسف اليوم معطوب..
هربت رغبةُ القراءة من بستان الكتب، وصارت المكتبة مكاناً يلتجىء اليه ليقلِّب صفحات المجلات ويطالع عناوين الصحف بلا اهتمام، ثم ينهض ليخرج يلف الشوارع والطرقات. أمين المكتبة ببدلته الافرنجية المهندمة وسدارته السوداء ينهض من كرسيه، يخرج من صمت يشيعه في فضاء المكتبة ليكون تقليداً حازماً متبعاً يخضع له القراء، ينادي عليه : يوسف.. يوسف.. يدعوه للجلوس في مكتبه. غير أنَّ يوسف يخرج بلا رد واضح، فقط تمتمة لا يدرك الرجل ترجمتها إنْ كانت كلمات شكر أم تعبير عن تذمّر لتطفّل. يطلق حسرةَ ألمٍ ويتابعه بنظرة تعاطف. يحزن على شاب كان يرى فيه قارئاً شغوفاً ويتنبأ بمؤلف سيرفد المكتبة بما يغذي جوع القراء في البحث وكسب المعرفة لاسيما وبواكير مقالات قصيرة تطرح رأياً جريئاً كان نشرها في جريدة " الاخبار " التي يديرها جبران وجوزيف ملكون تتعلَّق بالنكوص الذاتي في الشخصية العربية.
يوسف معطوب.. ينظر إلى الدرب الذي عادةً ما يسلكه الرعاة قادمين بشياههم وعفشهم من القرى والأرياف باتجاه الصحراء في فصل تتهاطل الامطار غزيرة فتشبع الارض من ماء السماء وترتوي وتخضر، ممنّين النفوس بموسم هو من عِداد الأمنية واستجابة لدعاءات رفعوها إلى السماء.. من هنا يبدأ طريق امتلاك الحرية وفيوض الماء والنوّار يقذف بعطور زهوره على وجوه نسمات كانت في فصل القيظ شاحبة ذاوية عطشى لا تحمل غير ريح سموم ولفح حارق.. من هنا، يرفع يوسف سبابته ويومىء في الهواء كأنه يؤشر على مسار في خارطة مفروشة أمامه معلقة على جدار.. من هنا كان السائقون العاملون عند والده يأخذون سيارات اللوري وقد انزوى في احواضها عمال أجراء لهم خبرة ودراية في اكتشاف ثمرة الكمأ تحت طبقة الرمال المتماسكة بفعل حصى البحص الناعم وأكمات الغضا المنتشرة تحكي قصيدة رثى بها مالك بن الريب نفسه يوماً.. من هنا كان الموت يتخفّى خلف تلةٍ أو في غور حَجري وسط مد رملي لجزيرة قاحلة فيغوي رحالة استأنسوا لهواءٍ طلقٍ قادهم في طريق الغواية ثملين ليكتشفوا أنفسهم بعد حين وسط تيه لا نهاية له ولا دالة يمكنها تغذية دواخلهم بطمأنينة تمنحهم يقين الوصول لمرفأ الانقاذ.. مدٌّ رملي حسب أحد سجناء نقرة السلمان أنْ سيقدر على اجتيازه سعياً لامتلاك فاكهة الحرية فانطلق، قبل عامين، في منتصف أحد الليالي المقمرة وسط رجاء اقرانه من السجناء بخطر وفشل المحاولة وجنون الاصرار سعياً لثنيه.. وهناك جاءت الأخبار تنقل عثور دورية شرطة الهجانة المناط بها تتبع المهربين على جثة منتفخة أضنى صاحبها العطش، وكان سار بطريق لا نهاية له منحرفاً عن الطريق الرئيسي الذي يقود إلى مدينة السماوة. هالهم انهم عثروا على اوراق ملئت بأسطر حوت بوحاً فيه عزم على الوصول للهدف. لكنَّ ما أثار اهتمامهم وجعلهم ينقلون الحدث بقص اسطوري هو ايجادهم قميص وبنطلون وفانيلة المتوفى وقد ملئت بكتابات فيها دعوة لإصرار الانسان على ادراك الهدف والنضال الانساني من أجل نيل الحرية. كان السجين الهارب حين امتلأت اوراق يمتلكها راح يدوّن على قميصه ما أراد القول، ولم يكتفِ فدوَّن على فانيلته. وإذ لم يرتوِ دون على بنطلونه؛ وهو العارف أن نهايته قربت، وأن الموت يراه ذئباً شبحياً يترصده بعدما تجاوز الذئاب ووحوش البراري الطبيعية.
يوسف إذاً معطوب.
(8)
ناصر.. ذاكرة صورية
يسحب ناصر الجبلاوي الجارور، يستخرج مجموعة صور يحتفظ بها في علب كارتونية. يتابعها صورة فصورة.
تتابع عيناه صوراً مجففة، يتفرس بها تفرس مَن اشتاق لأناس ذهبوا بعيداً في متاهات الذاكرة فلم يبق منهم غير ذكرى ومصائر : مجيد بات منطوياً على ذاته يعيش منفرداً يؤثر العزلة ويتجنب الناس. نجم ترك خيال ستيف وعاد جسداً ناحلاً ومصفراً يردد مع نفسه " ما كل ما يتمنى المرء يدركه ".. لفتة جواد رُكِنَ الى عمل فني في معمل سمنت السماوة يداري عيشه ورزق اولاده ويرى في السياسة حماقة كبرى وارتماء في بئر التهلكة.. طرزان الخزاعل راح يجتر ذكرياته مع رسمية البعيدة ويكرع الخمرة كترياق للنسيان.. بنت المؤمن توارت عن أعين وجهود الحرس القومي المضنية في القبض عليها، وقيل هربت إلى بغداد. ثم ظهرت فجأةً ترفل في شوارع السماوة بعدما تولى عبد السلام عارف الحكم لكنها كانت أقل توهجاً في السعي من أجل تحقيق حرية المرأة؛ لعلها استنتجت أن من المحال تحقيق ذلك في مجتمع ينزع إلى اصوله البدوية ويحن إلى ماضي الذكورة التليد.
يتابع الصور بحثاً عن واحدة ليوسف التقطها له في الاستوديو وسط بهرجة انارة البروجكترات والهيأة تعرض شاباً ببدلة قماش انكليزي فاخر تحركت أصابع ولمسات الخيّاط فرما الهندي، الذي كثيراً ما توقف يطالعه في محله بشارع الرشيد يقيس ويقص ويخيّط، لتنتج ما يليق بطول قامته وعرض كتفيه. تتوهج عيناه بألق لا يمكن إلا أن يعبر عن اشراق مبُهر لمستقبل سيكون فيه شخصية يُشار لها ورمزاً يُعتز ويُفاخر به.. تكاد عينا ناصر الجبلاوي وهما ترسيان على صورة ثانية كان فيها يوسف يرتدي روباً رديء الصنع تدلى حزامه القطني بلا إحكام؛ يخطر في الشارع خارجاً من بيته بشعر اشعث لم يمر المشط عليه.. أين منك يوسف في الصورة هذه، ويطالع صورة يوسف المُهندَم، لماذا وصلت إلى هذا الدرك من ضياع العقل.. لعن الله مَن تسبب بانحدارك وجعلك رقماً كالأرقام الآدمية الدابّة على ارض هذه المدينة وهذا البلد.. آه يوسف ! ".. يخشى ناصر الجبلاوي الانخراط في بكاء فيجمع الصور ويعيدها الى صندوقها الكارتوني. قال : أعطبوك. انهم يخشون ارتقاء النيِّرين لتسلم السلطة. يخافون استحالة المثقف سلطة نقدية تطيح بهيبتهم؛ توقِف سرقاتهم، وتلاحق جرائمهم في اغتيال الانقياء ووأد ما يستشفونه يبزغ نقياً نظيفاً مُبهراً. لن يكون لهذا الشعب مستقبل؛ والوطن سيبقى مرتبكاً، عليلاً، متعثراً.. آآآآآآآآآآآآآه.
(9)
في العُتمة
خرجت بائعة القيمر الشابة وخيط الفجر لما يزل بعيداً؛ فقط الشفق ينشر حمرته فيلوِّن السماء بلون الدم. سلكت الطريق الريفي التي تسلكه يومياً.. هاجس خفي كان يتنامى داخلها، وسؤال لم تفه به لزوجها.. وقعُ خطاها على التراب لم يكن مكتوماً ككل مرات مرورها. كان يرتفع؛ وصوت حفيف سعف النخيل الذي على جانبيها يتعالى. لامت نفسها لأنها لم تخبر زوجها بوجود شراد هديب ابن قريتها البعيدة في المدينة يسير مع المقاول شتيوي الياور، صديق المفوض رشاش جاسب. قالت في سرّها : لابد أن أخبره.. سأخبره عندما اعود، واستفهم منه على جواب كاحتمال لوجوده في المدينة.. حفيف سعف النخيل يعلو. بدت كأنها سمعت صدى خطوات خلفها فتوقفت. استدارت متحملة ثقل الصينية بما حوَت من إناء القيمر الثقيل وقارورات الحليب. صوَّبت نظرَها إلى عمق الظلمة، وجانبي الطريق. لم يكن إلا الصمت. خشيت من عدوٍّ لزوجِها قد يكون يتربَّص لها فحثت قدميها وسارت مسرعة تبعد الهواجس والخوف وتتحصن بشجاعة السير باتزان خشية تعثرها وسقوط الصينية بما حوت من فوق رأسها؛ لكن الشجاعة واستدعاء الجَّلَد لم ينفعاها، لأنَّ طعنة خنجر كانت سُدِّدَت إلى خاصرتها. وحين استدارت انغرز الخنجر في عنقها. لم تبصر إلا شبحاً وهمهمات الطعن، والحليب بارداً أخذ يبلل فوطتها وينزل على ثوبها، ورائحة القيمر تندفع إلى منخريها. أمّا شفتاها فلم تنبسا إلا باسم زوجها، تطلب حضوره ونجدته، وقتل الجاني الذي غدرها في الظلمة.
(10)
يوسف
بجهد رجل خمسيني رفعت يد السيد سجّاد الكبنك الأول، ثم تلتها بالكبنك الثاني فانفرج الفضاء عن تخوت ومناضد خشبية وصورة مزججة على الجدار لرئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف بزي قائد عسكري يحمل رتبة فريق. وفي العمق وجاق الشاي : طباخ غاز، فوقه قواري خزفية، وإبريق فافون، وبرميل برونزي ابيض لماع بحنفية برونزية بنفس اللون. على السطح المعمول من فرفوي ابيض اصطفت استكانات الشاي ومواعين خزفية صغيرة، تحاذيها حاوية لغسل الاستكانات والمواعين.. كان المكان مقهى، وكان صاحبه السيد سجّاد. رجل طويل القامة، ممتلئٌ لكنه لم يصل حد السمنة المفرطة.
