نقدم الورقة الفكرية لندوة شهدتها مدينة الرباط همت موضوع علاقة الشعر والسينما، وهي ندوة وطنية نظمها بيت الشعر في المغرب والجمعية المغربية لنقاد السينما. وقد تناولت الاوراق النقدية المقدمة الشعر والسينما... المُتخيَّل المشترك (مداخل نظرية....)، سينمائية الشعر (طرائق الاستثمار وتقنياته: التصوير، زوايا النظر، التقطيع والمونتاج.......)، شعرية السينما (مقاربات نقدية لنماذج فيلمية)، واختتمت بتنظيم مائدة مستديرة حول نفس الموضوع.

الشعر والسينما

 

علاقة السينما بالرواية علاقة مبررة بأكثر من سبب، فكل واحد منهما يسرد أحداث قصة بأسلوبه الخاص وتقنياته المعروفة. وهما أيضا يتبادلان مصالح فنية ومادية بتكافؤ بيِّن. فقد ظفرت السينما بمعين لا ينضب من المواد السردية القابلة للتحويل إلى سيناريوهات باذخة. أما الرواية فقد حققت ارتفاع مبيعاتها بعد نجاح الأفلام التي اقتبستها؛ ويُذكر ـ في هذا السياق ـ أن ما بيع من نسخ رواية (مرتفعات ويزرنج) لإيميلي جين برونتي التي نشرت سنة 1847، بعد عرض الفيلم الذي أخذ عنها، يفوق ما تم بيعه خلال الإثنين وتسعين سنة السابقة منذ صدورها. في حين تبقى علاقة الشعر بالسينما مثيرة للالتباس، بسبب انتفاء مبررات ظاهرةٍ وواقعية لهذه العلاقة المفترضة. لقد درج الناس على اعتبار الشعر فناً عصيّاً وغامضاً، يستلزم تلقيه معرفةً عميقة ومرجعياتٍ واسعة، علاوة على التمكُّن من علوم الآلة وتطور الاتجاهات البلاغية والشعرية في العالم.. في حين ظلت الشاشة الفضيّة رديفة لحكايات متناسلة وقصص متواترة، لا يتطلب تلقيها وفهمها سوى معرفة بلغة الحوار الدائر بين أبطال الفيلم وشخصوصه.

لكن مع تطور نظريات التلقي وتقدم الدراسات السيميائية للظواهر الفنية، وما عرفته كذلك اللغة الشعرية من تحولات كبيرة أغنت إوالياتِها وشفراتِها، مثلما وسعت مفهوم الشعر في حد ذاته، ومع تطور الاتجاهات والمدارس السينمائية في العالم، وانزياح عدد من المخرجين وكتاب السيناريو عن المألوف، مع كل هذا أصبح بوسع المهتمين فتح ما انغلق من حدود التمييز بين الأنواع الأدبية والفنية، وأتاح فرص التقليص من معيارية لغات التواصل، مما فسح المجال لاختلاط الحدود بين الفنون وتحقيق تواصل وتبادل فعالين بينها. وصار بالاستطاعة الحديث عن إمكانية الربط بين الشعر والسينما، حيث أصبح بمقدور النقاد والدارسين من الطرفين (الشعر والسينما) الحديث عن فيلم مليء باللقطات الشعرية والصور الفنية، أو عن قصيدة تُكْثِر من استخدام المونتاج والتقطيع ومختلف التقنيات المعتمدة عادة في مجال السينما... بل أضحى من المعتاد تصنيف أفلام معينة في خانة السينما الشعرية. كأفلام المخرج والكاتب الإيطالي بيير باولو بازوليني (1922 ـ 1975) الذي مارس الكتابة الشعرية والأدبية بالإضافة إلى اهتمامه الأساس بكتابة الأفلام وإخراجها. وهناك أفلام كثيرة صنفها النقاد في السينما الشعرية من قبيل (الكلب الأندلسي 1929) للويس بونويل، و(الجميلة والوحش 1946) لجان كوكتو و(ستحملنا الريح 1999) لعباس كياروستامي، و(دائرة الشعراء المفقودين 1989) لبيتر وير، و(المهاجر 1994) ليوسف شاهين، واللائحة طويلة جدا. وغني عن

