وسيظل ماتم مع بدايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين من حراك في البلدان العربية، يلعب دورا جوهريا في حركة التاريخ، السياسي والاجتماعي، وسيظل رافدا للعديد من الإبداعات، الروائية علي وجه الخصوص، إيمانا بما لا نمل تكراره، بان الرواية هي ديوان العصر. ولذا لم يكن رجوع الكثير من تلك الأعمال إلي الجذور، أو إلي التاريخ، القريب منه والبعيد، متوافقا مع طبيعة الأشياء. وقد دأبت تلك الروايات الموصومة بالتاريخية، العودة إلي التاريخ مجانيا، وإنما سنجد أنها تلجأ إليه كملاذ، أو حمي من وقع الحاضر الذي بات مؤلما، خاصة في حالات الكبت، وتكميم الأفواه التي تنادي بمعاملة الإنسان كإنسان، أو في محاولة للبحث عن جذور ما يحدث، من أعماق التاريخ، عندما تتضارب الرؤي، وتتشت البصيرة.
فإذا ما تأملنا ما يحدث على الأرض العربية، سنجد التخبط والصراعات، الوجودية، هي سيدة المشهد، وهو ما دعا الكثير من الكاتبات والكتاب، للعودة إلي نشأة هذه الدول في رحم الصحراء والقبلية، والعرقية. خاصة إذا وضعنا الحالة السورية، التي تتميز عن غيرها، بأنها أطول فترة لتلك الصراعات، والتي تعذر الوصول فيها إلي التراضي برؤية توقف سيل الدماء المهدرة علي أرضها، حتي باتت مرتعا للعديد من القوي الخارجية، لتمارس صراعات الوجود والقوة علي هذه الأرض، وهو أحد أسباب طول فترتها. ومن هنا كان علي الكاتبة السورية "لينا هويان الحسن" التي دأبت علي الرجوع للتاريخ بحثا عن الوجود الحالي، خاصة في روايتها "ألماس ونساء"
[1] متسائلة عن الهوية الضائعة، خاصة أن الكاتبة ذات النشأ البدوية في قبيلة الجميلة القيسية التغلبية ببادية حماة، الأمر الذي يجعل من لينا تحمل معها ظروف وطبائع البادية ، والقبلية – علي المستوي الإبداعي - ، والتي من أهم صفاتها حدة الشخصية، والاهتمام بالذات، دون الشعور الجمعي، وهو ما انعكس علي شخصية "ألماظ" اولا ثم وبالدرجة الأكبر علي شخصية "برلنت" أو "لطفية"، علي نحو ما سنري.
وإذا كنا قد رأينا في الكثير من رواية المرأة العربية، كيف تحولت البلاد العربية إلي دول طاردة، فأصبحت الهجرة عنصرا رئيسا فيها، خاصة إلي البلاد الأوروبية، وكيف أن العربي يهرب بها من الجحيم إلي النار، حيث مخاطر الهجرة، من جانب، ومن جانب آخر ما يلاقيه العربي من مهانة وتشرد، إن لم يكن الموت، في كثير من الأحيان، فضلا عن أن الإنسان في المهجر، يكون معرضا بصورة أكبر لفقدان هويته، والذوبان في مجتمعه الجديد، رغم بعض المحاولات التي تُظهر التمسك بالهوية الأصلية، وهو ما يخلق الصراع النفسي داخل الكثير من الشخوص، وهو ما يمكن قراءته عند لينا، والتي جعلت منها – الهجرة - الحدث – إن كان ثمة حدث – الرئيس، وحيث تدور النسبة الأكبر من السرد خارج البلاد، وفي البرازيل ، علي وجه التحديد، إلي جانب نقل التجربة في غيرها من العواصم العربية مثل بيروت والقاهرة ، والغربية مثل باريس، حيث إذا كان قد توافر عامل الطرد، إلا انه يقابله علي الطرف الآخر، عامل جذب، لا كتلك التي يواجهها العربي في هجرته إلي أوروبا. ويرجع ذلك إلي ترحيب البرازيل بتلك الهجرة، ومنح المهاجر كثيرا من الحقوق التي لا ينالها في أي دولة أخري، فتزايدت عمليات الهجرة إليها بدءً من العام 1871 بعد زيارة إمبراطور البرازيل "دوم بيدرو الثاني" والذي أعلن أثناءها ترحيبه بأهل الشام في البرازيل، ومنهم من تجنس بالجنسية البرازيلية، حتي وصل الشاميون فيها إلي أعلي المناصب، وتكونت الجاليات وقامت الأنشطة، وتمت المساعدات منهم لأبناء جلدتهم. وهو ما أشارت إليه لينا في روايتها في أكثر من موضع {النساجون كانوا كثرا في الشام. لكن ساو باولو تجهل نفائس دمشق. فقط ، قرأو عنها في ألف ليلة وليلة، وخرافات الشرق التي لم تفقد سحرها. اجتمعت جهود لولية ورومية وألماظ بتمويل خاص من الخواجة أنطون، عميد الجالية السورية في ساو باولو، ليتم جلب حمولة من أقمشة دمشق النفيسة. وبالفعل، بعد عدة أشهر، امتلأت العيون ببريق نادر. فيما الأقمشة تُعرض في سوق خيري، تنظمه سيدات ثريات من الجالية في النادي السوري} ص84.
وتزداد صورة التواجد السوري في البرازيل مع تلك المدرسة السورية التي تقوم علي التعليم الصحيح، من داخل البرازيل حيث جاء في إعلان المدرسة الشرقية الكبري في مدينة ساو باولو في 6 أيار 1919 {هي أكبر مدرسة سورية داخلية في البرازيل للصبيان والبنات، تدرس جميع العلوم العصرية واللغات البرازيلية والعربية والفرنسية والإنكليزية، وتعلم فوق ذلك البيانو والأشغال اليدوية والرسم للبنات، وهي تقبل الطلاب داخليين ونصف داخليين وخارجيين، من كلا الجنسين. وبناية المدرسة واقعة في أفيدا باوليستا. أي اجمل بقعة من مدينة ساو باولو} ص58.