اتَّجه كعادته اليومية الى الروزناما. خلع ورقة صغيرة مستطيلة تشير الى يوم 24حزيران 1965. قلبَها ليقرأ ما مدون في ظهرها من حكمة او توقّع يتمنى لو كان مطمئناً او مبشراً بخير ليعيش نهاره منشرحاً ومرحاً مع الرواد.
عند الوجاغ أشعل عينا الطباخ النفطي المنوط بأحدهما تسخين قواري الشاي والحامض لتكون جاهزة لتزويد الرواد وتلبية طلباتهم، والثاني تسخين الماء في حاوية اسطوانية لها انبوب يسكب ماءاً ساخناً في طاسة فافون كبيرة لغسل الاستكانات والمواعين بعد استعمالها من قبل الرواد. ( أغلب جلاس مقهاه في الصباح عمال بناء يتخذون من الساحة القريبة من المقهى مكاناً للتجمع ثم ينطلقون الى اعمالهم بوجهات مختلفة. بعضهم يعمل داخل المدينة وبعض تنقلهم العربات الى الأرياف. (.. شرع برفع حصران الخوص من التخوت ونفضها بالتتابع ( هو عمل يومي اعتاد عليه ليكون استقبال رواده على أتم وجه.). ولما كان ابتدأ بها من عمق المقهى فقد وجد نفسه بعد اكمال المهمة في المقدمة. تلك اللحظة مرَّ يوسف من أمامه.
الفصل صيف، والناس تتجرد من كل ما يسبب التعرق، لكنَّ يوسف خطر ببيجاما وروب صوفي ثخين، يلف رأسه بمنشف اخضر داكن تنقصف فيه ورود صفراء فاقعة.( اعتاد السيد سجاد مشاهدة يوسف بهذا المظهر صباحاً، وفي اوقات كثيرة في النهار ).. رآه الآن يحمل صحن صيني ويتوجه نحو بائعات القيمر. بائعات القيمر يبتسمن. تمزمز احداهن للأخرى : " إجه يوسف، لا تخلنه يغضب ويزعل علينه.". يعرفن أنه يتوجه اليهن من بيته ليملأن الصحن بالقيمر ومن ثم يواصل طريقه الى الخبّاز ليشتري ارغفة يفضل تناولها ساخنة. وحين لم يقف عندهن ويواصل سيره يبتسمن من جديد. تتندّر احداهن بضحكة خافتة : " راح لحمّودي أبو الكُبّة.". حمّودي يشير عليه ان يتناول فطوره في المطعم حيث الكُبّة ساخنة فاذا وضعها له في الصحن وحملها الى البيت تكون بردت فيضيع طعمها.. يقتنع يوسف مرة، ومرات يصر على اخذها الى البيت مع علمه انه على خطأ ومن المفترض الأخذ بنصيحة حمّودي.. مرور يوسف يذكرهنَّ بصديقتهن بائعة القيمر التي اعتادت الجلوس جوارهن. يرتعبن لتذكر مقتلها قبل عام، ويتضرعن للسماء الانتقام من قاتلها.
عندما يمر يوسف من أمام المقهى عائداً الى بيته يحييّه السيد سجّاد :
- صباح الخير يوسف. تفضل افطر هنا، اسويلك شاي سنكين.
يواصل يوسف المشي صوب البيت شاكراً كرم السيد سجاد.. السيد سجاد يتململ ويهز رأسه، ثم يزفر آهةً يتذكر أن هذا اليوم يصادف مرور عام على مقتل أبيه.. يتمتم : مَن يصدق أنَّ شاباً كيوسف يغدو مثار ابتسامة الكثيرين وتندرهم. رحم الله سلطان شاهر.
(11)
موت المفوَّض رشّاش
لم يدم نعيمُ شتيوي الياور طويلاً. ومثلما انفتح أمامه باب الرزق اليسير وإن كان غير مشروع يأتي من باب ابتزاز الناس ذوي الحاجة فلابد لهذا الباب من الانغلاق يوماً. إذ لم يمر عام واحد على مقتل سلطان شاهر حتى شوهد المفوض رشاش نحيلاً، عليلاً مصفرَّاً يدخل على القائمقام فيمد كفاً للتوديع. يتمنّى له القائمقام حياة اكثر هدوء في مكان عمله القادم، ناصحاً ايّاه بالراحة وعدم الانهماك في العمل. فما يراه على وجهه من شحوب وما يعتري جسده من ضمور يثير القلق. كما شوهد وهو يتلقّى كلمات التوديع من الشرطة الذين قدموا أسف الفراق والغياب وهم يتمنون له حياة يعيش فيها بالصحة التامة.
في اليوم التالي أبصر مَن كان يراجع مركز الشرطة مفوضاً آخر على ياقة بدلته قطعة سوداء مستطيلة بنجمتين بيضاوين، ولم يشاهدوا المفوض رشاش. جاء الرد على كل من سأل عنه انه انتقل الى اهله في الفرات الاوسط.
صرَّح لكل مَن سأله عن أسباب انتقاله بضرورة قربهِ من ابناءٍ يحتاجونه. لكنَّ المقربين منه كانوا يلاحظون تعكّر مزاجه، وانفعاله وغضبه لصغائر الاسباب وأتفهها، ما جعلهم يقرون أن الانتقال يجيء لصالحه سواء كان القرار واقعياً أو لا.
في مدينته كان وجوده وجودَ عليل ومتهالك وخاوٍ. يخطو قليلاً فيتوقف لالتقاط الأنفاس. لقد فقدَ الكثير من وزنه وبدا كغصن يصفر يوماً فأياماً.. يلتقيه مَن يعرفه فيسأله سؤال الحيرة عمّا فيه وما يشعر. الكبد تليَّف وتشمَّع. الدم كأنه تضاءل ونضب.
تطالعه زوجته وتتأسى عليه. تخاطبه بلسان المرارة : " لو كنت بقيت في مدينتنا ولم تتوسط للانتقال إلى السماوة.. أغراك الطمع؛ وأخذت كلام مَن لم ينصحك بالبقاء معنا... قلت استطيع الاستفادة في السماوة. غيري قبلي انتقلوا وعادوا اغنياء. بنوا بيوتاً واشتروا سيارات؛ فلماذا لا أكون مثلهم.. ظننت مَن يرتشي ويضغط على الناس في ارزاقهم ومعاملاتهم ينجح. ".
لا يجيب.. المرض أنهكه. المرض أخذ وقتاً. لكأنَّ السماء اصدرت حكماً بمعاقبته عقاباً بطيئاً. مدينته التي كان يقطع شوارعها ودروبها ما عاد يستطيع بعد مجيئه من السماوة دون التوقف عشرات المرات. لم يعد يصل حتى لمقهى الحي ليشهد حركة مرور الناس وتعاملها وتلقي تحياتها. وإذا صمم ووصل عاد مسرعاً لاحتقان في المثانة ودوار في الرأس.. صار أغلب المارة قريباً من بيته يبصرونه يجلس على كرسي ذي مسندين. كرسي يضيع في جوفه كما لو كان كومة ملابس ورأس لعبة من قش. الكرسي تضعه زوجته عند الباب الرئيسي وتعود تُنهضه من الفراش متكئاً عليها، وقد تحمله على ظهرها وتجلسه ليملأ ناظريه بموار الحياة ويتابع اشخاصاً يعرفهم.. يمر من أمامه بائع سمك دافعاً عربة بعجلتين ورافعاً صوته معلناً عن صيد اليوم.. يمر شاب يتدلى على ظهره كيس يحوي عدة، نادها : تصليح البريمزات، تصليح الطباخات، بويلر الحمامات.. يمر بائع بيض اللقلق وشعر البنات.. يمر بائع الجُرَك والكاهي والبقصم.. تمر نساء فرادى أو مجتمعات يتحدثن عن هموم بيتية تخصّهن أو تتعلق بجارات أو اقارب يعشن الحياة الهادئة أو الظروف التعسة.. تهب ريح فتصله أرائج ورود جوري ورازقي من حديقة بيت مدير الناحية على مبعدة ثلاثة شوارع فرعية وعشرة بيوت؛ رائحة باذنجان يُقلّى أو نكهة رز عنبر يفوح شذاه من قدور عابراً أجواء البيوت القريبة.. جو مثير يؤجج فيه بواعث حسرة وزفير يطلقه طويلاً. يؤكد في دواخله أن الحياة جميلة وويل لمن يغتر فيها أو يختط طريق ايذاء الناس.
غب أيام من ذلك لم تعد لديه قدرة النهوض والتحرك. صار الفراش بيته والغرفة دنياه.. صار الجلوس في باب البيت من عداد أمنية من الاستحالة تحقيقها مثلما صار قضاء الحاجة أمراً شاقاً.
يئس الجميع، وكان هو يبكي لحظة لفظَ الانفاس، تاركاً هيكلا عظمياً، وروحاً تتعذب صَعِدت إلى السماء.
***
يوم وصل خبر وفاته إلى السماوة رفع ناصر الجبلاوي صورته من المعرض الرئيسي. رفعها وعلَّقها في غرفة تحميض وإظهار الصور. فتعيش اكثر الاوقات في عتمة الغرفة، وحين يتعامل مع الافلام وإظهارها ويشعل الضوء الاحمر يبدو بوجهه المؤطر كأنه مخلوق شاحب ومرتعب يغرق في بحيرة دماء قانية.
(12)
خسارة شتيوي الياور
انتقال المفوض رشاش من السماوة شكّلت طعنةَ قدر في خاصرة شتيوي. اعلن الحظ أن زمن السرور انتهى، وأنَّ بئر الرزق الذي كان يمده بماء الانتعاش الاقتصادي ويجعله يتمايل تبختراً قد نضبَ وجف. الناس الذين يتهافتون على مكتبه فتجري الصفقات والطلبات وتنتقل الدنانير من يد ليد تبخروا. استحال مكتبه مكاناً للتطلع لعل أحداً لا يعرف بجفاف ماء البئر فيأتيه راجياً تمشية معاملته، دافعاً له ما يطلب.. لم يعد يفتح مكتبه صباحاً؛ واقتصر على وقت العصر انتظاراً لمجيء الغروب. يغلقه ويترجل عابراً الجسر الخشبي صوب نادي الموظفين.. هناك اعتاد على صرف الساعات يكرع كؤوس العرق راجياً اقتراب أحد ومشاركته المنضدة. لم يعد يهمّه دخول غرف لعب الورق، فالجيب خال. وإن دخل فعيون اللاعبين ترمقه بسخرية دفينة. آذان المتبارين لا تعير سمعاً لاقتراحاته في لعب كذا ورقة أو رمي تلك بدلاً من هذه.