التذكير أيضا أن شعراء كبارا مارسوا السينما من خلال كتابة سيناريوهات وإخراج أفلام نذكر من بينهم: أبولينير Apollinaire وسندراس Cendras وديسنوس Desnos وبريفر Prévert، وغيرهم.

إن افتراض وجود سينما شعرية لا يقصد به وجود ذلك الفيلم الذي تنشد فيه الأشعار المعروفة على لسان أبطاله، أو ذلك الذي يستحضر سير الشعراء سرداً أو توثيقاً فقط، وإنما ذلك الذي نجد البطل فيه هو الأسلوب وطريقة سرد الأحداث، لا الأشياء والأحداث، بمعنى الاهتمام المضاعف بكيفية استثمار الوسائل التعبيرية. كما نجد البطل فيه أيضا هو اللقطات المكثفة والموحية بالدلالات العميقة التي تتجاوز سطوح الحوارات المبتذلة في الحياة اليومية إلى الاحتفاء بالحمولة الرمزية للأحياز المكانية، تلك التي تخصبها الإضاءة الطبيعية أو الاصطناعية حسبما يفرضه السياق. كما تعزز بعدها الإيقاعي المسموع بخلفيات الموسيقى التصويرية التي يجري تأليفها خصيصا للفيلم. لقد كتب جان كوكتو ذات مرة: "محكوم على السينما بأن تكون شعرية، ولا يمكنها أن تكون إلا كذلك، إذ يصعب نفي هذه الخاصية عن طبيعتها، وسيبقى الشعر دائما ههنا، بين يديها، لا يمنعها شيء من استثماره". وهو حتما يعني الخروج من روتين الحكاية وضيقها، إلى أفياء السحر والحلم، والانتصار لتلقٍّ ذكي، ينتقل بالمشاهد من حدود المرئي إلى لانهائية اللامرئي.

إن الهدف الرئيس من تنظيم ندوة حول موضوع (الشعر والسينما) هو السعي إلى جمع ثلة من المهتمين بالشعر والسينما والباحثين في مختلف الفنون، من أجل مضاعفة زوايا النظر، وفحص طرائق استفادة الشعر من فن السينما وتقنياتها التعبيرية واستدماج ذلك في مكوناته الفنية الدالة، وبالمقابل استكناه تحول الشعر مادة سائغة تستوعبها لغات السينما وتقنياتها، من أجل بناء أفلام بقوافي مرئية ومجازات ضاربة في أقاصي الجمال والحلم. ولعل الجلسات العلمية التي ستعقد لتحقيق هذه الأهداف، سيكون عليها أن تجيب على بعض الأسئلة التي تشغل المهتمين بموضوع علاقة الشعر بالسينما، من قبيل:

ـ ما الذي يسوغ قيام علاقة تأثير وتأثر بين الشعر والسينما، رغم أنهما يبدوان متباعدين من حيث أدواتهما ووسائلهما التعبيرية؟

هل يقوم الفيلم (الشعري) على إواليات فنية حقيقية بانية لشعريته، أم أن شعريته متأتية من محض اجتهادات القراءات التأويلية المنفتحة على مختلف المرجعيات الفنية والثقافية والفلسفية؟

ما حدود التشابه والاختلاف بين التصوير في الشعر والتصوير في السينما؟

ـما الذي استفاده الشعر من الفن السينمائي الذي تجاوز ظهوره في العصر الحديث قرنا من الزمن؟ وهل يمكن الحديث عن أفق مستقبلي منشود للتبادل والتعاون بين الشعراء والسينمائيين؟