وتتحدث كتب التاريخ عن الوجود السوري منذ عهد الأسكندر المقدوني – قبل الميلاد - ، بمسميات وظروف اختلفت كثيرا وتحددت بصورة أكثر وضوحا، مع بدايات القرن التاسع عشر، خلال حكم الدولة العثمانية الذي استمر من 1516 وحتي 1918، وهو ما يعني محاولات طمس الهوية الخاصة بالمنطقة، لصالح المحتل، التركنة أو العثمنة، والذي ما كاد ينتهي حتي جاء الانتداب الفرنسي، والذي لعب بدوره علي (فرنسة) المنطقة، الأمر الذي أدي إلي تغيير في التقسيمات الإدارية، بتأثير من العرقيات، لتصبح سوريا مُشَكَلة من الكردية، والآرامية، والسريانية، والشركسية، والعبرية. كما تشكلت بعد ذلك من أغلبية إسلامية سنية إلي جانب العلوية والدروز والإسماعيلية والشيعية والمسيحية إلي جانب قلة من اليهود، وهو ما عبرت عنه الكاتبة في {رمي نفسه بالنهر وراء سيدة ملفعة بالأسود، أخرجها، وخرقت قلبه بعينين بريئتين، سرعان ما عرف أنه وقع بغرام فتاة مسلمة. وهذا المستحيل بعينه في مدينة سكانها عرب مع أقليات مستعربة من الأكراد ومن الأتراك والجراكسة والألبان والأرمن. ثمانمئة ألف منهم مسلمون, المسيحيون يشكلون سدس المجموع، منهم الأرثوذكسي والكاثوليكي والسرياني والماروني والإنجيلي، مع خمسة آلاف من اليهود}ص71. فكان طبيعيا أن يصبح شغل الإنسان في تلك الفترة هو البحث عن الوجود والتميز وسط هذه التقسيمات. أي البحث عن الهوية. كما المرأة العربية بالأساس، تشعر بالغربة في هذا المجتمع، فكان من المنطقي أن تكون المرأة، هي الأكثر بحثا عن هويتها، وفرض وجودها، إن لم يكن سطوتها، وهي السمة العامة التي تجمع نساء الرواية. ولأن التاريخ لم يزل يفرض سطوته علي الحاضر، وتتعرض سوريا في الوقت الحالي لصراعات مماثلة، فتلجأ لينا هويان الحسن إلي التاريخ، لتقرأ منه الحاضر، حيث لا أتفق مع الآراء التي تضعها في خانة الماضي فقط، وهو ما لا تملك هي أو غيرها تجاهل الحاضر، الفارض وجوده، حتي لو كانت الكاتبة تعيش في بيروت، وما بيروت ببعيدة عن سوريا، فيضمهما معا إصطلاح (بلاد الشام). وأوضح صورة وضعتها الكاتبة، تعبيرا عن البحث عن الهوية، ما صورته من التحولات التي انتابت "برلنت" التي انتزع منها اسمها لصالح غيرها، وتم تسميتها ب"لطفية" فاصرت علي استرداد اسمها، بيديها، وبتحديد معالم واضحة لشخصيتها، بما للإسم من صلة وثيقة بالهوية {في حين "لطفية" التي جاءت في فجر ليلة ماطرة عارية مبللة ببولها ملفوفة بقماش الدامسكو، ستظل محدقة في التقويم ومستبقة للروزنامات والأيام} ص153.
وتلعب الظروف الاجتماعية دورها في تحديد معالم شخصية "لطفية"، خاصة أن يتم حدث كبير في طفولتها، لينزرع في تكوينها، ورؤيتها للحياة فيما بقي لها فيها، لنصبح أمام شخصية إنسانية حية، إلي جانب وجودها الرمزي. حيث ماتت والدتها "نادجا" وهي تضع طفلة تبرأ منها الأب، وهو الرجل الذي هجرت البكباشي محمود من أجله، حيث نجد التضحية من أجل الحب، وما واجهته بالنكران، لينزرع استلاب الحق عند الأم "نادجا، وما ورثته الإبنة، المفترض أنها "برلنته". لتصل الطفلة المولودة إلي السيدة "صباحت خانم"، زوجة عدلي بك المحروم من الخلفة، وأسمتها "برلنته" علي اسم أمها المتوفاة. {فقط تلك الأوراق الثبوتية القليلة أنقذت الطفلة من جهل ملم بأصلها، وعرفت أنها لسيدة أرمنية اسمها ناديا هاكوبيان، كانت قادمة حديثا من البرازيل. دل علي ذلك ما يشبه تذكرة سفر علي ظهر الباخرة "سيلفيا" القادمة إلي ميناء بيروت في الخامس من أيلول من العام 1938} ص145.
غير أن صباحت .. أنجبت وهي في الثمانية والثلاثين من عمرها، وانتزعت إسم برلنته من الطفلة اللقيطة ومنحته لابنتها، بينما أصبحت اللقيطة "لطفية"، لتظل حاملة هذا الاسم الجديد، والذي تكرهه لعشرين عاما، حين تسترد اسمها الأول مرة أخري، وكأنها تسترد هويتها {اسم سيظل دائما مثل مخطوط أرشيفي مرفوض وطفيلي. سيأتي يوم وتنزعه عنها بقفازين مسمومين. في حين أنها في عمر خمس سنوات فقط، استطاع الظلم أن يفسح مساحة لبراغيث الضغينة، علي حساب مساحة الحلم عند الفتاة فاقعة البياض. ستحمل حقدا كبيرا علي أولئك الذين وافقوا علي حرمانها من "البرلنت" اي الألماس باللغة التركية، واحدا من أكبر أسماء الإناث شيوعا في دمشق في ذلك الزمن. ألماس افتراضيا، وجميع النساء يردن أن يكون شيئا ثمينا ولو كان مجازا}ص152. وليكون ذلك التالايخ نقطة تحول في حياة "لطفية" :{ أرغموها علي حمل اسم أنثي تذعن لعتمة الموافقة، ولقول "نعم" .. تاريخ تسميتها "لطفية" اقترن بتنحيتها جانبا} ص152.