وعندما تناقل الناس خبرَ موت المفوَّض رشاش ارتعب شتيوي.
توجه الى المحطة.. ركب القطار السريع ليلاً وفاءً للرجل الذي كان لصحبته الأثر الأساس في تمشية حياته على سكّة من مال حسبها لا نهاية لها، مقرراً حضور مجلس العزاء وقراءة الفاتحة.
(13)
مصير شتيوي الياور
أيام أواخر شهر شباط العام 1965 كانت باردة وصقيعية. جاءت على خلفية أمطار مجنونة أغرقت شوارع المدينة، والفرات طفق هادراً بمياه ارتفعت مناسيبه قبل أوانها المعهودة في نيسان.. معاناة الناس بلغ أوجها في التنقل والحركة. قلَّ البيع والشراء.. ينهضون صباحاً على أنابيب المياه المغذية للبيوت وقد تفجرت جرّاء تجّمد الماء داخلها. التجمّد شملَ سواقي المياه الوسخة وسط الأزقة، المجانين الذي يؤاخذ عليهم انهم لا يتأثرون بتقلبات المناخ كانوا يركضون فزعين مرتجفين لا يفقهون ما يفعلون، تلاميذ وتلميذات المدارس يبرحون البيت ثم يعودن قبل وصولهم إلى المدرسة باكين مولولين من تجمد اناملهم الرقيقة. النساء المتزوجات والعانسات والعجائز غاطسات في معاطف اشترينها بأسعار بخسة من بائعي اللنكات كي يتقين برداً زمهريراً ترك الندى يثلج على اوراق الشجر فيجعلها كمومياءات جافة لا تهزَّها ريح ولا تحركها نسمة.. برد كان الرجال في عظم يفاعتهم يلفون اليشاميغ حول وجوههم فلا يتركون غير فسحة للعيون كي تبصر درباً يسلكونه لئلا يتعثرون ويتدحرجون ويسقطون على جماد فتلتوي لهم قدم أو تكسر لهم ساق. برد كانت فيه الشمس المشرقة قرصاً معطلاَ ناضب الحرارة رغم الضوء المشع المسربل للحيطان والمنتشر في الشوارع. برد جعل ماء الفرات يبدو كما لو كان سيتوقف.. صرخ رجل مرَّ مسرعاً وهاله منظر النهر وماءه الذي يحبو : اذا استمر هذا الزمهرير لأيام سنصبح مثل الاسكيمو. سيتجمد كل شيء. لن نر نهراً بل أرضاً من جليد. كلامه كأَّب سامعيه، فتركهم يرددون : اللهمَّ ابعد هذا العدو الذي لا قدرة لنا على محاربته.. الاطفال خلت منهم الشوارع والأزقة. انهم يتدثرون بلحف امهاتهم ويطلبون من جداتهم الغاطسات في المعاطف جوار مواقد الفحم حكاية كنَّ يتداولنها على مسامعهم عن الفتى الذي قتل سبعة ارواح في ضربة واحدة. حكاية سمعوها مراراً لكنهم لم يُشبعوا خيالاتهم بأحداثها ومغامرات بطلها ضئيل الجسم الذي قتل الثور ذي القرنين بطولهما اللذين يربوان على السبعة أمتار، والعملاق الذي يدوس على المزارعين كما يدوس على نمل صغير فيسحقهم سحقاً، والعملاقين اللذين لا قدرة لسكان المدينة الأخرى على الخروج خوفاً من تربّصهما فيقتلوهم شرَّ قتلةٍ، والأسد الذي جُوِّع سبعة أيام ثم أُدخل عليه مَن تقدَّم لخطوبة بنت الملك كشرط لمن يجتاز امتحان قتل هذا الجائع المتوحش المفترس فيتزوجها.
أمّا ليليات هذا الشهر الذي شرع الناس بتسميته "القاتل" فزمهرير لا يقاوَم، اسلاك الكهرباء تصفر، اشجار الطريق تصدر خشخشة كأنها تجشؤات عجوز انهكها ربو مزمن يرعب السامعين. نباح الكلاب بالكاد يُسمع. الحراس الليليون يقبعون في زوايا مظلمة يتدفئون بجمر سجائرهم ونفثات دخانها الساخنة الصادرة زفيراً من صدورهم يطلقون اصوات صفاراتهم فتأتي الاصوات مرتعشة تفضح ارتجافهم.. شتيوي الياور يخطو بمحاذاة النهر بمعطف صوفي ثخين وطويل حد كعب القدمين، وطاقية صوف اضطر لشرائها قبل يومين مُجبَراً مع انه تحدّى البرد مصمماً على أن لا يفسد شعره الذي جعله كهيئة شعر كلارك غيبل الذي شاهد يوماً فيلمه ذهب مع الريح في احدى سينمات العاصمة.. مصابيح الشارع الصفراء تترنح. بعضها انتهت مقاومتها لجنون الريح فانطفأت.. شتيوي خرج توّاً من نادي الموظفين بعدما ملأ جوفه بثلاثة ارباع من العرق المسيَّح وصحن واحد من المزّة الرديئة.. خرج كآخر زبون يبرح المناضد وقد انتهى رصيد تأفف عمّال النادي لثقل بقائه.
قطع الطريق وانتهى إلى مدخل الجسر الخشبي. كان عليه عبوره في هذا البرد القارص والريح الهوجاء كي يضع قدماً على الطريق التي تأخذه إلى مكتبه. هناك سيقضي ليلته. لا مزاج لديه للذهاب إلى البيت.. طالع امتداد الجسر فهاله مشاهدته يغرق في العتمة. أين ذهبت المصابيح التي يبصرها كل ليلة في عودته ؟!. التفت يميناً وشمالاً بجسدٍ يهتز واتزان عليل علّه يشاهد أحداً يسأله. وحين شهد المكان خالياً شحذ ما لديه من قدرة؛ تمالك نفسه وخطا... ما أن تجاوز خطوتين أو أكثر حتى تناهى لمسمعه صوت ينطق باسمه. التفت !.. لم ير غير الريح تصهل. لم يكن غير جسر لا نهاية له. نباح كلاب بعيد يتكسر مع تلاطم الريح. الصوب الكبير يغور في عتمة. فقط مصابيح مائية تتأرجح.. هل خيل اليه أنه رأى شبح رجل لحظة الالتفاتة ؟.. توقف محاوِلاً الانتصاب والتفرّس.
عندما لم يلمح شيئاً تحرَّك مواصلاً العبور.
خطوتان أو ثلاث وعاوده الصوت. استدار !.. أبصر، أو هكذا خيّل إليه، شبحاً تموّهه العتمة.
كان الليلة الفائتة سمع لحظة خروجة من النادي واتخاذه الزقاق المستقيم خلف بيوت الاماميين قصد اتقاء البرد صوتاً ينطق باسمه، لكنه لم ير أحداً لأن الزقاق كان مُناراً. عزا ذلك لثقل الخدر وتأثير الخمرة على مخيلته. أما الآن وفي هذه الحلكة والصوت يتكرر ومعه يظهر شبح فإنَّ خطراً حقيقياً يتجسَّد، وريبة مُقلقة تتعاظم.. إنّه اللحظة إزاء أمر لا يُستهان به، وأنَّ عليه حثَّ الخطى.
سارع في مشيّه؛ ومعه تفاقم ترنحه. صار يسمع الصوت الناطق باسمه يدوي وضربات قدمي الشبح تتعاظم، وتقترب.. وفي منتصف الجسر كان يرتعد ويكاد يصرخ طلباً لنجدة أو تخويفاً لمن يتبعه كي يغرب أو يتوارى.
لكن ذلك لم يحدث.. لم يحدث مطلقاً.
وحين استدار هذه المرة كان الشبح بمواجهته.. عينان تطلقان شرراً، وفم ينفث غيظاً وغضباً.
تراجع للمرأى، مُرتعِشاً، فَزِعاً، مرعوباً.
تراجع الى الوراء، وتراجع.... ليس غير العارضة الحديدية الانبوبية كانت خلفه وما وراءها النهر بهديره وأمواجه.. حاول الامساك بها، والاستناد عليها. شدَّ بقبضتيه من خلف ظهره على العارضة. تمنى اللحظة التصاقهما بالحديد. لكنَّ الخذلان كان القاهر، المتسيّد.. جعل الجسد المترنح، المرعوب ينقلب إلى الوراء... صوت سقوط كان سيكون مدوياً لو أن الليل كما هو شأنه في الأيام الاعتيادية : سكونٌ وصمت. بيد أنَّ صوت الريح الهوجاء وطنين أسلاك الكهرباء وصفير ثقوب العوارض الحديدية على امتداد جانبي الجسر طغوا اللحظةَ على صوت السقوط.
سقوط لفمٍ يصدر أنّة مكتومة، وأطراف تحاول التشبث بما ينقذها، وجسد صار كتلة تتأرجح بين ثقلها وخفتها في الماء الهادر.
مرَّ الجسد من بين زوارق حمل الجسر، فحمله المد الهائل المندفع بجنون.
ثلاثة أيام والبحث من قبل أهل شتيوي والسلطات جارٍ.. ثلاثة أيام لا خبر عن وجود شتيوي سواء في المدينة أو العاصمة كما اعتاد أنْ يغيب صارفاً أياماً يُشاهد بعدها يترجل كطاووس.. الاشاعاتُ تتناسل، والاحتمالات تترى : أقتل بسكين غادر ؟ أيكون انتحر ليلغي بموته ديوناً مترتبة عليه إذ ارتفعت أصوات دائنيه عندما تناهى خبر اختفائه فظهروا كُثراً ؟ أترك المدينة موليّاً وجهه شطر أخرى بحثاً عن عملٍ بعدما عاش بطالةً مملّة إثرَ رخاءٍ عميم ؟ !
صيادُ سمكٍ أسكت الافواه وأوقف سيل الاحتمالات عندما علِقت شباكه بشيء ثقيل في " الدحيل " حيث ينحني النهر، جنوب المدينة.. استعانته بصحبه من الصيادين المنتشرين بزوارقهم على مقربة منه فك لغز الفقدان... وأُعلن عن خاتمة شتيوي غرقاً.
****
عندما تأكد موت شتيوي الياور وحضر ناصر الجبلاوي عزاءه، وقرأ سورة الفاتحة وشد على يد أبيه العجوز وأخوته الذين يصغرونه عاد الى الاستوديو.. فتح باب المعرض. سحب صورته. تأملها بنظرات عزاء واستدار يفتح غرفة تحميض الافلام، دق مسماراً بجوار صورة المفوض رشاش، رفع الصورة فعلَّقها؛ ثم خرج تاركاً ايّاها تسبح في عتمةٍ كاملة.
