فترة زمنية مرت لم أحظى فيها بمشاهدة معرض فن تشكيلي يترك أثره في روحي ويدفع قلمي للتعبير عما رآه، حتى حضرت معرض للفنانة المهندسة نادين طوقان تحت اسم: منارات مقدسية.. ذاكرة ومكان، في مجمع النقابات المهنية في عمَّان، وحين عرفت عن المعرض ظننت أنه انتهى ليتبين لي أن مدته ثلاثة أيام فسارعت لقاعة العرض في اليوم الثالث، لأتمتع بجولة هادئة تصاحبني فيها عدستي بعيدا عن ضجة الزوار والأصدقاء والحضور في يوم الافتتاح.
منذ الجولة الأولى في المعرض شعرت بالجمالية للرسم الواقعي في اللوحات، وزاد الجمال ودقة الخطوط أن الفنانة مهندسة معمارية وأكملت بعدها ماجستير بالآثار وامتلكت موهبة الرسم التي لم تدرسها منذ الطفولة فترافقت موهبة الفن مع دراستها ومهنتها ليعطي للمتلقي والمشاهد إبداع آخر من حيث الدقة والجمال والتاريخ، فالفنانة اختارت من القدس أمكنة محددة لترسمها ريشتها بالألوان المائية التي تمتاز بالشفافية والرقة، وهي أمكنة تروي بعض من سِفر التاريخ في القدس المباركة.
في تأملي للوحات المعروضة في المعرض قسمتها إلى خمسة مجموعات سأتحدث عنها عبر مقالتي هذه، فالمجموعة الأولى هي عن القدس وفيها 13 لوحة وهي العمود الفقري للمعرض، حيث قامت الفنانة بتقديم لوحات ضمت معالم متميزة بالجماليات والتاريخ في لوحاتها، ففي لوحتين لمسجد قبة الصخرة حملتا أسماء "قبة الصخرة المشرفة" و"قبة الصخرة المشرفة من خلال البائكة الجنوبية" نجد الدقة في الرسم بحيث يظن المشاهد للوهلة الأولى أنها صور فوتغرافية متقنة، ونلاحظ هذه الدقة في نقوش النوافذ والآيات المنقوشة على القبة وفي حجارة القباب من حولها، والحجارة في البائكة التي تقع على أعلى الدرج الذي يفصل بين مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى الجنوبي وحتى في تفاصيل الحمامة المحلقة فوق قبة الصخرة، بينما في لوحات "مناجاة من داخل قبة الصخرة" و"المدخل القبلي لقبة الصخرة المشرفة" عمدت إلى إظهار المعالم الجمالية داخل مسجد قبة الصخرة لإظهار جماليات التكسِيات الرخامية والزخارف الهندسية والنباتية والخشبية والأبواب المنسجمة مع بعضها بإبداع فني كبير، قبل أن تخرج لساحات الأقصى وبواباته من الخارج ومن الداخل، وتنقل لنا الإبداع الفني بأسلوب فني يترك أثره على الروح لبوابات وواجهات المدارس بلوحات فنية مثل "المدرسة السلامية" و"المدرسة الأرغونية" و"المدرسة الأسعردية" و"المدرسة الأشرفية"، ومن ثم تنقلنا عبر ريشتها الرقيقة المبدعة وبألوانها عالية الشفافية إلى "مأذنة الغوانمة" وهي أعلى مآذن المسجد الأقصى، وبعد أن تحلق بروح المتلقي والمشاهد في سماء القدس وهو يتأمل الإبداع الهندسي في بناء المأذنة وجمالية اللوحة ما بين الأزهار والأشجار والبناء، تعيدنا لساحات الأقصى لنتأمل لوحة "سبيل قايتباي" وهو السبيل الذي تميز أنه بني كوحدة معمارية منفردة متميزة بالتصميم والنقوش والجماليات.
تواصل الفنانة التجوال في سحر القدس من خلال ريشتها فتخرج بالمتلقي والمشاهد إلى خارج الأقصى حيث لوحتها "دير راهبات صهيون وكنيسة الجَلد" والتي تبدع بنقل الواجهة الخارجية للدير التاريخي بقبابه ونحت جدارنه الخارجية والقناطر في درب المجاهدين الواقع فيه قرب باب الأسباط ، وعبر لوحتها "الكنيسة الروسية" والمعروفة بكنيسة مريم المجدلية على سفوح جبل الزيتون بجمالها وقبابها الذهبية المتميزة التي ركزت الفنانة بريشتها عليها، ثم تجول بنا إلى بيت الحسيني الذي بني عام 1902 مظهرة جمالية أبنية التراث التي كانت تعتمد الأقواس للمداخل والواجهات والنوافذ والشرفات والحجارة المنقوشة بواسطة مهرة الحجارين.