وتبرع الكاتبة في الغوص داخل شخصية لطفية، لتستخرج مكنونها، ورغبتها الدفينة في الانتقام، والتصميم، من داخل طبيعة الأنثي التي تجيد استخدام أسلحتها – وإن كانت قد عجزت في تلك الواقعة عن ممارسة أهم أسحلة المرأة، البكاء، علي حد تعبير الكاتبة- مستخدمة لاشعور الشخصية. حيث دخل مراد بك البيت خطيبا للخانم الصغيرة "برلنت" لكنه صُعق بجمال لطفية، التي طلب منها رفع ثوبها، وسقط صريعا لبياضها، ليكشف ذلك عن نوع آخر من النظرة العنصرية للمرأة، حيث نظرته للبيضاء، غير نظرته للسمراء، وهو ما يتأكد- حين نتعرف علي "الماظ" التي كان أحد أسباب نفور الكومندان (زوجها) منها، هو سمارها- وكان هو أيضا – مراد بك - قد صرع قلبها وانغرز فيه، وأصبح ملئ رغباتها وخيالها. رسم عليها خطته، واستنفر فيها رغباتها المكبوتة، وحولها إلي غريزة خام {لم تعد تحتمل سماع صوته، من دون أن تنهض كل طاقاتها الجهنمية المتوارية في الأسفل، حيث سخونة مؤلمة وتيار غامض يسري فيها، من أصابع قدميها مارا بكل أنحاء جسدها}ص166- ولنلحظ هنا استخدام الكاتبة للتعبير المشحون والدال {طاقاتها الجهنمية التوارية في الأسفل}، للتعبير عن أحد أهم أسلحة المرأة في صراعها مع الرجل- وبعد أن حدد لها موعدا {وقتها لم تعيي أنها مخلوق شبق إلا وهي تحلق لذة، ثم تلوذ بحضن الرجل كقطة متوحشة هدأـ موقتا}ص167. وبعد الوصول للحظة اللذة {أنشبت مخالبها بعنق شئ لذيذ، شئ طاردته طويلا دون أن يعلم تمام العلم بأمر تشهيها عن بعد. وعن قرب. عرفت معني التعبير البشري عن فش الغل، وشربت من دمه. حقا لا نفرغ بغضنا من بربريتنا المتجذرة في العمق، إلا حين نتبادل التهشيم، التقبيل. وجربت متعة تذوق دم أحد مشتهي. إنها متعة ستكون فقط بين أسنانها وإلي الأبد. تدربت علي متعة شرب دم من نحب ومن تكره ومن تنقم عليه} ص167.- وهنا أيضا يجب ألا يمر عابرا ذلك التعبير الكاشف عن مكنون الأعماق {فش الغل، وشربت من دمه}حيث لا يتوقف الانتقام فيها ليس علي الرجل فقط، وإنما يمتد إلي غريمتها "برلنت" وأمها التي انتزعت هويتها منها. {إنهال عليها بكلمات حنونة، تلقتها موجعة، مستسلمة، نصف ميتة، نصف حية. كان في عينيه بريق عيني صياد يحصي عدد ضحاياه من العصافير، ولزمت هي صمتا مطبقا. لبثت الوقت كله مذهولة، التقت أخيرا بنفسها كمهزومة، عرفت عن قرب معني أن نتبادل نكهات دمائنا مع من نشتهي، لكن ذلك كان شعورا موقتا بالانتصار قبل أن يتناساها مراد بك. كمثل وريقة طُويت، تركها، تجاهلها، لم تره بعدها إل ليلة زفافه متأبطا ذراع برلنته الشقراء} ص167. ولتضح صورة الرجل التي صورت الكاتبة كل رجالها علي شاكلته، إمتصاص دم ضحيته، المرأة، ثم .. وكأنها ورقة كلينكس. تثور "لطفية علي اسرة "صباحت خانم" وعدلي بك وابنتها "برلنت" واستقرت ببيت سيزا خانم .. والدة "ألماظ" وجدة "كارلوس، الذي هام بها، ولا تريد أن تبادله الحب، متجاهلة رغباته المكبوتة، وقد استعادت إسمها الأصلي "برلنته". وكم كان جميلا ذلك لما سنتبينه بعد، والذي يعني القرب، والبحث، فكيف يكون بالقرب مني ، ولا تطاله يدي؟.
وتترك "برلنته" او لطفية بيت سيزا خانم وكارلوس. لتعمل كعارضة أزياء، بدون أزياء، أي عارية تماما، لدي الست "فضيلة" – بما للإسم هنا من دلالة - التي تنتقي أجساد النساء من الحمامات، و{مشت معهن بوصفها تابو وجنابة! بوصفها الموديل التاريخي: الجارية، الأمة، المحظية. مشت لقاء ثمن. بين تمييع المدنس وتنحية المقدس. كزهرة غواية بلا جذر}ص174. ليستعرضها الثري، الذي ينتقيها لمدة عام. وأصبحت فلسفتها في الحياة {كلما فكرت في مراد بك تذكرت شيئا قاله كارلوس"علي العاشق ان يرحل أو يموت.. ولأنها ليس بمقدورها أن تموت. ولا تفكر بذلك مطلقا، فقد اعتمدت قاعدة جديدة: فليموتوا جميعهم. إلا أنا} ص175.
وكان من الطبيعي أن تسفر تلك النشأة وتلك الظروف، ان تتقوقع "لطفية" داخل ذاتها، وأن تكره تلك الشعارات التي يحملها دعاة الاشتراكية التي تتحدث عن المجموع، ممثلا في "بوتان" الذي دفعه الاضطهاد لتصور أن الاشتراكية هي الخلاص {"برلنت" ضحكت من اسم لومومبا، وبوتان شرح بإسهاب عن لومومبا المواطن الإفريقي البسيط الذي اشتهر في سماء الحرية كبطل محرر لبلاده "الكونغو"، من طراز سيمون بوليفار وجيفارا.. " ومن هؤلاء؟ تسأل برلنت باستعلاء، أيضا شرح المزيد حول أبطاله المفضلين، لكنها لم تكترث ، فقط قالت باستخفاف "" ماتوا؟ لأجل من؟ أنا لن أموت من أجل أي شئ في العالم، لن أضحي بنفسي تحت لافتة حب الوطن أو الوفاء للوطن، سخافات!}ص182. {بوتان مثل كل الذين كانوا يشعرون بالاضطهاد، تمسك بالإشتراكية}.