حين شرع ليلاً في غسل ما لديه من أفلام وأضاء المصباح الأحمر خيّل اليه انه يبصر شتيوي والمفوض يغرقان في بحيرة دماء قانية.
(14)
كينونة التكــــــــــوّر
يتكور يوسف في سريره. تضمه غرفته على صغرها. جدران اصفرَّ جصُّها الابيض مع مرور الأعوام. )كان الأب سلطان شاهر اعاد بناء البيت بعدما ورثه من أب كتب في وصيته أن سيكون لسلطان بعد وفاته. البيت كان جدراناً من طين وكِسر حجر ينقله المكاريّة على ظهور حميرهم العالية من تل حجري تعمل فيه عائلة حرفتها تثليم التل وتكويم الحجر بمختلف احجامه ليكون مادة تعتمد الطين في بناء الجدران. يأتي بعدها الميط والبواري لتكون سقوفاً تغطى بطبقة طينية طافية لا ينفذ منها ماء المطر إلى داخل الغرف.. [ البناء الجديد أراده سلطان شاهر بعد توارثه بطابوق آجر اشتراه من معمل بني حديثاً واعتمد على بنّاء ماهر يشيد جدراناً هندسية لا انحراف فيها، اعتماداً على شاهول بمثابة ميزان يستخدمه بعد الانتهاء من بناء صفين أو ثلاثة صفوف. وكان السقف عوارض حديدية من نوع الشيلمان وطابوق بطريقة العقّادة المتقنة.]. يتكوَّر يوسف وشخص ابن خلدون المؤطر وراء زجاج يواجهه. [ صورة تخطيطية عثر عليها صدفة في مجلة روز اليوسف اشتراها من مكتبة مطشر جبر. كانت الصورة تملأ الصفحة وقد كتب تحتها " الغرب يعتمدون في دراساتهم الاكاديمية على مقدمة ابن خلدون في تفسير حركة مجتمعاتهم ". قصّها من المجلة وطلب من ناصر الجبلاوي وضعها في اطار وتزجيجها ]. يتكوَّر، وعينه بين لحظة وأخرى تزوغ لمشاهدة الصورة الشمسية التي تجمعه مع استاذه الوردي. [ الصورة التقطها خارج كلية الآداب بعد انتهاء محاضرات ذلك اليوم. لافتة كلية الآداب بالعربية والانكليزية تظهر خلفهما. وخلفهما أيضاً تتحرك ثلاث طالبات سافرات يحملن الكتب الدراسية والدفاتر وقد تدلت من سواعدهن حقائبهن الشخصية. الطالبات في قسم اللغة الفرنسية. كثيراً ما شاهدهن في النادي يرتشفن القهوة على نمط تفضيل الفرنسيين القهوة على الشاي ويمتلكن روح تحرر أردنها تتوازى وتحرر المرأة الفرنسية بشيء من الالتزام الاجتماعي الشرقي.].. يتكور يوسف فتأتيه شميران. كان تمنى لو اقترن بها. لا يهم إن كان هو مسلماً وهي مسيحية.* لكلٍّ دينُه وطقوسه؛ ولعلها لو وافقت فأسلمت فيختصران درباً معقداً ويجتازان برازخ وعوائق. هو يؤدي الصلاة مسلماً وهي تمارس الطقوس مسيحيةً... يراها كل يوم تخرج، تضرب الارض بكعبيها مواصلة السير نحو المدرسة.. تخرَّجت من الجامعة، وعُيّنَت مدرِّسة في متوسطة السماوة الوحيدة المفتوحة للبنات. يرى الطالبات يسرعن حين يلمحنها. يتعثرن، ويخشين أن تلمح واحدة بغير ما ترغب.. لم تشعر شمران بيوسف يمشي خلفها يومياً. كان يتبعها حالما تبرح البيت دون علمها. يترك مسافة عشرة أمتار بينهما. عادةً لا تلتفت، حتى وهي تدرك باب المدرسة العريض. تدخل وتغيب عن ناظريه.. المرة الاولى التي التفتت منذ شرع بمتابعتها حصلت لحظة جاءها صوت مدرِّسة زميلة لها ظهرت من شارع فرعي نادت عليها لتنتظرها كي يدخلا المدرسة معاً. لمحت زميلتها تستدير وترمق شخصاً ظنته زميلة أخرى اقتربت. فاستدارت بدورها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- يستذكر يوسف تلك الظهيرة التي دخلت سيارة الحمل من طراز فورد حاملة عفشاً بسيطاً. توقفت عند باب بيت سكنه موظف جاء نقلاً من البصرة هو وأسرته ولم يلبث غير اشهر حتى عاد منتقلاً إلى البصرة من جديد. البيت مخصص للإيجار. اعتاد سكان الحي مشاهدة عائلات غريبة تأتي من مدن بعيدة تستأجر البيت ثم تبرحه منتقلة لمدن أخرى أو تعود من حيث أتت. فتح سائق السيارة بابه، ونزل من الباب الثاني رجل أربعيني طويل؛ تلته امرأة تقاربه العمر بيضاء البشرة بخدود حمر وعينين زرقاوين. عندما فك السائق رتاج الباب الخلفي لإنزال العفش ظهرت فتاتان متكومتان مع العفش. هبطتا إلى الارض ورحن يساعدن الاب والأم في حمل دولاب خشبي ساجي، وأجزاء اسرّة مفككّة وصناديق معدنية لحفظ الملابس وعدة مطبخ، قدور وصواني وأواني فافون وصحون خزفية وأصص فيها نبتات مزهرة وزنابيل خوص محكمة الاغلاق مخاطة بخيوط قطنية.
سمع يوسف الذي مر بالقرب منهم مصادفة الرجل يقول : ناوليني هذا يا بنتي شميران. كانت شميران تحمل ملامح الأب، ورغم تعب السفر تحركت برشاقة تساعد اختها التي تصغرها بحمل الدولاب الخشبي.
تلك الليلة تناقلت الافواه خبر استئجار البيت من قبل عائلة مسيحية. عُرف ذلك من صليبين محفورين على بابي الدولاب الصاجي. شاهدهما المارة بدكنة قهوية تميزهما عن لون الخشب البني.
أبصرَتهُ على بعد أمتار..
أبصرته دون أنْ يدور في خُلدِها انها ليست المرة الاولى التي يأتي ويكون على مقربة منها كل صباح.
ابتسمت له؛ ودخلت.
تعكَّر مزاجُها لحظة قطعت الممر المؤدي لغرفة المدرِّسات. انتبهت زميلتُها لذلك. لا تدري ماذا جال في رأسها. فقط حدسته تأسٍّ من جانبها على يوسف كشاب تعرف المدينة بأسرها ماذا جرى له وما حل به. لا تدري أنَّ شميران لو سُئلَت لأباحت بقصةِ طاقةٍ ابداعية وبحثية قُتلت في شخص يوسف. لا تدري أنها رافقته في ميدان حبّه للقراءة وتعلقه بالظواهر الاجتماعية والكتابة عنها.. لا تدري انها كانت تتصل به تلفونياً حال نشر موضوع كانت تحمله بنفسها إلى الصحف في بغداد أعوام دراستها.. ولا تدري أنَّ رؤساء تحرير الصحف أو المجلات كانوا يسألونها بشيء من التشكيك إنْ كان ما تقدمه اليهم من فحوى وعناوين هي لشاب كاتب موجود فعلاً في مدينتها.
فرِح يوسف يوم عادت مرةً من بغداد وبعثت أمَّها لبيتهم حاملة جريدة " الأخبار " وفي صفحتها الثامنة موضوعٌ له بعنوان ( المجتمع العراقي.. دراسة وتحليل ). فرِح لثلثي الصفحة المملوءين بأسطر كتبها وتعليق من رئيس التحرير جوزيف ملكون يقول فيه : " نقدِّم لقرائنا الكرام دراسة موضوعية عن المجتمع العراقي انطلاقاً من لبنته الانسان وممارساته عادات متوارثة قد تحدث له مشاكل وترميه في المهالك وهو معتقد أنه انما يسلك السبيل الصحيح. والمجتمع العراقي خرج بعد الحرب العالمية الاولى ليرى عالماً يتغير بسرعة فائقة أضحى انسانُه كمخلوق دفع للسير على سطح صفيحي ساخن جداً فتراه يرفع قدماً هروباً من الحرارة لتكتوي القدم الأخرى فيضطر إلى انزال قدمه ورفع المكتوية، وهكذا. فبين الماضي الساخن بعاداته الثقيلة المتوارثة والحاضر القادم اللاهب بسرعته وسخونته يجد انسان مجتمعنا يتقافز من اللظى.. دراسة فاعلة تستحق من قارئنا الدخول إلى عالمها والإطلاع على مفاصلها المهمة. "
هذ التقديم من لدن رئيس التحرير ألهب في قلب يوسف الحماس فراح يقرؤها ويعيد قراءتها حالما ينتهي منها. أما موضوعه المنشور فلم ينجو من عشر قراءات تولَّتها عينُه بمتعة تزداد وتعظم؛ تتراغى وتتفاقم مرةً تلو المرّة.
تنهَّدت ودخلت.
حطَّموك يا يوسف.. هشَّموا فيك الحياة. ما زال دمُ الولاة العثمانيين وسلاطينهم الفاسد يجري في دم عروق سلطتنا.. ما زال الفساد يتناسل ويخلّف فساداً، وما زال التجنّي خنجر غدر ينتقل من يد ليد لتمزق غيلةً جسد هذا الوطن.. كيف لبريء يُسجن ويترك القاتل طليقاً ؟!.. كيف لخَلاّق يُعذَّب وتُعطى للجاني ثمرة هناء يستمتع بها ؟!.. إلى مَ تسير قافلة هذا المجتمع المُخدَّر بعقار الاهمال؛ ومَتى يبزغ قمر فتية الحلم الاجتماعي شاهرين سيوف النور لينتشلوا بلدنا من ربقة عهود ظلماء جثمت على صدره قروناً؛ أقضت مضجعه، وسلبت راحته، وبددت طاقته، وجعلته بلداً أعمى، يمشي فيتعثر، ويخطو فيسقط ؟.. إنْ لم تظهر تلكم الفتية على برق تصحيح المسار فلن يُشفى هذا البلد من عماه.. إنْ لم يحصل ذلك ستتهافت أعوام الانحطاط ويشيع الذل؛ سيغمض الشيخ عينيه لحظة الوفاة ويبكي عمراً لم يذق على امتداده طعماً للهناء؛ سيرفع الشاب لافتة سلب حقوقه وشكوى استعباده وضبابية مستقبله مُعلناً هروبَ لحظةِ السرور من باب تطلّعه؛ سيعدو الطفل على أرض يباب وبين شواهد قبور تخيفه وتتوعده بظهور اشباح الرعب لتختطف أحلامه وتوئِد براءته؛ ستبحر سفينة الآمال في بحرٍ هائج وبحارة اغبياء يتقمصون افعال القراصنة العتاة غير مبالين بأعاصير المجهول، وعندها ستغرق السفينة بما حوت، وما توخت؛ وسيكتب على هذه الامة السلام.. ستصدق رؤية ابن خلدون في أنَّ الامة أذا غُلِبت وصارت في ملك غيرها أسرع اليها الفناء.