المجموعة الثانية يمكن أن تعتبر استكمالا للمجموعة الأولى حيث تتناول فيها وضمن خمسة لوحات قطع تراثية كانت "العقد فضة وعقيق" و"إبريق النحاس" و"العقد عقيق وفيروز" و"المزهرية الإيرانية" و"جرة اللولو"، وكونها بعض من الإرث الفني المهني حيث نجد في القدس محلات كثيرة تعتمد على بيع المواد التراثية والفنية للسياح والزوار، فيمكن اعتبارها استكمالا لتوثيق الأمكنة والأبنية التراثية والتاريخية في القدس، وكما سابقاتها من اللوحات فقد تمكنت بالألوان المائية والاعتماد على المدرسة الواقعية في الفن إلى نقل أدق الخطوط والملامح في لوحاتها، وضمن ثلاثة لوحات لثلاثة أصناف من الزهور تحت عنوان "أزهار والدي" ربطت ولادتها بالقدس والانتماء إليها من خلال هذه اللوحات التي تشير لهويتها المقدسية رغم أن أصولها تعود لمدينة نابلس، ولكن أهلها سكنوا القدس وهي ولدت عام 1974 فيها وتنشقت عبقها ورضعت جمالها منذ الطفولة.
المجموعة الثالثة ورسمت بها ثلاثة لوحات لأبنية تراثية في رام الله وقلقيلية فيمكن أن نعتبرها بعض من تراث البناء الفلسطيني ولكن لا علاقة لها بعنوان المعرض " منارات مقدسية.. ذاكرة ومكان"، فالمعرض بغالبية لوحاته ارتبط بالقدس وليس بغيرها، وهذا ما سنراه أيضا في المجموعة الرابعة التي رسمت بها قصري الحرانة وعمرة في الأردن وهي من القصور الأموية ولم أجد أي رابط بينها وبين عنوان المعرض، وإن ارتبطت من زاوية التراث العربي الاسلامي عامة وليس مع بيت المقدس خاصة، أما المجموعة الخامسة فهي لوحات لمستشرقين أعادت الفنانة رسمها تحت عنوان "الهدية" و"الحارس النوبي" وأشارت أنها لوحات استشراقية وهي لا ترتبط أبدا بالقدس، وكان الأولى أن لا تعرض بالمعرض هي والقصور الأموية في الأردن ولوحات رام الله وقلقيلية، حتى يبقى المشاهد في تحليق روحي وحسي ببيت المقدس، وتبقى لوحة واحدة مرسومة بالألوان الشمعية "الباستيل" لكهل خلف القضبان وترتسم على ملامحه المعاناة ويلبس الكوفية الحمراء، وهي اللوحة الوحيدة المرسومة بألوان غير مائية ويمكن ربطها بالمعرض من زاوية المعاناة للمقدسيين من الاحتلال.
وفي نهاية حديثي عن المعرض الجميل للفنانة نادين طوقان وهو ليس معرضها الأول فقد شاركت بالعديد من المعارض المشتركة ومعارض فردية وحازت على العديد من الجوائز وشهادات التقدير، كما أنها ساعدت من لا يعرف القدس من خلال تعريفات للوحات والأمكنة بجوار اللوحات، لا بد من الإشارة أن التشكيل البصري المعتمد على دقة رسم التفاصيل عبر اللوحات ضمن المدرسة الواقعية التقليدية أعطتنا مجموعة من الدفقات الروحية التي تنتاب كل من يعرف القدس ويجول بها فقد أعادتني بالحنين لجولاتي في القدس وصلاتي بالأقصى، وهذا ما أوصلت الفنانة المشاهد إليه عبر التفصيلات الصغيرة والدقيقة وإثارة موضوعات متعددة تشمل التاريخ والتراث والقدسية، وإثارة المشاعر الروحية بحيث لا تقف مشاعر المشاهد عند الحدود الحسية الآنية، فأعطت اللوحات فضاءات أخرى غير البعد البصري المباشر معتمدة على المسحة الجمالية للمنظور اللوني والدقة في التفاصيل.