وكان من المنطقي أيضا، تلك النظرة التي أثببت فيها الحياة لها أن دعاوي الاشتراكية ليست إلا وهما، وشعارات، وإلا لما تعرضت لما تعرضت له، وهو التصرف الإنساني المنطقي. غير ان إيمان الكاتبة بالرؤية ما جعلها تنطق "برلنته" بما فوق طاقتها الثقافية، مثل {ومن قال إن مدينة مثل دمشق تحتاج شيئا قبيحا وإسفلتيا وكاذبا مثل التحديث؟ هؤلاء الإشتراكيون ومشتقاتهم لا يملكون أية ذائقة جمالية، يحولون البلدان التي يمرون فيها إلي علب إسمنتية قبيحة!}ص220. وتظل "برلنت" التي استردت اسمها، وهويتها، علي رفضها لحب "كارلوس" الذي هام بها، وتصورته يرسم شخصيتها في روايته، حين تقول له "بطلتك تشبهني" غير انه يؤكد لها أن لا شبيه لها، وهو ما ئؤكد خصوصية شخصيتها، التي أصرت أن تعيش حياتها بطريقتها، لا بطريقة الآخرين، فـ{هو يعرف أنها ستعيش قربه ضمن قواعدها هي، قانونها الغريب الخاص، والذي صنعته لنفسها، عندما لا تعجبنا القوانين التي صنعها غيرنا، فلنصنع قوانيننا بأنفسنا}ص235. وهي الرؤية التي رسمت الكاتبة كل نسائها، تحمل شيئا منها، الذات والخصوصية والحرية، ويكمن الانتقام في الخلفية. وهو ما نستطيع تبينه في شخصية "ألماظ خانم"، التي جاءت قبل "برلنته" - الجزء الأول من الرواية - وكأنها الأم المؤسسة، والتي كان التشابه بينهما كبيرا. فبينما كانت "برلنته" هي الشخصة الأولي في الجزء الثاني، كانت "الماظ" هي الشخصية الأولي في الجزء الأول". ويوم انتحرت "ألماظ" هو نفس اليوم الذي كانت "ندجا" تعاني آلام المخاض، لتأتي "برلنته". فقدت "ألماظ" - قبل انتحارها - ماستها الزرقاء النفيسة التي ورثتها عن جدتها، رغم تعرضها للضياع أكثر من مرة، {ومع ساعات الصباح الأولي كانت قد تدفأت وأصبحت مدثرة بالصوف، وخرزة زرقاء مع كف من الذهب حمل اسم والدتها المتوفاة: "برلنته"}، وكأن الخرزة الزرقاء هي الشعلة التي استلمتها "برلنته" من "ألماظ". فهي ما تدعونا للنظر إلي الماسة الزرقاء، الموروثة عن الجدة، ما هي إلا رمز لتلك الهوية التي كانتها المرأة (العربية)، خاصة بأن ضياعها ارتبط بالتحول الكبير (الانتقام الكائن في الأعماق). فقد كانت ألماظ، لم تبلغ العشرين من عمرها، عندما تقدم الكونت لخطبتها، بناء علي ترشيها له من قبل جدتها "بابور" التي أورثتها ماستها الزرقاء، بعد طول عربدة، ليفاجأ بانها سمراء قليلة الجسم، ولم يكن لها تلك المؤخرات التي يعشقها {فكر الكونت، عندما بلغه نبأ زواج زوفينار للمرة الثالثة من أحد أعز أصدقائه. ليست مشكلة، ذهب العمر كله. في لحظة فذة، لا تهادن، لا تقبل الحلول الوسط، في لحظة سوداء كالنقمة، بيضاء كالنقاوة. تقدم لخطبة ألماظ، ابنة تاجر سجاد دمشقي ثري. لم يرها إلا مرة واحدة قبل أن يقف في الكنيسة متأبطا ذراعها ويقسم علي وعد الاتباط الأبدي}ص20. ولم تكن تلك البداية غير المشجعة، إلا بداية لتلك المعاملة التي سيتعامل بها معها، وكأنها اصبحت قدره الذي لا راد له {تزعجه فكرة أن الخانم كان يمكن أن تكون بعمر حفيدته} {كان موقنا أنه تسرع في عقد قرانه علي شابة يافعة جدا، ومنذ ليلة الدخلة المفترضة لم يلج غرفة عروسه. عاد إلي عادته المتأصلة: استثمار دفء مؤخرتي خادمتيه الحبشيتين} ص17.{ بينه وبين نفسه يضحكه لقب خانم ولا يراه ملائما لحجم الفتاة الضئيل}ص17. { وهو يتناول العشاء مع خانمه التي تشبه الدمية} ص19. فلم يكن الكونت ليخفي مغامراته النسائية، وغير الخافية عليها، فيستدعي عشيقته الأساسية إلي بيته كثيرا {أصبحت ألماظ محتقنة بشكل شبه دائم بسبب تكرار زيارات "زوفينار" و"نادجا" إلي القصر} ص48. فزوفينار هي ما كان يريدها الكونت، وهي من ضبطتهما معا في وضع مخل، حين بدأت تؤجره نصفها الأسفل {لم يعد ينقذها الرقم "ثلاثة عشر" فراحت تؤجر نصفها الأسفل لشهوات الكونت العتيقة تجاهها، وتحصل علي مبالغ محترمة لقاء ذلك}ص53. ورغم كل ما تتعرض له "ألماظ" من ضغط نفسي إزاء تصرفات زوجها الكونت {كانت ألماظ من النساء اللواتي يفضلن الابتسام علي الاعتراف بالحزن}ص44.
{حين نزلت في ضيافتها بعض أشهر خوانم الشام مسلمات ومسيحيات، لم تشكو حالها ولو مجرد الشكوي مع الكونت، لأنها تعتبر ذلك كما علمتها جدتها "بابور" منطق الضعفاء، وينطوي علي نمط من الانتقام لا ترضاه لنفسها} ص51.
واستغرقت "ألماظ" في شؤن أخري، تسعي جاهدة لأن تخلق لنفسها حياة {غدت ألماظ مهتمة بالسياسة أكثر من الكونت .... الكونت كان مقتنعا أن النساء اللواتي يبدين إهتماما بالسياسة يعانين سرا من نقص الحب والجنس}ص126. ورغم تركها لزوجها، لتعيش بعيدا عنه حيث يعيش في بيروت، رافضا من جانب مرافقته، ومن جانب متمسكة بجذورها {لكنها لم تقاوم سحر النفنوفة الحمراء التي زرعتها بيديها، رغبة منها في تلوين حديقة والدتها المهملة. النفنوفة تسلقت مقرنصات الليمون، والياسمينة ناوشت الدالية، واشتبكت معها بتداخل مدهش. وطغي زهر الليون علي المكان، برائحته النفاذة} ص120. وكذلك يتمثل تمسكها بجذورها، تمسكها بماستها، التي ترفض التخلي عنها، حيث أثار الفرنسيون الكثير من المتاعب والمصاعب في حياة السوريين، ولم تكن ألماظ لتتخلف عن دورها في الوقوف مع المرأة السورية في مقاومة هذا ، ولتظل ماسة جدتها التي قاومت كل عوامل الضياع {مع نهاية الشتاء، كانت ألماظ قد استثنت ماسة جدتها، بابور، بينما باعت معظم ما تحمله معها من مجوهرات، لتشتري تلك القفف المحملة بأدوات المطابخ النحاسية والفضية.. وكل النفائس التي اضطرت نساء دمشق لبيعها لتغطية نفقات تصليح منازلهن الأثيرة علي قلوبهن} ص116.
وكان لمولد كارلوس دور عنيف في تبدل أحوال "الماظ" التي يمكن القول أنها (فجرت) اي خرجت عن المألوف، ويحدث ما يمكن أن يكون الانتقام، وإن بدا في الظاهر أنها تنتقم من نفسها، إلا أن الأعماق تشير إلي لانتقام من تلك الحياة التي عاشتها، علي غير إرادتها مع الكونت، وما يشبه الانقلاب {في هذا الوقت كانت ألماظ تمرح مع رجل تركي تعرفت عليه في أحد فنادق موناكو، بعد أن أدمنت لعب القمار، والعيش في غرف الفنادق الفخمة، .... وتستخدم الرقم "ثلاثة عشر" خلال اللعب، وتطلب من عشيقها التركي أن يهمس في أذنها "مدام تريس"}ص1414. وكأنها تقمصت شخصية صديقتها "تريس" أو "زوفينار" عشيقة زوحها الكونت، والتي كانت تطلب من أصدقائها مناداتها به. وصديقتها "ناجا" غريمتها الأخري، وسارت علي خطاها، وكأنها تلبست شخصية تلك التي كانت عشيقة زوجها، وكأنها تقنع نفسها بأنها كان الممكن أن تكونها. ففقدت ماستها الزرقاء علي طاولة القمار، وكأنها فقدت ماضيها الذي قاوم السرقة والضياع من قبل، او فقدت هويتها. وفي ذات الليلة {صدرت الصحف معلنة عن انتحار سيدة سمراء بدينة بعد أن خسرت ماسة لا تقدر بثمن علي طاولة القمار}. وفي ذات الليلة كانت غريمتها السابقة "نادجا" منبوذة في غرفة مستأجرة باردة في حي باب توما تعاني آلام المخاض، حيث جاءت "برلنته".