تنتشلها زميلتُها من التداعي عندما تضع كفَّها بكفِّها وتدخلان على المديرة لتلقيان تحية الصباح والعمل.
أمّا يوسف فيعود ليدخل السوق المكشوف، ماراً جوار سوق القصابين الجانبي.. عربات ربل تنقل المتسوقين والمتسوقات إلى بيوتهم في الحيدرية؛ عربات بأحصنة لحمل أكياس الحنطة والشعير من المجارش إلى ماكينات طحنها وإحالتها دقيقاً؛ صواني محمولة على الرأس يرفع حاملها صوته يبيع الكاهي والحلاوة الطحينية؛ بائع السجائر الفرط يدخل مقهى ثم يخرج عارضا بضاعته على العربنجية المتكئين على جدار يتشمسون وينشّون الذباب المتطاير قريباً من وجوههم؛ نساء متعففات لا يظهرن وجوههن يمررن على أصحاب الدكاكين لتلقّي صدقة تقيهن جوعاً مميتاً. أطفال يتدثرون بمعاطف أكبر من حجوم اجسامهم الضئيلة، معاطف هجم عليها الفقراء عندما كسر بائع الملابس المستعملة الأشرطة المعدنية التي تحزم كتلة البالة وظهر أن المحتوى معاطف بمختلف الاحجام... يصل مجارش الحبوب وعلوة الخضر. وعلى اليسار يرفع رأسه لمشاهدة عبد الله العسّاف يجلس على كرسي حديدي بمسندين يطل من شرفة فندقه منتظراً نزيلاً اضطرته ظروفه للتأخر في المدينة والمبيت بعيداً عن الأهل أو يستقبل بدوياً أو زمرة بدو تركوا جمالهم في المناخة وأمَّنوها عند حارس المناخة بضاعة اشتروها، شاياً وسكَّراً وتبغاً وبُنّاً وقِرَباً ومطارقَ حديدية ومنابت حديد تثبَّت بها الخيمات وعصي من الخيزران لهش المواشي والحمير والجمال.. يتذكر أنه شاهد عبد الله العساف في هذا المكان قبل تسعة أعوام حين شارك في التظاهرة التي انطلقت بعد عرض فيلم بورسعيد المدينة الباسلة. لم يكن جالساً على هذا الكرسي بل واقفاً منتصباً في حالة قلق على المتظاهرين وما سيجري لهم من سلطة كان فيها نوري السعيد ذئباً جامحاً لا يتوانى عن افتراس مَن يناهضه في قيادته لرئاسة الوزراء، والإيعاز لشرطته استخدام الرصاص على التظاهرات المحتجَّة، المنددة بسياساته ومراوغاته ولا ضير في إحداث مجزرة إنْ كان الرصاص يؤدي إلى تفريق المحتجين، وموتهم حتى.
يواصل سيره فيمر من أمام بائع دهن حر وراشي وخل وتمور في حلاّنات خوص. يراه مشغولاً، هذا الرجل الكهل الذي يطيل لحيته بلا تشذيب فتبدو كجزّة صوف بيضاء تتعدى الازرار الثلاثة لثوبه المتهدل أدنى الركبة بقليل، ومنهمكاً في تلبية طلبات نسوة وقفن يبتعن التمر وسائل الراشي المصنوع من زيت السمسم ودقيق الذرة، فالتمر المُداف بالراشي وجبة اضافية بين الوجبات الرئيسية تفضلها النساء وقت يجلسن يتسلَّين بالثرثرة والكلام الشامل لكل ما سمعن وما رأين وما حدث لهن.. صوت ناظم الغزالي يترنم بشعر فصيح يأتي من مسجل كراندك تدور بكرتاه في مقهى السيد مجيد يطوّح بحداء بدوي " هلا.. هلا.. هيّا // اطوي الفلا طيّا.. وقرّبي الحيّا // للنازح الصبِّ ". أغلب جلاس المقهى ريفيون جلسوا يستأنسون بدخان النارجيلات؛ ولأن لهم شوطاً زمنياً مع البادية فإن الحداء يتوافق ورحيلهم الخيالي إلى فيوض الماء شتاءً؛ هناك كانوا يتركون شياههم ترعى وسط عشب يطول ويرتفع حتى لتكاد لا ترى. يصرفون الاشهر في بادية تفرد ذراعيها لهم، فلا يعودون إلى اريافهم مارين بالسماوة إلا وقد نضب الماء وجف الزرع وشرعت بواكير اللفح تضرب وجوههم. يعودون مُحمَّلين بذكرى المد الأخضر والماء الباهر. يعودون على ايقاع دخول ناظم الغزالي بأغنية " ميحانة، ميحانة // غابت شمسنا الحلو ما جانه " وسط ارتفاع الدخان ومرور العامل يحمل دولكة الماء والطاسة الفافون ليروي مَن رفع يده وأشار إليه.
يواصل المشي؛ بائع البقلاوة والزلابيا يعرض للمارة صواني اسطوانية، تعكس اشعة الشمس الساقطة عليها سائلاً شفافاً وقطرات عسلية بينما الطبقة الخارجية لمربعات البقلاوة تبدو كذهب يبرق يغري ذباباً يتطاير بفعل منشة قش يلوح بها البائع لمنعها من الهبوط والإغارة على الغذاء الملكي. لا أحد يقف ليشتري الآن؛ لكن عصراً سيتهافت عليه الصبية لشراء قطعة أو أكثر، وغروباً سينقل الرجال لأسرهم أوقيّة أو ما يزيد لأن الزوجات يلححن عليهم ويبتهج الاطفال وهم يرون العُلب الصغيرة ممتلئةً وقد تسرَّب عسلها الى أغلفتهن الكارتونية فجعلها رطبة مرتخية.
وإذ يمر من أمام بائع كماليات يبطىء الخطو، ثم يتوقف. يذكُر أنَّ هذا المحل الذي يقف داخله الآن رجل أربعيني بعقال ويشماغ وثوب أبيض ويعرض بضاعةً تنده على المارّة يوماً ما كان لشاؤول، اليهودي الذي اعتاد استيراد بضاعته الكمالية من لندن،" لا بضاعة تُقارَن مع ما تصنعها بريطانيا العظمى "، هكذا كان يردد في مسامع كل مَن وقف ليبتاع ويعترض على غلاء ما معروض قياساً ما لدى الباعة الآخرين.. يتذكّر يوسف الايام القليلة التي تسبق عيدي رمضان والأضحى حين كان يصحب أبوه إلى هنا. يدخلان المحل فيستقبلهما ببشاشة لأن أباه لا يعترض على الاسعار، فقط يطلب منه أن يبيعه بما لا يضر الاثنين. وقتها كان يعود حاملاً جاكيتة وبنطلوناً وقميصاً من نوع آرو، وحذاءً جلدياً لامعاً يود لو ارتداهم جميعاً وخرج إلى الشارع على الفور، لكن أمّه تكبحه : " الجديد لا يُلبس إلا صباح يوم العيد حتى تكون فيه البركة. ".. تدمع عيناه إذ يتذكّر أباّه، وتحتدم دواخله غيظاً وغضباً على قاتله. يتألم لصورة أمه الشاحبة الممتقعة التي لم تستمر طويلاً في الحياة فماتت كمداً بعد مقتله بأشهر.
يستدير داخلاً شارع باتا.. تأخذه الذكرى، يأخذه الحنين إلى أيام كان طفلاً يلهو مع اقران يخرجون من أزقة يفتح لها هذا الشارع ذراعيه. كان أحدها زقاق يتندر الناس على تسميته " عكد العرايا " لكثرة ما فيه من اطفال عراة *. أقران يرتدون ثياب الفقر لكنهم مفعمين بروح المرح. يستقبلونه صديقاً يجالسونه الصف في الرابع ثم الخامس والسادس الابتدائي.. يدعونه للدخول إلى بيوتهم المتهالكة البائسة فتستقبله امهاتهم بطيبة ودفء الامهات اللاتي يعجنَّ دقيق الفقر فيجعلنه ارغفة حنان وتلقّي عاديات زمنٍ مرِّ بصبرِ وتحمّلٍ، موقنات أنْ لا قسوة تدوم ولا ظلام يعُم. يرفعن رؤوسهن دوماً إلى السماء واثقات ثابتات، يبحنَ برحمة لابد ستأتي. يعجب لرؤيتهن يبعدن الألم ويطردن الضجر، ساخرات من رتابة يظنها تتكرر إزاءهن، وهنَّ بهذا الوضع من الحرمان. يُكبِر فيهن هذا القبول بالمقسوم والرضا بالواقع.. شارك احدهم بغداء بصل وطمامة مقليتان بالدهن النباتي. غداء بسيط لكنّه كبر في نفسه.. تعود تلك النكهة اللذيذة ولقمات لاكها بعذوبة وسط حميمية الصديق ودعاء الأم لهما بطول الصحبة وديمومتها، مع سلامٍ حار طالبته أن يحمله إلى أمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- يحتفظ ناصر الجبلاوي بصورة للطفولة. لم تكن من التقاط عدسة كاميرته، ولا كانت تخص اطفال بلده ولا مكان يشبه احد اماكن مدينته؛ بل هي لثلاثة اطفال يعيشون البؤس لكن ينعمون بنوم بريء في ملاذ بثلاث جدران ضيقة شكلت لهم مجالاً يمكن بتواجدهم فيه الابتعاد عن أعين مَن يغضب لوجودهم أو يرأف لحالهم وقد التحموا كالقنافذ طلباً للدف وسيقان اثنين منهم تمتد إلى اسياخ الحديد المتوازية الصانعة باباً لفوهة مجاري مربعة عريضة تنعم عليهم بدفء الغازات المتفاعلة في الاسفل.. تعود الصورة للعام 1890. الاطفال الثلاثة بقبعات دائرية صوفية سوداء وجاكيتات بلون القبعة ثخينات ومتربات، يرتدون سراويل أدنى الركبتين بقليل، وقد زحفت الشمس من حافة بناية بطوابق لا تظهر، وسلم حديدي ارصفت عند جداره براميل معدنية كبيرة تؤشر لبناية معمل صغير أو ورشة فنية... كان ناصر قد ابتاعها من دكان فرهود بائع الحب والمكسرات في المربعة ببغداد قريباً من سينما الزوراء. دكان ابصره عصر يوم خميس يزدحم بالجنود النازلين من معسكر الرشيد فثار في نفسه الفضول؛ دفعه للاقتراب والإطلاع على اسباب التزاحم.. باقترابه تكتّل الجنود مجاميع، مجاميع وبيد واحد من كل مجموعة عدد كبير من الصور الفونغرافية؛ والجنود يهتفون مع حركة تقليب الصور. يصرخ اهدهم هذه لي، وآخر يزاحم آخر يقول هذه لي، معاتباً رفيقه انه هتف بها قبله.. دنو ناصر من احد المجاميع أطلعه على صور فوتوغرافية بالأسود والأبيض لممثلات أجنبيات وعربيات وراقصات شبه عاريات بوقفات شبقية. لقطات تظهر فيهن الاثداء شبه كاملة، وسيقان ممتلئة وملابس داخلية تثير في عين الناظر الزوغان لخلعها للتوصل إلى مكامن الكنوز الخبيئة.. كانت الضحكة تتعالى في داخله وهو يبصر الجنود في حالة من الحرمان تثير الرثاء وتكشف بطلان احكام اجتماعية تحرم على الانسان العربي اختيار صديقة يبادلها المشاعر ويبوح لها بما في الاعماق، ثم يعدها بالاقتران وينتظران ساعة اعلان لحظة الفرح وبناء السعادة. كان يفتح عينيه اندهاشاً لرؤية الحماسة تنطلق من فم جندي محروم يهتف هذه الصورة لي كأنه يطلق صرخة انتصار في معركة دّرب على دخولها أسابيع وأشهر... ومن بين الصور المتعاقبة التي يرفعها احد الجنود هتف ناصر بلا وعي : هذه لي !.. انتبه الجنود المتحمسون للصوت الغريب وتصالبت عيونهم على ناصر الذي بدا هو المنتصر عندما مدَّ يده لاستلام صورة. ضحك الجميع في سرّهم لطلبها، وربما حسبوه بليدا يطلب طلب البلهان. كانت الصورة للصغار الثلاثة، وكانت الضحكة التي انطلقت من افواه الجنود مجلجلة وهو يأخذها للبائع ليدفع ثمنها.
يخرج من عكد العرايا فيدخل عكد الطَّفّار وبيوت آلعبيد خارجاً إلى حمام الفرات والمسجدين المتقابلين اللذين لا يفصل بين بابيهما غير مترين فقط؛ يواصل الخطى نحو الكورنيش. هناك يتوقف يطالع لافتة المحامي قاسم زين العابدين، ويتخيله كعادته يصرخ متذمراً من العربنجية ناقلي جثث الاغنام والأبقار أو الجمال المذبوحة محمولة من المَسلَخ عند اطراف المدينة وقد استفزّت انفه رائحة الدماء واللحم اللدن. يمر من أمام مبنى الحكومة ثم يضع أولى الخطوات على الجسر الخشبي، عابراً إلى القشلة. يغض النظر عن المكوجي الذي كان منشغلاً في غسل معطف عسكري مغموس في طشت كبير وقد ارتفعت رغوة المسحوق وطارت فقاعة هنا وأخرى هناك. يمرّ على الكنيس اليهودي المغلق منذ أن هاجر معظم اليهود مُجبرين على ترك مكامِن اعشاشِهم بعدما أسقطت الحكومةُ المَلكيةُ الجنسيةَ عنهم ودفعت اغلبهم مُكرَهين على ترك بيوتهم ومدنهم ووطنهم وسط تآمر دولي عالمي.
تذكّر ابن خلدون ونظرته الرمادية عن مجتمعه العربي، وتذكَّر اشارته إلى العصبية التي لا تؤدي سوى إلى التنافر والفراق.
غضبَ واحتدم...
ولأولِّ مرة شعر أنَّ ثمة رماد تنفثه عيناه فيغدو كل شيء وصلته ذراته رمادي اللون. لم يستغرب، ولم يتسلل أو يتنامى لديه العجب. هياج النفس استقر على هكذا رؤية.. رؤية طُبِخت في ذاته على نار هادئة، مادّتُها القراءةُ وبهاراتُها الوقائع.. رؤيةٌ تكرَّست فأيقنها حقيقةً. فصار كل ما يرى يمُت إلى الرماد.
يواصل سيره. يلقي التحية على ابراهيم لازار ويمر من أمام الجامع الجديد. يتمتم بلسان تخبطه الفكري " ما أكثر الجوامع، ما أقل المؤمنين ".. سريعاً يستحيل الجامع إزاء ناظريه هيكلاً رمادياً.. ينحرف يساراً. ويلوي مسرعاً صوب البيت متجنباً السيد سجّاد من مقهاه في الجانب الآخر من الشارع وصوته الجهوري في دعوته لشرب استكان شاي.
يتكوَّر يوسف في سريره وقد تغير لون الجدران حالما فتح عينيه إلى لون الرماد.. لون الرماد شرع ببطء يزحف من بلاطات الارض صاعداً الى الملابس المعلقة والدولاب والمروحة السقفية والباب والكرسي والمنضدة باستثناء صورة ابن خلدون الذي بدت ملامحه جادّة كأنها تؤيده في رؤياه، وصورته مع استاذه الوردي الذي بدا باسماً، بل وبابتسامة عريضة جمعت كل تصوراته وتخيلاته عن المجتمع العراقي يوم كان يُسمعه تفاصيلها في جلساته المتكررة معه؛ جلسات التلميذ الشغوف من مستمع مُريد يتقبل افكاره ويستوعبها.
تكوّرَ يوسف أكثر فأكثر؛ وأكثر فأكثر.. لكأنه بفعله هذا يتقمص روح ساحر يدعو رماد الأرض ليتراكم في عينيه.
(15)
شراد هديب.. النهاية
من بين رواده المعهودين والمعروفين لفت انتباه السيد سجّاد رجلاً اربعينياً ناحلاً وواهناً. شهد حضوره وجلوسه في المقهى قبل ما يربو من الأسبوعين.. يأتي وقت الضحى فيجلس حتى ينطلق اذان الظهر من الجامع المجاور للمقهى فينهض. يبصره ينحرف شمالاً، متَّخِذاً السوق المؤدي الى الجسر حيث يعبر.. يخترق السوق المسقف ثم يرتقي درجات سلَّم فندق الصحراء. وإذ تحين ساعة العصر يلمحه قادماً، يخطو متثاقلاً فيدرك أنه قادم من الصوب الكبير.
في كلِّ مرَّةٍ، صباحاً حين يأتي أو عصراً، يجلس الرجل على تخت يطالع المارّة من مكانه، من يجيء قادماً من جهة الجسر الحديدي أو من تُظهره الازقة المتعددة وتدفع به إلى الشارع.. يطلب شاياً يرتشفه على مهل بينما يستل سجائر يشعلها ويمتص دخانها بنهم وينفثه بحسرة.. نظراته اغلب المرّات تتَّجه يمينا صوب الحديقة المستديرة حيث الطريق ينحرف يساراً نحو مركز الخناق كأنه يطالع شخصاً سيأتي ضرب له موعداً للقاء في المقهى.
تكرر الحال يومياً... ويوم بعد يوم كانت خطوات الرجل تتثاقل.. بدا انه ينوء بهم ثقيل أو يصارع ألماً دفينا جهد في اخفاء ظهوره على ملامحه.
حدث مرة أنْ نهض متثاقلاً. بدا عليلاً جداً. ابصره السيد سجّاد ينقل قدميه بعسر، ويدنو من حائط البيوت كي تعينه على الوقوف أو الاتكاء.. ابصره يقف عند باب سلطان شاهر يهمُّ بطرق الباب. غير أنه يتردد؛ ويروح يواصل مشيه الوئيد.
وفي يوم تناقلت الافواه خبر وفاة رجل غريب في فندق الصحراء.
الوفاةُ فجَّرت في المدينة خبراً تفشّى كنارٍ في بيدرٍ يابس.
أسرَّ هذا الرجل قبل لحظات من وفاته بسرٍّ لا يمكن لعبد الله العساف دفنه في طوايا الروح.. إذ وقف إزاء مفوض الشرطة الذي جاء ليأخذ افادته، ويقرر نقله الى المستشفى ليكشف عن سبب الوفاة.
دوَّن الشرطي المرافق للمفوض الكلام في الوقت الذي كانت كاميرة ناصر الجبلاوي الذي دعي هذه المرّة من قبل مدير مركز الخناق تصور وجه المتوفي الشاحب ويده اليمنى بأصابع صفراء ناحلة تتدلّى من حافة السرير.. خيِّل لناصر الجبلاوي أنَّ كاميرته التقطت يوماً مثل هذه اللقطة، لكنَّ المختلف فيها هو أصابع يد اللقطة السابقة يتخثر في نهاياتها دم ينبىء عن جريمة فضيعة.
- سمعت ايها المفوض صرخات وأنّات متقطعة من الغرفة رقم 3 الذي يشغلها سرير سنيد بائع الخضروات، وسرير رجل اعتبرته زبونا دائماً عندما استمر لأكثر من ثلاثة اسابيع يشغل السرير. كان واهناً وصامتا يخرج صباحاً فلا يعود الا بعد الظهر فيرقد. قبل العصر يستيقظ. يغسل وجهه ويرتدي جاكيتته ويعتمر اليشماغ والعقال ثم يتسربل بعباءته ويهبط درجات السلم نازلاً. يخرج فلا يعود الا غب صلاة المغرب.. يبقى في الغرفة فلا يخرج إلا لقضاء حاجة.. استأنس سنيد لهدوئه وصمته. فلا يقض هذا الصامت مضجعه كما يحصل مع نزلاء كثيرين ثرثارين تتعالى اصواتهم حين يتحاورون وكأنهم يعيشون في بيوتهم دون اعتبار لنزلاء اغلبهم بحاجة لأوقات هدوء وساعات نوم بلا ضجيج. كان سنيد يدنو مني ويسألني بهمس : هل نزيلك هذا مريض ؟ فأجيب لا أدري.. ملامحه تعبّر عن ذلك... استمر الحال هكذا. وانا أطري هدوءه ووداعته.. يسلِّم الاجرة بوقتها؛ ولا أمانة يودعها في قاصة الفندق.
- خفيفاً كان في خروجه، وعودته، ومنامه... يقول للمفوض.