وهذا الانتقام، والتشفي، ما يمكن أيضا أن نجده عند العشيقة لزوجها "زوفينار"، فقد عاشت ثلاث سنوات برفقة العجوز التونسي، انتهت بموته، وما أن دفنته حتي اندفعت في التمتع بحياتها فاشتهرت بلعب القمار بكازينوهات مونت كارلو، وكانت الوحيدة التي لا تخشي الرقم ثلاثة عشر، لتتعرف علي "كرم مفتول الشنبات، ملئ الجيوب ، وهو ما يغري أي سيدة جميلة، ف {دوخته، بكي علي ركبتيها، مسحت دموعه بمنديل حريري مطرز عليه الحرفان الأولان من اسم رجلها الجديد، وتابعت رحلة انتقامها منه. بعد شهرين كانت تبحر إلي لبنان مع رجل جديد}.
وأما عن النماذج الرجالية، فقد تتشوهت جميعها، مثلما رأينا في صورة الكونت، وكيف كانت تصرفاته. وعربداته. غير أن نموذجا آخر لايمكن النظر إليه علي أنه صورة الرجل فقط، وإنما يحضر للذهن مباشرة ما يشير إليه لقب "البكباشي" والذي بالإضافة إلي أنه لقب في الأصل تركي، فإنه يشير إلي تلك الرتبة العسكرية، التي كانت المهيمنة علي فترة السبعينيات، حيث استولي حافظ الأسد بإنقلاب عسكري علي حكم البلاد، والتي عبرت الكاتبة عن فترته ب {برلنت تكره السياسة كرها كبيراـ وتعليقها الوحيد كان علي ثورة قلبت نظام الحكم في نهاية الستينيات بقولها " أكره الثورات، فالنبلاء الذين يقومون بها يموتون أولا، ويبقي الأوغاد والرعاع. لكن لا إعتراض علي الحروب، فهي تسهم بإنقاص عدد الناس" ذلك الضابط المفتون بها كان يستمتع بإسلوبها بشتم الثورات والضباط وحبها للحروب} ص230. وفي العام 1976 ، تتدخل سوريا في الحرب الأهلية اللبنانية، لتستمر بها نحو ثلاث سنوات، الأمر الذي تسبب في الكثير من التسيب {برلنت غادرت دمشق، المدينة التي بدت في النصف الثاني من السبعينيات، كما كانت تقول لكارلوس: مزيجا من المخادعين واللصوص والقوادين، يديرون حملات إعتقال وكتابة تقارير كيدية تؤرق أهل المدينة"} وفي مقابل العشق الكبير الذي يكنه لها أحد الضباط الكبار في البلد. لم تكن تحبه برلنته، لكن يكفيها أنه مفتون بها ويدللها، يلاطفها {لم يكن يرد لها طلبا، حتي لو كان إخراج طالب متهم بالانضمام لحزب معارض للحزب الحاكم} ص230. تماما مثلما أخرجت إبن غريمتها برلنت (التي استلبت اسمها). كل تلك الأجواء التي تؤكد أن الحاضر لم يكن غائبا عن الرواية، فأنشأت الكاتبة شخصية "البكباشي، الذي عبر عنه الكونت {ألماظ كانت قد فقدت قطتها "نيغرو" علي ظهر الباخرة "باجي" التي عبرت علي متنها الأطلسي برفقة البكباشي محمود. هذا الكائن الوديع موقتا والمشاكس دائما كما كان يقول لها الكونت عن القطط التي تشبه كل النساء} ص64. ذلك البكباشي الذي لعب وتلاعب بالكثيرات، ومن أولهم "ألماظ" التي تعرف عليها علي الباخر {البكباشي محمود، وصل إلي باريس يحمل جواز سفر مزورا، إلتصقت ألماظ به وكأنها انتظرته دهرا. فطن لضعفها، ولم يصعب عليه التكهن أن المرأة التي أمامه امرأة مهملة من زوجها تماما} ص57.
{لم يفد التلغراف المنشور في الصحافة السورية في ساو باولو بأكثر من أن البكباشي زيف لقب البيك، أو قد يكون اشتراه من عميد الجالية التركية، من ثمن المجهورات التي اختلسها من ألماظ من دون تردد أو رحمة وتزوج من نادجا، وافتتح لها محلا لبيع الكابات، والأزياء النسائية} ص91. وليصبح له معها قصة تكشف المعدن أكثر. تربص البكباشي محمود بألماظ منذ رآها بالباخرة في رحلة الذهاب. إلي أن سرق مجهوراتها، حيث { بعد أن دفعها لشرب كمية كبيرة من النبيذ، والمنوم، وتركها دائخة نائمة، رحل البكباشي محمود بعد أن أخذ كل ما تحمله من مصاغ ومجوهرات، وبغمرة فرحته بالغنيمة واستعجاله سقطت منه ألماسة بابور، جوار سرير ألماظ المخدرة.}ص60. {لم يلزمها وقت أكثر من دقائق معدودة لتحدس أن حبيبها، الذي لم يوفر حيله لإقناعها بالهرب معه إلي البرازيل، فقد فعل ذلك. وتذكرت أين رأت ساعة سانتوس التي كان يحيط بها معصمه. كانت الساعة ذاتها التي فقدها الكونت علي ظهر الباخرة "أورهنوف". في تلك الليلة، فقدت في آن معا، قلادة من الطراز الفرعوني مصنوعة من البلاتينيوم والأونيكس مرصعة بالألماس، ومعه علبة مجوهرات من الطراز ذاته.} ص61. فإذا ما فتحنا باب التأويل علي امتداده، فسوف نري أولئك الذين قاموا بالانقلاب العسكري، واستولوا علي حكم البلاد، وعاثوا فيها فسادا، وسنضع أمامهم ألماظ، بوجودها الرمزي، حيث انخدعت به، ولم تعلم في البداية هذا المستوي من التدني، وأنه ليس إلا لصا، ومن بعدها "ندجا" {نادجا تتواجد دائما حيثما يتواجد البكباشي محمود}، التي هي أم "برلنتة أو لطفية"، لنصبح أمام سورية التي تم سرقتها.