لكنَّ المفوض يريد ما هو مفيد ويحسبه امراً مهمّاً يستدعي الاهتمام والتدوين، وكان عبد الله العساف على وشك ان يتلقى سؤاله عن أين المهم في الموضوع عندما قال :
- ما أن خرجت من المرحاض وافرغت المثانة متوجهاً الى غرفتي لأنام حتى الصباح كالعادة حتى استرعت انتباهي حشرجات كأنها صرخات مكتومة تأتي من غرفته. لم يكن سنيد تلك الليلة يشاركه المنام فقد ذهب قبل ليلة لزيارة اسرته في قرية الزريجية. ظننت الرجل داخل كابوس لا ينفك منه فقررت أن أخرجه من قيوده؛ فما أكثر من سقطوا في براثن كوابيس فأسمع صراخهم وانهض من سريري لأوقظهم، متلقياً الرحمات لوالديَّ تنطلق من فم المتحرر.. لأفتح باب الغرفة، قلت، وأخرجه من الكابوس.. لم يكن راقداً بل يقظاً لكنه في وضعٍ مزرٍ. اتسعت عيناه ارتياحاً لمشاهدتي. رفع يداً كأنه يستنجد.
" خيراً !.. ما بك؛ حسبتك في كابوس ؟ ".. استمر رافعاً يده وقد جفت شفتاه وظهر لسانه داخل غور فمه مثل خشبةٍ تعيق تنفسه. صدره يعلوا ويهبط بشدة. انفاسه ترتفع.. مددت يدي اسحب قارورة الماء من المنضدة جواره فاملأ القدح بالماء كي أرطّب فمه وبلعومه. رفض. كان يهم بكلام فيعجز. قلت : يا رجل دعني اسقيك الماء. لا تقدر على الكلام اذا بقي لسانك يابساً. رضخ للأمر فاستطعت سكب الماء بينما استمرت انفاسه بشدتها وصدره يعلوا ويهبط. قال : اسمع.. انا شرّاد هديب.. أنا مصاب بسرطان الدم، وهذا المرض اللعين عقاب لي عاقبني به الله لعنة على ما ارتكبت.. جئت الى هنا لاعترف انني قتلت سلطان شاهر المسكين.. بهذه اليد التي كانت تقبض على المكوار قتلته.( رفع يده، وتركها بسبب الانهاك تستقر بين كفيَّ ). هذه اليد انهالت بالمكوار على رأسه ففجرته.. كان شجاعاً. قاومني رغم الضربة الاولى المؤثرة التي فجرت الدم من رأسه. ولولا أنه كان في وضعية النائم المستلقي.. ولولا شتيوي الياور، الذي كان واقفاً في الباب حسب الخطة الموضوعة للقتل لمساعدتي عند الضرورة لقتلني.. لقد اعانني شتيوي فانهال عليه بقضيب حديدي كان يخفيه تحت ثيابه حتى تأكدنا من لفظ آخر انفاسه... خرجنا مسرعين لنخبر المفوض رشاش جاسب الذي كان ينتظر تنفيذ المهمة ليخبره شتيوي بنجاحها حتى يتخذ الاجراءات التي تبعد الشبهات عنّا إن حامت، ولو عن بعد..." صمت قليلاً قبل أن يفوه : " وقتلت بعد ذلك بائعة القيمر بنفسي لانها شاهدتنا وارتابت في مصاحبتي للياور؛ فهي تعرف قتلي لخالي وآخرين ".
- ماذا تقول ؟... هتفتُ في وجهه.. يعني انتم الثلاثة خططتم ونفذتم ؟.. هز رأسه بوهن كأنه يجيب بنعم... وأنتَ مَن قتلت المسكينة بائعة القيمر بيدك.. كيف ؟
- تبعتها عندما خرجت من بيتها. وهي تخرج كالعادة قبل الفجر، كي تقطع مسافة طويلة قبل أن تجلس في مكانها كل يوم لتبيع القيمر مقابل مقهى السيد سجّاد. ظهرت لها من وراء نخلة. وقبل أن تلتفت لوقع قدمي طعنتها في رقبتها من الخلف فانهارت وسقطت صينية القيمر وانسكب الحليب على جسمها، وعرفت بعد ذلك بموتها.
- ولكن، لماذا اتُّهِم يوسف بقتل والده ؟
من بين سكرات الموت أجاب:
- حسبوه يحمل فكر هدّام لا اعرفه؛ فكر شيوعي أو الحادي أو من الافكار الخطرة عليهم. فسُجِن وعُذِّب عندما كان طالبا في الجامعة. رأى المفوض رشاش بناء على معلومات مدونة في مركز الشرطة تلبيسه بالجريمة ليعدم كقاتل وفقاً لقانون الجزاء في الجرائم الكبرى. وبهذا الشيء يتحقق التخلص منه كحامل فكر هدام وابعاد شبهة القتل عنّا نحن الجانين الحقيقيين.
- ولكن ما الذي يجنيه شتيوي من المشاركة في الجريمة ؟
- الفلوس؟ لعن الله الفلوس ؟.. مثلما غرَّني المال اغترَّ هو الآخر.
- وأين غدا المال الذي سرقتموه ؟
تحامل على نفسه وفاه بصوتٍ واهٍ ومتقطِّع :
- لم يكن هناك مال.. عرفنا في ما بعد أنَّ اموالَه كان يؤمّنها عند صديق له في الصوب الكبير. جاء الى أهله بعد الجريمة سراً وقال : " إنَّ كل ما كان يجنيه ابوكم يأتي به إليَّ فاحفظه في قاصتي أمانةً مصونةً ".. وسلَّمها لهم فلساً فلسا.
قلت :
- وهل شارككم شخص آخر في قتل الضحية ؟..
لم أحصل على رد لأنَّ يده التي رفعها وما زلتُ امسكها بيدي بردت؛ غارت عيناه فتحركت الاجفان. انسدلت ثم بلحظات انطبقت.
****
بموت شراد هديب واعترافه بجريمته رفع ناصر الجبلاوي صورته من معرض الصور الخارجي.. دخل مختبر التحميض وإظهار الصور. دق مسماراً جوار صورتي المفوض رشاش جاسب وشتيوي الياور ثم علق الصورة.. صار الثلاثة حين يوصد الباب يختفون في عتمة حالكة، وإذ يتعامل مع الافلام واظهارها ويشعل الضوء الاحمر يبان الثلاثة كأنهم يغرقون في بحيرة دماء قانية وقد بدت وجوهُهم شاحبة وعيونُهم تطفح بالأسى.
(16)
لوامس التاريخ
اذ نراجع زمناً من أحداث مرَّت نخلص الى رأيٍ جازمٍ يُقِر أنَّ وطناً كالعراق ومدينةً كالسماوة لا وسيلة ناجعة لانتشالهما من جُب التناقضات، وليس بالمستطاع تغيير نمط حياة أناس جبلوا على التذبذب في الرأي والقرار. ننطلق في ذلك من حدث لا يغيب عن البال، وكلما حاولنا نسيانه وعدم جعله مُحصِّلة لا يمكن نقضها عنَّ علينا وعاد يدقّ أجراسَه للتذكير.
نذكر كيفَ أنَّ عبد الكريم قاسم كان مُحبّاً للعمال ومتعاطفاً مع الفلاحين ساعياً جاهداً لتضئيل نسبة الفقر في البلاد، وقد تعلقت به الشرائح المُعدَمة وهتفت له مثلما ناصرته الطبقة المثقفة وعاضدته.. نذكر تظاهرة عمال سكك حديد السماوة وشركة الاسمنت وعمال البناء واصواتهم الهادرة وهم يطوفون الشوارع في مناسبة عيد العمال العالمي في العام 1962 مرددة بحماس وعاطفة [ عمال وفلح فدوة لابن قاسم ]. شعار حميمي سرعان ما انتشر كاللهب لجموع الفلاحين المشاركين فأثارهم، فحمّسَهم، فدفعهم الى الجري بطاقة خرافية إذ وجدوا فيه صدقاً في القول وتعاطفاً من القلب.
نذكر أيضاً أنَّ تلك الجموع من العمال والفلاحين انفسهم وبعد سنة واحدة.. سنة فقط لا غير؛ وفي نفس المناسبة من العام 1963، وحيث قُتِل عبد الكريم قاسم بطريقة مأساوية * كانت تجوب الشوارع هادرة، مهللة، ومُتحمِّسة تردد ) مخبَّل والله مخبَّل // عايف دينه ورايح لستالين(، مُدينين ابن قاسم بما ليس فيه. وتلك خصلة سبقَ وشكاها عبد العزيز القصاب لابن خلدون، واوضحها علي الوردي ليوسف مُظهراً طوباوية افكار بين مُثل وخطابات، وواقع متناقض، وعصبيات لا تنتهي... من هنا كنّا لا نكترث بما يجري؛ لكن للايام حكمُها في عدم دوام الحال، والظروفُ تصنع مصائرَ الانسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- معظم الحكام في دول العالم يتوفون ورؤوسهم على الوسائد محاطين بالاهل والمقربين إلا في العراق، فإن رحيلهم يكون قتلاً بغلٍّ وضغينة. فقد رحل الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية الحديثة مسموماً؛ ورحل الملك غازي قتيلاً بحادث سيارة مدبَّر؛ ومات الملك فيصل الثاني مقتولاً مع كامل اسرته، ومات الرئيس عبد السلام عارف في حادث تحطم طائرة غامض لا تبتعد اصابع الاتهام عن تدبير خطط له.
وهكذا.. صنعَت الظروف مصائرنا.. كاظم البدين انتقل وظيفياً إلى الناصرية.. عدنان رحل الى السعودية، وعرفنا من رسائل صار يبعثها ثم آلت الى الانقطاع أنه عمل معلماً لمدرسة متنقلة في صحراء نجد مصاحباً لشيخ قبيلة واتباعه من الاقرباء والمتعلقين به، يُعلِّم ابناءهم وبناتهم.. عبد الباقي صرف شهراً في لبنان كإجازة ولم يعد؛ يبدو انه استطاب العيش ففقدنا كل خبر عنه محتفظين بصور بعثها يتجول في مغارة جعيته وواحدة صاعداً في كابينة تلفريك ترتقي به إلى قرية جونيّه في قمة جبل يطل على بيروت.. أبو زهرة اتخذ من بغداد سكناً دائماً لقربه من شارع المتنبي وسهولة حضوره الندوات والملتقيات الادبية وصرنا نقرأ له مقالات أدبية في الصحافة وآراء يطرحها ضمن باقة ادباء تتوجه الاسئلة المحددة لهم معاً ليدلوا بدلوهم كلٌّ حسب نظرته وإيمانه.. حبيب لازم دكانه وصار اسماً من الاسماء الذين لهم وجود تجاري في السوق وولدت له شاهناز ثلاثة أولاد قرر جعلهم الاذرع التي تمارس التجارة فتغرق سوق السماوة ببضائع تلبي حاجات الناس يأتي بها من مناشىء موثوقة. حبيب ظل مشدوداً إلى عمله في الدكان. لايستطيع اغلاقه يوماً واحداً. وحتى وهو يغلقه في المناسبات الاجتماعية والدينية وتشل حركة السوق ليوم واحد يشعر بالضياع؛ ولولا لوم الناس وذمّه لفتح دكانه ومارس بيع بضاعته. لقد ظل أسير دكانه؛ فلم يعد يحب السفر إلى العاصمة ولا شعر يوماً برغبة مشاهدة فيلم أو تجوال في شارع الرشيد أو جلوس في واحدة من كازينوات ابي نؤاس.
أما أنا فبقيت في وظيفتي. لا شك أنَّ الحياة هنا رتيبة وعلى الانسان الأخذ بنصيحة مَن يدعو إلى عدم المكوث في مكان واحد، بل التنقل حيث شاء من الهناء، مقروناً بالاطمئنان. ففي الاسفار فوائدٌ تترى، وتجارب لا حدود لها، وخروجٌ بحِكَم.
وأذا عدتُ إلى شخوصٍ صورّهم ناصر الجبلاوي بكاميرته وأرَّخهم كشهودٍ على حياةِ مدينةٍ فلابدَّ من التعريف بمساراتٍ خطَّها لهم القدر وحملتهم عربةُ الأعوام :
مجيد :
عاش مع عالم الخيال رافضاً العودة إلى الواقع. باءت كل محاولات الأهل والاصدقاء والمعارف في انتشاله من عالم كان بنظر الناس جنونياً؛ يغيب فيه العقل ويتعطل الوعي. يجلس على تخت مقهى فلا يدخل في حديث ولا يشارك في مشاهدة ما يعرضه التلفاز أو يذيعه الراديو.. له عالمُه المُحدد بالاعوام فمات ميتة صامتة إذ وجِد خلف سور مدرسة سومر فاغراً فمه كأن فراشات السعادة التي كانت ترفرف في حديقة رأسه قد طارت من فمه لفضاء العالم الطليق تاركة صور ذلك الفتى الحالم يمسك مسدسات عظمية ويطلق الرصاص البريء على اشباح وهميين كانوا يفكرون في اغتيال رؤآه الطيفية الغارقة في لون ثلجي يُمطر نقاءً لا انتهاء له.. لم يندم على فعل أدّاه ولا تأسّى على أمنية لم تتحقق. كانت السيجارة صديقتَه وأنيسةً له؛ يلتجىء اليها بنهم حين يكايده شخصٌ فظ أو يسخر منه حقيرٌ صفيق.. مات مجيد تاركاً ادباء المدينة يكتبون عنه على أنه لامنتمي نظر للوجود على أنه عبث في عبث، والحياة لا تستحق الانجرار إلى شهواتها واغراءاتها وغواياتها.
طرزان الخزاعل :
اعتاد الهرب لوجه رسمية وكلماتها وغيابها الأبدي، وصار يشرد لصوتها المنغم وملتقاها العذب، مردداً سيمفونية اللوعة : " شو خالة ملتمّات كلجن على هواي ". يرددها ويبكي؛ مستعيناً بناي يعزف به روحه المحترق طوال ساعات الليل العتيم بعدما يتخذ من ضفة الفرات على نديف الرمل البارد الطري مجلساً يحاور فيه روحها البعيد، البعيد فيسمعه المارة القريبون وجلاس المقاهي المطلة على النهر في الجانب الثاني من المدينة.
صار كل ما بقي في الذاكرة الجمعية اسمه ومرارة حب اغتيل في ريعان نشأته... صفة طرزان المقترنة به لم تفارق ذاكرة الناس رغم مرور الاعوام.
صار ما أن يخطر من أمام الأعين حتى ترتفع السبابات تشير اليه والشفاه تتمتم : ذاك طرزان الخزاعل.
غاب اسم حسّان خلفَ غلالة اسم طرزان الشهير.
بنت المؤمن :
أخذتها الكهولة ثم الشيخوخة. جلست عند بحيرة التواري عن الانظار بعدما رحلت إلى بغداد مُحطمة الأحلام والآمال تقضي العمر في بيت ولدها، محتفظة بذكريات لو أنها أفضت بها لتوالدت عديد الكتب وانقشعت غيوم الاسرار.. تمر بنت المؤمن في شوارع الحي كأيةِ امرأة تتسربل بعباءة سوداء لا يدري ساكنوه حكاية هذه الحاملة قلباً تحمَّل جبال الهم وصمد إزاء قسوة الانظمة ووحشيتها وسط توارٍ وتخفٍّ عن أعين البغظ والكراهية.. ماتت بنت المؤمن بعدما أخذتها الاعوام بعيداً عن تلك الشابة المُفعمة بالأمل، المحتشدة بروح النضال من أجل تحرير المرأة والأخذ بها منتجة تبني وطناً استمر عبر الحقب وتوالي الأجيال متهالكاً متعثراً مؤبوءاً بالأدران والعلل.
لفته جواد :
قيل أنه توفي في حادث اصطدام سيارتين على طريق ناصرية – بصرة يوم كان عائداً من البصرة المدينة الدافئة بعدما قابل رئيس الجامعة من أجل قبول ولده في كلية الحقوق بدلاً من كلية الزراعة شارحاً له أحداث أعوام الخمسينات والنصف الاول من الستينات وصراعه من أجل حياة افضل بروح وطنية لا تشوبها شائبة، وهو برجائه يريد لولده أن يصبح محامياً يدافع عن حقوق المظلومين مسروقي الأمنيات والأحلام.
نجم :
مات على فراش المرض، عليلاً منهكاً بمرض حار الاطباء به. مات بعدما تخلص من ذاكرته وذكرياته المطبوعة على الورق الصقيل عندما جمع ما في خزانة حاجياته الخاصة ورماها في فوهة التنّور المتوهج وسط تساؤل زوجته المنهمكة في اعداد الارغفة الساخنة لوجبة العشاء عما يفعل وماذا ولماذا رمى ما بيده.. فقط صورة له في عمر الثلاثين يقف منتصباً عارياً إلى المنتصف، يقلد حركة يفضلها ستيف ريفز، أمام الكاميرا فوق سطح داره استطاع ولده أن يحتفظ بها بعيداً عن انظار الأب ونشرها في صفحة الاموات عبر شبكة التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك ) بعد عشرين عاماً من وفاته.
ويوم سيموت ناصر الجبلاوي فيباع الاستوديو ويغلق محله لا يبق من ارثه سوى ما صوَّر وما أرَّخ. صورٌ تحكي نهراً تمتد على ضفتيه بيوتٌ تغيرت واجهاتها واعيد بناء معظمها، تحكي جسراً صورت عدسته مراحل انشائه وافتتاحه ومرور الناس والعربات عليه، تحكي مدينة كثر فيها اعداد المصورين مع اتساعها وازدياد أناسها.. سيموت ناصر لكنَّ صوراً معدودة له جمعها في جارور خاص بمقتنياته الشخصية تُظهره مبتسماً على الدوام. ابتسامة وظفها لنفسه في صوره الخاصة وجسَّدها على وجوه مَن صورَّهم بناء على نصيحة استاذه المصور الاهلي يوم اوصاه بجعل شخوصه الذين يقفون أمامه مبتسمين دائماً. " دعهم يعبرون بعيونهم وسحناتهم عن الأمل، أما الألم والأسى والأحزان فاتركها لمن يقرأ وجوههم فيتسلل إلى أعماقهم ويستقرىء كوامنهم."
كل شيء له عمرٌ يؤول إلى الموت إلاّ التاريخ بلوامسه الصورية والتدوينية يبقى حيّاً يمتلك روح الشباب ويتمتع بالحيوية والألق، يطالع بعينين مفتوحتين وذاكرة مشرقة متوهجة تستقبل الاحداث والشخوص مثلما يبقى مَصدراً مرجِعياً وكتاباً بصفحات مُشرعة ومتواصلة تُشبع فضول كل مَن جاء يبحث ويتقصّى، وترضي نزوع كلِّ مَن رغب وتمنّى.
أما يوسف فظل معطوب الذهن، متذبذباً؛ يرى الناس هياكل من رماد تمشي وتجلس، تأكل رماداً وتنام على رماد.. ظل مُطوَّقاً بجملةِ ذكريات بعضها يغرق في الزهو وبعض آخر حالما تنزل إلى ميدان الذاكرة يتسلل اليها لون الرماد : وقوفه وجها لوجه أمام شميران ) زهو(، ليلة اقتحام الحرس القومي غرفته في القسم الداخلي ) رماد (، شوقه لزيارة مكتبة مكنزي ومتابعته عناوين الكتب ( زهو )، ارتياح الدكتور الوردي له وحديثه عن مشاريعه القادمة ( زهو(، الانصعاق لمشاهدة أبيه مقتولاً بشناعة ) رماد (، ضجر عبد العزيز القصاب وشكواه من تذبذب ناس المدينة ) رماد (، فصول ابن خلدون في نظرته للعرب ) رماد (، التعذيب في التوقيف واجباره على الاعتراف بقتل أبيه ) رماد (، غياب بائعة القيمر الشابة ) رماد (، سماع اعتراف قاتل أبيه وموته ) رماد (، مخبَّل والله مخبَّل // عايف دينه ورايح لستالين ) رماد (.
السماوة
20/12/2013
نشرت (الكلمة) قبل شهرين رواية "شارع باتا" وهي الأولى من ثلاثية روائية بعثها الكاتب للكلمة
نبذة تعريفية
* عضو اتحاد الادباء والكتاب العراقي.
* عضو اتحاد الادباء العرب.
الجوائز :
• الجائزة الأولى في مسابقة ( تموز الكبرى ) التي إقامتها صحيفة ( الجمهورية ) – بغداد عام 1993.
• الجائزة الأولى في مسابقة ( الأدباء التربويين ) في الشعر التي أقيمت في محافظة واسط 2007.
• الجائزة الأولى في مسابقة ( جعفر الخليلي ) للقصة القصيرة التي أقامها اتحاد الأدباء فرع النجف 2009.
• الجائزة الأولى في مسابقة ( عبد الإله الصائغ ) في القصة القصيرة التي أقامتها مؤسسة النور في السويد 2009.
• الجائزة الثانية في مسابقة القصة التي أقامتها دار الشؤون الثقافية العامة 2009.
• الجائزة الثانية في مسابقة القصة التي اقامتها هيئة النزاهة العامة – المسابقة الأولى 2010
عن قصة ( بعد التحية ) التي احتوتها مجموعة ( فضاءات التيه ).
• الجائزة الاولى في مسابقة الرواية التي اقامتها دار الشؤون الثقافية العامة 2011عن رواية افراس الاعوام
• الجائزة الاولى في مسابقة القصة القصيرة جداً التي اقامها (منتدى نازك الملائكة) – بغداد 2012
•
zaidsamawa@yahoo.com
zaid_samawa@yahoo.com