إلا انه رغم تلك الصورة المشوهة، بين الرجال والنساء معا، إلا أن الوطن كان يسكن في الخلفية، وكأنهن يتمسكن بهويتهم الأصلية.، فمن بين النساء، سنقرأ {في ساو باولو، في الوقت الذي أصبحت لوليا صديقة لألماظ ورومية خانم كانت لولية قد أصبحت تعرف بدونيا لوليا تمتلك أكبر وأشهر مطبعة فنية سورية في شارع باولا سوزا} ص83. {إن الفلس الذي يصرفه كل سوري اليوم سيتحول إلي عافية ودم حار يجري في عروق ذريته. والمدرسة العصرية السورية كانت تقبل سنويا عشرين تلميذا عربيا مجانا مع تقديم الكتب اللازمة من تبرعات دونيا لوليا} ص84. وكذلك لم يكن الرجال لينسوا بلدهم فقد كان الكونت نفسه معجبا ومؤيدا لأفكار المعارضة ومصرا علي الليبرالية، {وإن اقتصر دعمه علي "المعنوي" وأحيانا قليلة "المالي"، وبشكل سري للغاية}ص42.
و{كان جميل بك يقوم بزيارة لشرح الأوضاع السياسية في سوريا للجالية العربية في البرازيل. قبلها كان قد زار الأرجنتين والتشيلي} ص94. وحول السهرات الطويلة {التي تقام حول طاولة البلياردو لضيوف الكونت، بينهم أعضاء سريون في جمعية سرية مناهضة للأتراك تأسست في باريس عام 1909 هي "جمعية العربية الفتاة" التي تنادي باستقلال نهائي عن الإمبراطورية العثمانية. تتألف تلك الجمعية من مسلمين ومسيحيين} ص48.
{هجرت – ألماظ – مقهي فلور عندما تأكدت أنه أصبح مكانا مرغوبا للمعارضة السورية الغاضبة، بسبب حملات التشهير التي شنها الأتراك لمنع انعقاد مؤتمر عربي في تموز عام 1913 يلحون فيه علي الهوية العربية لبلدهم} ص50. فالهوية كانت حاضرة بالفعل، لا ضمنيا، وإنما صراحة، وهو ما عبر عنه الكونت في حديث مع ألماظ {"الهوية مرض ثقافي جميل مزمن. لن نعرف ما كسبنا حتي نعرف ما خسرنا"}ص132. وقد إرتبطت تلك الهوية، بفعلها الإيجابي، بالثقافة ، وليس بالثقافة المحلية وحدها، وإنما بالانفتاح علي حركات التحرر الفكري، الذي أتاحه لهم تواجدهم في الكثير من البلدان، وخاصة فرنسا، بلد النور والحرية، وما كان التبرير المنطقي – روائيا – لكثرة البلدان والترحال في الرواية – في مواجهة ذلك الانغلاق الفكري أيضا، الذي أدي إلي (بيع) "لولية" للقمندان عن طريق عمها أولا للعجوز "ميتا"" التي قدمتها للقمندان –المفوض السامي وزير النساء، ومدير الجواسيس لصالح فرنسا في كل أرجاء سورية، ولم تكن الحالة الوحيدة، لتصبح محظيته {لولية، حالما وطأت أرض مدينة ساو باولو، استثمرت كل جرأتها الخالية من الحياء الذي جردها منه القومندان خلال الليالي الطويلة في القلعة الموحشة لمدة سنتين .. وأصبحت لوليا، كما أسمت نفسها، حديث الناس وهي تتمايل ببدلة رقص من الخرز الأحمر والذهبي، تكشف عن ردفين ممتلئين تؤرجحهما متلذذة بما تخلفه من حركات مغوية} ص76.
فقد كانت "الخانم ألماظ" مضطرة لأن تجاري مظاهر تلك السهرات المزدحمة بالنساء المثقفات اللائي تقابلهن في سهرات البيك ، حيث كان تأثير صالون البرنسيس "نازلي فاضل هانم" المصرية كبيرا علي أفكار الكونت بشأن النساء { كان تأثير "نازلي فاضل هانم" كبيرا علي أفكار الكونت بشأن النساء .... كان الكونت يراسل نازلي هانم من وقت لآخر}ص45، والتي كانت بدورها { البرنسيس نازلي هانم المصرية التي تنقلت مع زوجها كسفير للدولة العثمانية بين العواصم الأوروبية . وفي باريس بالذات كانت إقامتها أطول من غيرها، حي نقلت منها فكرة الصالون إلي قصرها في مصر. وكًتب لها أن تتعرف وتُعجب بأشهر وأهم دعاة الحرية والإصلاح لذلك الزمن، مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، واشتهرت بصداقتها العميقة مع أحمد عرابي وسعد زغلول. وقاسم أمين كان من الملازمين لصداقتها ولصالونها الذي افتتحته في القاهرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وذلك عندما عادت إلي القاهرة كسيدة مثقفة تتحدث وتتقن عدة لغات، وقادرة علي مجادلة ومناقشة الرجال بندية وثبات}ص45 و{ قبل مجيئها من باريس –ألماظ - كانت قد علقت في غرفتها صورة فوتوغرافية لصفية هانم زغلول، زوجة الزعيم المصري سعد باشا زغلول، العائد لتوه من المنفي من جزيرة سيشل، والصورة كانت نشرت في مجلة "اللطائف المصورة" فاثارت حفيظة المحافظين، والذين يرون عيبا في نشر صور النساء الفوتوغرافية. كانت صفية هانم تظهر سافرة الوجه والرأس وفي عينيها نظرة تومئ إلي تمرد المرأة القريب} ص111.
هذا فضلا عن أن إحدي صديقات "ألمظ، وهي "رومية خانم"، كانت قد مارست بعض الحرية، التي استقتها –أيضا – من اسطنبول وما كان لها من تأثير {عائلة رومية كانت قد عاشت بعض الوقت في اسطنبول، ومثل تلك العائلات أدخلت بعض العادات المنفتحة بعض الشئ، كجلوس الأسرة الواحدة مع رجالها، وهن سافرات علي موائد الطعام، وتبادل أطراف الحديث معهم، أو الجلوس في ساحة الدار، من دون حرج. فكان متاحا لرومية رؤية شبان العائلة، ومجالستهم في بعض المناسبات} ص67. وهو ما انعكس بالضرورة علي النساء بصفة خاصة، بإعتبارها هي الهوية الضائعة، لتسجله الكاتبة، مع الاعتراف بأن الأدب – والرواية بصفة خاصة – هي سجل الحياة في عصر كتابتها {بدأ أدباء ذلك الوقت بوصفهن ب"الغموض والتقلب". انتبهوا إلي حقيقة أن المرأة كانت علي شفا عصر أنثوي جديد. بدت ملامحه القادمة من خلال تسريحة مرتفعة مخروطية مجعدة بأمواج عالية تنزل علي الجبين، أو ملساء ذات فِرق متوسط، مع شعر مموج بعض الشئ ينزل علي الخدين مع عقدة من الجدائل أدخلتها إلي الموضة راقصات الباليه الروسيات} ص56.
ومرة أخري، تضعنا الكاتبة أمام وضعنا الراهن، لنتأمل تلك الحركات المتدينة المتشددة، وما تفعله من تشويه للمجتمع، وتمزيق لطوائفه، بزرع الفرقة، والتفرقة التي باتت جسرا ثقافيا، شكليا، علي غير ما يبتغيه الدين. فإذا كان رسول الإسلام يسأل أحد المتشددين، بعد قتله من ظن أنه أسلم خوفا (أفلا شققت عن قلبه) استنكارا للدخول في الضمائر والقلوب. وهاهو البارون اليوناني "أندرياس" يعود من باريس ويقع في حب "جاويدان" ووقعت في حبه ، فاسلم، للزواج منها {لكن شقيقا جاويدان رفضا وظلا مصرين أن إسلام أندرياس كان شكليا وليس صادقا، فلم يكن أمامها مفر غير مرافقته إلي باريس}ص139. فكان الحب هو الجوهر، وهو الأقوي، وقد انتصرت الكاتبة للحب، متخطية كل تلك المزاعم الدخيلة علي جوهر الإنسان، بعد أن تفشت مظاهر التدين، {حكت لكارلوس عن حالة من التدين المخيفة بدأت تسود دمشق}، فساقت لنا تلك النماذج المتسامية، والمتعالية {جميل بك وجد نفسه مضطرا لحضور مراسم لم يكن مقتنعا بها إطلاقا، فليس سهلا علي أي مسلم، حتي لو كان متغربا، أن يوافق علي حمل آنية من الخزف الصيني فيها رماد عمته مخلوط برماد زوجها، لينثر الرماد في نهر بردي، تحديدا ذلك الفرع الذي يعبر مرج صدر الباز. .. منزلهما كان زاخرا بالرموز الدينية، لكلا الدينين. كتاب التوراة ظل علي حاله موجودا فوق سرير الزوج الراحل. والقرآن مقابله علي سرير عمته، فلماذا الحرق؟ لماذا أوصيا كلاهما بحرق جسديهما؟ الم يعثرا علي طريقة للتلاقي غير الرماد؟} ص96، فقد إحتفظ كل منهما بعقيدته، غير أن تواصلهما الإنساني، ظل إلي ما بعد الحياة.
وحالة أخري من التسامي، تجلت في ذلك الحب الذي انغرس في أعماق كل من "رومية خانم، التي أنقذها يوما "يوسف زيلخا" من الغرق، فمر سهم الحب بين قلبيهما فـ{خصت –رومية خانم التي اصبح اسمها فيما بعد "طرب" – ابن شقيقها جميل بوصيتها، ربما لأنه كان السبب في سقوطها في ماء بردي حتي تلتقي منقذها يوسف، وتتغير حياتها}ص95، و{فجأة توفي يوسف زيلخا وهو نائم في فراشه، ورومية خانم لم تذرف دمعة واحدة، فقط عانقته ووضعت شفتيها علي عنقه، وماتت بالهدوء ذاته الذي مات به يوسف}ص93. هذا فضلا عن العديد من قصص الحب والتلاقي المتجاوز تلك الحدود البشرية التي وضعوها لتقييد إنسانية الإنسان. بل وتعود بنا الكاتبة إلي الجذر، مع جدة "ألماظ" وكأنها ترجع إلي أصل العلاقة الإنسانية، بصرف النظر عن أي إختلافات أخري {عادت - "بابور" جدة ألماظ زوجة الكونت كرم شاهين الخوري - إلي دمشق، واعتنقت المسيحية لتتزوج مرافقها الذي ساعدته بما تملك من مجوهرات بتأسيس تجارته بالسجاد}ص41.
التقنية الروائية
قسمت الكاتبة روايتها إلي "جزء أول" يبدأ شكليا من العام 1912، ويحتل نحو ثلثي مساحة الرواية، اعتمد علي السرد التاريخي، ربما غير المنظم (تاريخيا)، وقد غلب عليه السرد الأقرب للتقريري، وهو ما تفرضه طبيعة المادة المقدمة، وهو ما يمكن أن نتصور معه أن السرد يسير أفقيا، بمعني التجاور للأحداث والوقائع، فجاء كتمهيد للتربة التي ستشهد الأحداث، وفي "الجزء الثاني" حيث أصبح السري يسير رأسيامتصاعدا- أو إن شئنا الدقة هابطا نحو الأغوار، أو متعمقا في التربة، وبدأت تشابكات الشخوص والوقائع، وارتقت لغة السرد، فتحول إلي الإنشائية، وتخلص من الإخبارية التي كانها في الجزء الأول.
في الجزء الأول استعرضت الكاتبة الكثير من مظاهر الحياة في سوريا، رغم وجود محور هذا الجزء والذي حوله تدور الوقائع، وهو شخصية "ألماظ خانم" في بلاد متعددة، غير أن سوريا موجود في الخلفية دائما. واستسلمت الكاتبة لنهج الرواية في سنواتها الأخيرة، باستخدام المعلومة، التي أخرجت الرواية من عملية الاستنامة، التي عاشتها فترة طويلة في بداياتها، فاصبحت الرواية تدفع للقلق، وللتأمل، وهو ما أطلقنا عليه في كتابات سابقة "الرواية التنويرية". فحملت الرواية هنا الكثير من التوثيق، والتحقيق، إلا أنها – وأكرر- استسلمت لما كانت قد حصلت عليه من معلومات ووثائق، فأبت إلا ان تضعها في روايتها، مما شكل عبأ وحمولة عليها. ونسوق منها علي سبيل المثال لا الحصر، مما حوي تفاصيل لم تُفد سياق الرواية، واثقل علي القارئ بحمولته:
{ واظبت (ألماظ) علي ارتياد مقهي "فلور" ذي المقاعد المغطاه بالمخمل الأحمر، من دون أن تعرف أو تكترث إلي أنه من أقدم مقاهي سان جيرمان دوبريه، وأنه ظهر عند بداية الجمهورية الثالثة في العام 1885، وأن ثمة نصبا منحوتا لالهة الزهر "فاور" تدين باسمها لهذا المقهي في ركن شارع سان بينوا، والذي يقابله تمثال الفيلسوف ديدور، وسيشهد ميلاد السريالية وموضة الوجودية}ص55 -56.
{تعرفت – ألماظ – علي أهم الشخصيات في الجاليتين السورية واللبنانية: تجارا ومصرفيين وأدباء، منهم ميشيل بيطار مترجم رواية العباسة أخت الرشيد، وجورج سمنة الذي اصدر جريدة "الطان" الشهيرة}ص47. وكذلك الوصف التفصيلي لمباراة الأرجنتين وهولندا في ص233. كذلك الكثير من الشخصيات التي لم يكن لها دور مؤثر في سير الرواية، واستئصالها لم يكن يغير منها شئا مثل "موهبة خانم" وما تملكه من أراض "مروية"، وابنتها "وثيرة" ، و"آسيا خانم" وبراعتها في المضاربات. حيث مثل هذا العدد الكبير من الأسماء عبئا علي الرواية. {كانت متأكدة أن الفتاة هي الآنسة المسيحية جوليا الشقراء الوردية بين ذراعي جميل بك الشاب المسلم المتحمس لانفصال سورية عن العثمانيين، وخطيب الآنسة وثيرة ابنة موهبة خانم} ص53.
وهو ما اختفي لحد كبير في جزء الرواية الثاني، والذي لم تحدد الكاتبة له تاريخ بداية أو نهاية، لينففتح علي التاريخ الممتد بالرؤية حتي وضع سوريا الحالي، الذي نقرأه من خلال الماضي، وكأن التاريخ لم يتغير. وفي هذا الجزء تغوص بنا في أعماق شخصياتها ، النساء منهن علي وجه الخصوص، فتكشف لنا عن نقطة التحول في حياة "ألماظ" من الإنسانة المسالمة، الهادئة، إلي تلك التي تنتزع المبادرة، وترد الصفعة لزوجها الذي لم يحترم مشاعرها كثيرا {بدأت نهاية الكونت منذ ذلك اليوم الذي تجرأت فيه وقالت له وهي تشاركه الفراش :"أي إمرأة يمكنها أن تُشعر أي رجل باللذة، لكن ليس أي رجل يمكنه فعل ذلك، قلة هم الرجال الذين يفعلون" ذبحته تلك الكلمات}ص133.
وبعد ما طرأ علي ألماظ من تغير بعد أن انجبت "كالروس": {أدرك الكونت الذي كان في عمر يسمح له برؤية الأشياء بأبعادها الحقيقية، وتحديدا الحب، أن ألماظ تعاني من فوران بركان يجردها من طبقات متراكمة من الحزن والمخاوف والذكريات، والرغبات الهاجعة في أعماقها منذ زمن طويل، عندما تأبط ذراعها في الكنيسة ليتزوجها، كانت تبدو هشة مثل ضباب، بينما غدت كائنا تنهشه اللهفة للأكل والشرب والتحرك والاندفاع، وكثيرا ما كانت تغلق علي نفسها الباب متصفحة كتبا إيروتيكية مصورة، تدفع بها أثمانا باهظة}ص134. حيث ارتقت لغة السرد، وتعمقت الشخصية.
وفي مواجهة السرد التاريخي، الذي من الممكن ألا يتحمله القارئ طويلا في عمل إبداعي، لجأت الكاتبة لاستخدام تقنية الاستباق، الذي يخلق التشويق، وسباقة الأحداث والواقع، كما تخلق التداخل بين الأزمنة، وما يتطلبه من يقظة القراءة، وعلي سبيل المثال – أيضا- : حين تتحدث عن "لطفية" التي انتزعوا منها اسمها، هويتها: {ستحقد علي اللطف، وكل اللطفاء، بسبب الاسم الذي ستحمله عشرين عاما، قبل أن تكبر وتعيد ارتداء اسمها الحبيب} ص151.
وبعد أن تنال "لطفية" غرضها من مراد، كنوع من إنتزاع الحق في الحياة، والانتقام في ذات الوقت {النقمة هي نعمة لغضبنا، وإلا كيف نتخلص منه؟ كيف ننسي الغضب من دون نكهة لحم ما أو قلب ما. تنزع بين أسناننا؟ هكذا ستفكر لطفية دائما حتي عندما تتحول إلي برلنته وتستعيد اسمها} ص167. وللحديث الذي يوحي بانفتاح الزمن لسنوات كثيرة قادمة، وفي رؤية لما سيقوله التاريخ، علي لسان مؤرخه "كارلوس"{بعد سنوات كثيرة، ربما عقود، سيأتي أحد أحفاده وينشر مذكرات كاتب "كردي"، كتب عن قضيتة في صحف أوروبية متنوعة وباسماء مستعارة. وقتها لم يعلم أن من كان يوقع مقالات صحفية باسم "جالديران" تذكر لأول مرة شعبا وطنه جبال كردستان.} ص205.
دفتي الحكاية
علي الرغم من طغيان الوجود النسائي، بكل اشكاله، انكساراته، وانتصاراته، إلا ان الكاتبة، تعترف - ضمنيا – بان التاريخ رجل، بإشارتين اثنتين، تأتي الأولي من كونها جعلت معه عنوان روايتها "الماس ونساء"، فحذفت (ال) التعميم، ولينحصر العنوان علي (نساء) محددين، أو نماذج محددة منهن. وتأتي الثانية في حصر كل نساء الرواية بين ضفتي البداية والنهاية، التي حصرتهما فيمن يمثل التاريخ وكتابته، ويواصل البحث عن "الماسة" بوجودها الرمزي، وهو كارلوس. فتأتي في مفتتح الرواية، رابطة بين "كارلوس" والهوية، أو الانتماء" الذي يبحث عنه {التقي كارلوس ببرلنت، فحرر الأحلام، والأصوات والذاكرة التي ستمنحه مأوي – ولا أدري لماذا حذفت الكاتبة هنا أيضا (ال) التعريف، وهو ما ينفي الإصرار والإلتزام بمأوي محدد، لاغيره - ولأن الانتماء مفزع، سيكتب كارلوس أخيرا، في تلك اللحظات التي تجعل الأشياء لنا إلي الأبد....} ولم يكن ذكر "برلنت" هنا إلا لفتة توضح قوة الحب الذي حمله "كارلوس" لها- رغم عدم تحققه- لأن اللقاء لم يأت بعد، فجاءت النهاية المفتوحة منطقية لحد كبير - ومساحة الحب وانتصاره الذي منحته الكاتبة مساحة تتفق مع مقتطف البداية، المأخوذ عن بلزاك {لأن الحب ليس مشاعر فقط، إنه فن أيضا}، الذي يضع الحب نصب أعيننا، وأنه جوهر الحياة الصحيحة .
وعلي الضفة الثانية، نهاية الرواية {لم يعرف كارلوس قط. أن ثمة ماسة من البرلنت المشوب بزرقة شاحبة كانت ضمن مجوهرات الملكة نازلي، والتي ستُعرض في متحف للمجوهرات الملكية في القاهرة ...... لهذا تعلم كيف يكون هو الشمس} لتضع الشعلة في يده إلي ما بعد النهاية، للبحث عن الماسة، التي ربطتها بالقاهرة، والتي منها بدأ شعاع التنوير الذي أشارت إليه الكاتبة، ممثلا الأميرة نازلي فاضل، وصفية زغلول، وما كان وراءهم من رجال التنوير.
Em:shyehia48@gmail.com
[1] - لينا هويان الحسن – ألماس ونساء – دار الآداب، بيروت – ط1 2014.